تجربة النبيّ داود(ع) في محضر القضاء

تجربة النبيّ داود(ع) في محضر القضاء

ولا زلنا نواصل الحديث عن النّبيّ داود(ع) في رحلته الرساليّة والنبويّة المتنوّعة.

خوف الأنبياء

يربّي الله سبحانه أنبياءه ويسدّدهم فيما يقولونه ويفعلونه وفيما يحكمون به، في عمليَّة تثبيت فكريّ وعمليّ لهم، حتى تتكامل شخصيّاتهم الرّساليّة في صورة الحقّ وعلى خطِّ الاستقامة. وهذا ما نقرأه في قصَّة داود(ع) مع الخصمين، في قضيَّةٍ لا تخلو من الغرابة من حيث الشَّكل، فقد كان يجلس إلى النَّاس ليقضي بينهم فيما كانوا يختلفون فيه من أمورهم العامَّة والخاصَّة، وكانوا يدخلون عليه من بابٍ محدَّدٍ يفتح لهم في وقتٍ معيّنٍ لاستقبالهم والاستماع إليهم والحكم لهم أو عليهم، بحسب القضيَّة المثارة من قِبَلهِم، فيما يبغي به بعضهم على بعض، أو فيما يثيرونه من المشاكل المعقَّدة في حياتهم.

وكانت المفاجأة للنّبيّ داود(ع)، فقد كان يجلس في محرابه يعبد ربّه ويبتهل إليه، في حالٍ من المناجاة الخاشعة والانفتاح المعرفيّ على عظمة الله وشكره على نعمه الكثيرة، وإذ بشخصين صعدا إلى أعلى المحراب وأتياه من أعلى سوره، وهو مكانٌ لم يكن مخصَّصاً للدّخول عليه منه، وفي وقتٍ غير الَّذي يقصده النّاس ويحضر إليه الخصوم للقضاء بينهم، ما جعله يفزع منهما، ويشعر بانقباضٍ ونفورٍ كالَّذي يشعر به أيُّ إنسانٍ إذا خاف من شيءٍ ما، وهو أمر طبيعيّ، باعتباره راجعاً إلى مقام العمل دون الإدراك عند تحقّق مكروهٍ ينبغي التحرّز منه. وربما دار في ذهنه أنَّ هذه الحركة غير المألوفة منهما، سببها أنهما جاءا للاعتداء عليه، كما هو حال اللّصوص والمعتدين الّذين يدخلون الدّار من غير بابه، حتى لا يكشفهم أهلها، لأنَّ النَّاس العاديّين المسالمين لا يدخلون البيوت إلا من أبوابها.

ولا مانع من أن يفزع النبيّ في مثل هذه الحالات الَّتي توحي بالخوف والحذر، انطلاقاً من الإحساس البشريّ بالحماية الّتي يتطلَّبها الإنسان لنفسه، تماماً كما هي الاختلاجات العضويّة الجسديّة الّتي تتولَّد عن أيّة حركةٍ مثيرةٍ للمشاعر. ولذلك، لا مجال للحديث الفكريّ ـ الكلاميّ عن دلالة الفزع عند الأنبياء، وأنّه من الأمور الّتي لا تناسبهم، لأنَّ الأنبياء لا يخافون إلا من الله، لأنّ هناك فرقاً بين الخوف الّذي تسقط الإرادة معه، وتتحرّك في اتجاه الانحراف النفسيّ الّذي يخلّ بالتّوازن، ويقود إلى الجزع الّذي ينسى فيه الإنسان اللّجوء إلى الاستعانة بالله، والخوف الّذي يدفع إلى الحذر الّذي تمليه عمليّة الدّفاع عن النّفس.

وقد حدَّثنا الله عن خوف النّبيّ موسى(ع) وأخيه هارون من الذّهاب إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان، لما كانا يعرفانه من طغيانه وجبروته وعدوانه، وعن خوف موسى عندما ألقى السَّحرة حبالهم وعصيَّهم، فخيِّل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفةً من هزيمته أمام فرعون، لولا أن بعث الله الطَّمأنينة في قلبه: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}[1].

وحدّثنا أيضاً عن خوف إبراهيم(ع) عندما دخل عليه الملائكة، فنكرهم عندما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، ما جعله يعيش الخوف والقلق من طبيعتهم، لولا أن أفصحوا له عن شخصيَّتهم الملائكيَّة وبشارتهم له بالولد، على الرّغم من تقدّمه وزوجته في العمر.

فالطّبيعة البشريَّة تفرض نفسها على النّاس كلّهم، بمن فيهم الأنبياء، إلا أنَّ الأنبياء لا يسقطون أمام الخوف أو نقاط الضَّعف الذاتيَّة، بل يتماسكون ويأخذون بأسباب التّوازن والقوَّة.

فتنة القضاء

وهذا ما جاء في قوله تعالى في بداية القصَّة: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ـ تسلَّقوا سور المحراب، ودخلوا على داود من أعلاه ـ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ـ بسبب دخولهم غير الطَّبيعيّ عليه، ما أوحى بأنَّ هناك وضعاً سلبيّاً وعدوانيّاً ضدّه ـ قَالُوا لَا تَخَفْ ـ فلسنا من اللّصوص الَّذين يدخلون البيوت من غير أبوابها، ولسنا من الَّذين يمارسون العدوان على الآخرين ليعتدوا عليهم أو ليسرقوا مالهم، كما توحي طريقتنا غير المألوفة في الدّخول، ولكنّنا جئنا كمتقاضيين لأمرٍ يتّصل بخلافٍ دائرٍ بيننا ـ خَصْمَانِ ـ أردنا أن نسأل عن حالةٍ قد تحدث بين النّاس في فرضيّةٍ خاصّة، إذ ـ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ـ فكلٌّ منّا يدّعي على الآخر ويتَّهمه بالعدوان عليه، ونحن نرى فيك الكفاءة الشرعيَّة القضائيَّة للحكم في هذه القضيَّة ـ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ـ بعد معرفة طبيعة القضيَّة المتنازع عليها، من خلال المعطيات الواقعيَّة الّتي تمثِّل العناصر الحقيقيَّة للموضوع ـ وَلَا تُشْطِطْ ـ أي لا تتجاوز الحقَّ بإصدار الحكم الجائر ـ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ}[2]، أي إلى الطَّريق السويِّ المستقيم الَّذي لا ميلَ فيه ولا انحراف.

ونلاحظ في سياق هذا التَّحذير الصَّادر عنهما، أنَّ النبيَّ داود(ع) لم يتأثّر سلباً بهذا المنطق الّذي قد لا يخلو من عدم اللّياقة الأخلاقيَّة الَّتي يخاطب فيها المتقاضيان القاضي، لأنها قد تتضمَّن نوعاً من أنواع الخوف من انحرافه عن الحكم العادل، مما يرفضه القضاة في ساحة القضاء. وذلك هو خُلُق الأنبياء الَّذين لا يتعقَّدون من بعض الأساليب السّلبيَّة الّتي قد تنطلق من قائليها من خلال الحذر، لا من خلال الاتهام أو الشّكّ، لأنهم يتعاملون مع الناس بحسب ذهنيّاتهم السَّاذجة.

وبدأ الخصمان الحديث عن الدَّعوى، فتقدّم المدَّعي الّذي يعتبر نفسه مظلوماً من الآخر، وقال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ـ وهو ما يدلّ على أنَّ أخاه كان من طبقة الأغنياء الّذين يملكون الكثير من المال، بينما كان المدَّعي من طبقة الفقراء الّذين لا يملكون إلا القليل من المال، وذلك بما تمثّله النّعجة الواحدة أمام التِّسعة والتّسعين من النعاج ـ  فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ـ أي أعطنيها، أو اجعلها في سلطتي لأنتفع بها، أو تنازل لي عنها لتكون من نصيبي، ليبلغ ما أملكه من النّعاج مائة نعجة ـ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[3]، أي غلبني في الخطاب، وضغط عليَّ بأسلوبه العنيف، وكان أبلغ منّي في إدارة الكلام، ولو أنّه أراد أن يشتدَّ في طلبه إلى مستوى البطش بي، لكان أشدَّ مني في المواجهة.

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ـ فليس من العدل أن يفكِّر بهذه الطريقة الّتي تمثّل الجشع الذاتيَّ، والأنانيّة الطامعة، والاستضعاف الظالم، إذ كيف يطلب من أخيه الفقير الَّذي لا يملك إلا نعجةً واحدةً إضافة نعجته إلى نعاجه، ولا يتركها له ليستفيد منها في قضاء حاجاته الغذائيَّة؟! وكيف يضغط الغنيّ على الفقير ويفرض سلطته عليه ليسلبه ما عنده من دون حقّ؟! إنَّ هذا لهو الظّلم بعينه.

ـ  وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء ـ أي الشّركاء، مع أنَّ القصَّة لا توحي بشراكةٍ بينهما، فيمكن أن يكون المراد من الكلمة المعنى الَّذي يقترب من ذلك، ولو في الشّكل، بلحاظ الأخوَّة، أو المشاركة في الرّعي، أو في المكان، أو في الانتفاع أو نحو ذلك ـ  لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ـ بفعل ما يملكه من عناصر القوَّة الضّاغطة التي قد تدفعه إلى العدوان على الآخر ـإِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}[4]، فهؤلاء هم الَّذين يمنعهم إيمانهم من البغي، انطلاقاً من العمق الرّوحيّ الّذي يدفعهم إلى التحرّك في خطِّ الصَّلاح والإصلاح.

وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخَّل في تفسير المسألة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الانحراف الاجتماعيّ الّذي يتعلَّق بسلب حقوق النّاس، ولم يكن قد استمع إلى الطَّرف الآخر، مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشّكل والمضمون، إذ كان عليه أن يدرس الدَّعوى من خلال الاستماع إلى حجَّة المدَّعي ودفاع المدَّعى عليه، لأنَّ مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلّة، لا يصلحان أساساً للحكم على الغنيّ الَّذي يملك الكثير، لحساب الفقير الَّذي يملك القليل أو لا يملك شيئاً، في دائرة الحقِّ المختلَف فيه.

ولكنَّ المشاعر العاطفيَّة قد تجذب الإنسان إلى جانب الضَّعيف في الدَّعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة الّتي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصَّعبة، بينما يعيش الإنسان الآخر الرّاحة والسّعة لغياب أيّة مشاكل يعانيها، ما يجعل من الحكم على الضَّعيف تعقيداً لمشكلته، بينما لا يمثّل الحكم على الغنيّ لمصلحة الضّعيف مشكلةً صعبةً بالنّسبة إليه، هذا إضافةً إلى أنَّ طبيعة الواقع الّذي يتحرّك في حياة الناس، تجعل من المستبعد أن يكون هذا الفقير معتدياً على الغنيّ، ولا سيَّما في هذا الشَّيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغنيّ في طمعه وجشعه معتدياً على الفقير من موقع قوَّته، كما هي حال الأقوياء بالنِّسبة إلى الضّعفاء.

تفسيرٌ لحكم داوود

وهناك تفسيرٌ لصاحب الكشّاف "الزمخشري" في توجيه حكم داود لمصلحة الفقير صاحب النّعجة الواحدة، قال: "فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنَّه لم يُحكَ في القرآن لأنّه معلوم".

ولعلَّ ما ذكره هذا المفسِّر قد يكون له أكثر من موقعٍ في القرآن الَّذي يختصر أحياناً تفاصيل قصّةٍ ما، لأنَّ هناك ما يوحي بالمحذوف، وربما كانت طبيعة التَّعبير بقوله: {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، توحي بأنَّ صاحب النّعجة الواحدة هو المظلوم، لأنه هو الَّذي بدأ الكلام من دون أن يعترض الآخر عليه، بل كان دور المدَّعى عليه دور السَّاكت الّذي يوحي بأنَّ الأمر لو كان مخالفاً لادّعاءات الطّرف الآخر، لكان اعترض عليه، فسكوته هو خير دليلٍ على أنَّ القضيَّة هي كما طرحها المدَّعي. وربما استفاد النبيّ داود(ع) ذلك من خلال دراسة الحالة النفسيّة المتمثِّلة بملامح وجه المدّعى عليه، ليفهم منها أنَّ الحقّ هو للمدَّعي، وبناءً على كلّ ذلك، أصدر الحكم من دون تأخير، لأنّ المسألة لم تكن من المسائل المعقَّدة، بل كانت في مستوى البساطة الّتي يكفي فيها معرفة صدق أحد الطّرفين بما يوجب القطع.

استغفار داوود

{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ـ أي أوقعناه في الفتنة، وهي البلاء، أو الامتحان، أو الاختبار، أو التنبيه الإلهيّ، مما يفتتن به الإنسان فيكون في معرض الخطأ ـ ولو في الشّكل ـ لوقوعه تحت ضغط الأجواء المثيرة المحيطة به. وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النّعجة إلى استسلامه للمشاعر الإنسانيَّة أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وربما للخطأ الّذي وقع فيه في عدم إدارة المسألة القضائيّة فيما قد يعبّر عنه بأنّه ليس خطأً في الحكم، بل في رسم الحكم وشكله.

ـ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُـ على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشَّكليَّة، ممّا أراد الله له أن لا يقع فيه، ليكون ذلك منهجاً لما يأتي من الأحكام في قضايا أخرى، ليتحرّك البرنامج القضائيّ في أصوله القانونيّة، حتى لو لم يناف واقع المسألة.

وهكذا، خشع داود لله في عمليَّة انفتاحٍ على رعايته له ومراقبته لحركته فيما أوكله إليه من الحكم بين النّاس، ليسدِّده في مستقبل أمره ـ وَخَرَّ رَاكِعاً ـ أي ساجداً، وقد يعبّر عن السّجود بالركوع، كما قال الشّاعر:

           فخرَّ على وجهه راكعاً            وتاب إلى الله من كلِّ ذنبِ

ـ وَأَنَابَ}[5]، رجع إلى الله تائباً مخلصاً، {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ـ الخطأ الَّذي لم يؤدِّ إلى نتيجة سلبيَّة كبيرة في الحياة العامَّة، ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع، ولم يكن صادراً عن ذنب، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى ـ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ـ وهي القرب من الله في المنـزلة والحظوة واللّطف والعناية والرّعاية ـ وَحُسْنَ مَآبٍ}[6]، في ما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه. والحمد لله ربِّ العالمين.

 *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]   [طه: 68].

[2]  [ص: 21، 22].

[3]   [ص: 23].

[4]  [ص: 24].

[5]  [ص: 24].

[6]  [ص: 25].


ولا زلنا نواصل الحديث عن النّبيّ داود(ع) في رحلته الرساليّة والنبويّة المتنوّعة.

خوف الأنبياء

يربّي الله سبحانه أنبياءه ويسدّدهم فيما يقولونه ويفعلونه وفيما يحكمون به، في عمليَّة تثبيت فكريّ وعمليّ لهم، حتى تتكامل شخصيّاتهم الرّساليّة في صورة الحقّ وعلى خطِّ الاستقامة. وهذا ما نقرأه في قصَّة داود(ع) مع الخصمين، في قضيَّةٍ لا تخلو من الغرابة من حيث الشَّكل، فقد كان يجلس إلى النَّاس ليقضي بينهم فيما كانوا يختلفون فيه من أمورهم العامَّة والخاصَّة، وكانوا يدخلون عليه من بابٍ محدَّدٍ يفتح لهم في وقتٍ معيّنٍ لاستقبالهم والاستماع إليهم والحكم لهم أو عليهم، بحسب القضيَّة المثارة من قِبَلهِم، فيما يبغي به بعضهم على بعض، أو فيما يثيرونه من المشاكل المعقَّدة في حياتهم.

وكانت المفاجأة للنّبيّ داود(ع)، فقد كان يجلس في محرابه يعبد ربّه ويبتهل إليه، في حالٍ من المناجاة الخاشعة والانفتاح المعرفيّ على عظمة الله وشكره على نعمه الكثيرة، وإذ بشخصين صعدا إلى أعلى المحراب وأتياه من أعلى سوره، وهو مكانٌ لم يكن مخصَّصاً للدّخول عليه منه، وفي وقتٍ غير الَّذي يقصده النّاس ويحضر إليه الخصوم للقضاء بينهم، ما جعله يفزع منهما، ويشعر بانقباضٍ ونفورٍ كالَّذي يشعر به أيُّ إنسانٍ إذا خاف من شيءٍ ما، وهو أمر طبيعيّ، باعتباره راجعاً إلى مقام العمل دون الإدراك عند تحقّق مكروهٍ ينبغي التحرّز منه. وربما دار في ذهنه أنَّ هذه الحركة غير المألوفة منهما، سببها أنهما جاءا للاعتداء عليه، كما هو حال اللّصوص والمعتدين الّذين يدخلون الدّار من غير بابه، حتى لا يكشفهم أهلها، لأنَّ النَّاس العاديّين المسالمين لا يدخلون البيوت إلا من أبوابها.

ولا مانع من أن يفزع النبيّ في مثل هذه الحالات الَّتي توحي بالخوف والحذر، انطلاقاً من الإحساس البشريّ بالحماية الّتي يتطلَّبها الإنسان لنفسه، تماماً كما هي الاختلاجات العضويّة الجسديّة الّتي تتولَّد عن أيّة حركةٍ مثيرةٍ للمشاعر. ولذلك، لا مجال للحديث الفكريّ ـ الكلاميّ عن دلالة الفزع عند الأنبياء، وأنّه من الأمور الّتي لا تناسبهم، لأنَّ الأنبياء لا يخافون إلا من الله، لأنّ هناك فرقاً بين الخوف الّذي تسقط الإرادة معه، وتتحرّك في اتجاه الانحراف النفسيّ الّذي يخلّ بالتّوازن، ويقود إلى الجزع الّذي ينسى فيه الإنسان اللّجوء إلى الاستعانة بالله، والخوف الّذي يدفع إلى الحذر الّذي تمليه عمليّة الدّفاع عن النّفس.

وقد حدَّثنا الله عن خوف النّبيّ موسى(ع) وأخيه هارون من الذّهاب إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان، لما كانا يعرفانه من طغيانه وجبروته وعدوانه، وعن خوف موسى عندما ألقى السَّحرة حبالهم وعصيَّهم، فخيِّل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفةً من هزيمته أمام فرعون، لولا أن بعث الله الطَّمأنينة في قلبه: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}[1].

وحدّثنا أيضاً عن خوف إبراهيم(ع) عندما دخل عليه الملائكة، فنكرهم عندما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، ما جعله يعيش الخوف والقلق من طبيعتهم، لولا أن أفصحوا له عن شخصيَّتهم الملائكيَّة وبشارتهم له بالولد، على الرّغم من تقدّمه وزوجته في العمر.

فالطّبيعة البشريَّة تفرض نفسها على النّاس كلّهم، بمن فيهم الأنبياء، إلا أنَّ الأنبياء لا يسقطون أمام الخوف أو نقاط الضَّعف الذاتيَّة، بل يتماسكون ويأخذون بأسباب التّوازن والقوَّة.

فتنة القضاء

وهذا ما جاء في قوله تعالى في بداية القصَّة: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ـ تسلَّقوا سور المحراب، ودخلوا على داود من أعلاه ـ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ـ بسبب دخولهم غير الطَّبيعيّ عليه، ما أوحى بأنَّ هناك وضعاً سلبيّاً وعدوانيّاً ضدّه ـ قَالُوا لَا تَخَفْ ـ فلسنا من اللّصوص الَّذين يدخلون البيوت من غير أبوابها، ولسنا من الَّذين يمارسون العدوان على الآخرين ليعتدوا عليهم أو ليسرقوا مالهم، كما توحي طريقتنا غير المألوفة في الدّخول، ولكنّنا جئنا كمتقاضيين لأمرٍ يتّصل بخلافٍ دائرٍ بيننا ـ خَصْمَانِ ـ أردنا أن نسأل عن حالةٍ قد تحدث بين النّاس في فرضيّةٍ خاصّة، إذ ـ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ـ فكلٌّ منّا يدّعي على الآخر ويتَّهمه بالعدوان عليه، ونحن نرى فيك الكفاءة الشرعيَّة القضائيَّة للحكم في هذه القضيَّة ـ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ـ بعد معرفة طبيعة القضيَّة المتنازع عليها، من خلال المعطيات الواقعيَّة الّتي تمثِّل العناصر الحقيقيَّة للموضوع ـ وَلَا تُشْطِطْ ـ أي لا تتجاوز الحقَّ بإصدار الحكم الجائر ـ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ}[2]، أي إلى الطَّريق السويِّ المستقيم الَّذي لا ميلَ فيه ولا انحراف.

ونلاحظ في سياق هذا التَّحذير الصَّادر عنهما، أنَّ النبيَّ داود(ع) لم يتأثّر سلباً بهذا المنطق الّذي قد لا يخلو من عدم اللّياقة الأخلاقيَّة الَّتي يخاطب فيها المتقاضيان القاضي، لأنها قد تتضمَّن نوعاً من أنواع الخوف من انحرافه عن الحكم العادل، مما يرفضه القضاة في ساحة القضاء. وذلك هو خُلُق الأنبياء الَّذين لا يتعقَّدون من بعض الأساليب السّلبيَّة الّتي قد تنطلق من قائليها من خلال الحذر، لا من خلال الاتهام أو الشّكّ، لأنهم يتعاملون مع الناس بحسب ذهنيّاتهم السَّاذجة.

وبدأ الخصمان الحديث عن الدَّعوى، فتقدّم المدَّعي الّذي يعتبر نفسه مظلوماً من الآخر، وقال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ـ وهو ما يدلّ على أنَّ أخاه كان من طبقة الأغنياء الّذين يملكون الكثير من المال، بينما كان المدَّعي من طبقة الفقراء الّذين لا يملكون إلا القليل من المال، وذلك بما تمثّله النّعجة الواحدة أمام التِّسعة والتّسعين من النعاج ـ  فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ـ أي أعطنيها، أو اجعلها في سلطتي لأنتفع بها، أو تنازل لي عنها لتكون من نصيبي، ليبلغ ما أملكه من النّعاج مائة نعجة ـ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[3]، أي غلبني في الخطاب، وضغط عليَّ بأسلوبه العنيف، وكان أبلغ منّي في إدارة الكلام، ولو أنّه أراد أن يشتدَّ في طلبه إلى مستوى البطش بي، لكان أشدَّ مني في المواجهة.

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ـ فليس من العدل أن يفكِّر بهذه الطريقة الّتي تمثّل الجشع الذاتيَّ، والأنانيّة الطامعة، والاستضعاف الظالم، إذ كيف يطلب من أخيه الفقير الَّذي لا يملك إلا نعجةً واحدةً إضافة نعجته إلى نعاجه، ولا يتركها له ليستفيد منها في قضاء حاجاته الغذائيَّة؟! وكيف يضغط الغنيّ على الفقير ويفرض سلطته عليه ليسلبه ما عنده من دون حقّ؟! إنَّ هذا لهو الظّلم بعينه.

ـ  وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء ـ أي الشّركاء، مع أنَّ القصَّة لا توحي بشراكةٍ بينهما، فيمكن أن يكون المراد من الكلمة المعنى الَّذي يقترب من ذلك، ولو في الشّكل، بلحاظ الأخوَّة، أو المشاركة في الرّعي، أو في المكان، أو في الانتفاع أو نحو ذلك ـ  لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ـ بفعل ما يملكه من عناصر القوَّة الضّاغطة التي قد تدفعه إلى العدوان على الآخر ـإِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}[4]، فهؤلاء هم الَّذين يمنعهم إيمانهم من البغي، انطلاقاً من العمق الرّوحيّ الّذي يدفعهم إلى التحرّك في خطِّ الصَّلاح والإصلاح.

وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخَّل في تفسير المسألة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الانحراف الاجتماعيّ الّذي يتعلَّق بسلب حقوق النّاس، ولم يكن قد استمع إلى الطَّرف الآخر، مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشّكل والمضمون، إذ كان عليه أن يدرس الدَّعوى من خلال الاستماع إلى حجَّة المدَّعي ودفاع المدَّعى عليه، لأنَّ مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلّة، لا يصلحان أساساً للحكم على الغنيّ الَّذي يملك الكثير، لحساب الفقير الَّذي يملك القليل أو لا يملك شيئاً، في دائرة الحقِّ المختلَف فيه.

ولكنَّ المشاعر العاطفيَّة قد تجذب الإنسان إلى جانب الضَّعيف في الدَّعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة الّتي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصَّعبة، بينما يعيش الإنسان الآخر الرّاحة والسّعة لغياب أيّة مشاكل يعانيها، ما يجعل من الحكم على الضَّعيف تعقيداً لمشكلته، بينما لا يمثّل الحكم على الغنيّ لمصلحة الضّعيف مشكلةً صعبةً بالنّسبة إليه، هذا إضافةً إلى أنَّ طبيعة الواقع الّذي يتحرّك في حياة الناس، تجعل من المستبعد أن يكون هذا الفقير معتدياً على الغنيّ، ولا سيَّما في هذا الشَّيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغنيّ في طمعه وجشعه معتدياً على الفقير من موقع قوَّته، كما هي حال الأقوياء بالنِّسبة إلى الضّعفاء.

تفسيرٌ لحكم داوود

وهناك تفسيرٌ لصاحب الكشّاف "الزمخشري" في توجيه حكم داود لمصلحة الفقير صاحب النّعجة الواحدة، قال: "فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنَّه لم يُحكَ في القرآن لأنّه معلوم".

ولعلَّ ما ذكره هذا المفسِّر قد يكون له أكثر من موقعٍ في القرآن الَّذي يختصر أحياناً تفاصيل قصّةٍ ما، لأنَّ هناك ما يوحي بالمحذوف، وربما كانت طبيعة التَّعبير بقوله: {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، توحي بأنَّ صاحب النّعجة الواحدة هو المظلوم، لأنه هو الَّذي بدأ الكلام من دون أن يعترض الآخر عليه، بل كان دور المدَّعى عليه دور السَّاكت الّذي يوحي بأنَّ الأمر لو كان مخالفاً لادّعاءات الطّرف الآخر، لكان اعترض عليه، فسكوته هو خير دليلٍ على أنَّ القضيَّة هي كما طرحها المدَّعي. وربما استفاد النبيّ داود(ع) ذلك من خلال دراسة الحالة النفسيّة المتمثِّلة بملامح وجه المدّعى عليه، ليفهم منها أنَّ الحقّ هو للمدَّعي، وبناءً على كلّ ذلك، أصدر الحكم من دون تأخير، لأنّ المسألة لم تكن من المسائل المعقَّدة، بل كانت في مستوى البساطة الّتي يكفي فيها معرفة صدق أحد الطّرفين بما يوجب القطع.

استغفار داوود

{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ـ أي أوقعناه في الفتنة، وهي البلاء، أو الامتحان، أو الاختبار، أو التنبيه الإلهيّ، مما يفتتن به الإنسان فيكون في معرض الخطأ ـ ولو في الشّكل ـ لوقوعه تحت ضغط الأجواء المثيرة المحيطة به. وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النّعجة إلى استسلامه للمشاعر الإنسانيَّة أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وربما للخطأ الّذي وقع فيه في عدم إدارة المسألة القضائيّة فيما قد يعبّر عنه بأنّه ليس خطأً في الحكم، بل في رسم الحكم وشكله.

ـ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُـ على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشَّكليَّة، ممّا أراد الله له أن لا يقع فيه، ليكون ذلك منهجاً لما يأتي من الأحكام في قضايا أخرى، ليتحرّك البرنامج القضائيّ في أصوله القانونيّة، حتى لو لم يناف واقع المسألة.

وهكذا، خشع داود لله في عمليَّة انفتاحٍ على رعايته له ومراقبته لحركته فيما أوكله إليه من الحكم بين النّاس، ليسدِّده في مستقبل أمره ـ وَخَرَّ رَاكِعاً ـ أي ساجداً، وقد يعبّر عن السّجود بالركوع، كما قال الشّاعر:

           فخرَّ على وجهه راكعاً            وتاب إلى الله من كلِّ ذنبِ

ـ وَأَنَابَ}[5]، رجع إلى الله تائباً مخلصاً، {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ـ الخطأ الَّذي لم يؤدِّ إلى نتيجة سلبيَّة كبيرة في الحياة العامَّة، ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع، ولم يكن صادراً عن ذنب، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى ـ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ـ وهي القرب من الله في المنـزلة والحظوة واللّطف والعناية والرّعاية ـ وَحُسْنَ مَآبٍ}[6]، في ما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه. والحمد لله ربِّ العالمين.

 *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]   [طه: 68].

[2]  [ص: 21، 22].

[3]   [ص: 23].

[4]  [ص: 24].

[5]  [ص: 24].

[6]  [ص: 25].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية