ولا زلنا نواصل الحديث عن النّبيّ داود(ع)، ونكرِّس الحديث اليوم عن قصَّته كما وردت في التَّوراة.
قصَّة زوجة أوريا في التّوراة
جاء في التّوراة وفي كتاب صموئيل الثاني، في الإصحاح الحادي عشر من الجملة الثّانية وحتى السّابعة والعشرين: وكان في وقت المساء، أنّ داود قام عن سريره وتمشَّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السَّطح امرأةً تستحمُّ، وكانت المرأة جميلة المنظر جدّاً، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقيل: إنها "بتشبع" بنت أليعام وامرأة "أوريا الحتّي"، وكان أحد كبار قادة جيش داود.
فأرسل داود رُسُلاً وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي طاهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها، وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود بأنها حبلى، وبعد علمه بحمل (بتشبع)، بعث داود برسالةٍ إلى القائد العامّ لقوّاته (يوآب)، طلب منه فيها أن يبعث أوريا إليه، وفور وصوله إلى قصر داود، استفسر منه عن سلامة (يوآب) وسلامة الجيش وعن سير المعارك.
وهنا، أمر داود "أوريا" بأن يذهب إلى بيته ويغسل رجليه، فخرج أوريا من قصر داود، وبعث داود خلفه أنواعاً من الطَّعام، إلا أنّ أوريا نام عند قصر داود مع بقيّة عبيد سيّده داود، ولم يذهب إلى بيته، وعندما علم داود أنَّ أوريا لم يذهب إلى بيته، قال داود لأوريا: ألم تكن قد عدت من السَّفر؟ فلماذا لم تذهب إلى بيتك؟ فقال لداود: إنَّ الصَّندوق وإسرائيل ويهودا وسيّدي (يوآب) وعبيد سيّدي يعيشون تحت الخيام في الصَّحراء، فهل يصحّ أن أذهب إلى بيتي لآكل وأشرب وأنام فيه؟ أقسم بحياتك إني لا أفعل ذلك.
وفي الصَّباح، بعث داود برسالة إلى (يوآب) بيد (أوريا)، وكتب في الرّسالة: اجعلوا (أوريا) في وجه الحرب الشَّديدة، وارجعوا من ورائه فيُضَرب ويموت. ففعل به ذلك، فقتل، وأخبر داود بذلك، فلمَّا سمعت امرأة (أوريا) أنّه قد مات، ندبت بعلها، ولما مضت المناحة، أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له امرأةً. وأمَّا الأمر الّذي فعله داود، فقبُح في عيني الرّبّ.
وهكذا، توحي هذه القصّة المزعومة، أنَّ زوج هذه المرأة الَّذي كان أحد الضّبَّاط المشهورين في جيش داود، كان شخصاً طاهراً نقيّاً، وأنَّ داود هيّأ الظّروف لقتله في الحرب، في مؤامرةٍ خبيثةٍ ليتزوَّج زوجته بعد موته، وهذا هو ما فعله، فأرسل الربّ ناثان النبيّ إلى داود، فجاء إليه وقال له: كان رجلان في مدينةٍ واحدة، واحدٌ منهما غنيّ والآخر فقير، وكان للغنيّ غنم وبقر كثيرة جدّاً، وأمّا الفقير، فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربَّاها، فجاء ضيف إلى الرّجل الغنيّ، فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيِّئ للضّيف الّذي جاء إليه، فأخذ نعجة الرّجل الفقير وهيّأ لضيفه. فحمي غضب داود على الرَّجل جدّاً، وقال لناثان: حيّ هو الرّبّ، إنه يقتل الرّجل الفاعل ذلك، وتردُّ النّعجة أربعة أضعاف لأنّه فعل هذا الأمر، ولأنّه لم يشفق.
فقال ناثان لداود: أنت هو الرّجل، يعاتبك الربّ ويقول: سأقيم عليك الشّرّ من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك، وأعطيهنَّ لقريبك، فيضطجع معهنّ قدَّام جميع إسرائيل وقدَّام الشّمس، جزاءً لما فعلت بأوريا وامرأته. فقال داود: قد أخطأت إلى الرّبّ، فقال ناثان لداود: الربّ أيضاً قد نقل عنك خطيئتك، لا تموت، غير أنَّه من أجل أنَّك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الربّ يشمتون، فالابن المولود لك من المرأة يموت. فأمرض الله الصّبيّ سبعة أيّام ثم قبضه، ثم ولدت امرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان.
ونلاحظ أنَّ هذه القصَّة في ذيلها، تختلف عمَّا ورد في القرآن، فما ورد هنا، أنَّ أحداً لم يأتِ إلى داود متظلّماً وشاكياً، وإنما الّذي جاء هو أحد أنبياء بني إسرائيل، الَّذي كان مستشار داود في الوقت نفسه، وقد ذكر له قصّةً كان يستهدف منها وعظ داود، وكانت القصَّة بشأن شخصين، الأوّل غنيّ والثاني فقير، أمّا الغني، فكان يملك أعداداً كبيرةً من الغنم والبقر، وأمّا الفقير، فلم يكن يملك إلا نعجةً واحدةً صغيرةً أخذها الغنيّ وذبحها وهيّأها طعاماً لضيفه.
ومن اللافت المستغرب، أنَّ داود، كما ورد في هذه القصَّة، اعتبر الغنيَّ طاغيةً يستحقّ القتل، لمجرَّد ما افترضه من ذنبه في أخذ النّعجة من الفقير، وتسرّع في إصدار الحكم عليه، إذ قال: يجب على الغنيّ أن يردَّ النّعجة أربعة أضعاف، مع أنَّ الحكم الشّرعيّ هو أن يردّ مثل النّعجة أو قيمتها، في الوقت الّذي تتحدَّث القصّة بأنّه اعترف بذنبه في ممارسة الزّنا مع زوجة أوريا وفي تخطيطه لقتله، وهو ما يعتبر ذنباً عظيماً، ويبعث على التّساؤل: كيف عفا الله عنه بهذه السّهولة؟ وحتّى العقاب الّذي أنزله الله لم يكن له، بل كان للصَّبي الّذي لا ذنب له!
القصّة الحقيقيَّة
وقد ورد في حديث الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) في كتاب (عيون أخبار الرّضا)، أنّه قال لابن الجهم: "وأمّا داود، فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إنَّ داود كان يصلّي في محرابه، فتصوَّر له إبليس على صورة طيرٍ أحسن ما يكون من الطّيور، فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطَّير، فخرج الطَّير إلى الدّار، فخرج الطّير إلى السَّطح، فصعد في طلبه، فسقط الطّير في دار أوريا بن حيان.
فاطّلع داود في أثر الطّير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلمَّا نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم (أوريا) أمام التابوت، فقُدِّم، فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانيةً أن قدِّمه أمام التّابوت، فقُدِّم، فقُتل أوريا وتزوَّج داود بامرأته.
قال: فضرب الرّضا(ع) يده على جبهته، وقال: إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التّهاون بصلاته حتى خرج إثر الطّير، ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل... فقال: يا بن رسول الله، فما كانت قصّته مع أوريا؟ قال الرّضا(ع): إنَّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قُتل، لا تتزوَّج بعده أبداً، فأوَّل مَن أباح الله عزَّ وجلَّ له أن يتزوَّج بامرأةٍ قتل بعلها كان داود(ع)، فتزوَّج بامرأة أوريا لما قُتل وانقضت عدَّتها منه، فذلك الَّذي شقَّ على النّاس من قتل أوريا"[1].
استغلال القصَّة للإساءة
ونستوحي من هذا الحديث، أنَّ مسألة تزوّج داود بامرأة أوريا بعد قتله في الحرب، استُغِلَّت استغلالاً كبيراً من قِبَل أعداء الله من جهة، ومن قِبَل الجهَلَة من جهةٍ أخرى، إضافةً إلى استغلال صنّاع القصص الخياليَّة الموضوعة لها، لإيجاد حالٍ من الإثارة لدى النَّاس بالطَّريقة الّتي تسيء إلى قداسة الأنبياء.
ومما يجدر ذكره، أنَّ التّوراة لا تعتبر داود نبيّاً، وإنما تعتبره ملكاً عادلاً له مكانة مرموقة، وأنّه هو الّذي شيَّد المعبد الكبير لبني إسرائيل.
وهكذا نلاحظ في رواية التّوراة المزعومة، أنَّ بعض المفسِّرين درجوا على إخضاع مسألة الخصمين لهذه القصَّة، لتكون الخصومة التَّمثيليَّة بمثابة تنبيهٍ لداود على ما فعله في علاقته بهذه المرأة من باب المشابهة بين القصَّتين. وقد حفلت كتب التّفسير بالكثير من هذه الإسرائيليّات المخالفة لأبسط قواعد الأخلاق والقيم الرّوحيَّة في حياة النّبيّ داود، مما لا يتناسب مع الصفات التي ذكرها القرآن من جهة روحيَّته العالية، وإخلاصه لله، وتسبيحه له، وكونه أوّاباً، وإتيانه الحكمة وفصل الخطاب، ومنحه صفة الخليفة لله في الأرض، وحمله المسؤوليّة الكبرى في الحكم بين النّاس بالحقّ، وإعطائه المنزلة والحظوة والقرب إلى الله والزّلفى عنده، وحسن المآب فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه.
وقد وردت الأحاديث والنّصوص الإسلاميّة المكذِّبة بشدّة لأمثال هذه القصص الخرافيَّة الموضوعة من قِبَل الإسرائيليّين، الَّذين حاولوا تفسير قصص الأنبياء الواردة في القرآن بطريقةٍ محرَّفة، بعيداً من الحقائق الَّتي تتمثَّل بشخصيَّات الأنبياء.
ومن جملة تلك الأحاديث، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): "لا أُوتي برجلٍ يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريا إلا جلدته حدَّين؛ حدّاً للنبوّة، وحدّاً للإسلام"[2]. كما ورد في حديثٍ آخر لأمير المؤمنين(ع) جاء فيه: "من حدَّثكم بحديث داود على ما يرويه القصَّاص، جلدته مائة وستين"[3]. وفي حديث آخر نقله الشّيخ الصدوق في كتاب "الأمالي" عن الإمام جعفر الصَّادق(ع) قال: "إنَّ رضا النّاس لا يُملك، وألسنتهم لا تضبط... ألم ينسبوا داود إلى أنّه تبع الطّير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، وأنه قدَّم زوجها أمام التّابوت حتى قُتِل ثم تزوَّج بها؟![4]
وهكذا نصل إلى نهاية المطاف في القصة القرآنيَّة، لنجد فيها الحقيقة الواضحة، بأنّ ما حدث كان اختباراً وامتحاناً للنبيّ داود من قِبَل الله، من أجل أن يسدِّده في القضاء، ويحذِّره من كلِّ الأجواء التي قد تبتعد به عن الدقَّة في رسم الحكم وفي شكله، مما لا ينافي الحكم بالحقِّ والعصمة في الأخذ بالصَّواب في مجلس القضاء. وقد تحدَّثنا كثيراً عن ألطاف الله برسله في تربيتهم وتثبيتهم وأخذهم بأسباب العصمة من الخطأ ومن الانحراف، ليكونوا القدوة للنّاس، والقادة لهم في الهداية والإرشاد. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] عيون أخبار الرّضا، الشّيخ الصّدوق، ج1، ص 172.
[2] تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطّبرسي، ج 8، ص 354.
[3] تفسير الرازي، الرازي، ج 26، ص 192.
[4] الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص 164.