حديثنا في هذا اللّقاء هو عن النّبيّ نوح(ع) في حواره مع قومه، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنَّ حوار الأنبياء مع قومهم هو حوار النَّصيحة الَّتي تلتقي بالشّورى، ولذلك، فإنَّ ما تحدَّث به القرآن، وما تحدَّثت به السُنَّة عن الشّورى، يشمل هذا النَّوع من الحوار الَّذي كان يديره الأنبياء مع قومهم، لأنَّهم كانوا يشيرون عليهم بالنّصح، بما يقرّبهم إلى الله، وبما يحقِّق لهم السَّعادة، ويبعدهم عن المفاسد الّتي قد تلحق بهم نتيجة إصرارهم على عقائدهم وتقاليدهم الوثنيَّة الباطلة.
خصائص النبيّ نوح(ع)
ونوح(ع) شخصيَّة مميَّزة في عالم الأنبياء، فهو أوّلاً الأب الثّاني للبشريَّة، لأنَّ آدم هو الأب الأوّل، وهو الَّذي تحدَّث الله سبحانه وتعالى عنه في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ}[1]. وهكذا، أراد الله له عندما قدّر الطّوفان، أن يجعل في السَّفينة من كلّ زوجين اثنين من الحيوانات، لأنَّ الطّوفان كان يمثّل انعدام كلِّ الأحياء في تلك المرحلة، وإلا ما كانت الحاجة إلى أن يأتي ومعه من كلّ زوجين اثنين؟!
وهناك نقطةٌ أخرى، وهي أنّه لم يبلغ نبيٌّ من العمر ما بلغه نوح(ع)، فقد قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}[2]، ونستوحي من هذه الآية، أنّه تجاوز تلك المدَّة، لأنَّ هذه المدّة كانت مع قومه، أمّا بعد مجيء الطّوفان، فلم يتحدَّث الله لنا عن المدَّة الّتي قضاها بعد أن رست السَّفينة على الجودي، لأنَّ من الممكن أنّ حياة نوحٍ قد استمرَّت بعد ذلك مع المؤمنين معه من دون أيِّ تعقيدات أو مشاكل، وربّما أنهى الله سبحانه وظيفته الرّساليَّة بعد هذه التَّجربة الطَّويلة، وعاش طويلاً بعد الطّوفان.
ثمّ إنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن نوح بطريقةٍ دلّلت على أنّ موقعه هو في الدّرجات العليا عند الله، فقال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}[3]، ونحن نعرف أنَّ الله عندما يُطلق السَّلام على أحد أنبيائه بهذه الطّريقة، فإنّه يكون في المرتبة القريبة منه سبحانه وتعالى.
وتذكر كتب السّيرة أنَّ نوحاً هو أوَّل نبيٍّ فتح باب التّشريع، لأنَّ الأنبياء منذ آدم، لم يأتوا بشريعة، لأنَّ مهمَّتهم كانت الدَّعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى في العقيدة والعبادة، ورفض الوثنيَّة، وربّما لم تكن هناك تعقيدات في الأجيال الَّتي سبقت نوحاً(ع)، بحيثُ كانت تحتاج إلى شريعة، بل كانت المسألة هي الدَّعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورفض الوثنيَّة السَّائدة.
ويتحدَّث أيضاً المفسّرون أنَّ نوحاً(ع) هو أوَّل من خاطب النّاس بالعقل، ويمكننا أن نعرف ذلك عندما ندرس حواره مع قومه، وكيف كان يقدِّم لهم الحجَّة، ويطلب منهم أن يناقشوه وأن يقيموا البرهان على ما يعتقدونه، ولكنَّ القوم كانوا لا يأخذون بأسباب العقل، بل كانوا يواجهونه بالسخرية تارةً، وبالقوّة والتّهديد أُخرى.
ونستطيع أن نعتبر النبيَّ نوحاً(ع) هو النبيّ الّذي ينتهي إليه دين التّوحيد في العالم، فهو أوَّل من أطلق الدَّعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى في العالم، لأنّه لم يكن هناك أنبياء ـ بالمعنى الحركيّ ـ قبله، سوى ما يُقال عن إدريس(ع).
خيانة امرأة نوح
وعندما ندرس حياته الخاصَّة، فإنّنا نجد هناك مشكلتين كانتا تواجهان النّبيّ نوحاً(ع) في حياته العائليَّة.
المشكلة الأولى: خيانة زوجته له، وتتمثَّل هذه المشكلة في أنّه تزوَّج امرأةً من قومه كانت تلتزمُ الكفر، ولم تنفتح على رسالته التّوحيديّة، بل يلوح من القُرآن الكريم أنّها كانت خائنةً له، ويقال ـ في هذا المجال ـ إنّها كانت تنقل إلى قومها من الكافرين بعض الأسرار الّتي كانت تحيط بحركة نوحٍ الرساليَّة، لتُعرّفهم بالأشخاص الّذين آمنوا به، وكيف تحدّث معهم، وما هي توجّهاته وتطلّعاته. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}، وليس المراد من الخيانة هنا الخيانة في العرض، بل كانت خيانة في الدِّين وفي الحقّ.
وقد ذكر المفسِّرون أنَّ الخيانة والنّفاق يمثّلان معنىً واحداً، ولكنّ الخيانة تنطلق في مواجهة الأمانة، بينما ينطلق النِّفاق في مواجهة الإيمان. {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً}[4]، بمعنى أن تكون المرأة زوجَ النّبيّ ولا تكونُ مخلصةً لرسالته، فإنَّ ذلك لا ينفعها ولا يجعلها قريبةً من رضوان الله ومن ثوابه، بل إنّها تُحاسَب كما يُحاسَب أيّ إنسانٍ آخر على كُفره وعلى معصيته، لأنّه ـ كما ورد في الحديث ـ "ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة"[5]، ونحن نعرف أنَّ الإسلام لم يجعل القيمة لأيِّ شخصٍ لمجرَّد انتسابه إلى نبيّ، أو إلى أيّ شخصيّةٍ من الأولياء والأئمَّة، أو لوجود علاقةٍ سببيّة، بالزّواج أو المصاهرة في ذلك.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يشكِّل قاعدةً في هذا المجال، وذلك قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}[6]، فلا يقولَنَّ أحدٌ أنا مسلم أو أنا نصرانيّ أو أنا يهوديّ، وأنَّ الله سبحانه سوف يدخلني الجنَّة. إنَّ هذه ليست سوى أمنياتٍ لا واقع لها، لأنَّ الله يحاسب الإنسان على ما يقوم به من عمل. وفي حديث الإمام عليّ(ع): "إنَّ أولى النّاس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به، ثمّ تلا: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}[7]. ثمّ قال: إنَّ وليَّ محمّد من أطاع الله وإن بعُدت لُحمته ـ أي نسبُه ـوإنَّ عدوَّ محمّدٍ من عصى الله وإن قرُبت قرابته"[8].
وقد ورد في الحديث عن رسول الله في نهاية حياته الشَّريفة، أنّه قال: "يا صفيَّة بنت عبد المطَّلب، يا عمَّة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمَّد، اعملا، فإنّي لا أغني عنكما من الله شيئاً"[9].
ولذلك، فالله يقول عن امرأتَيْ نوح ولوط: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[10].
زواج اضطراريّ
وقد يُتساءل: كيف تزوَّج نوح(ع)، وهو النبيّ الّذي جاء برسالة التَّوحيد، من امرأةٍ لا تؤمن بالتَّوحيد، بل كانت تتبع الوثنيَّة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان المؤمن إذا كان في موقع الرسالة، فإنه لا يتزوّج إلا من تلتزم رسالته، وتؤمن بها وتنفتح على الخطِّ المستقيم فيها؟
والجواب عن ذلك له وجهان:
الأوّل: أنَّ نوحاً(ع) في مرحلة زواجه لم يكن قد بُعث بالرّسالة، ولم يكن يحمل الرّسالة، ولم يكن في قومه أناس مؤمنون، وقد كان بحاجةٍ إلى التزوّج، فتزوّج هذه المرأة الّتي بقيت متّبعةً لقومها ولم تتبع زوجها، بل كانت تتآمر عليه، كما أشار القرآن الكريم، كما كانت امرأة لوط تتجسَّس على زوجها لحساب قومها عندما كان يأتي إليه ضيوف حِسان الوجوه، فتدعو قومها إِلى أن يأتوا ويضغطوا على لوطٍ من أجل ممارسة الشّذوذ الجنسي المذكَّر معهم، وهو اللّواط.
الثّاني: أنَّ هناك بعض الظّروف التي قد تحيط بالنّبيّ تفرض عليه زيجاتٍ معيَّنة، وهذه الظُروف قد تتعلَّق بالجانب الشّخصيّ عند النّبيّ، في حاجاته الشخصيّة، أو قد تتَّصل بالرّسالة أو ببعض الجوانب الإنسانيَّة؛ كما نلاحظ ذلك في الظّروف الّتي أحاطت بزيجات رسول الله محمَّد(ص). ولذلك، ليست هناك مشكلة في أن يتزوَّج الرَّسول من امرأةٍ لا تنسجم مع الخطّ الرّساليّ الّذي يتحرَّك فيه.
وهنا نتعرَّض لمسألةٍ يُبتلى بها كثير من المؤمنين الّذين يُهاجرون إلى الغرب، أو إلى البلاد غير الإسلاميَّة، ويتزوّجون من غير المسلمات، اعتماداً على الفتاوى المجيزة للزّواج من الكتابيّات، في الوقت الَّذي لا يجوز ـ بإجماع المسلمين ـ الزواج من الكافرة غير الكتابيّة، كما لا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم كذلك.
إنّنا نلاحظ في هذا المجال، أنَّ الزواج من غير المسلمات ربّما يؤدّي إِلى نتائج سلبيّة على مستوى تربية الأولاد، لأنَّ بعض النساء غير المسلمات يُربّين أولادهنّ المسلمين على أساس الالتزام بالمسيحيَّة، ولا سيّما إذا كان الأب مشغولاً في عمله، فلا ينشأ الولد نشأةً إسلاميّةً، ويبتعد عن دين أبيه.
وأخطر ما في الزّيجات التي تحصل في الغرب، أنَّ القانون هناك يجعل حقَّ حضانة الأولاد للأمّ، وليس للأب، من دون تحديد سنٍّ معيّنة، فإذا طلّق الرّجل زوجته، فإنّ الزّوجة هي التي تحتضن الأولاد حتّى يبلغوا السنّ القانونيَّة، وربّما يُسمح للأب بأن يرى أولاده أو لا يُسمح له بذلك، بحسب التعقيدات القضائيّة التي يُمكن أن تنشأ من خلال دعوى الأمّ ـ مثلاً ـ أنَّ الأب يسيء إلى أولاده، وتطلب حماية القانون في ذلك.
وما نحبّ أن نؤكِّده في هذا المجال، أنَّ الحياة الزوجيّة ترتكز على أساس التّفاهم بين الرّجل والمرأة، فعلى الرّجل أن يختار امرأةً تنسجم عقيدتها مع عقيدته، ومشاعرها مع مشاعره، والتزاماتها مع التزاماته، ونحن نقرأ قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ـ أي لتحصلوا على السّكينة والطّمأنينة ـ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[11]، وقد ورد عن النبيّ(ص): "إذا جاءكم من ترضون خلُقه ودينه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"[12].
ويروى أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ(ص) يستأمره في النّكاح، فقال له رسول الله(ص): "انكح، وعليك بذات الدين تربت يداك"[13]. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): "إذا تزوّج الرّجل المرأة لجمالها أو مالها، وُكل إلى ذلك، وإذا تزوَّجها لدينها، رزقه الله الجمال والمال"[14].
لذلك، فنحن نستوحي من قصة زواج النبيّ نوح، أنّه كان زواجاً اضطراريّاً، لذلك على من يريد الزّواج، أن يتزوَّج بذات الدّين ممن تلتزم الدّين عقيدةً وعملاً في كلّ المجالات، والتي تُخلص لحياتها الزوجيّة ولأولادها.
هلاك ابن نوح(ع)
وهذه القصّة التي يذكرها القرآن الكريم، تسلِّط الضّوء على ابن النبيّ نوح(ع)، الذي ربّته أمّه على أن يلتزم خطَّ أخواله، لا خطَّ أبيه، ولذلك لم يكن من المؤمنين، ولم يعش في الجوّ الإيماني الذي عاش به المؤمنون القلائل الذين آمنوا بنوحٍ(ع). وأيضاً، يروي لنا القُرآن الكريم طرفاً من حوار نوحٍ مع ولده، عندما بدأ الطّوفان في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}[15]. ذكر في "مجمع البيان" أنّه كان في قطعة من الأرض غير القطعة الّتي كان نوحٌ فيها حين ناداه. وقيل: معناه: أنّه كان في ناحيةٍ من دين أبيه، بحيث إنّه اعتزل دين أبيه، وكان نوحٌ يظنّ أنّه مسلمٌ، فلذلك دعاه. {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ـ في السّفينة ـ وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ـ لأنّهم سوف يغرقون جميعاً ـ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ـ ولن أركب في السَّفينة، لأنَّني لم ألتزم خطَّك، وأنا لا أخافُ من الغرق، لأنَّ الجبال أمامي ـ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ـ لأنَّ الطوفان سوف يرتفع إلى أعالي الجبال ويغمرها ـ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ـ وقطع حديثهما ـ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[16].
وتذكر الآيات اللاحقة نداء نوحٍ لله سبحانه، والَّذي انطلق من عاطفته الأبويَّة، وكأنّه خُيّل إليه أنَّ ولده سوف ينجو معه، لأنَّ اللهَ كان قد قال له: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ}[17]، لذا جاء في الآيات اللاحقة: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ـ فقد وعدتني أن تنجي أهلي. ونوحٌ(ع) لم يكن في مقام الاعتراض على الله، ولكنَّه في مقام الاستفهام عن تفسير ذلك ـ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ـ لأنَّ أهلك هم المؤمنون برسالتك، وهم التّابعون لك، والموحِّدون لله، والّذين يعملون الصَّالحات الّتي أمر الله بها، أمَّا ولدك، فلم يكن موحِّداً، ولم يكن ممّن يعمل الصَّالحات، ولم يكن مؤمناً بك في خطِّ الرِّسالة، بل كان كأخواله وأمِّه، ينكر رسالتك ويبتعد عنك ـ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[18].
وهذه الفقرة تعطينا فكرةً، وهي أنّه بسبب انتشار الأحزاب والاتجاهات القائمة على الإلحاد ومضادّة الدّين، ممّا لا يجوز الانتماء إليه، ولو على أساسٍ سياسيّ، قد يكون للإنسان المؤمن أولاد يكفرون بالله ويتمرّدون عليه ويحاربونه ويعصونه ويحاربون المؤمنين والمسلمين ويستحلّون دماءهم، فعليه أن يعتبر أنَّ هذا ليس ابناً له بالمعنى الإيمانيّ والإسلاميّ، وإنما هو شخصٌ ينتسب إليه. لكن تبقى العاطفة الإنسانيَّة الّتي ينبغي أن تتحرَّك في الاتجاه الّذي يُحاول أن يجتذب هذا الولد إلى الإسلام والاستقامة.
عاطفة نوح تجاه ولده
ويبقى هناك سؤال، وهو: كيف يطلب نوحٌ(ع) من الله أن ينجي ابنه، وقد أشار إليه أن ليس كلّ أهله سينجون، من خلال قوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[19]؟
يرى بعضُ المفسِّرين أنَّ نوحاً(ع) كان لا يعلم كفر ولده، لأنَّ ولده كان يُبطن الكفر ولا يظهره لأبيه. ويرى البعض الآخر أنَّه كان يعرف بكفره، وهو ما يمكن أن نستوحيه من موقفه المتمرّد على أبيه، وعدم ركوبه السّفينة مع المؤمنين، حيث كان يقول له: {ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}[20]، ما يشير إلى أنَّ نوحاً(ع) كان يعتبره مع الكافرين، وإنّما كان يطلب منه أن يركب، فينتقل من الكُفر إلى الإيمان.
ولذلك، نحن نتصوَّر أنّ نوحاً لم يلتفت إِلى قوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}. كما أنّ الظّاهر من نداء نوحٍ، حيث يقول: {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}[21]، أنّه في مقام تطبيق وعد الله حين قال له: {وَأَهْلَكَ} على ابنه. وهذا التَّوجيه أقوى من القول بأنّه كان لا يعلم أنَّ ولده يُبطن الكُفر، لأنَّ هذا يصلح مبرّراً لحوار نوحٍ مع ابنه، ولا يبرّر نداءه لربّه في سبب عدم إنجاء ابنه.
وعلى كلّ حال، فليس هناك مانع عقليّ من أن لا يلتفت نوحٌ(ع) إلى القيد الّذي ذكره الله له بالنِّسبة إلى أهله، كما أنَّ هذه المسألة لا تتنافى مع عصمة النبيّ(ص)، ولا سيَّما أنَّ هذا ليس في مقام التَّبليغ حتّى يُشكل بأنَّ العقل يؤكِّد العصمة في التَّبليغ.
ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى يتوجَّه إلى نبيِّه نوحٍ(ع) بأسلوبٍ يشبه التَّهديد، ولكنَّه ليس تهديداً، لأنَّ نوحاً من الصَّالحين والمحسنين، ومن أنبياء الله: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، أي لا تطلب منّي شيئاً لا تعرف الحكمة فيما قضيته فيه. {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[22]، فتنفتح على الجانب العاطفيّ من شخصيَّتك في علاقتك بولدك، لأنَّ الَّذين ينطلقون بالعاطفة هم الجاهلون، وأنت من أهل العلم ومن دُعاة العلم.
وهنا، أدرك نوحٌ طبيعة المسألة، {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، فلم أكن في موقف المعترض، بل في موقف المستفهم: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}[23]. وهكذا انفتح الله على نوحٍ ورفع درجته وكرّمه.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] (الصافّات: 77).
[2] (العنكبوت: 14).
[3] (الصافّات: 78، 79).
[4] (التحريم: 10).
[5] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 75.
[6] (النّساء: 123).
[7] (آل عمران: 68).
[8] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 22.
[9] كنز العمّال، المتقي الهندي، ج 7، ص 273.
[10] (التحريم: 10).
[11] (الروم: 21).
[12] الكافي، ج 5، ص 347.
[13] المصدر نفسه، ج 5، ص 333.
[14] المصدر نفسه، ج 5، ص 333.
[15] (هود: 42).
[16] (هود: 42، 43).
[17] (هود: 40).
[18] (هود: 46).
[19] (هود: 40).
[20] (هود: 42).
[21] (هود : 45).
[22] (هود: 46).
[23] (هود: 47).