لم يتحدَّث القرآن الكريم عن يوسف كرسولٍ في عداد الرّسل الَّذين أكرمهم الله برسالاته وأنزل عليهم وحيه بالوسائل المتنوّعة، ولكنَّ هناك آيةً تشير إلى ذلك في دلالتها على صفة الرّسوليّة في ذاته، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}[1].
دعوة يوسف(ع) إلى التَّوحيد
فقد انطلق في مجتمعه بالبيِّنات الَّتي كان يقدِّمها للنَّاس، بما كان يثيره من فكرٍ توحيديّ يؤكِّده في حركة العقل والشّعور، وفي وضوح الفكرة الّتي تهدي النَّاس إلى معرفة الله والإيمان به، ومن روحٍ تنفتح بكلِّ آفاقها على الإسلام في عمقه وامتداده، فانطلقت ـ كما انطلق بها النبيّ إبراهيم(ع) ـ بإعلان الإسلام المطلق الشَّامل للحياة كلِّها، في إسلام القلب واللِّسان والحركة.
ولكنَّ النَّاس الّذين انطلق إليهم في دعوته، لم يبادروا إلى الإيمان به والاستجابة له، ولم يصدِّقوه، بل واجهوا هذه الدَّعوة الرّساليَّة ـ الّتي يبدو أنّه تحرّك بها بعد انتهاء مسؤوليَّته الإداريّة ـ بعلامات الاستفهام الهادفة إلى التحدِّي وإثارة الجدل العقيم، لا الوصول إلى معرفة الحقيقة.
ويبدو أنّهم كانوا يرون فيه المسؤول عن إدارة الشّؤون الماليَّة كموظّفٍ لدى العزيز الّذي كان يحكم مصر، الأمر الَّذي جعلهم يتساءلون في حال شكٍّ عن صفته الرّسوليَّة الَّتي امتدَّت إلى الشكِّ فيما جاء به في مضمون الدَّعوة. ولكنَّهم لم يلتفتوا إلى أنَّ ما جاءهم به هو من الآيات البيّنات الَّتي لا تدع مجالاً للرّيب في إرساله من الله، لأنَّ ذلك هو الدَّليل على رسوليَّة الرّسول، فكيف شكّوا فيه؟!
غير أنّهم عندما هلك وانتقل إلى رحاب ربّه، ناقضوا أنفسهم، فقالوا لن يبعث الله من بعده رسولاً، لأنَّ هذا الكلام يدلّ على أنّهم يؤمنون بأنّه كان في موقع الرّسول. وهذا ما احتجّ به مؤمن آل فرعون عليهم، لبيان أنَّ الله أضلَّهم فلم يهتدوا بهداه، كدلالةٍ على حال التخبّط الفكريّ والغواية النفسيَّة، فإذا كانوا قد أكَّدوا اعترافهم بنبوَّة يوسف بعد هلاكه، وهو الّذي يقال إنّه أحد أجداد موسى، فكيف بادروا إلى إنكار نبوَّة موسى الّذي جاءهم بالبيِّنات الّتي هي الحجَّة القاطعة على رسالته؟! إنَّ القضيَّة هي أنّهم حاولوا التنصّل من المسؤوليَّة، وإعطاء أنفسهم الذّرائع والمبرّرات على التَّشكيك في موسى كما كانت طريقتهم في ذلك مع يوسف.
اللّطف الإلهيّ بيوسف(ع)
وقد نستوحي من سورة يوسف، اللّطف الإلهيّ الّذي أعدَّه الله في شخصيَّته من أجل أن يجتبيه إليه، ليدخله في المسيرة الرّساليّة التي منحها لآبائه، ليكون واحداً من هذه السِّلسلة المباركة، ولكن بطريقةٍ أخرى وأسلوبٍ آخر ووسيلةٍ مميَّزة، وهذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[2].
فقد أراد الله اختياره من بين عباده في عمليَّة اصطفاءٍ لهداية النّاس، وذلك بأن يمنحه تفسير الأحاديث الّتي تشغل أفكار النّاس وتثير اهتماماتهم وتشغل أوضاعهم، من خلال ما يتطلّبون استشرافه من أمور المستقبل في أحلامهم الّتي يتصوَّرون أنّها قد تكشف بعض قضاياهم المستقبليّة، فكان هذا العلم الّذي منحه الله إيَّاه وسيلةً من وسائل انفتاحهم عليه واتّباعهم له وثقتهم به، كما نرى ذلك فيما استقبله من أحاديثه مع النَّاس في مواقعهم الخاصَّة والعامَّة.
وهكذا أتمَّ الله نعمته عليه كما أتمّها على آبائه، بما غمرهم به من لطفه ورحمته، وبما فتحه لهم من أبواب الخير، أو أنزله عليهم من وحيه ورسالته، أو بما أخرجهم منه من ضيقٍ وعسر، أو خصَّهم به من كرامة النبوّة ودرجة الرّسالة وموقع القرب منه، فهو الّذي يعلم الغيب كلَّه، لأنّه هو الّذي خلق المستقبل كلَّه، وهو الّذي يجري الأمور كلَّها على وفق حكمته في العطاء للعباد والمنع عنهم في المجالات الماديَّة والمعنويَّة، بحسب حكمته في ما يصلح للنَّاس أمورهم في الخطّ المستقيم.
وممّا أتمّ الله به نعمته على يوسف(ع)، أنّه آتاه الحكم والنبوَّة والملك والعزّة في مصر، إضافةً إلى أنّه جعله من عباده المخلصين. وقد تعهَّده الله بالرّعاية من عنده، فآتاه حكماً وعلماً، بما أفاض على عقله من المواهب والملكات العقليَّة، فأصبح من أولي الحكم الَّذين يُقصَدُون للحكم من موقع فكريٍّ عميقٍ واسع، وعلمٍ غزيرٍ شامل، بإلهامٍ إلهيٍّ واسع، جزاءً لصبره وإحسانه، لما يمثِّله الصَّبر في حياة الإنسان من تعميقٍ للفكر، وتوسيعٍ له أمام مصاعب الحياة ومشاكلها الّتي لا يتحمَّلها إلا الصَّابرون الّذين يملكون الإرادة القويّة المنفتحة على الالتزام بطاعة الله، وبما يمثّله الإحسان من انفتاحٍ على الكون في حاضر الحياة ومستقبلها، بالسَّير في الخطِّ المستقيم الّذي يحبّه الله ويرضاه، وبالشَّكل الّذي يغني التّجربة الإيمانيَّة، ويوسِّع الأفق الرّوحي، ويوحي بالامتداد في حركة الخير، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}، أي استكمل قوَّته جسماً وعقلاً، {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[3]، بما نفيضه عليهم من وحي المعرفة، ونخصّهم به من القدرة على إدارة الأمور في مواقع الحكم بين النَّاس، وتدبير مصالحهم، وتنمية قدراتهم، ورعاية أوضاعهم، بما يتميَّزون به من الحكم والعلم والقدرة.
تأويل الرّؤيا
وتبدأ قصَّة النَّبيّ يوسف(ع) في حديثه مع أبيه، وقد كان أثيراً عنده، حبيباً إليه، لجماله ووداعته وصفاء روحه وتهذيب سلوكه بالرّغم من طفولته، إذ جلس عنده يقصُّ عليه رؤياه الغريبة ممّا رآه في منامه، وقد أثارت في نفسه الحيرة والقلق، لما تشتمل عليه من جوٍّ يوحي بالسموّ، ولكنَّه حافلٌ بالغموض، فكيف يتمثَّل سجود الشَّمس؛ هذا الكوكب الّذي يمنح الكون النّور والدِّفء والحرارة، وسجود القمر؛ هذا الكوكب الّذي يوحي بالشّعاع الهادئ الّذي يعطي اللَّيل نوره الّذي يفيض على الإنسان بالسَّكينة والجمال، وهذه الكواكب الأحد عشر الّتي تنتشر في السَّماء؟! فمن هو حتى تسجد له هذه الظَّواهر الكونيَّة العظيمة؟! وما معنى ذلك؟! وهل هناك سرٌّ لهذا الحُلُم الغريب الجميل؟!
فأراد من أبيه الَّذي أكرمه الله بالنبوَّة، وعلّمه ما يمكِّنه من أن ينفذ إلى عمق الأسرار الكامنة في الواقع والحُلُم، أن يفسِّر له أسرار هذه الرّؤيا الَّتي شغلت باله وأقلقت مشاعره، ليوضح له معالمها الدَّقيقة، وليكشف له ما تخبِّئه من معالم المستقبل في حياته من خلال دلالاتها الخفيَّة. وربّما كان يعتقد أنّها رؤيا صادقة، وليست من أضغاث الأحلام، فحاول أن يعرف طبيعتها، وقد يكون في تلك الحالة حائراً بين هذا النَّوع من الرّؤيا الصّادقة، والرّؤيا الحالمة، فأحبّ أن ينفذ إلى أعماقها، ويجلو كنهها كأيِّ إنسانٍ في مثل عمره الذي ربّما كان يلتقي بأوائل الشّباب.
وهذا ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[4]. واستمع يعقوب إلى ولده في حديثه عن هذه الرّؤيا الغريبة، بحدسه النّبويّ، أو بما منحه الله من المعرفة بأسرار الأحلام الصَّادقة، فاستشرف مستقبل ولده يوسف من خلال هذا الحُلُم العجيب، فرأى فيه شخصاً عظيماً ينفتح على مستقبلٍ عظيمٍ يسمو على أهله بالمكانة والمنزلة، إلى المستوى الّذي يشعرون معه بأنَّ عليهم أن يتعاملوا معه كما يتعاملون مع الملوك العظام الّذين كانت تقاليد ذلك العصر تفرض على النَّاس أن يقدِّموا إليهم فروض الاحترام بطريقة السّجود لهم.
خوف على المستقبل
وقد خاف يعقوب على ولده من هذا الحُلُم العجيب الّذي يوحي بالعظمة، إذا عرف به أخوته وانفتحوا على دلالاته التي تدلّ على أنّه سيكون في موقع الإنسان الّذي يخضع له النّاس، حتى أخوته الأحد عشر، فقد يكيدون له، وقد يدبّرون له المكائد الّتي قد تؤدِّي إلى هلاكه أو ضياعه، لأنّه كان يعرف أنَّ أولاده الآخرين يحسدون يوسف على ما يتميَّز به من جمالٍ وذكاءٍ ووداعةٍ وصفاء، وعلى ما يحصل عليه من المنزلة عند أبيه، كنتيجةٍ لما يملكه من هذه الصِّفات المميَّزة وغيرها، التي أهَّلته للمعاملة الأبويَّة الأثيرة، وكان يخشى على يوسف منهم، لأنَّ العقدة التي كانوا يختزنونها في أنفسهم تجاهه، قد توحي إليهم بالتّآمر عليه والتخلّص منه إذا تحدَّث إليهم عن رؤياه العجيبة، وفهموا منها ما ينتظره من مستقبلٍ كبيرٍ لا يحصلون عليه، الأمر الَّذي يجعلهم يقفون منه موقف الحاسد له على ما سيغدو عليه من موقعٍ رفيعٍ يفوق مواقعهم.
ولأنَّ الحسد قد يدفع أصحابه إلى الكيد للمحسود وإيذائه بشكلٍ مباشر ـ وليس عبر تسليط عين الحسد، كما يعتقد النَّاس عموماً ـ فقد أحبَّ يعقوب تحذير ولده يوسف من أن يقصَّ رؤياه على أخوته، فيما أوحاه إليه ممّا ينتظره من مستقبلٍ باهرٍ يجعله في موقع الكيد من قبل أخوته الّذين كانوا يشعرون بالحسد تجاهه: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}، لأنّها توحي بتفوّقك عليهم في مستقبل عمرك، فقد يستوحون منها ما استوحيته، من أنّهم يمثِّلون الكواكب التي تسجد لك، {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً}، فيسعوا إلى هلاكك، ليمنعوا ما ينتظرك من مستقبلٍ مشرق، ظنّاً منهم أنهم يستطيعون تغيير ما يريده الله أن يكون. وهذا ما قد تسوِّله لهم أنفسهم الأمَّارة بالسّوء، الغارقة في ضباب الأوهام والأحلام الكاذبة، والواقعة تحت تأثير أفكار الشرِّ والجريمة التي يبثّها فيها الشَّيطان من خلال العقدة المتأصِّلة بالذّات التي يتعامل معها بطريقةٍ تزيدها تعقيداً، ويزيد ـ بالتَّالي ـ في ضلال الإنسان الذي يستسلم له، فيحرّكه في اتّجاه معصية الله ليفسد عليه حياته ومصيره، فيقوده إلى عذاب الله في الآخرة.
وتلك هي العقدة الشّيطانيّة الّتي بدأت بخروجه من دائرة رحمة الله، لامتناعه عن السّجود للإنسان الأوَّل المتمثِّل بآدم، فكانت عقدته الكبيرة أن يجرَّ ذرّيّته إلى النَّار، ليكون مصيرهم ومصيره واحداً، على غرار ما يفعله الأعداء مع أعدائهم، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[5].
وهكذا بدأت المسيرة الّتي أرادها الله ليوسف على طريق النموّ الفكريّ والرّوحيّ الَّذي يمهِّد له السَّير في طريق الأنبياء الصَّالحين الّذين يربّيهم الله على خطِّ هداه، من خلال المعاناة الجسديّة والروحيَّة التي يواجهون فيها عمليَّة تدريبٍ يوميَّة تقوّي إرادتهم، وتوسِّع آفاقهم، وتفتح لهم نوافذ التّفكير على أكثر من جانب من جوانب الغيب والحياة. وقد كانت رؤيا يوسف بدايةً طيّبةً له، تفتح له باب التَّفكير في آفاق هذه الرّؤية الواقعيَّة، وفي كيفيَّة النَّفاذ إلى المواقع المميَّزة في حياة النّاس، كما أنّها جعلته يتطلَّع في يقظةٍ إيحائيّةٍ إلى ما يؤول إليه أمره، وما يخفيه مستقبله، في أملٍ كبيرٍ بلطف الله ورحمته وفيوضاته.
التّخطيط للتخلّص من يوسف
أمّا أخوة يوسف، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى الاستماع إلى الحُلُم العجيب الّذي رآه أخوهم يوسف في منامه، بل كانوا يختزنون في أنفسهم الحقد الدَّفين والبغضاء المسعورة، بحيث كانوا لا يطيقون وجوده ووجود أخيه الشَّقيق معه، لا لأنّهما أساءا إليهم بأيِّ قولٍ أو عمل، بل لأنّهما كانا موضع محبَّة أبيهم يعقوب، ومحطَّ اهتمامه الشَّديد بأوضاعهما، ولأنّهم لم يحصلوا على الدَّرجة الرَّفيعة التي حصلا عليها، ولذلك تناجوا فيما بينهم كيف يتخلَّصون منهما ليخلو لهم وجه أبيهم الّذي لن يرى غيرهم بعد هلاك أخويهم، كما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}[6]. فكيف يميِّزهما عنَّا بالمحبَّة الأبويَّة الشَّديدة، ونحن الأكثريَّة في ولده الّذين يمكن أن يساعدوه ويعاونوه في أموره كلِّها، وفي مسؤوليَّاته الخاصَّة والعامَّة، بما لا يستطيعه هذان الطّفلان الصَّغيران؟!
وهكذا دبّروا الخطَّة للتخلّص من يوسف، باعتبار أنّه الأكثر التصاقاً بأبيه في علاقته به، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}، ليضيع في متاهات الصَّحراء، فيموت جوعاً وعطشاً، أو تأكله السِّباع، أو ليموت في أعماق البئر، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}، فلا يجد أمامه غيركم، فيتَّجه بكلِّ عاطفته إليكم.
إنّها الفكرة الّتي سيطرت على أذهان الجميع ـ من حيث تأكيد المبدأ ـ بحيث كان كلّ واحدٍ يكرّرها في حديثه مع الآخرين. ونلاحظ أنّهم لم يتحدَّثوا عن الأخ الشَّقيق ليوسف، ولم يفكِّروا في التخلّص منه، لانصراف العاطفة الجيَّاشة لأبيهم تجاه يوسف ذي الميزات الجماليَّة والروحيَّة، أمّا أخوه، فقد كان موقعه في حديثهم أنّه الأخ الشَّقيق ليوسف، لأنّ يوسف لم يكن أخاهم الشَّقيق، لأنّه كان من أمٍّ أخرى.
أسلوبٌ شيطانيّ
وهكذا كانت الفكرة الشّرّيرة خاضعةً للحالة النَّفسيّة المعقَّدة التي نفذ الشّيطان منها إليهم، ليوحي إليهم بارتكاب الجريمة أوّلاً ثم بالتَّوبة، وهذا هو دأب الأسلوب الشّيطانيّ في مواجهة لحظة الخوف الإنسانيّ من الله عندما يهمّ الإنسان بارتكاب ما يخالف أمره، إذ يعجِّل للإنسان المعصية، ويمنّيه بالتَّوبة، ثم يدفعه إلى التَّسويف فيها بعد ذلك. وهكذا قال بعضهم للبعض الآخر، إنَّ عليكم أن تقوموا بهذه الجريمة ثم تتوبوا إلى الله بعدها، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}[7]، بما تقومون به من الأعمال الصَّالحة والعبادات الخالصة.
وربّما كان بعضهم يكنُّ عاطفةً لأخيه، ولكن بالمستوى الّذي يُبعد عنه فكرة الموت بيد إخوته، فاقترح اقتراحاً معيَّناً يبقي به على حياته في هذا الاتّجاه، {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}، أي في أعماق البئر الّتي لا يغرق من يُقذَف فيها لقلّة ما تحتويه من الماء، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}، من القوافل السّائرة على طريق البئر، فيكتشفوه عندما يريدون الاستقاء منها، فيأخذوه ويبيعوه، بحيث يضيع في البلاد النّائية، ويفقد بالعبوديّة حريّة الحركة. فهذا هو الحلّ الّذي يحقّق لنا الخلاص من يوسف، ويمنعنا من القيام بجريمة قتله. فبدأوا بالتَّخطيط العمليّ لذلك، {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[8]، مصرّين على تصميمكم في إبعاد يوسف عن أنظار أبيه.
هذا ما كان من أمرهم في التَّفكير في خطَّة الخلاص منه، وتنفيذ ما يريدون القيام به لتحقيق الهدف المرسوم. فكيف تحرّكوا في هذا الاتّجاه؟ هذا ما نحاول الحديث عنه في المحاضرة القادمة، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [غافر: 34].
[2] [يوسف: 6].
[3] [يوسف: 22].
[4] [يوسف: 4].
[5] [يوسف: 5].
[6] [يوسف: 8].
[7] [يوسف: 9].
[8] [يوسف: 10].