تجربة النّبيّ شعيب(ع) مع قومه

تجربة النّبيّ شعيب(ع) مع قومه

من بين الأمور الَّتي تحدَّث عنها القرآن الكريم، أمور تتَّصل بسيرة الأنبياء الَّذين أرسلهم الله ليبلّغوا النَّاس رسالاته، وليخرجوهم من الظُّلماتِ إلى النّور، فقد عاش الأنبياء مع أُممهم في جدلٍ متنوّعٍ وحِوارٍ لا يخلو من العُنف من قِبل النّاس الَّذين أُرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، لذلك، لا بدَّ لنا من أن ندرس دائماً هذا النَّوع من حوار الأنبياء مع أُممهم، لنتعرَّف شخصيَّة النّبيّ وأسلوبه وطريقته في أداءِ رسالته وصبره على ما يُلاقيه. ومن هؤلاء القوم الأنبياء، النّبيّ شُعيب، الّذي تحدَّث الله عنه في أكثر من سورة، كما في سورة هود، والأعراف، والشّعراء، وفي غيرها أيضاً من السّور، وإن بشكلٍ مختصر.

شعيب صاحب موسى

ربما يُذكَر أنَّ "شُعيباً" هو صاحب موسى(ع)، الَّذي التقت ابنتاه موسى عندما جاء هارباً من فرعون، ووصل إلى مدين، وأسند ظهره إِلى شجرة من التَّعب، وكان قريباً من ماء مدين، ورأى امرأتين لا تملكانِ سقي دوابّهما أو ما يريدانه من الماء، فسألهما وقد أخذته الرّقّة عليهما: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[1]. وهزَّته هذه المأساة، وسقى لهما، ورجع إِلى مكانه، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[2]، وفجأةً، جاءته إحدى المرأتين وقد أرسلها شعيب إليه، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، وسار معهما، وجلس مع شُعيب، وأعطاهُ الأمان، {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[3]، لأنَّ فرعون لم يصل مُلكه إِلى مدين، وتحدَّثت الابنتان عن أمانة موسى وعن عفّته، وكأنّهما كانتا معجبتين به، فبادره شُعيب وقال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[4]، تعمل عندي في خدمتي ثماني سنين، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ}[5]، ولك أن تكتفي بثماني سنين. وهكذا تزوَّج من إحدى ابنتي شُعيب، ثم سار والتقى بالرّسالة في مسيرته.

والظَّاهر أنَّ شُعيباً صاحب موسى، هو النّبيّ الّذي أُرسل إِلى مدين، ولكنَّ بعض المؤرّخين يُشكِّك في ذلك، لأنَّه يرى أنَّ نبوَّة شُعيب كانت قبل موسى، إذ كان قريباً من إبراهيم، لأنّه تحدَّث مع قومه عن قوم لوط وقال لهم: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}[6]، وهُناك فاصل زمنيّ كبير بين إبراهيم ولوط وموسى(ع)، لأنَّ الله يقول: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى}[7]. ولكنَّنا لا نستبعد أن يكون شُعيب هذا هو صاحب موسى، ولكنَّ نبوَّة شُعيب انتهت، وانتهت معها مسؤوليَّته عندما عذَّب الله قومه، وقيل إنّه كان أعمى، فلا يبعد أن يكون قد بلغ من العمر ما يجعله يمتدّ إلى المرحلة الّتي التقى فيها بموسى(ع).

التحذير من التّطفيف

وفي دراستنا لشُعيب في منطقه وموقعه، نقرأ في سورة الأعراف قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، فنعرف من ذلك، أنَّ شُعيباً كان من أهل مدين ومن عشائرها، فكانت دعوته هناك، وكان أهل مدين يعبدون الأصنام، ولذلك، كانت دعوته الأولى إِلى التّوحيد، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[8]، ثم إنّه عالج بعض الانحرافات الاقتصاديَّة التي كانوا يمارسونها عندما كانوا ينقصون في المكيال والميزان، عندما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ـ أي يأخذون حقَّهم كاملاً غير منقوص ـ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[9]، إذا كانوا يريدون أن يبيعوا النّاس، فإنهم يُنقصون المكيال والميزان.

فهو أراد أن يُصلح هذا الواقع المنحرف الظّالم للناس، ولذلك قال تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ}، فالله وسَّع عليكم في المال، وأنتم لا تحتاجون إِلى هذه الوسيلة من أجل أن تُضخِّموا ثرواتكم، في الوقت الَّذي تظلمون النّاس الفقراء الَّذين يشترون منكم، ثم حذَّرهم: {وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}[10]. ثم يحذّرهم ويؤكِّد هذا المعنى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، أي بالعدل، {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}، فلا تُنقصوا أيّ إنسانٍ حقَّه، {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[11]، أي لا تفسدوا في الأرض، لأنَّ هذا الفساد الاقتصاديَّ يمكن أن يؤدّي إلى نتائج سلبيَّة على مستوى حياة النّاس العامَّة في هذا المقام.

{بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي ما يبقى لكم من الله وما تحصلون عليه من ثوابه، خيرٌ لكم من المال الّذي تأخذونه بغير حلّه، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}[12]، أنا مجرَّد رسول داعية إلى الحقِّ بينكم. ولكنَّهم ردّوا عليه ردّاً عنيفاً، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}، هل إنَّ صلاتك هذه هي الَّتي توجِّهك وتأمرك بأن نترك عبادة الآباء والأجداد، وأن تقيِّدنا في طريقتنا في التّصرّف في أموالنا؟!

{إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[13]، إنَّك إنسان ـ كما عرفناك ـ طيّب وواسع الصّدر ورشيد، فكيف تمارس مثل هذا؟ ولكنَّه أجابهم بطريقةٍ رساليَّة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}، فأنا رسولٌ من الله من خلال الحُجَّة التي أعطاني الله إيّاها، وقد اصطفاني الله لأهديكم سبيل الرّشاد، {ووَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً}، وهو النبوَّة، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، فلن أسير وفق ما تريدونني أن أسير عليه ممّا أرفضه منكم، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، هذا هو هدفي، وليس عندي أيّ طمعٍ في مالٍ أو في جاه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[14].

مقابلة العنف بالرّفق

وبعد أن قابل عنفهم بالرِّفق، حذَّرهم قائلاً: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، عندما تواجهونني بالشّقاق وبالنّزاع وبالعنف، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}[15]. اقرأوا تاريخ الأنبياء، لتعرفوا كيف عذَّب الله أقوامهم عندما تمرَّدوا عليهم، وأنا أحذِّركم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم، {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من هذا الشِّرك الَّذي أنتم عليه، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[16]. ولكنَّ الجماعة لم ينفتحوا على هذا المنطق الإنسانيّ الروحيّ النّاصح، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ}، إنَّنا لا نفهم عليك، فأنت تتحدَّث بلغةٍ لا نفهمها، لأنَّ المفردات الَّتي تأتي بها لا نعرفها، لا في تراثنا من خلال آبائنا، ولا من خلال ما تعلَّمناه الآن.

وهذا يذكِّرنا بالموقف الّذي واجه به فريق من النّاس الإمام الحُسين(ع)، عندما كان يعظهم في كربلاء، فكان يقول له الشّمر أو غيره: "ما ندري ما تقول يابن فاطمة". والواقع أنهم كانوا يفهمون عليه، ولكن إذا قالوا إنهم فهموا عليه، فإنَّ عليهم أن يناقشوا وأن يتحدّثوا إليه ويجيبوه عن كلّ ما تحدّث به، وهم لا يريدون ذلك.

ويتابع قوم شعيب: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً}، ليس لك قوَّة على إنجاح مشروعك، ولكن عندك عشيرة، {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[17]، ونحن لا نريد أن نتورَّط مع عشيرتك، فلو رجمناك، فمعنى ذلك أنّنا سندخل في حربٍ مع عشيرتك، والظّاهر أنَّ عشيرته كانت قويَّة، وكانوا يحذرون من أن يدخلوا معها في نزاع.

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً}، جعلتم الله وراء ظهوركم، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[18]. ثم عزم وقال: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ}، خذوا حريّتكم، واعملوا على حسب خطَّتكم وأوضاعكم، ولكنّي مستمرّ في رسالتي وفي دعوتي وفي موقفي، وكلّ تهديد من قِبَلكم لن يضعفني، وكلّ احتقارٍ منكم لن يسقطني، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[19]. ومما تقدَّم، نفهم أنَّ شُعيباً كان شخصيّةً قويّةً في صلابة موقفه، فالقوم هدَّدوه وحاولوا أن يُضعفوا منطقه ويُضعفوا موقعه، ولكنَّه ظلَّ في الموقع الّذي يتحدَّى ويقبل التحدّي في هذا المجال، ولهذا بقي صامداً إلى أن جاءهم العذاب.

استجابة الفقراء للدَّعوة

هذه نظرة عامّة إلى مسألة شعيب، ولكن هناك مسألة لا بدَّ لنا من أن نستفيد منها فيما يتعلَّق ببعض التّفاصيل الأخرى في النّتائج الَّتي أخذها شُعيب، إذ نلاحظ في حواره مع قومه، أنّه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة منهم، هؤلاء الجماعات هم جماعات الأنبياء، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[20].

وهذا ما واجهه النبيّ(ص) أيضاً، عندما طلبت منه قريش أن يطرد المستضعفين والفقراء، لأنهم لا يتناسبون مع مجتمع الأغنياء ومجتمع الوجهاء، ولكنّ النبيّ(ص) فيما أرشده الله وعلّمه، رفض هذه الدَّعوة وقرَّبهم إليه. ومن الآيات الّتي أشارت إلى ذلك، قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[21].

والأساس الَّذي يجعل المستضعفين والفقراء يؤمنون بالرّسالة، هو أنَّ الرّسالة جاءت من أجل أن تحترم إنسانيَّتهم، ومن أجل أن تحلَّ مشاكلهم، وأن توجِّههم إلى الآفاق التي يمكن لهم من خلالها أن يحصلوا على العيش الكريم والحياة الكريمة، ولذلك، استطاع شعيب(ع) أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة من قومه، ليواجه الجماعات الغنيّة المستكبرة والمستغلّة، وربما كان انفتاحه على الفقراء ومواجهته للمستكبرين، منطلقاً من طبيعة الدَّعوة الَّتي دعا إليها، والمفاهيم التي بشَّر بها، فالتَّطفيف نوعٌ من أنواع الاستغلال الاقتصاديّ الّذي يمارسه الأغنياء المستكبرون، الَّذين يعيشون مشاعر الأنانيَّة الذاتيَّة في سلوكهم، ما يدفعهم إلى ممارسة الاستغلال عند الشّراء، فيأخذون الزّيادة لأنفسهم، وعند البيع يستغلّون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقِّهم ما يشاؤون.

النّبيّ النَّاصح الأمين

إنَّ هذا الجدل الحواريّ بين شعيب وقومه، يمثِّل لوناً من ألوان الشخصيَّة المثيرة التي تنفتح على النّصيحة للمنحرفين، كما عبَّر عن منهجه ودعوته بقوله: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[22]، فهو لا يريد أن يدخل معهم في جدال، بل يريد أن يقدِّم لهم النّصح، ويريد أن يدلّهم على الطّريق الّذي ينبغي لهم أن يسيروا عليه، في عمليّة تحذيريّة من النّتائج السلبيّة المترتّبة على سلوكهم. ولكنّهم رفضوا هذا المنطق الإنساني، ودخلوا معه في جدلٍ عقيم عدوانيّ، كما لو كان شخصاً يحاول الاعتداء على امتيازاتهم الاستغلاليّة، كالكثيرين من النّاس الذين يقابلون الناصح لهم بأسلوبٍ عدوانيّ رافض للنّصيحة، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، باعتبار أنَّ هذا السلوك هو نموذج من نماذج الفساد، ما يدلّ على أنَّ هؤلاء القوم يخطِّطون للفساد في الأرض، ولا يخطِّطون للإصلاح، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[23].

ثم يحدِّثنا أنّهم كانوا يقطعون الطّريق على النّاس المؤمنين ليصدّوهم عن الإيمان والاستقامة: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ}، انقسم المجتمع على الرِّسالة، منهم من آمن بالرّسالة، ومنهم من لم يؤمن بها، {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[24]، فإذا كنتم غير مستعدّين لأن تتفاهموا معنا، فنحن ننتظر حكم الله بيننا وبينكم.

إنَّ القضايا التي طرحها النبيّ شُعيب، تُعطينا الفكرة الواضحة عن مميّزات قومه السلوكيَّة، فقد دعاهم إلى عبادة الله وحده، وإلى رفض الشّرك بعبادة غيره، والحجَّة كانت واضحةً في تأكيد هذه الحقيقة، لأنّ مسألة التوحيد في العقيدة والعبادة، تمثِّل القاعدة الأساس التي توجِّههم إِلى السّير في خطِّ القيم الإنسانيّة في الالتزام بوحي الله وتنفيذ تعاليمه، بما يبعدهم عن الانحراف السّلوكيّ الَّذي يدفعهم إِلى الظّلم واستغلال النّاس.

وقد أطلق النّبيّ شعيب التّحذير من عمليَّة استغلال النّاس، والَّذي يتمثّل بالفساد الاقتصاديّ في الأرض، بعد أن أرد الله أن يعيش النّاس فيها حالة الصَّلاح والإصلاح كي تستقيم الحياة العامّة، فيما ينفتح به النّاس من دون فسادٍ وإفساد، ثم أثار معهم سلوكهم العدوانيّ في الصدِّ عن سبيل الله بمختلف الوسائل في كلِّ طريقٍ يقعدون فيه، فيهدِّدون المؤمنين الضّعفاء من أجل أن يحرفوهم عن الطّريق المستقيم إلى الطريق المعوج.

ويبقى للحديث صلة نرجو أن نأخذ به في الأسبوع القادم، إن شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  (القصص: 23).

[2]  (القصص: 24).

[3]  (القصص: 25).

[4]  (القصص: 27).

[5]  (القصص: 27).

[6]  (هود: 89).

[7]  (الأعراف: 103).

[8]  (الأعراف: 85).

[9]  (المطففين: 1 ـ 3).

[10]  (هود: 84).

[11]  (هود: 85).

[12]  (هود: 86).

[13]  (هود: 87).

[14]  (هود: 88).

[15]  (هود: 89).

[16]  (هود: 90).

[17]  (هود: 91).

[18]  (هود: 92).

[19]  (هود: 93، 94).

[20]  (هود: 27).

[21]  (الكهف: 28).

[22]  (الأعراف: 68).

[23]  (الأعراف: 85).

[24]  (الأعراف: 86، 87).


من بين الأمور الَّتي تحدَّث عنها القرآن الكريم، أمور تتَّصل بسيرة الأنبياء الَّذين أرسلهم الله ليبلّغوا النَّاس رسالاته، وليخرجوهم من الظُّلماتِ إلى النّور، فقد عاش الأنبياء مع أُممهم في جدلٍ متنوّعٍ وحِوارٍ لا يخلو من العُنف من قِبل النّاس الَّذين أُرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، لذلك، لا بدَّ لنا من أن ندرس دائماً هذا النَّوع من حوار الأنبياء مع أُممهم، لنتعرَّف شخصيَّة النّبيّ وأسلوبه وطريقته في أداءِ رسالته وصبره على ما يُلاقيه. ومن هؤلاء القوم الأنبياء، النّبيّ شُعيب، الّذي تحدَّث الله عنه في أكثر من سورة، كما في سورة هود، والأعراف، والشّعراء، وفي غيرها أيضاً من السّور، وإن بشكلٍ مختصر.

شعيب صاحب موسى

ربما يُذكَر أنَّ "شُعيباً" هو صاحب موسى(ع)، الَّذي التقت ابنتاه موسى عندما جاء هارباً من فرعون، ووصل إلى مدين، وأسند ظهره إِلى شجرة من التَّعب، وكان قريباً من ماء مدين، ورأى امرأتين لا تملكانِ سقي دوابّهما أو ما يريدانه من الماء، فسألهما وقد أخذته الرّقّة عليهما: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[1]. وهزَّته هذه المأساة، وسقى لهما، ورجع إِلى مكانه، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[2]، وفجأةً، جاءته إحدى المرأتين وقد أرسلها شعيب إليه، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، وسار معهما، وجلس مع شُعيب، وأعطاهُ الأمان، {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[3]، لأنَّ فرعون لم يصل مُلكه إِلى مدين، وتحدَّثت الابنتان عن أمانة موسى وعن عفّته، وكأنّهما كانتا معجبتين به، فبادره شُعيب وقال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[4]، تعمل عندي في خدمتي ثماني سنين، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ}[5]، ولك أن تكتفي بثماني سنين. وهكذا تزوَّج من إحدى ابنتي شُعيب، ثم سار والتقى بالرّسالة في مسيرته.

والظَّاهر أنَّ شُعيباً صاحب موسى، هو النّبيّ الّذي أُرسل إِلى مدين، ولكنَّ بعض المؤرّخين يُشكِّك في ذلك، لأنَّه يرى أنَّ نبوَّة شُعيب كانت قبل موسى، إذ كان قريباً من إبراهيم، لأنّه تحدَّث مع قومه عن قوم لوط وقال لهم: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}[6]، وهُناك فاصل زمنيّ كبير بين إبراهيم ولوط وموسى(ع)، لأنَّ الله يقول: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى}[7]. ولكنَّنا لا نستبعد أن يكون شُعيب هذا هو صاحب موسى، ولكنَّ نبوَّة شُعيب انتهت، وانتهت معها مسؤوليَّته عندما عذَّب الله قومه، وقيل إنّه كان أعمى، فلا يبعد أن يكون قد بلغ من العمر ما يجعله يمتدّ إلى المرحلة الّتي التقى فيها بموسى(ع).

التحذير من التّطفيف

وفي دراستنا لشُعيب في منطقه وموقعه، نقرأ في سورة الأعراف قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، فنعرف من ذلك، أنَّ شُعيباً كان من أهل مدين ومن عشائرها، فكانت دعوته هناك، وكان أهل مدين يعبدون الأصنام، ولذلك، كانت دعوته الأولى إِلى التّوحيد، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[8]، ثم إنّه عالج بعض الانحرافات الاقتصاديَّة التي كانوا يمارسونها عندما كانوا ينقصون في المكيال والميزان، عندما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ـ أي يأخذون حقَّهم كاملاً غير منقوص ـ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[9]، إذا كانوا يريدون أن يبيعوا النّاس، فإنهم يُنقصون المكيال والميزان.

فهو أراد أن يُصلح هذا الواقع المنحرف الظّالم للناس، ولذلك قال تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ}، فالله وسَّع عليكم في المال، وأنتم لا تحتاجون إِلى هذه الوسيلة من أجل أن تُضخِّموا ثرواتكم، في الوقت الَّذي تظلمون النّاس الفقراء الَّذين يشترون منكم، ثم حذَّرهم: {وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}[10]. ثم يحذّرهم ويؤكِّد هذا المعنى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، أي بالعدل، {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}، فلا تُنقصوا أيّ إنسانٍ حقَّه، {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[11]، أي لا تفسدوا في الأرض، لأنَّ هذا الفساد الاقتصاديَّ يمكن أن يؤدّي إلى نتائج سلبيَّة على مستوى حياة النّاس العامَّة في هذا المقام.

{بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي ما يبقى لكم من الله وما تحصلون عليه من ثوابه، خيرٌ لكم من المال الّذي تأخذونه بغير حلّه، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}[12]، أنا مجرَّد رسول داعية إلى الحقِّ بينكم. ولكنَّهم ردّوا عليه ردّاً عنيفاً، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}، هل إنَّ صلاتك هذه هي الَّتي توجِّهك وتأمرك بأن نترك عبادة الآباء والأجداد، وأن تقيِّدنا في طريقتنا في التّصرّف في أموالنا؟!

{إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[13]، إنَّك إنسان ـ كما عرفناك ـ طيّب وواسع الصّدر ورشيد، فكيف تمارس مثل هذا؟ ولكنَّه أجابهم بطريقةٍ رساليَّة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}، فأنا رسولٌ من الله من خلال الحُجَّة التي أعطاني الله إيّاها، وقد اصطفاني الله لأهديكم سبيل الرّشاد، {ووَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً}، وهو النبوَّة، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، فلن أسير وفق ما تريدونني أن أسير عليه ممّا أرفضه منكم، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، هذا هو هدفي، وليس عندي أيّ طمعٍ في مالٍ أو في جاه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[14].

مقابلة العنف بالرّفق

وبعد أن قابل عنفهم بالرِّفق، حذَّرهم قائلاً: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، عندما تواجهونني بالشّقاق وبالنّزاع وبالعنف، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}[15]. اقرأوا تاريخ الأنبياء، لتعرفوا كيف عذَّب الله أقوامهم عندما تمرَّدوا عليهم، وأنا أحذِّركم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم، {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من هذا الشِّرك الَّذي أنتم عليه، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[16]. ولكنَّ الجماعة لم ينفتحوا على هذا المنطق الإنسانيّ الروحيّ النّاصح، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ}، إنَّنا لا نفهم عليك، فأنت تتحدَّث بلغةٍ لا نفهمها، لأنَّ المفردات الَّتي تأتي بها لا نعرفها، لا في تراثنا من خلال آبائنا، ولا من خلال ما تعلَّمناه الآن.

وهذا يذكِّرنا بالموقف الّذي واجه به فريق من النّاس الإمام الحُسين(ع)، عندما كان يعظهم في كربلاء، فكان يقول له الشّمر أو غيره: "ما ندري ما تقول يابن فاطمة". والواقع أنهم كانوا يفهمون عليه، ولكن إذا قالوا إنهم فهموا عليه، فإنَّ عليهم أن يناقشوا وأن يتحدّثوا إليه ويجيبوه عن كلّ ما تحدّث به، وهم لا يريدون ذلك.

ويتابع قوم شعيب: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً}، ليس لك قوَّة على إنجاح مشروعك، ولكن عندك عشيرة، {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[17]، ونحن لا نريد أن نتورَّط مع عشيرتك، فلو رجمناك، فمعنى ذلك أنّنا سندخل في حربٍ مع عشيرتك، والظّاهر أنَّ عشيرته كانت قويَّة، وكانوا يحذرون من أن يدخلوا معها في نزاع.

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً}، جعلتم الله وراء ظهوركم، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[18]. ثم عزم وقال: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ}، خذوا حريّتكم، واعملوا على حسب خطَّتكم وأوضاعكم، ولكنّي مستمرّ في رسالتي وفي دعوتي وفي موقفي، وكلّ تهديد من قِبَلكم لن يضعفني، وكلّ احتقارٍ منكم لن يسقطني، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[19]. ومما تقدَّم، نفهم أنَّ شُعيباً كان شخصيّةً قويّةً في صلابة موقفه، فالقوم هدَّدوه وحاولوا أن يُضعفوا منطقه ويُضعفوا موقعه، ولكنَّه ظلَّ في الموقع الّذي يتحدَّى ويقبل التحدّي في هذا المجال، ولهذا بقي صامداً إلى أن جاءهم العذاب.

استجابة الفقراء للدَّعوة

هذه نظرة عامّة إلى مسألة شعيب، ولكن هناك مسألة لا بدَّ لنا من أن نستفيد منها فيما يتعلَّق ببعض التّفاصيل الأخرى في النّتائج الَّتي أخذها شُعيب، إذ نلاحظ في حواره مع قومه، أنّه استطاع أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة منهم، هؤلاء الجماعات هم جماعات الأنبياء، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[20].

وهذا ما واجهه النبيّ(ص) أيضاً، عندما طلبت منه قريش أن يطرد المستضعفين والفقراء، لأنهم لا يتناسبون مع مجتمع الأغنياء ومجتمع الوجهاء، ولكنّ النبيّ(ص) فيما أرشده الله وعلّمه، رفض هذه الدَّعوة وقرَّبهم إليه. ومن الآيات الّتي أشارت إلى ذلك، قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[21].

والأساس الَّذي يجعل المستضعفين والفقراء يؤمنون بالرّسالة، هو أنَّ الرّسالة جاءت من أجل أن تحترم إنسانيَّتهم، ومن أجل أن تحلَّ مشاكلهم، وأن توجِّههم إلى الآفاق التي يمكن لهم من خلالها أن يحصلوا على العيش الكريم والحياة الكريمة، ولذلك، استطاع شعيب(ع) أن يجلب إلى دعوته الجماعات الفقيرة المستضعفة من قومه، ليواجه الجماعات الغنيّة المستكبرة والمستغلّة، وربما كان انفتاحه على الفقراء ومواجهته للمستكبرين، منطلقاً من طبيعة الدَّعوة الَّتي دعا إليها، والمفاهيم التي بشَّر بها، فالتَّطفيف نوعٌ من أنواع الاستغلال الاقتصاديّ الّذي يمارسه الأغنياء المستكبرون، الَّذين يعيشون مشاعر الأنانيَّة الذاتيَّة في سلوكهم، ما يدفعهم إلى ممارسة الاستغلال عند الشّراء، فيأخذون الزّيادة لأنفسهم، وعند البيع يستغلّون حاجة الآخرين إليهم لينقصوا من حقِّهم ما يشاؤون.

النّبيّ النَّاصح الأمين

إنَّ هذا الجدل الحواريّ بين شعيب وقومه، يمثِّل لوناً من ألوان الشخصيَّة المثيرة التي تنفتح على النّصيحة للمنحرفين، كما عبَّر عن منهجه ودعوته بقوله: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[22]، فهو لا يريد أن يدخل معهم في جدال، بل يريد أن يقدِّم لهم النّصح، ويريد أن يدلّهم على الطّريق الّذي ينبغي لهم أن يسيروا عليه، في عمليّة تحذيريّة من النّتائج السلبيّة المترتّبة على سلوكهم. ولكنّهم رفضوا هذا المنطق الإنساني، ودخلوا معه في جدلٍ عقيم عدوانيّ، كما لو كان شخصاً يحاول الاعتداء على امتيازاتهم الاستغلاليّة، كالكثيرين من النّاس الذين يقابلون الناصح لهم بأسلوبٍ عدوانيّ رافض للنّصيحة، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، باعتبار أنَّ هذا السلوك هو نموذج من نماذج الفساد، ما يدلّ على أنَّ هؤلاء القوم يخطِّطون للفساد في الأرض، ولا يخطِّطون للإصلاح، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[23].

ثم يحدِّثنا أنّهم كانوا يقطعون الطّريق على النّاس المؤمنين ليصدّوهم عن الإيمان والاستقامة: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ}، انقسم المجتمع على الرِّسالة، منهم من آمن بالرّسالة، ومنهم من لم يؤمن بها، {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[24]، فإذا كنتم غير مستعدّين لأن تتفاهموا معنا، فنحن ننتظر حكم الله بيننا وبينكم.

إنَّ القضايا التي طرحها النبيّ شُعيب، تُعطينا الفكرة الواضحة عن مميّزات قومه السلوكيَّة، فقد دعاهم إلى عبادة الله وحده، وإلى رفض الشّرك بعبادة غيره، والحجَّة كانت واضحةً في تأكيد هذه الحقيقة، لأنّ مسألة التوحيد في العقيدة والعبادة، تمثِّل القاعدة الأساس التي توجِّههم إِلى السّير في خطِّ القيم الإنسانيّة في الالتزام بوحي الله وتنفيذ تعاليمه، بما يبعدهم عن الانحراف السّلوكيّ الَّذي يدفعهم إِلى الظّلم واستغلال النّاس.

وقد أطلق النّبيّ شعيب التّحذير من عمليَّة استغلال النّاس، والَّذي يتمثّل بالفساد الاقتصاديّ في الأرض، بعد أن أرد الله أن يعيش النّاس فيها حالة الصَّلاح والإصلاح كي تستقيم الحياة العامّة، فيما ينفتح به النّاس من دون فسادٍ وإفساد، ثم أثار معهم سلوكهم العدوانيّ في الصدِّ عن سبيل الله بمختلف الوسائل في كلِّ طريقٍ يقعدون فيه، فيهدِّدون المؤمنين الضّعفاء من أجل أن يحرفوهم عن الطّريق المستقيم إلى الطريق المعوج.

ويبقى للحديث صلة نرجو أن نأخذ به في الأسبوع القادم، إن شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  (القصص: 23).

[2]  (القصص: 24).

[3]  (القصص: 25).

[4]  (القصص: 27).

[5]  (القصص: 27).

[6]  (هود: 89).

[7]  (الأعراف: 103).

[8]  (الأعراف: 85).

[9]  (المطففين: 1 ـ 3).

[10]  (هود: 84).

[11]  (هود: 85).

[12]  (هود: 86).

[13]  (هود: 87).

[14]  (هود: 88).

[15]  (هود: 89).

[16]  (هود: 90).

[17]  (هود: 91).

[18]  (هود: 92).

[19]  (هود: 93، 94).

[20]  (هود: 27).

[21]  (الكهف: 28).

[22]  (الأعراف: 68).

[23]  (الأعراف: 85).

[24]  (الأعراف: 86، 87).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية