إشكالات حول قضاء داود(ع) بين الخصمين

إشكالات حول قضاء داود(ع) بين الخصمين

تقدَّم الحديث في العدد السَّابق عن قصَّة النَّبيّ داود(ع) مع الخصمين اللّذين لجآ إليه ليقضي بينهما، في مسألةٍ كانت موقع اختلافٍ بينهما، وليحدِّد لهما الموقف الشَّرعيّ فيما يتخاصمان فيه. ولكنَّ هناك عدّة نقاط تثار حول هذه القصَّة.

الخصمان: ملائكة أو بشر؟

النّقطة الأولى: هل إنَّ هذين الخصمين من الملائكة كما يتحدَّث بعض المفسِّرين، أو هما من البشر؟

أمَّا الاحتمال الأوَّل، فقد يطرح من خلال ظهور بعض الخصوصيَّات في القصَّة، كتسوّرهما المحراب، ودخولهما على داود بطريقةٍ غير عاديَّةٍ وغير مألوفة، بحيث أثارا في نفسه الإحساس بالفزع، وهو ما لا يتناسب مع الحاجة إلى قيامه بالقضاء بينهما، ولا يعهد حصوله من البشر العاديّين الَّذين يدخلون إلى مجلس القضاء بطريقةٍ هادئةٍ محترمة، فليس من الطَّبيعيّ أن يقتحموا عليه محرابه الَّذي أعدَّه للعبادة لله، لأنَّ داود لم يجعله مكاناً لاستقبال النَّاس وللقضاء بينهم.

وكذا تصوّره أنَّ ما حدث كان فتنةً أراد الله أن يختبره ويمتحنه بها في تجربته القضائيّة الّتي يخضع برنامجها لقواعد معيَّنة، وأنّها لم تكن واقعةً عاديّةً على ما كان يواجهه من وقائع التّنازع والتّخاصم الّتي يطرحها النّاس أمامه ليحكم بينهم وليوصل صاحب الحقِّ إلى حقِّه، وربما يوحي الموقف بأنَّ هذين الخصمين قد غابا عنه فجأةً بعد إصداره الحكم، فلم يتحدَّثا إليه عن انطباعهما، ولم يودِّعاه وداع الاحترام المألوف من قِبَل المتخاصمين عندما يريدان الانصراف، ولم يجدهما أمامه، تماماً كما لو كانا شبحين طارئين فارقاه بشكلٍ غير طبيعيّ. وقد نفهم ذلك من قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[1]، الظّاهر في أنَّ الله ابتلاه بهذه الحادثة في عمليَّة تثقيفٍ بأصول الحكم وقواعده من حيث الشَّكل والمضمون، لينبّهه ويسدّده في خلافته على النّاس والحكم بينهم بالحقّ.

فقد يكون ذلك كلّه مؤيّداً لكونهما من الملائكة أرسلهما الله إليه في صورة رجلين من البشر. وقد لا يرى البعض في ذلك كلِّه دليلاً واضحاً على ما تقدَّم، بل إنَّ الظاهر القرآنيّ لا يوحي إلا بصفتهما خصمين تحاكما إليه ليحكم بينهما بالحقّ، ويعتبر هذا البعض أنَّ ما حدث هو شيءٌ عاديّ قد يحدث لأيِّ واحدٍ من النّاس.

أمّا تسوّرهما المحراب، فقد يكون ناشئاً من بعض الموانع الّتي منعتهما من الدّخول عليه من باب البيت، في حين أنَّ القضيّة كانت بالنّسبة إليهما ملحّةً، وقد يكونان اعتمدا على سعة صدره ورحابة أخلاقه، وعرفا أنّه لا يضيق بتصرّفهما غير المألوف، وهذا ما نستوحيه من عدم اعتراضه عليهما في طريقة دخولهما، وربما اختصر القرآن كلَّ هذه التّفاصيل من خلال منهجه الَّذي يقتصر في تفاصيل القصّة على الجوانب الحيَّة التي تتّصل بالهدف، ويهمل ما لا علاقة له به.

أمّا مسألة الفتنة، فقد تصدق في نتائج القصَّة الّتي تحرّك فيها في طريقة القضاء الّتي ربما أهمل فيها الاستماع إلى الطّرف الثّاني بلحاظ بعض الاحتمالات. وفي ضوء ذلك، تبقى الدَّلالة على المطلوب منسجمةً مع واقع القضيَّة في كِلا الاحتمالين فيما يتعلَّق بشخصيَّة الخصمين.

قضاء فعليّ أم تقديريّ؟!

النّقطة الثَّانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء أمام تصريح الآية بصدور الاستغفار والرّجوع إلى الله والخضوع له بعد الفتنة الامتحانيَّة الّتي لم يستطع داود أن يتجاوزها بنجاح، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائيّ منه؟

ربما تطرح القضيَّة على أساس أنَّ الخصمين إذا كانا من الملائكة ـ كما هو أحد الاحتمالين ـ فإنها لا تكون تكليفاً حقيقيّاً على مستوى التَّكاليف الشَّرعيَّة التي تفرض على الإنسان الطّاعة بامتثال الأمر، بالإتيان بمضمونه واجتناب العصيان بالتّرك له، بل هي قضيّة تمثيليّة على سبيل التّدريب العمليّ، ليتفادى الخطأ في التّجارب المستقبليّة على صعيد ممارسة الحكم بين النّاس، تماماً كما هي قضيَّة آدم في عصيانه الأمر الإلهيّ بعدم الاقتراب من الشَّجرة المعيَّنة والأكل منها، فقد كانت قضيّةً إرشاديّةً امتحانيّةً لتوعية آدم وزوجته حول شخصيّة إبليس وأساليب خداعه ومحاولته الثّأر من آدم، لأنَّ الله فضَّله عليه، ولم يكن لآدم أيّة تجربة سابقة في الطَّريقة الشَّيطانيَّة الَّتي يستخدمها إبليس للوصول إلى أهدافه الخبيثة.

فالمسألة فيما يتعلّق بآدم(ع)، لم تكن تكليفاً شرعيّاً يستتبع عصيانه العقاب الإلهيّ، بل كانت تثقيفاً له بشخصيَّة إبليس الّذي سيرافقه في الأرض، الأمر الَّذي جعل القصَّة بمجموعها درساً توجيهيّاً للمستقبل. ولذلك، لم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح المتمثّل بالتمرّد على الله والانحراف عن مواقع طاعته، وخصوصاً أنَّ الجنّة لم تكن موقعاً من مواقع التَّكليف والمسؤوليَّة العمليَّة.

وهذا ما يعبِّر عنه الفقهاء بالأمر الإرشاديّ الَّذي يختزن معنى النَّصيحة، في مقابل الأمر المولويّ الّذي يتضمَّن معنى المسؤوليَّة الَّتي تستتبع الجزاء، وبذلك يكون الاستغفار مجرَّد تعبيرٍ عن الخضوع لله، والانفتاح على رضوانه، والمحبَّة له، فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة لا من واقعها، كما قد نلاحظه في استغفار الأنبياء لا من ذنب، بل تواضعاً لله وخضوعاً له واعتذاراً منه، حتى فيما لا يترتَّب عليه أيّة مبغوضيَّة مما لا يرضاه.

أمّا إذا كان الخصمان من البشر ـ كما هو الاحتمال الثّاني ـ فقد يقال إنَّ القضاء الصّادر عن داود(ع) لم يكن قضاءً فعليّاً حاسماً، بل كان قضاءً تقديريّاً، بحيث يكون قوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[2]، بتقدير: إذا لم يأتِ خصمك بحجّة بيّنة...، أو للتّعبير عن طبيعة القضيّة ـ موضع الدّعوى ـ بأنها تتضمَّن في مضمونها العمليّ ظلماً لصاحب النّعجة، وذلك في توجيهه للمسألة بأنَّ على الآخر الامتناع عن ذلك، قاصداً الاستماع إلى تعليقه على كلام صاحبه، الأمر الَّذي جعل سكوته قرينةً على إقراره بصحَّة الدّعوى.

هل يخطئ الأنبياء في القضاء؟!

ولكنَّ هذا الطّرح لا يمنع صدور الخطأ عنه في إدارة المسألة القضائيَّة، فإنَّه لم ينتبه إلى أنَّ الخصمين ملكان، ولو انتبه إلى ذلك، لكان تصرّفه معهما يختلف عن التصرّف الطبيعيّ الّذي يمارسه مع البشر، لأنّه سوف يدرك منذ البداية أنَّ القضيَّة ليست قضيَّة مرافعة بين خصمين لإصدار الحكم بالحقّ لصاحبه، بل هي قضيّة تمثيليّة يراد منها اختباره، ولكنّه لم يلتفت إلى ذلك إلا بعد انتهاء القضيَّة، ولذلك كان يمارس القضاء بالطّريقة الطبيعيَّة على أساس أنهما شخصان عاديّان، وبذلك لم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدَّث متحدِّث بأنَّ المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه، أو أنها لم تكن واقعيَّةً بل كانت تمثيليّةً، بل المشكلة هي في الخطأ الّذي ارتكبه في طريقة إجراء الحكم القضائيّ أو رسم الحكم، كما ورد في الرّواية المرويّة عن الإمام الرّضا(ع).

وفي هذا الإطار، لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوَّة، ولا سيَّما إذا كانت الأمور جاريةً منذ بداياتها على الإيقاع به في الخطأ، من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصّدمة القويّة الّتي تهزّ كيانه كلَّه بما يمنع من الخطأ في المستقبل. وقد جاء في تفسير التّبيان، ج 8، ص 355، للشّيخ الطّوسي، قال: "قال أصحابنا: كان موضع الخطيئة أنّه قال للخصم: {لَقَدْ ظَلَمَكَ...}، من غير أن يسأل خصمه عن دعواه. وفي آداب القضاء، ألا يحكم بشيءٍ ولا بقولٍ حتى يسأل الخصم عن دعوى خصمه"[3].

ويوحي هذا الكلام الّذي نسبه الشَّيخ إلى أصحابنا القائلين بعصمة الأنبياء، بأنَّ مثل هذا الخطأ لا ينافي العصمة، لأنّه ليس ذنباً بالمعنى المتعارف للمعصية، بل كان بمثابة الغفلة البشريّة التي لا تمتدُّ إلى حالة خطيرة.

وقد أكَّد ذلك الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)، فيما روي عنه في "عيون أخبار الرّضا"، قال الرّاوي ـ وهو يسأله عن خطيئة داود(ع) ـ: "يابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟ فقال:ويحك، إنَّ داود ظنّ أنَّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين، فتسوّرا المحراب، فقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[4]، فعجّل داود على المدّعى عليه، {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[5]، ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يُقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه"[6].

وقد تحدَّثنا في التفسير أنَّ علينا أخذ الفكرة في طبيعة العقيدة في أصلها وتفاصيلها ـ ومنها عصمة الأنبياء ـ من نصوص القرآن الظّاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرّك به الفلسفات غير الدَّقيقة في تصوّراتها التّجريديَّة.

وللحديث بقيَّة، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]   [ص: 26].

[2]  [ص: 24].

[3]  التّبيان، الشّيخ الطّوسي، ج 8، ص 553.

[4]  [ص: 22، 23].

[5]  [ص: 24].

[6]  عيون أخبار الرّضا، الشّيخ الصّدوق، ج1، ص172.


تقدَّم الحديث في العدد السَّابق عن قصَّة النَّبيّ داود(ع) مع الخصمين اللّذين لجآ إليه ليقضي بينهما، في مسألةٍ كانت موقع اختلافٍ بينهما، وليحدِّد لهما الموقف الشَّرعيّ فيما يتخاصمان فيه. ولكنَّ هناك عدّة نقاط تثار حول هذه القصَّة.

الخصمان: ملائكة أو بشر؟

النّقطة الأولى: هل إنَّ هذين الخصمين من الملائكة كما يتحدَّث بعض المفسِّرين، أو هما من البشر؟

أمَّا الاحتمال الأوَّل، فقد يطرح من خلال ظهور بعض الخصوصيَّات في القصَّة، كتسوّرهما المحراب، ودخولهما على داود بطريقةٍ غير عاديَّةٍ وغير مألوفة، بحيث أثارا في نفسه الإحساس بالفزع، وهو ما لا يتناسب مع الحاجة إلى قيامه بالقضاء بينهما، ولا يعهد حصوله من البشر العاديّين الَّذين يدخلون إلى مجلس القضاء بطريقةٍ هادئةٍ محترمة، فليس من الطَّبيعيّ أن يقتحموا عليه محرابه الَّذي أعدَّه للعبادة لله، لأنَّ داود لم يجعله مكاناً لاستقبال النَّاس وللقضاء بينهم.

وكذا تصوّره أنَّ ما حدث كان فتنةً أراد الله أن يختبره ويمتحنه بها في تجربته القضائيّة الّتي يخضع برنامجها لقواعد معيَّنة، وأنّها لم تكن واقعةً عاديّةً على ما كان يواجهه من وقائع التّنازع والتّخاصم الّتي يطرحها النّاس أمامه ليحكم بينهم وليوصل صاحب الحقِّ إلى حقِّه، وربما يوحي الموقف بأنَّ هذين الخصمين قد غابا عنه فجأةً بعد إصداره الحكم، فلم يتحدَّثا إليه عن انطباعهما، ولم يودِّعاه وداع الاحترام المألوف من قِبَل المتخاصمين عندما يريدان الانصراف، ولم يجدهما أمامه، تماماً كما لو كانا شبحين طارئين فارقاه بشكلٍ غير طبيعيّ. وقد نفهم ذلك من قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[1]، الظّاهر في أنَّ الله ابتلاه بهذه الحادثة في عمليَّة تثقيفٍ بأصول الحكم وقواعده من حيث الشَّكل والمضمون، لينبّهه ويسدّده في خلافته على النّاس والحكم بينهم بالحقّ.

فقد يكون ذلك كلّه مؤيّداً لكونهما من الملائكة أرسلهما الله إليه في صورة رجلين من البشر. وقد لا يرى البعض في ذلك كلِّه دليلاً واضحاً على ما تقدَّم، بل إنَّ الظاهر القرآنيّ لا يوحي إلا بصفتهما خصمين تحاكما إليه ليحكم بينهما بالحقّ، ويعتبر هذا البعض أنَّ ما حدث هو شيءٌ عاديّ قد يحدث لأيِّ واحدٍ من النّاس.

أمّا تسوّرهما المحراب، فقد يكون ناشئاً من بعض الموانع الّتي منعتهما من الدّخول عليه من باب البيت، في حين أنَّ القضيّة كانت بالنّسبة إليهما ملحّةً، وقد يكونان اعتمدا على سعة صدره ورحابة أخلاقه، وعرفا أنّه لا يضيق بتصرّفهما غير المألوف، وهذا ما نستوحيه من عدم اعتراضه عليهما في طريقة دخولهما، وربما اختصر القرآن كلَّ هذه التّفاصيل من خلال منهجه الَّذي يقتصر في تفاصيل القصّة على الجوانب الحيَّة التي تتّصل بالهدف، ويهمل ما لا علاقة له به.

أمّا مسألة الفتنة، فقد تصدق في نتائج القصَّة الّتي تحرّك فيها في طريقة القضاء الّتي ربما أهمل فيها الاستماع إلى الطّرف الثّاني بلحاظ بعض الاحتمالات. وفي ضوء ذلك، تبقى الدَّلالة على المطلوب منسجمةً مع واقع القضيَّة في كِلا الاحتمالين فيما يتعلَّق بشخصيَّة الخصمين.

قضاء فعليّ أم تقديريّ؟!

النّقطة الثَّانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء أمام تصريح الآية بصدور الاستغفار والرّجوع إلى الله والخضوع له بعد الفتنة الامتحانيَّة الّتي لم يستطع داود أن يتجاوزها بنجاح، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائيّ منه؟

ربما تطرح القضيَّة على أساس أنَّ الخصمين إذا كانا من الملائكة ـ كما هو أحد الاحتمالين ـ فإنها لا تكون تكليفاً حقيقيّاً على مستوى التَّكاليف الشَّرعيَّة التي تفرض على الإنسان الطّاعة بامتثال الأمر، بالإتيان بمضمونه واجتناب العصيان بالتّرك له، بل هي قضيّة تمثيليّة على سبيل التّدريب العمليّ، ليتفادى الخطأ في التّجارب المستقبليّة على صعيد ممارسة الحكم بين النّاس، تماماً كما هي قضيَّة آدم في عصيانه الأمر الإلهيّ بعدم الاقتراب من الشَّجرة المعيَّنة والأكل منها، فقد كانت قضيّةً إرشاديّةً امتحانيّةً لتوعية آدم وزوجته حول شخصيّة إبليس وأساليب خداعه ومحاولته الثّأر من آدم، لأنَّ الله فضَّله عليه، ولم يكن لآدم أيّة تجربة سابقة في الطَّريقة الشَّيطانيَّة الَّتي يستخدمها إبليس للوصول إلى أهدافه الخبيثة.

فالمسألة فيما يتعلّق بآدم(ع)، لم تكن تكليفاً شرعيّاً يستتبع عصيانه العقاب الإلهيّ، بل كانت تثقيفاً له بشخصيَّة إبليس الّذي سيرافقه في الأرض، الأمر الَّذي جعل القصَّة بمجموعها درساً توجيهيّاً للمستقبل. ولذلك، لم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح المتمثّل بالتمرّد على الله والانحراف عن مواقع طاعته، وخصوصاً أنَّ الجنّة لم تكن موقعاً من مواقع التَّكليف والمسؤوليَّة العمليَّة.

وهذا ما يعبِّر عنه الفقهاء بالأمر الإرشاديّ الَّذي يختزن معنى النَّصيحة، في مقابل الأمر المولويّ الّذي يتضمَّن معنى المسؤوليَّة الَّتي تستتبع الجزاء، وبذلك يكون الاستغفار مجرَّد تعبيرٍ عن الخضوع لله، والانفتاح على رضوانه، والمحبَّة له، فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة لا من واقعها، كما قد نلاحظه في استغفار الأنبياء لا من ذنب، بل تواضعاً لله وخضوعاً له واعتذاراً منه، حتى فيما لا يترتَّب عليه أيّة مبغوضيَّة مما لا يرضاه.

أمّا إذا كان الخصمان من البشر ـ كما هو الاحتمال الثّاني ـ فقد يقال إنَّ القضاء الصّادر عن داود(ع) لم يكن قضاءً فعليّاً حاسماً، بل كان قضاءً تقديريّاً، بحيث يكون قوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[2]، بتقدير: إذا لم يأتِ خصمك بحجّة بيّنة...، أو للتّعبير عن طبيعة القضيّة ـ موضع الدّعوى ـ بأنها تتضمَّن في مضمونها العمليّ ظلماً لصاحب النّعجة، وذلك في توجيهه للمسألة بأنَّ على الآخر الامتناع عن ذلك، قاصداً الاستماع إلى تعليقه على كلام صاحبه، الأمر الَّذي جعل سكوته قرينةً على إقراره بصحَّة الدّعوى.

هل يخطئ الأنبياء في القضاء؟!

ولكنَّ هذا الطّرح لا يمنع صدور الخطأ عنه في إدارة المسألة القضائيَّة، فإنَّه لم ينتبه إلى أنَّ الخصمين ملكان، ولو انتبه إلى ذلك، لكان تصرّفه معهما يختلف عن التصرّف الطبيعيّ الّذي يمارسه مع البشر، لأنّه سوف يدرك منذ البداية أنَّ القضيَّة ليست قضيَّة مرافعة بين خصمين لإصدار الحكم بالحقّ لصاحبه، بل هي قضيّة تمثيليّة يراد منها اختباره، ولكنّه لم يلتفت إلى ذلك إلا بعد انتهاء القضيَّة، ولذلك كان يمارس القضاء بالطّريقة الطبيعيَّة على أساس أنهما شخصان عاديّان، وبذلك لم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدَّث متحدِّث بأنَّ المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه، أو أنها لم تكن واقعيَّةً بل كانت تمثيليّةً، بل المشكلة هي في الخطأ الّذي ارتكبه في طريقة إجراء الحكم القضائيّ أو رسم الحكم، كما ورد في الرّواية المرويّة عن الإمام الرّضا(ع).

وفي هذا الإطار، لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوَّة، ولا سيَّما إذا كانت الأمور جاريةً منذ بداياتها على الإيقاع به في الخطأ، من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصّدمة القويّة الّتي تهزّ كيانه كلَّه بما يمنع من الخطأ في المستقبل. وقد جاء في تفسير التّبيان، ج 8، ص 355، للشّيخ الطّوسي، قال: "قال أصحابنا: كان موضع الخطيئة أنّه قال للخصم: {لَقَدْ ظَلَمَكَ...}، من غير أن يسأل خصمه عن دعواه. وفي آداب القضاء، ألا يحكم بشيءٍ ولا بقولٍ حتى يسأل الخصم عن دعوى خصمه"[3].

ويوحي هذا الكلام الّذي نسبه الشَّيخ إلى أصحابنا القائلين بعصمة الأنبياء، بأنَّ مثل هذا الخطأ لا ينافي العصمة، لأنّه ليس ذنباً بالمعنى المتعارف للمعصية، بل كان بمثابة الغفلة البشريّة التي لا تمتدُّ إلى حالة خطيرة.

وقد أكَّد ذلك الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)، فيما روي عنه في "عيون أخبار الرّضا"، قال الرّاوي ـ وهو يسأله عن خطيئة داود(ع) ـ: "يابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟ فقال:ويحك، إنَّ داود ظنّ أنَّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين، فتسوّرا المحراب، فقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[4]، فعجّل داود على المدّعى عليه، {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}[5]، ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يُقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه"[6].

وقد تحدَّثنا في التفسير أنَّ علينا أخذ الفكرة في طبيعة العقيدة في أصلها وتفاصيلها ـ ومنها عصمة الأنبياء ـ من نصوص القرآن الظّاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرّك به الفلسفات غير الدَّقيقة في تصوّراتها التّجريديَّة.

وللحديث بقيَّة، والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]   [ص: 26].

[2]  [ص: 24].

[3]  التّبيان، الشّيخ الطّوسي، ج 8، ص 553.

[4]  [ص: 22، 23].

[5]  [ص: 24].

[6]  عيون أخبار الرّضا، الشّيخ الصّدوق، ج1، ص172.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية