تأويل الأحلام يضع يوسف(ع) على سكَّة السّلطة والملك

تأويل الأحلام يضع يوسف(ع) على سكَّة السّلطة والملك

ومرَّت الأيَّام، وبقي يوسف في السِّجن يعاني قساوته، ويواجه ظلماته، ويعيش تأمّلاته، وينطلق في ابتهالاته إلى الله في وحدته الرّوحيَّة الَّتي تساعده على أن يتفرَّغ لعبادة ربّه، وربّما كان يلتقي في السِّجن بالسّجناء الجُدد القادمين لقضاء عقوبتهم على جرائمهم أو على غضب السّلطة عليهم. ولعلَّ اللّقاء بهم كان لقاءً رساليّاً كما التقى بصاحبيه السَّابقين، بحيث كان يعظهم ويرشدهم ويهديهم إلى سواء السَّبيل، كجزءٍ من مهمَّته الرّساليّة، وربّما استطاع أن يحقّق الكثير من النّتائج الإيجابيّة على هذا المستوى من دون أن يتحدَّث القرآن عن تفاصيل ذلك، كما الكثير من التَّفاصيل الّتي يغفلها القرآن ويختصرها، أو يكتفي بالإشارة إليها، لعدم وجود أيّة علاقةٍ بينها وبين الأحداث الّتي يريد إثارتها بما يتَّصل بالمستقبل الّذي أعدَّه الله ليوسف بأسبابه الخاصَّة.

حلم الملك

وقد يكون الاكتفاء بذكر حديثه مع صاحبيْه في السِّجن، وموعظته لهما، وتفسيره لما رأياه في الحُلم، للإيحاء بالشّخصيّة الرساليّة ليوسف، ولعلاقته في حديثه معهما بتطوّر قصَّته الّذي قد يكون المدخل العمليّ لحركيّة القصّة في التّغيير الّذي طرأ على موقعه في النّهاية، والّذي انفتح له منه عالمٌ جديد، وارتفع منه إلى منزلةٍ جديدة في حياةٍ متحرّكةٍ في الإدارة العامّة للنّاس في أوضاعهم الاقتصاديّة الّتي جعلت له السّلطة على مقدّرات أمورهم وتنظيم حياتهم، وتوزيعه الثّروة عليهم في حاجاتهم المتنوّعة، سواء كان ذلك في داخل مصر أو في خارجها، بما يتيح له الامتداد في المنطقة الواسعة، والوصول إلى أهله من خلال حاجتهم إليه.

وقد بدأت القصّة في فصلها الجديد مع الرّجل الّذي كان برفقة يوسف في السّجن، والّذي فسّر له يوسف حلمه الّذي رآه بأنّه سيكون ساقياً للملك، ما يجعله مقرّباً منه. ولكنّ هذا الرّجل لم يذكر ما طلبه منه يوسف عند خروجه من السّجن، بعد أن طلب منه أن يذكره عند الملك، ويحدّثه عن ظلامته في إيداعه السّجن ظلماً، من أجل أن يكون وسيلةً لإخراجه منه. وكانت المفاجأة التي هزّت ذاكرته، وفتحت له باباً ينفذ منه إلى حلّ المشكلة الغامضة التي وقع فيها الملك في الحلم المرعب الّذي رآه وأثار قلقه.

وهنا ذكر السّاقي للملك شخصيّة يوسف وصدقه في تفسير الأحلام، بما في ذلك ما حدث معه في حلمه. وعاش الملك أزمةً نفسيّةً جعلته يطلب من مساعديه ممّن حوله أن يفسّروا له الحلم، ولم يصل أحدٌ منهم إلى ذلك، فانطلق السّاقي في أجواء هذه الحاجة، ليطلب من يوسف التّفسير الصّحيح ليأتي به إلى الملك، طمعاً في أن تمنحه مبادرته موقعاً متقدّماً عنده.

أمّا حُلُم الملك الّذي رآه في المنام، فقد تحدّث عنه القرآن: {وَقَالَ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}، وهو أمرٌ لا يخلو من الغرابة، وقد يدعو إلى الخوف في معناه، لأنّ السّمين القويّ هو الّذي يمكن أن يتغلّب على الضّعيف الهزيل ويصرعه ويأكله، نظراً إلى طبيعة القوّة التي يملكها، وليس العكس.

{وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}، فماذا يعني الاخضرار في هذه السنابل السّبع، واليباس في السّنابل اليابسة الأخرى؟ وما الّذي يجعل تلك تخضرّ وهذه تيبس، في الوقت الذي لا يختلف مكان أحدهما عن الأخرى، الأمر الذي جعل الملك يلتفت إلى ذوي الرّأي والخبرة من أتباعه ليفسّروه له، {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}[1]، أي تفسّرون، لتنتقلوا منها إلى حقيقة الواقع، لأنّ الرّؤيا في مفهومهم هي الرّمز الحقيقيّ الّذي يشير إلى المستقبل، بما تختزنه من أحداث الغيب التي اعتادوا أن تأتيهم في مناماتهم، تماماً كما هو الوحي الدّاخليّ الّذي يختزنه الوجدان، فيتحوّل ـ في بعض الحالات ـ إلى نوعٍ من أنواع الإنذار للإنسان بما ينتظره من مفاجآت مخيفة، ليستعدّ لها من أجل تخفيف نتائجها السّلبيّة في حياته المقبلة، أو إلى نوعٍ من أنواع البشارة بما ينتظره من أحداثٍ سارّة، ليعيش مشاعر الفرح وأحاسيس السّرور في روحه وفكره على أساس النّتائج الإيجابيّة.

حقيقة الأحلام

وربّما كان في هذا الفهم الاجتماعيّ لدى هذه الجماعة من النّاس، بعض الصّواب، بما نستوحيه من قصّة يوسف الّتي توحي بأنَّ للأحلام عمقاً في حركة الواقع الإنسانيّ، ومدلولاً حقيقيّاً فيما يعنيه الرّمز الحيّ للحاضر والمستقبل، وفيما نفهمه من أنَّ معرفة أسرارها قد تحتاجُ إلى إلهامٍ ربّانيّ يلهم الله به بعض عباده بما يستطيعون معه أن يحلّلوا تفاصيلها وتوضيح مبهماتها، فقد يعطي الله بعضهم سعة المعرفة في ذلك كلّه، وقد يمنح البعض القليل من ذلك، وربّما لا يستطيع الإنسان الجزم دائماً بأنَّ هناك قواعد ثابتةً لمعرفة طبيعة الرّمز وعلاقته بالواقع على الشّكل المطلق، فقد تختلف القضيّة بحسب اختلاف الأجواء المحيطة بالرّمز، ودلالته على السرّ الخفيّ الكامن في ذاته من حيث الشّخص والزّمان والمكان والظّروف المحيطة به، بما يتّسع فيه الأمر لأكثر من احتمال.

ولكن، هل معنى ذلك أنّ للمسألة بعداً كليّاً يفرض وجود حقيقةٍ في كلّ حلُم، أو أنّ للمسألة بُعداً جزئيّاً في هذا المجال أو ذاك؟ فقد تكون بعض الأحلام ردّ فعل لحالةٍ نفسيّة أو غذائيّة أو عمليّة، أو استذكاراً لأوضاعٍ ماضيةٍ في حياته، ما يجعلها صورةً لما تختزنه النّفس من أفكار ومشاعر وانفعالات، أو لما يعيشه الجسد من حاجاتٍ وحالات متنوّعة.

ليس لدينا ما يؤكّد الشّموليّة الكليّة للمسألة على مستوى القاعدة الثابتة الشّاملة، بل قد نجد أنّ العكس هو الصّحيح، فيما نراه من عدم الصّدق في الكثير من الأحلام، وارتباط بعضها بالعوامل الذاتيّة الخاصّة.

أمّا حول طبيعة القاعدة العمليّة التي تخضع لها الرؤيا وتصلح مقياساً لصدقها أو كذبها، فإنّنا لم نقف لها على أساسٍ ثابتٍ، بل ليس هناك سوى الحدس والتّخمين أو التّعليلات المنطلقة من إخضاع الإنسان لنظريّة العامل الواحد، كما نلاحظ ذلك في التّعليل الذي قدّمه "فرويد"، بحيث أعطى للأحلام مداليل جنسيّةً تتحوّل فيها الأحلام إلى رموزٍ حيّةٍ للأعضاء التناسليّة أو الحالات الجنسيّة وما أشبه ذلك، ارتكازاً على نظريّته.

ولكنّ مثل هذا الاحتمالات أو النظريات لا ترتكز على أساسٍ قطعيّ لها، بحيث يجعلها في دائرة الحقيقة العلميّة، كما أنّها لا تنطلق من حججٍ وبراهين علميّة مقنعة تجعلها في نطاق النظريّة العلميّة المعقولة.

ولهذا، فإنّنا لا نستطيع الجزم بشيءٍ من هذه الحالات تجاه ما نشاهده أو ينقل إلينا من أحلام الآخرين، إلا من خلال النّتائج التي نواجهها في المستقبل، مما قد يتطابق مع صورة المنام الّذي رآه الشّخص، أو ممّا نجده في واقعنا الحاضر.

إنّها لونٌ من ألوان الغيب الدّاخلي في علم النّفس أو في العقل الباطنيّ الَّذي لم نستطع أن نبلغ المدى الواسع من آفاقه الغامضة، لأنّنا لم نستوعب طريقة النّفس أو الرّوح، في عالمها الداخليّ بتفاصيله وأسراره في إدراك المستقبل، مما قد يدخل فيما يشبه عالم النّبوءات من خلال الفكر المتحرّك الباحث عن سرّ الأشياء، أو من خلال الإلهام الذي يستلهمه الإنسان من عالم الفطرة، أو من مناسبات خصائص الأحلام في عناصرها الخاصّة. وربّما يكشف الله للإنسان بطريقةٍ إيحائيّة بعض الوسائل الدّقيقة في المستقبل، ما قد يقوده إلى معرفة بعض حقائقه بطريقةٍ وبأخرى، مما قد يدخل في باب الصّدفة الطّارئة، لا في باب القاعدة الثّابتة.

الحلم بابٌ للدَّعوة

ولكنّ ذلك لا يمنع الإنسان من محاولة استيحاء رموز أحلام الآخرين ودلائلها، وبخاصّة فيما يمكن له أن يفتح قلبه على آفاق الإيمان، أو يدفعه إلى تصحيح خطأٍ من الأخطاء، أو يمنعه من السّير في طريقٍ منحرف على سبيل الإيحاء الذّاتي، من خلال الممارسة الطويلة التي منحته بعضاً من خصائص العناصر الكامنة في عالم الأحلام، فإنّ ذلك قد يعتبر من أساليب التّوعية ووسائل الهداية التي يحاول المفسّر أن يثيرها في وعي صاحب الحلم، من دون أن يكون الدافع تفسيريّاً للمضمون التفصيليّ في طبيعته، لينطلق إلى الخطّ المستقيم من خلال ما ينفتح عليه من إيحاء صاحبه الّذي يحدّثه بالطّريقة الإيحائيّة في انفتاحه على مستقبلٍ مشرقٍ، أو خوفه من واقع مخيف.

وهذا ما ينبغي للدّعاة إلى الله أن يستفيدوا منه لدى سماعهم ما يرويه الآخرون من أحلامهم، وطلبهم منهم أن يفسّروا لهم ما قد يقبلون عليه من خيرٍ أو شرّ، أو هدًى أو ضلال، فإنّ الأحلام قد تتحوَّل إلى بابٍ واسعٍ من أبواب الدّعوة، إذا كان الدّاعية واعياً للأساليب التي قد تترك تأثيرها الإيجابيّ أو السّلبيّ في داخل النّفس، وقد ورد أنّ الطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 43].

ومرَّت الأيَّام، وبقي يوسف في السِّجن يعاني قساوته، ويواجه ظلماته، ويعيش تأمّلاته، وينطلق في ابتهالاته إلى الله في وحدته الرّوحيَّة الَّتي تساعده على أن يتفرَّغ لعبادة ربّه، وربّما كان يلتقي في السِّجن بالسّجناء الجُدد القادمين لقضاء عقوبتهم على جرائمهم أو على غضب السّلطة عليهم. ولعلَّ اللّقاء بهم كان لقاءً رساليّاً كما التقى بصاحبيه السَّابقين، بحيث كان يعظهم ويرشدهم ويهديهم إلى سواء السَّبيل، كجزءٍ من مهمَّته الرّساليّة، وربّما استطاع أن يحقّق الكثير من النّتائج الإيجابيّة على هذا المستوى من دون أن يتحدَّث القرآن عن تفاصيل ذلك، كما الكثير من التَّفاصيل الّتي يغفلها القرآن ويختصرها، أو يكتفي بالإشارة إليها، لعدم وجود أيّة علاقةٍ بينها وبين الأحداث الّتي يريد إثارتها بما يتَّصل بالمستقبل الّذي أعدَّه الله ليوسف بأسبابه الخاصَّة.

حلم الملك

وقد يكون الاكتفاء بذكر حديثه مع صاحبيْه في السِّجن، وموعظته لهما، وتفسيره لما رأياه في الحُلم، للإيحاء بالشّخصيّة الرساليّة ليوسف، ولعلاقته في حديثه معهما بتطوّر قصَّته الّذي قد يكون المدخل العمليّ لحركيّة القصّة في التّغيير الّذي طرأ على موقعه في النّهاية، والّذي انفتح له منه عالمٌ جديد، وارتفع منه إلى منزلةٍ جديدة في حياةٍ متحرّكةٍ في الإدارة العامّة للنّاس في أوضاعهم الاقتصاديّة الّتي جعلت له السّلطة على مقدّرات أمورهم وتنظيم حياتهم، وتوزيعه الثّروة عليهم في حاجاتهم المتنوّعة، سواء كان ذلك في داخل مصر أو في خارجها، بما يتيح له الامتداد في المنطقة الواسعة، والوصول إلى أهله من خلال حاجتهم إليه.

وقد بدأت القصّة في فصلها الجديد مع الرّجل الّذي كان برفقة يوسف في السّجن، والّذي فسّر له يوسف حلمه الّذي رآه بأنّه سيكون ساقياً للملك، ما يجعله مقرّباً منه. ولكنّ هذا الرّجل لم يذكر ما طلبه منه يوسف عند خروجه من السّجن، بعد أن طلب منه أن يذكره عند الملك، ويحدّثه عن ظلامته في إيداعه السّجن ظلماً، من أجل أن يكون وسيلةً لإخراجه منه. وكانت المفاجأة التي هزّت ذاكرته، وفتحت له باباً ينفذ منه إلى حلّ المشكلة الغامضة التي وقع فيها الملك في الحلم المرعب الّذي رآه وأثار قلقه.

وهنا ذكر السّاقي للملك شخصيّة يوسف وصدقه في تفسير الأحلام، بما في ذلك ما حدث معه في حلمه. وعاش الملك أزمةً نفسيّةً جعلته يطلب من مساعديه ممّن حوله أن يفسّروا له الحلم، ولم يصل أحدٌ منهم إلى ذلك، فانطلق السّاقي في أجواء هذه الحاجة، ليطلب من يوسف التّفسير الصّحيح ليأتي به إلى الملك، طمعاً في أن تمنحه مبادرته موقعاً متقدّماً عنده.

أمّا حُلُم الملك الّذي رآه في المنام، فقد تحدّث عنه القرآن: {وَقَالَ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}، وهو أمرٌ لا يخلو من الغرابة، وقد يدعو إلى الخوف في معناه، لأنّ السّمين القويّ هو الّذي يمكن أن يتغلّب على الضّعيف الهزيل ويصرعه ويأكله، نظراً إلى طبيعة القوّة التي يملكها، وليس العكس.

{وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}، فماذا يعني الاخضرار في هذه السنابل السّبع، واليباس في السّنابل اليابسة الأخرى؟ وما الّذي يجعل تلك تخضرّ وهذه تيبس، في الوقت الذي لا يختلف مكان أحدهما عن الأخرى، الأمر الذي جعل الملك يلتفت إلى ذوي الرّأي والخبرة من أتباعه ليفسّروه له، {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}[1]، أي تفسّرون، لتنتقلوا منها إلى حقيقة الواقع، لأنّ الرّؤيا في مفهومهم هي الرّمز الحقيقيّ الّذي يشير إلى المستقبل، بما تختزنه من أحداث الغيب التي اعتادوا أن تأتيهم في مناماتهم، تماماً كما هو الوحي الدّاخليّ الّذي يختزنه الوجدان، فيتحوّل ـ في بعض الحالات ـ إلى نوعٍ من أنواع الإنذار للإنسان بما ينتظره من مفاجآت مخيفة، ليستعدّ لها من أجل تخفيف نتائجها السّلبيّة في حياته المقبلة، أو إلى نوعٍ من أنواع البشارة بما ينتظره من أحداثٍ سارّة، ليعيش مشاعر الفرح وأحاسيس السّرور في روحه وفكره على أساس النّتائج الإيجابيّة.

حقيقة الأحلام

وربّما كان في هذا الفهم الاجتماعيّ لدى هذه الجماعة من النّاس، بعض الصّواب، بما نستوحيه من قصّة يوسف الّتي توحي بأنَّ للأحلام عمقاً في حركة الواقع الإنسانيّ، ومدلولاً حقيقيّاً فيما يعنيه الرّمز الحيّ للحاضر والمستقبل، وفيما نفهمه من أنَّ معرفة أسرارها قد تحتاجُ إلى إلهامٍ ربّانيّ يلهم الله به بعض عباده بما يستطيعون معه أن يحلّلوا تفاصيلها وتوضيح مبهماتها، فقد يعطي الله بعضهم سعة المعرفة في ذلك كلّه، وقد يمنح البعض القليل من ذلك، وربّما لا يستطيع الإنسان الجزم دائماً بأنَّ هناك قواعد ثابتةً لمعرفة طبيعة الرّمز وعلاقته بالواقع على الشّكل المطلق، فقد تختلف القضيّة بحسب اختلاف الأجواء المحيطة بالرّمز، ودلالته على السرّ الخفيّ الكامن في ذاته من حيث الشّخص والزّمان والمكان والظّروف المحيطة به، بما يتّسع فيه الأمر لأكثر من احتمال.

ولكن، هل معنى ذلك أنّ للمسألة بعداً كليّاً يفرض وجود حقيقةٍ في كلّ حلُم، أو أنّ للمسألة بُعداً جزئيّاً في هذا المجال أو ذاك؟ فقد تكون بعض الأحلام ردّ فعل لحالةٍ نفسيّة أو غذائيّة أو عمليّة، أو استذكاراً لأوضاعٍ ماضيةٍ في حياته، ما يجعلها صورةً لما تختزنه النّفس من أفكار ومشاعر وانفعالات، أو لما يعيشه الجسد من حاجاتٍ وحالات متنوّعة.

ليس لدينا ما يؤكّد الشّموليّة الكليّة للمسألة على مستوى القاعدة الثابتة الشّاملة، بل قد نجد أنّ العكس هو الصّحيح، فيما نراه من عدم الصّدق في الكثير من الأحلام، وارتباط بعضها بالعوامل الذاتيّة الخاصّة.

أمّا حول طبيعة القاعدة العمليّة التي تخضع لها الرؤيا وتصلح مقياساً لصدقها أو كذبها، فإنّنا لم نقف لها على أساسٍ ثابتٍ، بل ليس هناك سوى الحدس والتّخمين أو التّعليلات المنطلقة من إخضاع الإنسان لنظريّة العامل الواحد، كما نلاحظ ذلك في التّعليل الذي قدّمه "فرويد"، بحيث أعطى للأحلام مداليل جنسيّةً تتحوّل فيها الأحلام إلى رموزٍ حيّةٍ للأعضاء التناسليّة أو الحالات الجنسيّة وما أشبه ذلك، ارتكازاً على نظريّته.

ولكنّ مثل هذا الاحتمالات أو النظريات لا ترتكز على أساسٍ قطعيّ لها، بحيث يجعلها في دائرة الحقيقة العلميّة، كما أنّها لا تنطلق من حججٍ وبراهين علميّة مقنعة تجعلها في نطاق النظريّة العلميّة المعقولة.

ولهذا، فإنّنا لا نستطيع الجزم بشيءٍ من هذه الحالات تجاه ما نشاهده أو ينقل إلينا من أحلام الآخرين، إلا من خلال النّتائج التي نواجهها في المستقبل، مما قد يتطابق مع صورة المنام الّذي رآه الشّخص، أو ممّا نجده في واقعنا الحاضر.

إنّها لونٌ من ألوان الغيب الدّاخلي في علم النّفس أو في العقل الباطنيّ الَّذي لم نستطع أن نبلغ المدى الواسع من آفاقه الغامضة، لأنّنا لم نستوعب طريقة النّفس أو الرّوح، في عالمها الداخليّ بتفاصيله وأسراره في إدراك المستقبل، مما قد يدخل فيما يشبه عالم النّبوءات من خلال الفكر المتحرّك الباحث عن سرّ الأشياء، أو من خلال الإلهام الذي يستلهمه الإنسان من عالم الفطرة، أو من مناسبات خصائص الأحلام في عناصرها الخاصّة. وربّما يكشف الله للإنسان بطريقةٍ إيحائيّة بعض الوسائل الدّقيقة في المستقبل، ما قد يقوده إلى معرفة بعض حقائقه بطريقةٍ وبأخرى، مما قد يدخل في باب الصّدفة الطّارئة، لا في باب القاعدة الثّابتة.

الحلم بابٌ للدَّعوة

ولكنّ ذلك لا يمنع الإنسان من محاولة استيحاء رموز أحلام الآخرين ودلائلها، وبخاصّة فيما يمكن له أن يفتح قلبه على آفاق الإيمان، أو يدفعه إلى تصحيح خطأٍ من الأخطاء، أو يمنعه من السّير في طريقٍ منحرف على سبيل الإيحاء الذّاتي، من خلال الممارسة الطويلة التي منحته بعضاً من خصائص العناصر الكامنة في عالم الأحلام، فإنّ ذلك قد يعتبر من أساليب التّوعية ووسائل الهداية التي يحاول المفسّر أن يثيرها في وعي صاحب الحلم، من دون أن يكون الدافع تفسيريّاً للمضمون التفصيليّ في طبيعته، لينطلق إلى الخطّ المستقيم من خلال ما ينفتح عليه من إيحاء صاحبه الّذي يحدّثه بالطّريقة الإيحائيّة في انفتاحه على مستقبلٍ مشرقٍ، أو خوفه من واقع مخيف.

وهذا ما ينبغي للدّعاة إلى الله أن يستفيدوا منه لدى سماعهم ما يرويه الآخرون من أحلامهم، وطلبهم منهم أن يفسّروا لهم ما قد يقبلون عليه من خيرٍ أو شرّ، أو هدًى أو ضلال، فإنّ الأحلام قد تتحوَّل إلى بابٍ واسعٍ من أبواب الدّعوة، إذا كان الدّاعية واعياً للأساليب التي قد تترك تأثيرها الإيجابيّ أو السّلبيّ في داخل النّفس، وقد ورد أنّ الطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 43].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية