خاتمة قصَّة النَّبيّ يعقوب(ع) مع أولاده

خاتمة قصَّة النَّبيّ يعقوب(ع) مع أولاده

تحدَّث الله عن يعقوب في عدّة آياتٍ في سياق الحديث عن جدِّه إبراهيم وأبيه إسحاق، كما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[1]، ووصفهم بأنّهم يملكون القوَّة، بما توحيه كلمة الأيدي من الوسيلة في استخدام القوَّة في مسؤوليَّات الإنسان العمليَّة، كالعمل الصَّالح الّذي ربما يكونُ بحاجةٍ إلى حركة اليد في تنفيذه وتحويله إلى واقعٍ حيٍّ في حياة النَّاس على جميع المستويات، وأنّهم يملكون البصيرة النَّافذة التي تدرك جذور الأحداث والأشخاص، فيتمثَّلونها في وضوح الرّؤية للأشياء، في وعيهم المنفتح على الله والحياة، وعلى الوسائل والبرامج الكفيلة بالوصول إلى الأهداف الكبرى الّتي حمّلهم الله في رسالتهم أمر تحقيقها في الواقع، ما يجعل من حركتهم حركةً منطلقةً من سعة الأفق وعمق المعرفة وصفاء الرّوح، لأنَّ دورهم في الأمَّة الَّتي أُرسِلوا إليها، هو دور القيادة الفكريَّة والعمليَّة، ما يجعل من عناصر شخصيَّة النبيّ أساساً للتّأثير في الواقع.

خصائص آل يعقوب

ويتابع القرآن الكريم بيان خصائصهم: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ} في اتّصافهم بالصِّفات الروحيَّة والعناصر المنفتحة النَّموذجيَّة الخالصة الَّتي لا يخالطها شيءٌ من الرّيب والزَّيف والالتواء، {ذِكْرَى الدَّارِ}[2]، وهي الدَّار الآخرة الَّتي استغرقوا في ذكراها والاستعداد لها، ودعوا النَّاس إلى العمل في الدّنيا بما يحقِّق لهم السَّعادة فيها عندما يحشرون إليها، والتَّحضير للأجوبة الحاسمة في الموقف الحاسم فيها أمام الله، عندما يقف النَّاس للحساب بين يديه، لتوحي إليهم هذه الذّكرى بالاستقامة على خطِّ التّوحيد بكلِّ مفاهيمه العقيديّة والتشريعيّة التي جعلها الله أساساً للقرب منه وللحصول على رضوانه، باعتبارها الأساس الّذي يتمثّل فيه معنى إخلاص العبوديّة في حركة الإنسان للربوبيّة المهيمنة الرّحيمة المطلقة.

{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[3]، لأنّهم أسلموا كلَّ حياتهم لله، وأخلصوا له، بانقطاعهم إليه، وصرف وجوههم عن غيره ممّن يحتاج إليه ولا يستغني في حياته عنه، وكانوا في الموقع الّذي يؤهِّلهم لحمل رسالة الله، وإبلاغها للنَّاس، والجهاد في سبيلها، وتحمّل الأذى في الطّريق إلى تأكيدها في عقولهم وقلوبهم وتحريكها في حياتهم، فكانوا أهلاً للاصطفاء، ولا سيَّما أنهم عاشوا للخير كلّه في حياة النَّاس المستضعفين، ليهدوهم إلى مواقعه، وليحرّكوا خطواتهم في طريقه، والتزموه كنهج حياةٍ، وخطِّ فكرٍ، وحركة موقفٍ، فكانوا الأخيار بنفوسهم وقلوبهم وخطواتهم ودعوتهم وحركتهم بين النَّاس، حتّى تحوَّلت شخصيَّاتهم إلى تجسيدٍ حيٍّ متحرّك للخير بكلّ أنواعه.

ونستوحي من هذه الآيات، أنَّ يعقوب وأباه إسحاق كانا ممن اصطفاهم الله لدينه، وكانا ـ كأبيهما إبراهيم ـ يملكان القوَّة المتحدّية في مواجهة عبّاد الأصنام. وكان يعقوب يملك المعرفة الواسعة الَّتي استطاع من خلالها أن يجادل قومه وغيرهم ممّن حاجّوه في الله، وقد عمل على استزادة المعرفة من ربّه، فكان أولاده المصطفون يسيرون في خطاه، ويستهدون منهجه، ويعملون على الدَّعوة إلى الله بكلِّ قوَّةٍ وإخلاص، لأنَّ وحدة السِّياق في تتابع الأسماء في التَّذكير بهم، في دعوة النبيّ محمَّد(ص) إلى ذلك، تدلُّ على وحدة العناصر الرساليَّة الخيّرة في الجميع.

الوصيّة بالإسلام

ويحدِّثنا القرآن عن النبيّ يعقوب أنّه كان ـ كجدّه إبراهيم ـ معنيّاً بتوجيه أبنائه إلى الالتزام المطلق بالإسلام، اتّباعاً للاستجابة الإبراهيميَّة لله، في دعوته إيّاه أن يسلم كلَّ وجوده العقليّ والروحيّ والحركيّ له، وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[4]. وكان هذا الإسلام الرّساليّ الإيمانيّ المتجسِّد في شخصيَّة النّبيّ، هو الخطّ الأساس الَّذي سار عليه الأنبياء بعد إبراهيم في توجيه أممهم إليه، وهو الوصيَّة التي أوصى بها بنيه ليمتدَّ الإسلام في ذرّيته، وهذا ما جاء به قوله تعالى حاكياً عن إبراهيم وحفيده يعقوب: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[5]. فالدّين الَّذي اصطفاه الله لهم هو الإسلام، وكانت الوصيَّة أن يلتزموا الانتماء إليه فكراً وقولاً وعملاً، ليمتدَّ في كلِّ حياتهم، بحيث يأتيهم الموت وهم يلتزمونه، ليلاقوا الله في الدَّار الآخرة وهم مسلمون.

وقد نستوحي من الحديث عن يعقوب إلى جانب إبراهيم، أنّه كان يحمل الرِّسالة بكلِّ قوّةٍ والتزامٍ وتصميمٍ وانفتاحٍ على المستقبل، بحيث كانت شغله الشَّاغل، وهمّه الكبير في حثِّ أسرته على السَّير في هذا النّهج والاستقامة على هذا الخطّ، لتكون أسرته إسلاميّةً في التزامها العقيديّ، في توحيدها لله، وذوبانها في طاعته، وعبادتها له بكلّ أوضاعها الخاصَّة، وقد شغله هذا الهمّ الرّساليّ حتى لحظة موته، فقد جمع كلَّ أفراد أسرته ـ وهو في حالٍ تقرّب من حال الاحتضار ـ كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[6].

فقد أراد أن يفارق هذه الدّنيا وقد ترك من بعده أسرةً مسلمةً تعبد الله الواحد، وتخلص له بالمستوى الّذي يجعلها تسير في اتجاه الاهتمام بهذا الدّين والسَّير في خطِّه المستقيم، بما قد يؤدِّي بها إلى الالتزام بالدَّعوة إليه، لتستمرَّ الرّسالة في حركة الأسرة الإبراهيميَّة التي بدأها إبراهيم وولداه إسماعيل وإسحاق، بالدَّعوة إلى توحيد الله في العقيدة والطّاعة والعبادة. وقد استجاب له أبناؤه، فأكَّدوا له التزامهم بعبادة الله الواحد الّذي كان آباؤهم يعبدونه، إضافةً إلى ما كان ملتزماً به. وربما نستوحي من ذلك، أنّه كان متحرّكاً في الدَّعوة إلى الله في المجتمع الّذي عاش فيه وتحمّل مسؤوليَّة هدايته بمقتضى موقعه في النبوّة والتزامه بإبلاغ الرّسالة.

امتداد الرّسالة في الأنبياء

وقد تحدَّث الله عن يعقوب وأبيه إسحاق بأنَّه قد وهبهما لإبراهيم ومنحهما النبوَّة، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}[7]. وقد قرن الله الابن بالأب مع تأخّر ولادته عنه، للإيحاء بامتداد الرِّسالة في موقعهما، وإفاضة الرَّحمة عليهما، وتخليد ذكرهما على لسان النَّاس، وحديثهم عنهم وعن إبراهيم بالثَّناء الحسن والموقع الرّفيع، جزاءً لهم على إيمانهم وجهادهم في سبيل الرّسالة وإخلاصهم لله في العبوديّة، الأمر الّذي يوحي باستمرار الحركة الإبراهيميّة الرساليّة في حركتها العمليّة.

وربما يتساءل البعض عن حجم التكرار العدديّ في ذكر إسحاق ويعقوب بما يفوق ذكر إسماعيل، ما قد يوحي بالقيمة الفضلى لهما في موقعهما النّبويّ.

 وقد يجاب عن ذلك، بأنَّ المسألة لا تأخذ هذا البعد القيمي، بل إنَّ القضيَّة تتمثّل في المناسبات المتعدِّدة الّتي تفرض هذا الذّكر العدديّ، تماماً كما هي قضيَّة الحديث عن موسى وهارون وبني إسرائيل، لأنَّ الأحداث المتعلّقة بحركيّتهم في أوضاعهم الخاصَّة والعامَّة تفرض ذلك. هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ بني إسرائيل، وهم أبناء يعقوب، كانوا الشّغل الشَّاغل للحديث القرآنيّ في سلبيَّاتهم وإيجابيَّاتهم، كما أنَّ الله جعل منهم الأنبياء الَّذين اختلف موقف بني إسرائيل منهم، بين الاستجابة لهم في موقع، وقتلهم واضطهادهم في موقع، بما لم يحصل لذرّيّة إسماعيل في الذرّية الرّساليّة، فيما عدا انتساب النبيّ محمَّد(ص) وقومه إليه.

 مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أنَّ القصَّة الّتي حدثت لإسماعيل في إسلامه لله، وإطاعته له بالإسلام الكلّيّ الخالص الّذي لا مثيل له، عندما عرض عليه أبوه إبراهيم أن يقدِّم نفسه للذَّبح، فأسلم لله أمره من دون تأمّلٍ أو تفكيرٍ أو اعتراض؛ إنّ هذه القصّة لم تحصل لأخيه إسحاق ولا لابن أخيه يعقوب، ما يجعل عظمة القيمة في النّوعيَّة في المضمون الرّوحيّ، لا في كميّة الذّكر، مع التّقدير الرّساليّ لهم، لأنهم كانوا جميعاً في مواقع الرّسالة والدَّعوة إلى توحيد الله في العبادة والطَّاعة والعقيدة، وهذا ما جمعه أولاد يعقوب في استجابتهم لأبيهم عن المعبود الّذي يلتزمون عبادته من بعده، {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[8].

مأساة يعقوب(ع)

ونعود إلى ذكر يعقوب الَّذي عاش المأساة الأليمة في غياب ولده يوسف، من خلال مؤامرةٍ حاقدةٍ حاسدةٍ دبَّرها أخوته الّذين كانوا معقَّدين من محبَّة أبيهم له ولأخيه بنيامين، بما لم يحصلوا عليه من ذلك، فكانا أقرب إلى أبيهم منهم، وهذا ما أثار في نفوسهم الحقد الأسود الّذي دفع بعضهم إلى التَّفكير في إبعاده عنه وتغييبه في المتاهات الضَّائعة في تآمرهم الحاسد، وربما فكَّر بعضهم في قتله، فقد كانوا عشرة أبناءٍ ليعقوب من أمٍّ واحدة، بينما كان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى. وربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميَّزة لهما، كنتيجة بعض الخصائص الرّوحيَّة والأخلاقيَّة الَّتي كانا يتميَّزان بها. وربما كان الأساس في هذه العلاقة العاطفيَّة ناشئاً عن صغر سنِّهما الّتي تجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفيّ من جهة، إضافةً إلى ما تستثيره تلك السنّ في نفس الأب الشَّيخ الكبير من عاطفةٍ حميمةٍ، تجعل الأب في شيخوخته يهفو إلى الصَّغير من أبنائه، لحاجته إليه، من جهةٍ أخرى.

ولكنَّ الكبار من أبنائه لم يكونوا يفهمون ذلك، لأنهم كانوا يرون في أنفسهم المنـزلة الرَّفيعة التي تفرض على الأب أن يقرِّبهم إليه، ويمنحهم حبَّه، لحاجته إليهم في إعطاء الرّأي والمشورة وتقديم المساعدة إليه، ولا سيَّما أنهم عاشوا معه زمناً طويلاً بحسب تقدّم أعمارهم قبل ولادة أخويهم، وكانت عقدتهم في امتيازهم بالتفوّق العدديّ والتقدّم العمريّ الّذي لا بدَّ من أن يدفعه إلى التّرجيح في علاقته بهم، بدلاً من هذين الطّفلين الصّغيرين اللّذين لا يملكان له من الأمر شيئاً، ولا يساعدانه في شيء.

وقد دفعهم هذا التَّفكير الخاطئ الّذي لم يدرس المسألة من عمق العلاقة الّتي تربط الأب الشَّيخ بالصَّغيرين، إلى اعتباره ضالاً في عاطفته السَّاذجة، وفي تقديره الأمور، بفعل شيخوخته التي قد تضعف رأيه وتنحرف به عن الصَّواب. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[9]، ما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصيَّة النبيّ في أبيهم، وهو الرَّسول الّذي أرسله الله إلى النّاس ليهديهم من الضَّلال، فلا ينطلق في سلوكه من عقدةٍ ذاتيّةٍ، بل من حالة عقلانيّة روحيّة لا تبتعد عن خطِّ الذهنيَّة الرساليَّة في السّلوك الذاتيّ أو في السّلوك العام، لأنَّ دور النّبيّ أن يكون القدوة في كلّ شيء، لأنه يمثّل المستوى الأعلى في حركته في الحياة، كما يمثِّلها في كلماته من خلال التَّكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرّسالة والرَّسول.

وقد يحدث ذلك للعديد من الأبناء الّذين يستسلمون للعلاقة الطبيعيَّة مع الأب، بما قد يتحرك في تفاصيل الحياة في الأجواء العائليَّة العاديّة في داخل الأسرة، فلا يشعرون بالهيبة تجاه الأب التي يشعر بها الآخرون، وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثّر بالجوانب الأخرى في شخصيَّة الأب، أو عدم الشّعور بقدسيَّتها وعظمتها، فينعكس ذلك سلباً على نظرتهم إليه في شعوره وسلوكه، بعيداً عن التعمّق في ذلك كلّه... وتلك كانت مشكلة النبيّ يعقوب مع أولاده، فيما دبّروه من التَّدبير السيِّئ بالوسيلة الّتي تدمِّر أحاسيسه وترهق مشاعره، في تصرّفهم الشرّير مع يوسف.

رؤيا يوسف(ع)

وقد كان يوسف(ع) قد حدَّث أباه عن حُلُمٍ رآه في نومه لا يخلو من الغرابة: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[10]. وقد استشرف يعقوب في هذا الحلم الّذي أحسّ بصدقه في تطلّعات مستقبل ولده، أنّه سيكون شخصاً عظيماً يسمو على أهله بالمكانة المميّزة والمنـزلة الكبيرة، وأراد لولده أن لا يحدِّث أخوته به، لأنهم سوف يقفون منه موقف الحاسد من المحسود إذا فهموه في إيحاءات المستقبل، فأحبَّ يعقوب تحذير يوسف من أن يقصَّ رؤياه عليهم، لأنهم سوف يزدادون حقداً له عندما يفهمون مضمونه في عظمة مستقبله: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً}، فيسعوا في هلاكك، ليمنعوا تحقيق ما ينتظرك من مستقبلٍ مشرقٍ بما يوسوس لهم الشّيطان من أفعال الشرّ، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[11]، في مقاصده ووسائله وأحابيله وخطواته.

وخطَّطوا لقتله أو طرحه في الجبِّ وبيعه لمن يعثر عليه من القوافل، وطلبوا من أبيهم أن يرسله معهم ليلعب ويلهو كما يفعل الأطفال في لهوهم ولعبهم، ولكنَّه خاف عليه من افتراس الذِّئب له وهم في غفلةٍ عن حمايته، لكنَّهم أكَّدوا له أنهم سوف يحفظونه بكلّ وسائلهم، ويمنعون الذِّئاب من الاعتداء عليه.

 وتمّت الخطَّة الشرّيرة، وألقوه في غيابات الجبّ، وجاؤوا إلى أبيهم في حالةٍ بكائيَّة، وزعموا أنَّ الذِّئب قد أكله، وأتوا بثيابه مضرَّجةً بالدِّماء، بعد أن لطَّخوها بدمٍ كذبٍ، وأوحى الله إليه أن ينبِّئهم بأمرهم هذا في فعلتهم الإجراميَّة بطريقةٍ خفيَّة موحية، فأوحى إليهم أنهم قاموا بخطَّة كيديّة ضدَّ أخيهم، لأنَّ موقفهم البكائيّ وقصَّتهم الوهميَّة لا يبعثان على الصِّدق والثّقة بهم: {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} غير هذا الَّذي تدَّعونه، ولن أدخل معكم في التَّفاصيل لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسّه عن الموضوع، فلم يحن الوقت المناسب لذلك.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[12]، أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصَّميم، فلن أجزع أو أسقط عندها، لأنَّ الله منحني قوَّة الاستعانة به، فهو الَّذي يعينني على مواجهة الفواجع والكوارث بالصَّبر والتّسليم والثّقة بما عنده من آفاق الأمل ووسائل الفرج، وهو الَّذي يوحي إليَّ في شعوري وإحساسي الدّاخليّ، بما يبعث الطّمأنينة في نفسي، فيكشف لي الحقيقة الّتي عملتم على إخفائها، وهو الّذي يهيِّئ لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النَّتائج الطيِّبة التي تحلّ المشكلة على أفضل وجهٍ.

خاتمة المأساة

ومرَّت الأيام، وبقي يعقوب يذكر يوسف في وحدته الحزينة، وتولّى عن أولاده الّذين جاؤوا إليه بعد أن نجح يوسف في ضمِّ أخيه إليه، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[13]، يحبس حزنه في صدره من خلال عمق الحبّ الّذي أخذ عليه كلّ ذاته، لا جزعاً، ولكن حبّاً وشوقاً. وأزعج ذلك أولاده، لأنَّهم أرادوا أن يغيب يوسف عن وجدانه، فينسى أمام غيابه الطّويل حبّه له وتفضيله له عليهم في روحه وقلبه، فاعترضوا عليه، {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ}، الّذي أعيش في أجواء لطفه ورحمته، وثقتي بأنَّه يجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، فليس هذا الحزن الدَّفين في نفسي كالحزن الَّذي يسقط النَّاس أمامه.

{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[14]، ممّا أوحى به إليَّ من الأمل الكبير، وأبعدني من خلاله عن اليأس الضَّاغط القاتل. ولذلك، فإني أتوجَّه إليكم أن تبحثوا عن يوسف وأخيه لتلتقوا بهما في خيرٍ وعافيةٍ، بعيداً عن كلِّ عناصر اليأس الّذي قد يفرضه الزَّمن الطّويل، لأنّ المؤمن لا ييأس من روح الله، مهما أحاطت به السلبيَّات، فالله على كلِّ شيءٍ قدير، ولا يفقد الأمل به إلا من ينكر قدرته الّتي تلتقي مع الكفر: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[15].

وهبّت الرّيح على يعقوب، وكانت ريحاً طيّبةً يتنفَّس فيها الخير في لحظةٍ توحي بالكرامة الإلهيَّة الّتي يمنحها بما يشبه الإعجاز الرّوحيّ لأنبيائه وأوليائه، وهذا ما أطلقه يوسف لأخوته ليبعث الطَّمأنينة والسَّكينة والرّاحة في نفس أبيه: {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}[16]، في حركةٍ إعجازيّةٍ من الله، وكان يعقوب قد قال لأولاده: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}[17]، وعادت إليهم الجرأة السيِّئة على موقع أبيهم النّبيّ: {قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}[18].

 وجاء البشير، فألقى قميص يوسف على وجهه فارتدَّ بصيراً، {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[19]، لأنَّ الله أوحى إليَّ في سبحات الوحي أنَّ يوسف وأخاه ما زالا على قيد الحياة، وأنّي سوف ألتقي بهما وأضمّهما إلى صدري بالحبّ الّذي كان في طفولتهما وتجدّد شبابهما.

وهكذا كانت خاتمة القصَّة في حياة يعقوب الّذي التقى بيوسف الّذي قال له: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}[20]. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} الّذي كان يجلس عليه، {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً}[21]، سجود التحيَّة أو سجود الشّكر لله، وانتهت مأساة يعقوب الّذي أخلص لله وصبر على بلائه، فوفَّاه أجور الصّابرين. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1]  [ص: 45].

[2]  [ص: 46].

[3]  [ص: 47].

[4]  [البقرة: 131].

[5]  [البقرة: 132].

[6]  [البقرة: 133].

[7]  [مريم: 49، 50].

[8]   [البقرة: 133].

[9]  [يوسف: 8].

[10]  [يوسف: 4].

[11]  [يوسف: 5].

[12]  [يوسف: 18].

[13]  [يوسف: 84].

[14]  [يوسف: 85، 86].

[15]  [يوسف: 87].

[16]  [يوسف: 93].

[17]  [يوسف: 94].

[18]   [يوسف: 95].

[19]  [يوسف: 96].

[20]  [يوسف: 100].

[21]  [يوسف: 100].

تحدَّث الله عن يعقوب في عدّة آياتٍ في سياق الحديث عن جدِّه إبراهيم وأبيه إسحاق، كما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[1]، ووصفهم بأنّهم يملكون القوَّة، بما توحيه كلمة الأيدي من الوسيلة في استخدام القوَّة في مسؤوليَّات الإنسان العمليَّة، كالعمل الصَّالح الّذي ربما يكونُ بحاجةٍ إلى حركة اليد في تنفيذه وتحويله إلى واقعٍ حيٍّ في حياة النَّاس على جميع المستويات، وأنّهم يملكون البصيرة النَّافذة التي تدرك جذور الأحداث والأشخاص، فيتمثَّلونها في وضوح الرّؤية للأشياء، في وعيهم المنفتح على الله والحياة، وعلى الوسائل والبرامج الكفيلة بالوصول إلى الأهداف الكبرى الّتي حمّلهم الله في رسالتهم أمر تحقيقها في الواقع، ما يجعل من حركتهم حركةً منطلقةً من سعة الأفق وعمق المعرفة وصفاء الرّوح، لأنَّ دورهم في الأمَّة الَّتي أُرسِلوا إليها، هو دور القيادة الفكريَّة والعمليَّة، ما يجعل من عناصر شخصيَّة النبيّ أساساً للتّأثير في الواقع.

خصائص آل يعقوب

ويتابع القرآن الكريم بيان خصائصهم: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ} في اتّصافهم بالصِّفات الروحيَّة والعناصر المنفتحة النَّموذجيَّة الخالصة الَّتي لا يخالطها شيءٌ من الرّيب والزَّيف والالتواء، {ذِكْرَى الدَّارِ}[2]، وهي الدَّار الآخرة الَّتي استغرقوا في ذكراها والاستعداد لها، ودعوا النَّاس إلى العمل في الدّنيا بما يحقِّق لهم السَّعادة فيها عندما يحشرون إليها، والتَّحضير للأجوبة الحاسمة في الموقف الحاسم فيها أمام الله، عندما يقف النَّاس للحساب بين يديه، لتوحي إليهم هذه الذّكرى بالاستقامة على خطِّ التّوحيد بكلِّ مفاهيمه العقيديّة والتشريعيّة التي جعلها الله أساساً للقرب منه وللحصول على رضوانه، باعتبارها الأساس الّذي يتمثّل فيه معنى إخلاص العبوديّة في حركة الإنسان للربوبيّة المهيمنة الرّحيمة المطلقة.

{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[3]، لأنّهم أسلموا كلَّ حياتهم لله، وأخلصوا له، بانقطاعهم إليه، وصرف وجوههم عن غيره ممّن يحتاج إليه ولا يستغني في حياته عنه، وكانوا في الموقع الّذي يؤهِّلهم لحمل رسالة الله، وإبلاغها للنَّاس، والجهاد في سبيلها، وتحمّل الأذى في الطّريق إلى تأكيدها في عقولهم وقلوبهم وتحريكها في حياتهم، فكانوا أهلاً للاصطفاء، ولا سيَّما أنهم عاشوا للخير كلّه في حياة النَّاس المستضعفين، ليهدوهم إلى مواقعه، وليحرّكوا خطواتهم في طريقه، والتزموه كنهج حياةٍ، وخطِّ فكرٍ، وحركة موقفٍ، فكانوا الأخيار بنفوسهم وقلوبهم وخطواتهم ودعوتهم وحركتهم بين النَّاس، حتّى تحوَّلت شخصيَّاتهم إلى تجسيدٍ حيٍّ متحرّك للخير بكلّ أنواعه.

ونستوحي من هذه الآيات، أنَّ يعقوب وأباه إسحاق كانا ممن اصطفاهم الله لدينه، وكانا ـ كأبيهما إبراهيم ـ يملكان القوَّة المتحدّية في مواجهة عبّاد الأصنام. وكان يعقوب يملك المعرفة الواسعة الَّتي استطاع من خلالها أن يجادل قومه وغيرهم ممّن حاجّوه في الله، وقد عمل على استزادة المعرفة من ربّه، فكان أولاده المصطفون يسيرون في خطاه، ويستهدون منهجه، ويعملون على الدَّعوة إلى الله بكلِّ قوَّةٍ وإخلاص، لأنَّ وحدة السِّياق في تتابع الأسماء في التَّذكير بهم، في دعوة النبيّ محمَّد(ص) إلى ذلك، تدلُّ على وحدة العناصر الرساليَّة الخيّرة في الجميع.

الوصيّة بالإسلام

ويحدِّثنا القرآن عن النبيّ يعقوب أنّه كان ـ كجدّه إبراهيم ـ معنيّاً بتوجيه أبنائه إلى الالتزام المطلق بالإسلام، اتّباعاً للاستجابة الإبراهيميَّة لله، في دعوته إيّاه أن يسلم كلَّ وجوده العقليّ والروحيّ والحركيّ له، وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[4]. وكان هذا الإسلام الرّساليّ الإيمانيّ المتجسِّد في شخصيَّة النّبيّ، هو الخطّ الأساس الَّذي سار عليه الأنبياء بعد إبراهيم في توجيه أممهم إليه، وهو الوصيَّة التي أوصى بها بنيه ليمتدَّ الإسلام في ذرّيته، وهذا ما جاء به قوله تعالى حاكياً عن إبراهيم وحفيده يعقوب: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[5]. فالدّين الَّذي اصطفاه الله لهم هو الإسلام، وكانت الوصيَّة أن يلتزموا الانتماء إليه فكراً وقولاً وعملاً، ليمتدَّ في كلِّ حياتهم، بحيث يأتيهم الموت وهم يلتزمونه، ليلاقوا الله في الدَّار الآخرة وهم مسلمون.

وقد نستوحي من الحديث عن يعقوب إلى جانب إبراهيم، أنّه كان يحمل الرِّسالة بكلِّ قوّةٍ والتزامٍ وتصميمٍ وانفتاحٍ على المستقبل، بحيث كانت شغله الشَّاغل، وهمّه الكبير في حثِّ أسرته على السَّير في هذا النّهج والاستقامة على هذا الخطّ، لتكون أسرته إسلاميّةً في التزامها العقيديّ، في توحيدها لله، وذوبانها في طاعته، وعبادتها له بكلّ أوضاعها الخاصَّة، وقد شغله هذا الهمّ الرّساليّ حتى لحظة موته، فقد جمع كلَّ أفراد أسرته ـ وهو في حالٍ تقرّب من حال الاحتضار ـ كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[6].

فقد أراد أن يفارق هذه الدّنيا وقد ترك من بعده أسرةً مسلمةً تعبد الله الواحد، وتخلص له بالمستوى الّذي يجعلها تسير في اتجاه الاهتمام بهذا الدّين والسَّير في خطِّه المستقيم، بما قد يؤدِّي بها إلى الالتزام بالدَّعوة إليه، لتستمرَّ الرّسالة في حركة الأسرة الإبراهيميَّة التي بدأها إبراهيم وولداه إسماعيل وإسحاق، بالدَّعوة إلى توحيد الله في العقيدة والطّاعة والعبادة. وقد استجاب له أبناؤه، فأكَّدوا له التزامهم بعبادة الله الواحد الّذي كان آباؤهم يعبدونه، إضافةً إلى ما كان ملتزماً به. وربما نستوحي من ذلك، أنّه كان متحرّكاً في الدَّعوة إلى الله في المجتمع الّذي عاش فيه وتحمّل مسؤوليَّة هدايته بمقتضى موقعه في النبوّة والتزامه بإبلاغ الرّسالة.

امتداد الرّسالة في الأنبياء

وقد تحدَّث الله عن يعقوب وأبيه إسحاق بأنَّه قد وهبهما لإبراهيم ومنحهما النبوَّة، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}[7]. وقد قرن الله الابن بالأب مع تأخّر ولادته عنه، للإيحاء بامتداد الرِّسالة في موقعهما، وإفاضة الرَّحمة عليهما، وتخليد ذكرهما على لسان النَّاس، وحديثهم عنهم وعن إبراهيم بالثَّناء الحسن والموقع الرّفيع، جزاءً لهم على إيمانهم وجهادهم في سبيل الرّسالة وإخلاصهم لله في العبوديّة، الأمر الّذي يوحي باستمرار الحركة الإبراهيميّة الرساليّة في حركتها العمليّة.

وربما يتساءل البعض عن حجم التكرار العدديّ في ذكر إسحاق ويعقوب بما يفوق ذكر إسماعيل، ما قد يوحي بالقيمة الفضلى لهما في موقعهما النّبويّ.

 وقد يجاب عن ذلك، بأنَّ المسألة لا تأخذ هذا البعد القيمي، بل إنَّ القضيَّة تتمثّل في المناسبات المتعدِّدة الّتي تفرض هذا الذّكر العدديّ، تماماً كما هي قضيَّة الحديث عن موسى وهارون وبني إسرائيل، لأنَّ الأحداث المتعلّقة بحركيّتهم في أوضاعهم الخاصَّة والعامَّة تفرض ذلك. هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ بني إسرائيل، وهم أبناء يعقوب، كانوا الشّغل الشَّاغل للحديث القرآنيّ في سلبيَّاتهم وإيجابيَّاتهم، كما أنَّ الله جعل منهم الأنبياء الَّذين اختلف موقف بني إسرائيل منهم، بين الاستجابة لهم في موقع، وقتلهم واضطهادهم في موقع، بما لم يحصل لذرّيّة إسماعيل في الذرّية الرّساليّة، فيما عدا انتساب النبيّ محمَّد(ص) وقومه إليه.

 مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أنَّ القصَّة الّتي حدثت لإسماعيل في إسلامه لله، وإطاعته له بالإسلام الكلّيّ الخالص الّذي لا مثيل له، عندما عرض عليه أبوه إبراهيم أن يقدِّم نفسه للذَّبح، فأسلم لله أمره من دون تأمّلٍ أو تفكيرٍ أو اعتراض؛ إنّ هذه القصّة لم تحصل لأخيه إسحاق ولا لابن أخيه يعقوب، ما يجعل عظمة القيمة في النّوعيَّة في المضمون الرّوحيّ، لا في كميّة الذّكر، مع التّقدير الرّساليّ لهم، لأنهم كانوا جميعاً في مواقع الرّسالة والدَّعوة إلى توحيد الله في العبادة والطَّاعة والعقيدة، وهذا ما جمعه أولاد يعقوب في استجابتهم لأبيهم عن المعبود الّذي يلتزمون عبادته من بعده، {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[8].

مأساة يعقوب(ع)

ونعود إلى ذكر يعقوب الَّذي عاش المأساة الأليمة في غياب ولده يوسف، من خلال مؤامرةٍ حاقدةٍ حاسدةٍ دبَّرها أخوته الّذين كانوا معقَّدين من محبَّة أبيهم له ولأخيه بنيامين، بما لم يحصلوا عليه من ذلك، فكانا أقرب إلى أبيهم منهم، وهذا ما أثار في نفوسهم الحقد الأسود الّذي دفع بعضهم إلى التَّفكير في إبعاده عنه وتغييبه في المتاهات الضَّائعة في تآمرهم الحاسد، وربما فكَّر بعضهم في قتله، فقد كانوا عشرة أبناءٍ ليعقوب من أمٍّ واحدة، بينما كان يوسف وأخوه من أمٍّ أخرى. وربما كان ليعقوب بعض العاطفة المميَّزة لهما، كنتيجة بعض الخصائص الرّوحيَّة والأخلاقيَّة الَّتي كانا يتميَّزان بها. وربما كان الأساس في هذه العلاقة العاطفيَّة ناشئاً عن صغر سنِّهما الّتي تجعلهما بحاجةٍ إلى الاحتضان العاطفيّ من جهة، إضافةً إلى ما تستثيره تلك السنّ في نفس الأب الشَّيخ الكبير من عاطفةٍ حميمةٍ، تجعل الأب في شيخوخته يهفو إلى الصَّغير من أبنائه، لحاجته إليه، من جهةٍ أخرى.

ولكنَّ الكبار من أبنائه لم يكونوا يفهمون ذلك، لأنهم كانوا يرون في أنفسهم المنـزلة الرَّفيعة التي تفرض على الأب أن يقرِّبهم إليه، ويمنحهم حبَّه، لحاجته إليهم في إعطاء الرّأي والمشورة وتقديم المساعدة إليه، ولا سيَّما أنهم عاشوا معه زمناً طويلاً بحسب تقدّم أعمارهم قبل ولادة أخويهم، وكانت عقدتهم في امتيازهم بالتفوّق العدديّ والتقدّم العمريّ الّذي لا بدَّ من أن يدفعه إلى التّرجيح في علاقته بهم، بدلاً من هذين الطّفلين الصّغيرين اللّذين لا يملكان له من الأمر شيئاً، ولا يساعدانه في شيء.

وقد دفعهم هذا التَّفكير الخاطئ الّذي لم يدرس المسألة من عمق العلاقة الّتي تربط الأب الشَّيخ بالصَّغيرين، إلى اعتباره ضالاً في عاطفته السَّاذجة، وفي تقديره الأمور، بفعل شيخوخته التي قد تضعف رأيه وتنحرف به عن الصَّواب. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[9]، ما نستوحي منه أنهم كانوا لا يحترمون شخصيَّة النبيّ في أبيهم، وهو الرَّسول الّذي أرسله الله إلى النّاس ليهديهم من الضَّلال، فلا ينطلق في سلوكه من عقدةٍ ذاتيّةٍ، بل من حالة عقلانيّة روحيّة لا تبتعد عن خطِّ الذهنيَّة الرساليَّة في السّلوك الذاتيّ أو في السّلوك العام، لأنَّ دور النّبيّ أن يكون القدوة في كلّ شيء، لأنه يمثّل المستوى الأعلى في حركته في الحياة، كما يمثِّلها في كلماته من خلال التَّكامل بين الكلمة والفعل في حركة الرّسالة والرَّسول.

وقد يحدث ذلك للعديد من الأبناء الّذين يستسلمون للعلاقة الطبيعيَّة مع الأب، بما قد يتحرك في تفاصيل الحياة في الأجواء العائليَّة العاديّة في داخل الأسرة، فلا يشعرون بالهيبة تجاه الأب التي يشعر بها الآخرون، وربما قادهم ذلك إلى فقدان التأثّر بالجوانب الأخرى في شخصيَّة الأب، أو عدم الشّعور بقدسيَّتها وعظمتها، فينعكس ذلك سلباً على نظرتهم إليه في شعوره وسلوكه، بعيداً عن التعمّق في ذلك كلّه... وتلك كانت مشكلة النبيّ يعقوب مع أولاده، فيما دبّروه من التَّدبير السيِّئ بالوسيلة الّتي تدمِّر أحاسيسه وترهق مشاعره، في تصرّفهم الشرّير مع يوسف.

رؤيا يوسف(ع)

وقد كان يوسف(ع) قد حدَّث أباه عن حُلُمٍ رآه في نومه لا يخلو من الغرابة: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[10]. وقد استشرف يعقوب في هذا الحلم الّذي أحسّ بصدقه في تطلّعات مستقبل ولده، أنّه سيكون شخصاً عظيماً يسمو على أهله بالمكانة المميّزة والمنـزلة الكبيرة، وأراد لولده أن لا يحدِّث أخوته به، لأنهم سوف يقفون منه موقف الحاسد من المحسود إذا فهموه في إيحاءات المستقبل، فأحبَّ يعقوب تحذير يوسف من أن يقصَّ رؤياه عليهم، لأنهم سوف يزدادون حقداً له عندما يفهمون مضمونه في عظمة مستقبله: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً}، فيسعوا في هلاكك، ليمنعوا تحقيق ما ينتظرك من مستقبلٍ مشرقٍ بما يوسوس لهم الشّيطان من أفعال الشرّ، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[11]، في مقاصده ووسائله وأحابيله وخطواته.

وخطَّطوا لقتله أو طرحه في الجبِّ وبيعه لمن يعثر عليه من القوافل، وطلبوا من أبيهم أن يرسله معهم ليلعب ويلهو كما يفعل الأطفال في لهوهم ولعبهم، ولكنَّه خاف عليه من افتراس الذِّئب له وهم في غفلةٍ عن حمايته، لكنَّهم أكَّدوا له أنهم سوف يحفظونه بكلّ وسائلهم، ويمنعون الذِّئاب من الاعتداء عليه.

 وتمّت الخطَّة الشرّيرة، وألقوه في غيابات الجبّ، وجاؤوا إلى أبيهم في حالةٍ بكائيَّة، وزعموا أنَّ الذِّئب قد أكله، وأتوا بثيابه مضرَّجةً بالدِّماء، بعد أن لطَّخوها بدمٍ كذبٍ، وأوحى الله إليه أن ينبِّئهم بأمرهم هذا في فعلتهم الإجراميَّة بطريقةٍ خفيَّة موحية، فأوحى إليهم أنهم قاموا بخطَّة كيديّة ضدَّ أخيهم، لأنَّ موقفهم البكائيّ وقصَّتهم الوهميَّة لا يبعثان على الصِّدق والثّقة بهم: {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} غير هذا الَّذي تدَّعونه، ولن أدخل معكم في التَّفاصيل لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسّه عن الموضوع، فلم يحن الوقت المناسب لذلك.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[12]، أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصَّميم، فلن أجزع أو أسقط عندها، لأنَّ الله منحني قوَّة الاستعانة به، فهو الَّذي يعينني على مواجهة الفواجع والكوارث بالصَّبر والتّسليم والثّقة بما عنده من آفاق الأمل ووسائل الفرج، وهو الَّذي يوحي إليَّ في شعوري وإحساسي الدّاخليّ، بما يبعث الطّمأنينة في نفسي، فيكشف لي الحقيقة الّتي عملتم على إخفائها، وهو الّذي يهيِّئ لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النَّتائج الطيِّبة التي تحلّ المشكلة على أفضل وجهٍ.

خاتمة المأساة

ومرَّت الأيام، وبقي يعقوب يذكر يوسف في وحدته الحزينة، وتولّى عن أولاده الّذين جاؤوا إليه بعد أن نجح يوسف في ضمِّ أخيه إليه، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[13]، يحبس حزنه في صدره من خلال عمق الحبّ الّذي أخذ عليه كلّ ذاته، لا جزعاً، ولكن حبّاً وشوقاً. وأزعج ذلك أولاده، لأنَّهم أرادوا أن يغيب يوسف عن وجدانه، فينسى أمام غيابه الطّويل حبّه له وتفضيله له عليهم في روحه وقلبه، فاعترضوا عليه، {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ}، الّذي أعيش في أجواء لطفه ورحمته، وثقتي بأنَّه يجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، فليس هذا الحزن الدَّفين في نفسي كالحزن الَّذي يسقط النَّاس أمامه.

{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[14]، ممّا أوحى به إليَّ من الأمل الكبير، وأبعدني من خلاله عن اليأس الضَّاغط القاتل. ولذلك، فإني أتوجَّه إليكم أن تبحثوا عن يوسف وأخيه لتلتقوا بهما في خيرٍ وعافيةٍ، بعيداً عن كلِّ عناصر اليأس الّذي قد يفرضه الزَّمن الطّويل، لأنّ المؤمن لا ييأس من روح الله، مهما أحاطت به السلبيَّات، فالله على كلِّ شيءٍ قدير، ولا يفقد الأمل به إلا من ينكر قدرته الّتي تلتقي مع الكفر: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[15].

وهبّت الرّيح على يعقوب، وكانت ريحاً طيّبةً يتنفَّس فيها الخير في لحظةٍ توحي بالكرامة الإلهيَّة الّتي يمنحها بما يشبه الإعجاز الرّوحيّ لأنبيائه وأوليائه، وهذا ما أطلقه يوسف لأخوته ليبعث الطَّمأنينة والسَّكينة والرّاحة في نفس أبيه: {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}[16]، في حركةٍ إعجازيّةٍ من الله، وكان يعقوب قد قال لأولاده: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}[17]، وعادت إليهم الجرأة السيِّئة على موقع أبيهم النّبيّ: {قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}[18].

 وجاء البشير، فألقى قميص يوسف على وجهه فارتدَّ بصيراً، {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[19]، لأنَّ الله أوحى إليَّ في سبحات الوحي أنَّ يوسف وأخاه ما زالا على قيد الحياة، وأنّي سوف ألتقي بهما وأضمّهما إلى صدري بالحبّ الّذي كان في طفولتهما وتجدّد شبابهما.

وهكذا كانت خاتمة القصَّة في حياة يعقوب الّذي التقى بيوسف الّذي قال له: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}[20]. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} الّذي كان يجلس عليه، {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً}[21]، سجود التحيَّة أو سجود الشّكر لله، وانتهت مأساة يعقوب الّذي أخلص لله وصبر على بلائه، فوفَّاه أجور الصّابرين. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة


[1]  [ص: 45].

[2]  [ص: 46].

[3]  [ص: 47].

[4]  [البقرة: 131].

[5]  [البقرة: 132].

[6]  [البقرة: 133].

[7]  [مريم: 49، 50].

[8]   [البقرة: 133].

[9]  [يوسف: 8].

[10]  [يوسف: 4].

[11]  [يوسف: 5].

[12]  [يوسف: 18].

[13]  [يوسف: 84].

[14]  [يوسف: 85، 86].

[15]  [يوسف: 87].

[16]  [يوسف: 93].

[17]  [يوسف: 94].

[18]   [يوسف: 95].

[19]  [يوسف: 96].

[20]  [يوسف: 100].

[21]  [يوسف: 100].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية