يوسف(ع) يتخلَّص من كيد النّسوة به

يوسف(ع) يتخلَّص من كيد النّسوة به

لم يكن ليوسف أمام هذا الحصار الأنثويّ الضَّاغط على موقفه، وشعوره الرَّافض للانحراف، أيَّ فرصةٍ للخلاص، وأيَّ وسيلةٍ للتخلّص من هذا السِّجن الإغرائيّ والهروب منه، ولا سيَّما أنَّ امرأة العزيز الّتي تملك أمره وتهدِّد وجوده في البيت الّذي يقيم فيه ويجد فيه راحته، هي الّتي تقود هذا الضَّغط القاسي.

يوسف(ع) تحت الحصار

ولذلك، بات محاصراً بين الاستجابة لهؤلاء النّسوة، ومن ضمنهم امرأة العزيز، والدّخول إلى السّجن الّذي هدَّدته به سيّدة بيته إذا لم يستجب لها، لأنّها قرّرت أن تذلّه كما أذلّها، وأن تصغّر قدره كما صغّر قدرها بالتمرّد على إرادتها في مراودته، فلم يجد ملجأً يلجأ إليه إلا الاستعانة بالله في إنقاذه من هذا المأزق الشَّديد، فهو وحده الّذي يملك إخراجه من هذه الورطة الّتي وقع فيها، وهو وحده الَّذي يخرج عباده المخلصين من البلاء، وخصوصاً أنَّه البلاء الَّذي يضغط فيه المترفون عليه لإيقاعه في معصية الله، تحت تأثير التَّهديد بالقوّة الغاشمة الّتي يهدِّدونه بها إذا لم يرضخ لمشيئتهم في الانحراف عن الخطِّ المستقيم.

وهذه هي سيرة الأنبياء عندما تشتدُّ عليهم الأمور، وتحاصرهم المشاكل، وتتمرَّد عليهم شعوبهم، ولا تكون لهم أيّة قوّةٍ يدافعون بها عن موقفهم ورسالتهم وينقذون بها أنفسهم، كما جاء في كلام لوط: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[1]، فيدعون ربَّهم، كما جاء في قصَّة نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}[2]، وفي آيةٍ أخرى في موضوع الاستعاذة مما يُخاف منه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[3]، وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[4]، وقوله تعالى في قصة زكريّا: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}[5]، وقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[6]، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}[7]، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}[8].

وهكذا دعا يوسف ربَّه ليخرجه من هذا الموقف الصَّعب، ولينقذه من هذا الخيار المحرِج، كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[9]، فأنقذني من دعواتهنَّ الفاسقة الفاجرة الّتي تؤدِّي بي إلى غضبك وسخطك في الوقوع في تجربة معصيتك، واصرفْ عنّي كيدهنَّ المتمثّل بأساليبهنّ المشبوهة في تنوّعاتها الضالّة المضلّة، لأنَّ جهاد نفسي في مواجهة هذا الإغراء الشَّديد قد بلغ أقصى درجاته، ووصل إلى المستوى الّذي لا تتحمّله بشريّة البشر في مقاومته لما يفرض عليه من ذلك.

فأنا ـ في موقفي هذا ـ أستعين بك عليهنَّ وعلى نفسي، وأستعيذ من ضغوطهنَّ القويّة، لأنّك إذا تركتني لنقاط ضعفي، فسأميل إليهنّ بفعل الغريزة الباحثة عن الأشياء، الأمر الَّذي يجعلني في زمرة الجاهلين الّذين لا يملكون المعرفة في التّقوى والطّاعة والالتزام بتوحيد الله، وهذا هو الّذي يجعل خيار السِّجن أحبَّ إليّ من خيار الاستسلام لهنَّ، لأنّي سوف أبتعد بذلك عن عناصر الإغراء، وأخلو بنفسي إليك، لأدعوك وأبتهل إليك، وأعبّر عن محبّتي لك، وإخلاصي لتوحيدك، والتزامي بإيماني بك وبحركتي في عبادتك، فإنَّ سجن الدّنيا أهون على المؤمن من سجن الآخرة.

العبرة من موقف يوسف(ع)

وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف اليوسفيّ في الكثيرِ من المواقف الّتي يواجه فيها المؤمنون الضّغوط القاسية، عندما يكون عليهم أن يختاروا بين السِّجن والانحراف، أو بين الخضوع للطّغاة، بتنفيذ ما يفرضونه عليهم، أو الاضطهاد الجسديّ أو المعنويّ والخيانة للمبدأ، حيث يضطرُّ البعض بفعل الآلام القاسية الّتي يتهدَّدونهم بها، إلى المفاضَلة بين قضيّة الرّسالة وقضيّة الذّات، وقد يضعف البعض باختيار حرّيته الخاصَّة تحت تأثير تبريراتٍ مثيرةٍ تصوّر له التّراجع عن المبدأ كما لو كان في حال الاضطرار، فتحلّ فيه المعصية، ويسوّغ له فيها الانحراف، لتبنّي المنطق الفرديّ في تقويم الأمور، بعيداً عن المنطق الجماعيّ الّذي يربط بين حركة الفرد والنَّتائج السّلبيّة أو الإيجابيَّة الّتي تنعكس على قضيَّة الأمّة أو الرّسالة.

ولعلَّ يوسف قد أطلق هذا النِّداء الحيّ والدّعاء الخاشع من أعماق روحه، عندما وجد إرادته في موقعٍ يتهدّدها بالسّقوط، فصرخ في ابتهالٍ أمام ربّه ليستعين به، استمداداً للقوَّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان.

وهذا ما تفرضه حاجة الرِّسالة إلى المواقف الثّابتة على خطِّ التّضحية والاستقامة، بدلاً من الكلمات الاستعراضيَّة الّتي لا تنتج إلا الضَّوضاء الّتي تضيع في الهواء وتغيب في ظلمات النَّفس.

 ولعلَّ من الضَّروريّ لبناء هذه الشّخصيَّة، التّأكيد على تأسيس خطّةٍ تربويّةٍ متكاملةٍ تشمل جانب الفكر والرّوح والشّعور، من خلال الكلمة الموحية، والجوّ الرّوحيّ، والقدوة الحسنة، فإنَّ تأسيس عمق الإحساس الدّاخلي بالرّفض أو القبول أمام ما يمكن أن يتعرَّض له المسلم سلباً أو إيجاباً، يجعل من عمليَّة الرّفض والقبول تلك عملاً روحيّاً يراقب فيه الإنسان ربَّه في روحانيَّةٍ وصفاءٍ، ويتمرَّد من خلالها على كلِّ النَّوازع الذاتيّة والعوامل الخارجيَّة الّتي تحاول الانحراف به عن الخطِّ المستقيم، فيعيش حالة السّموّ في أخلاقيّته، بالمستوى الّذي يجعله منسجماً مع إيمانه ورساليّته نظريّاً وعمليّاً.

وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلاميَّة الَّتي يواجِه فيها الإسلام كلَّ تحدِّيات الكفر والضَّلال الّتي تضغط على الفكر والشّعور والحركة، ما يفرض على المؤمنين الحصول على القوَّة الرّوحيَّة الّتي تدفعهم إلى التَّضحية على كلِّ الأصعدة، والانطلاق من زوايا الحاضر الضيِّق، إلى آفاق المستقبل الرَّحب الّذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا العظيمة.

إنقاذ يوسف من كيد النساء

وهكذا انفتح يوسف على ربِّه، ليصرف عنه كيدهنّ بالوسائل الكفيلة بإبعادهنّ عنه وعن مراودتهنّ له، بعد أن أخذ منهنّ اليأس مأخذه، وشعرن بأنّهنّ لا يملكْنَ سبيلاً إليه، ولم يكن لديهنّ أيّة حالة ضغطٍ لإثارة غريزته، لأنّه كان القويَّ في موقفه، الصَّلب في إرادته، فانصرفْن عنه يائساتٍ خائباتٍ بفعل خذلانه لهنَّ فيما أردْنه منه وقصدْن استضعافه أمام قوّتهنّ الإغرائيّة وسيطرتهنّ الاجتماعيّة. فاستجاب له ربّه، وصرف عنه كيدهنّ، لأنّه الرّبّ الّذي رعاه منذ كان طفلاً، وأنقذه من الهلاك على يد إخوته، وهو الّذي أراد لعباده أن يرفعوا إليه أكفّهم بالدّعاء في حاجاتهم وآلامهم ليستجيب لهم، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[10]، وفي قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[11].

وهكذا أفاض الله عليه من رحمته ولطفه ورعايته في استجابته له، فاستطاع أن يتخلّص من كيدهنّ الشّرّير، بالموقف القويّ، والإرادة الصَّلبة، والإيمان المنفتح، فلم يستجبْ لكلِّ ما أحاطته به تلك المرأة من حال الإغراء الّتي تخاطب فيها مشاعر الغريزة، وأحاسيس الشّهوة، ولم يخضع لكلّ الضّغوط الّتي تحاصر حريّته في إرادته، بفعل تهديده بالسّجن وبوسائل التَّعذيب والإذلال. وهكذا التقت قوَّته بضعفها في هذه المرحلة، كما كان الحال في المرحلة الأولى في فترة المراودة الضَّاغطة الهائجة، كما أنَّ النّسوة فوجئْن بصلابته في موقفه الرّافض لهنّ، وسقطت أساليبهنّ ووسائلهنّ أمام عنفوانه الأخلاقيّ الّذي يتمرّد على كلِّ الإغراءات الحقيرة المنحطّة، فكان له كلّ الاحترام لشخصيّته القويّة التي لا تخضع لأيّ ضغطٍ وابتزاز.

وهكذا استجاب له ربّه الّذي يستجيب لكلّ عبدٍ مخلصٍ يدعوه بكلّ خشوعٍ وخضوعٍ، لينقذه من البلاء المحيط به، ويعصمه من السّقوط في وهدة الانحراف، وكيف لا يستجيب الله لنبيٍّ من أنبيائه الصَّالحين الّذي أعدَّه لحمل الرّسالة في مستقبل أمره، ولإدارة شؤون النَّاس بالعدل والحكمة في القريب من أوضاعه، ليبرز للنَّاس نقيّاً طاهراً بعيداً عن الخلل في أخلاقه، بريئاً من كلِّ ما يسيء إلى كرامته، ليحصل على الثّقة المطلقة في موقعه، وعلى الأمانة في حكمه وإدارته؟! {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}، بتثبيت موقفه على خطِّ العفَّة والصِّدق والإيمان، وتهيئة الظّروف الملائمة الّتي تضغط عليهنّ وتمنعهنّ من احتواء مقاومته بأساليبهنّ المتنوّعة السَّاحرة، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[12]، الّذي يسمع دعاء عباده برحمته، ويعلم ما في داخلهم من صدق الشّعور، ونقاء الرّوح، والرّغبة في الالتزام بطاعة ربّه في خطِّ توحيده. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [هود: 80].

[2]  [القمر: 10].

[3]  [النّاس: 1].

[4]  [الفلق: 1].

[5]  [آل عمران: 38].

[6]  [المؤمنون: 29].

[7]  [المؤمنون: 26].

[8]  [العنكبوت: 30].

[9]  [يوسف: 33].

[10]  [غافر: 60].

[11]  [البقرة: 186].

[12]  [يوسف: 34].

لم يكن ليوسف أمام هذا الحصار الأنثويّ الضَّاغط على موقفه، وشعوره الرَّافض للانحراف، أيَّ فرصةٍ للخلاص، وأيَّ وسيلةٍ للتخلّص من هذا السِّجن الإغرائيّ والهروب منه، ولا سيَّما أنَّ امرأة العزيز الّتي تملك أمره وتهدِّد وجوده في البيت الّذي يقيم فيه ويجد فيه راحته، هي الّتي تقود هذا الضَّغط القاسي.

يوسف(ع) تحت الحصار

ولذلك، بات محاصراً بين الاستجابة لهؤلاء النّسوة، ومن ضمنهم امرأة العزيز، والدّخول إلى السّجن الّذي هدَّدته به سيّدة بيته إذا لم يستجب لها، لأنّها قرّرت أن تذلّه كما أذلّها، وأن تصغّر قدره كما صغّر قدرها بالتمرّد على إرادتها في مراودته، فلم يجد ملجأً يلجأ إليه إلا الاستعانة بالله في إنقاذه من هذا المأزق الشَّديد، فهو وحده الّذي يملك إخراجه من هذه الورطة الّتي وقع فيها، وهو وحده الَّذي يخرج عباده المخلصين من البلاء، وخصوصاً أنَّه البلاء الَّذي يضغط فيه المترفون عليه لإيقاعه في معصية الله، تحت تأثير التَّهديد بالقوّة الغاشمة الّتي يهدِّدونه بها إذا لم يرضخ لمشيئتهم في الانحراف عن الخطِّ المستقيم.

وهذه هي سيرة الأنبياء عندما تشتدُّ عليهم الأمور، وتحاصرهم المشاكل، وتتمرَّد عليهم شعوبهم، ولا تكون لهم أيّة قوّةٍ يدافعون بها عن موقفهم ورسالتهم وينقذون بها أنفسهم، كما جاء في كلام لوط: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[1]، فيدعون ربَّهم، كما جاء في قصَّة نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}[2]، وفي آيةٍ أخرى في موضوع الاستعاذة مما يُخاف منه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[3]، وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[4]، وقوله تعالى في قصة زكريّا: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}[5]، وقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[6]، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}[7]، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}[8].

وهكذا دعا يوسف ربَّه ليخرجه من هذا الموقف الصَّعب، ولينقذه من هذا الخيار المحرِج، كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[9]، فأنقذني من دعواتهنَّ الفاسقة الفاجرة الّتي تؤدِّي بي إلى غضبك وسخطك في الوقوع في تجربة معصيتك، واصرفْ عنّي كيدهنَّ المتمثّل بأساليبهنّ المشبوهة في تنوّعاتها الضالّة المضلّة، لأنَّ جهاد نفسي في مواجهة هذا الإغراء الشَّديد قد بلغ أقصى درجاته، ووصل إلى المستوى الّذي لا تتحمّله بشريّة البشر في مقاومته لما يفرض عليه من ذلك.

فأنا ـ في موقفي هذا ـ أستعين بك عليهنَّ وعلى نفسي، وأستعيذ من ضغوطهنَّ القويّة، لأنّك إذا تركتني لنقاط ضعفي، فسأميل إليهنّ بفعل الغريزة الباحثة عن الأشياء، الأمر الَّذي يجعلني في زمرة الجاهلين الّذين لا يملكون المعرفة في التّقوى والطّاعة والالتزام بتوحيد الله، وهذا هو الّذي يجعل خيار السِّجن أحبَّ إليّ من خيار الاستسلام لهنَّ، لأنّي سوف أبتعد بذلك عن عناصر الإغراء، وأخلو بنفسي إليك، لأدعوك وأبتهل إليك، وأعبّر عن محبّتي لك، وإخلاصي لتوحيدك، والتزامي بإيماني بك وبحركتي في عبادتك، فإنَّ سجن الدّنيا أهون على المؤمن من سجن الآخرة.

العبرة من موقف يوسف(ع)

وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف اليوسفيّ في الكثيرِ من المواقف الّتي يواجه فيها المؤمنون الضّغوط القاسية، عندما يكون عليهم أن يختاروا بين السِّجن والانحراف، أو بين الخضوع للطّغاة، بتنفيذ ما يفرضونه عليهم، أو الاضطهاد الجسديّ أو المعنويّ والخيانة للمبدأ، حيث يضطرُّ البعض بفعل الآلام القاسية الّتي يتهدَّدونهم بها، إلى المفاضَلة بين قضيّة الرّسالة وقضيّة الذّات، وقد يضعف البعض باختيار حرّيته الخاصَّة تحت تأثير تبريراتٍ مثيرةٍ تصوّر له التّراجع عن المبدأ كما لو كان في حال الاضطرار، فتحلّ فيه المعصية، ويسوّغ له فيها الانحراف، لتبنّي المنطق الفرديّ في تقويم الأمور، بعيداً عن المنطق الجماعيّ الّذي يربط بين حركة الفرد والنَّتائج السّلبيّة أو الإيجابيَّة الّتي تنعكس على قضيَّة الأمّة أو الرّسالة.

ولعلَّ يوسف قد أطلق هذا النِّداء الحيّ والدّعاء الخاشع من أعماق روحه، عندما وجد إرادته في موقعٍ يتهدّدها بالسّقوط، فصرخ في ابتهالٍ أمام ربّه ليستعين به، استمداداً للقوَّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان.

وهذا ما تفرضه حاجة الرِّسالة إلى المواقف الثّابتة على خطِّ التّضحية والاستقامة، بدلاً من الكلمات الاستعراضيَّة الّتي لا تنتج إلا الضَّوضاء الّتي تضيع في الهواء وتغيب في ظلمات النَّفس.

 ولعلَّ من الضَّروريّ لبناء هذه الشّخصيَّة، التّأكيد على تأسيس خطّةٍ تربويّةٍ متكاملةٍ تشمل جانب الفكر والرّوح والشّعور، من خلال الكلمة الموحية، والجوّ الرّوحيّ، والقدوة الحسنة، فإنَّ تأسيس عمق الإحساس الدّاخلي بالرّفض أو القبول أمام ما يمكن أن يتعرَّض له المسلم سلباً أو إيجاباً، يجعل من عمليَّة الرّفض والقبول تلك عملاً روحيّاً يراقب فيه الإنسان ربَّه في روحانيَّةٍ وصفاءٍ، ويتمرَّد من خلالها على كلِّ النَّوازع الذاتيّة والعوامل الخارجيَّة الّتي تحاول الانحراف به عن الخطِّ المستقيم، فيعيش حالة السّموّ في أخلاقيّته، بالمستوى الّذي يجعله منسجماً مع إيمانه ورساليّته نظريّاً وعمليّاً.

وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلاميَّة الَّتي يواجِه فيها الإسلام كلَّ تحدِّيات الكفر والضَّلال الّتي تضغط على الفكر والشّعور والحركة، ما يفرض على المؤمنين الحصول على القوَّة الرّوحيَّة الّتي تدفعهم إلى التَّضحية على كلِّ الأصعدة، والانطلاق من زوايا الحاضر الضيِّق، إلى آفاق المستقبل الرَّحب الّذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا العظيمة.

إنقاذ يوسف من كيد النساء

وهكذا انفتح يوسف على ربِّه، ليصرف عنه كيدهنّ بالوسائل الكفيلة بإبعادهنّ عنه وعن مراودتهنّ له، بعد أن أخذ منهنّ اليأس مأخذه، وشعرن بأنّهنّ لا يملكْنَ سبيلاً إليه، ولم يكن لديهنّ أيّة حالة ضغطٍ لإثارة غريزته، لأنّه كان القويَّ في موقفه، الصَّلب في إرادته، فانصرفْن عنه يائساتٍ خائباتٍ بفعل خذلانه لهنَّ فيما أردْنه منه وقصدْن استضعافه أمام قوّتهنّ الإغرائيّة وسيطرتهنّ الاجتماعيّة. فاستجاب له ربّه، وصرف عنه كيدهنّ، لأنّه الرّبّ الّذي رعاه منذ كان طفلاً، وأنقذه من الهلاك على يد إخوته، وهو الّذي أراد لعباده أن يرفعوا إليه أكفّهم بالدّعاء في حاجاتهم وآلامهم ليستجيب لهم، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[10]، وفي قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[11].

وهكذا أفاض الله عليه من رحمته ولطفه ورعايته في استجابته له، فاستطاع أن يتخلّص من كيدهنّ الشّرّير، بالموقف القويّ، والإرادة الصَّلبة، والإيمان المنفتح، فلم يستجبْ لكلِّ ما أحاطته به تلك المرأة من حال الإغراء الّتي تخاطب فيها مشاعر الغريزة، وأحاسيس الشّهوة، ولم يخضع لكلّ الضّغوط الّتي تحاصر حريّته في إرادته، بفعل تهديده بالسّجن وبوسائل التَّعذيب والإذلال. وهكذا التقت قوَّته بضعفها في هذه المرحلة، كما كان الحال في المرحلة الأولى في فترة المراودة الضَّاغطة الهائجة، كما أنَّ النّسوة فوجئْن بصلابته في موقفه الرّافض لهنّ، وسقطت أساليبهنّ ووسائلهنّ أمام عنفوانه الأخلاقيّ الّذي يتمرّد على كلِّ الإغراءات الحقيرة المنحطّة، فكان له كلّ الاحترام لشخصيّته القويّة التي لا تخضع لأيّ ضغطٍ وابتزاز.

وهكذا استجاب له ربّه الّذي يستجيب لكلّ عبدٍ مخلصٍ يدعوه بكلّ خشوعٍ وخضوعٍ، لينقذه من البلاء المحيط به، ويعصمه من السّقوط في وهدة الانحراف، وكيف لا يستجيب الله لنبيٍّ من أنبيائه الصَّالحين الّذي أعدَّه لحمل الرّسالة في مستقبل أمره، ولإدارة شؤون النَّاس بالعدل والحكمة في القريب من أوضاعه، ليبرز للنَّاس نقيّاً طاهراً بعيداً عن الخلل في أخلاقه، بريئاً من كلِّ ما يسيء إلى كرامته، ليحصل على الثّقة المطلقة في موقعه، وعلى الأمانة في حكمه وإدارته؟! {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}، بتثبيت موقفه على خطِّ العفَّة والصِّدق والإيمان، وتهيئة الظّروف الملائمة الّتي تضغط عليهنّ وتمنعهنّ من احتواء مقاومته بأساليبهنّ المتنوّعة السَّاحرة، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[12]، الّذي يسمع دعاء عباده برحمته، ويعلم ما في داخلهم من صدق الشّعور، ونقاء الرّوح، والرّغبة في الالتزام بطاعة ربّه في خطِّ توحيده. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [هود: 80].

[2]  [القمر: 10].

[3]  [النّاس: 1].

[4]  [الفلق: 1].

[5]  [آل عمران: 38].

[6]  [المؤمنون: 29].

[7]  [المؤمنون: 26].

[8]  [العنكبوت: 30].

[9]  [يوسف: 33].

[10]  [غافر: 60].

[11]  [البقرة: 186].

[12]  [يوسف: 34].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية