إبراهيم(ع) يتحدَّى قومه في عبادتهم الأصنام

إبراهيم(ع) يتحدَّى قومه في عبادتهم الأصنام

ونلتقي بإبراهيم(ع) في تجربةٍ جديدة، ومنطقٍ ناقد، وحركة تحدٍّ مع أبيه وقومه، في منطقٍ يوحي بالقوَّة، بالرّغم من ضعفه الاجتماعيّ أمامهم، لأنَّ روحيَّة الرِّسالة في مواجهة القوى المشركة المضادَّة، تمنحه صلابة الموقف وحدَّة المواجهة، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وهذا هو الَّذي يجعل من هذا النَّبيّ نموذجاً فريداً، ومثلاً حيّاً في أسلوبه القويّ الَّذي يختزن التّحدّي، ويوحي بالفكرة الحقَّة في معرض النَّقد لما يلتزم به الآخرون.

إبراهيم في مواجهة قومه

قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[1]، قالها لأبيه في موقفٍ يوحي بأنَّ الأبوَّة، مهما كانت تختزن في داخلها من الاحترام والهيبة، لا تمنع الولد من مواجهتها بالأسئلة الحاسمة في القضايا المتَّصلة بالعقيدة، لأنها تتجاوز كلَّ الانفعالات الشّعوريّة في العلاقات الإنسانيّة، لتتركَّز في دائرة القضايا المصيريَّة، ما يعني أنَّ الحواجز النّفسيَّة الّتي تضعها العادات والتّقاليد، لا تمثِّل حائلاً بين الإنسان والآخرين في ما يريد أن يؤكِّده من قضايا الفكر والحياة.

لذا، وقف إبراهيم أمام قومه الَّذين كانوا يملكون السّلطة الضَّاغطة على كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، وقف بكلّ شجاعة الموقف الرّساليّ الّذي يملك أن يطلق التحدّي، وأن يردَّه في عمليَّة الدَّعوة والهداية والدّفاع عن الحقّ، وقال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الحجريَّة الجامدة الَّتي تتعبَّدون لها في خشوعٍ وابتهال؟! وما دورها في حياتكم وحياة النّاس؟! وما هي الأسرار الكامنة في داخلها الّتي تميّزها عن الأحجار الأخرى؟! هل هو الشَّكل والصّورة أم ماذا؟ إنكم أنتم من صنعها، فلم تكن منـزلةً عليكم من الغيب، ولولاكم لما كان لها أيّة ميزة نوعيّة، فهل فكرتم في ذلك كلّه؟ وهل وعيتم معنى العبادة في العمق، ومستوى المسؤوليَّة المرعيَّة بين العابد والمعبود، فيما يمثّله المعبود من قوّةٍ مطلقةٍ في الخلق والهيمنة والنِّعم الشّاملة لكلِّ جوانب الحياة والموت؟! فهو الَّذي يملك الأمر كلَّه، فلا يملك أحدٌ منه ما يملكه منه، وهو الَّذي يكفي من كلِّ شيء ولا يكفي منه شيء، فماذا تملك هذه التَّماثيل من ذلك كلّه؟! وهل تستطيع أن تدفع عن نفسها الضَّرر القادم من أيِّ واحدٍ منّا إذا قام بتكسيرها وتحطيمها؟! هل تملكون تفسيراً لذلك، وبالتّالي، هل لديكم ما تدافعون به عن عقيدتكم هذه، ليكون ذلك مبرّراً لكم ولمن حولكم للسَّير في هذا الاتجاه؟

عبادة الأصنام وهمٌ وتخلّف

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}[2]، فهم الَّذين أعطوها القداسة والاحترام عندما عبدوها خاشعين، فقد رأيناهم يطلبون منها الرِّزق والولد والأمن، ولم نعرف لماذا يقدِّسونها ويحترمونها، وما هي مبرّرات ذلك كلِّه، وهم لم يشرحوا لنا شيئاً منه، بل كلّ ما هناك، أنّهم أمرونا بالطَّاعة فأطعنا، وبالعبادة فعبدنا، كما هو شأن الأولاد النّجباء مع آبائهم العقلاء، فليس لهم أن يعترضوا أو يناقشوا في ذلك.

فلم يكن هذا الأمر منطلقاً عندهم من وحيٍ منـزل، بل هي الأهواء العابثة الّتي تجعل من الوهم حقيقةً، ومن العبث قاعدةً، ومن الخرافة أساساً للحياة.

كما أنَّ التخلّف العقليّ والرّوحيّ والعمليّ الّذي يعيشه هؤلاء، هو ما يقودهم إلى الضَّلال فيما يلتزمون به وما يتحركون فيه من شؤون العبادة والحياة، ممّا يحوِّلونه في عقولهم ومشاعرهم إلى إرثٍ مقدَّس لا يحمل في داخله أيَّ شيء من معنى القداسة. ولكنَّه التَّقليد الأعمى الّذي يفرضه الآباء الجاهلون على الأبناء المتخلّفين، والضَّلال الواضح الّذي لا شبهة فيه ولا ارتياب.

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[3]، ما هي القيمة العلميَّة لهؤلاء الآباء؟ ومن أين انطلقوا في عبادتهم لهذه الأوثان؟ وإلى أية حجَّةٍ استندوا في تقديسها والخضوع لها؟ وما هي القاعدة الّتي حكمت اتّباعكم إيّاهم؟ وهل يمكن للنَّسب أن يمنح النّاس إرث العقيدة على طريقة إرث المال، ولا سيَّما أنَّ الجهل الّذي يطبق على عقولكم، هو نفسه الّذي كان يُطبق على عقولهم؟ وهل يمكن للجهل أن يعطي وعياً وعلماً للسّائرين في مواقعه؟ إنّه الضَّلال الّذي يدفع بكم إلى المتاهات الضَّائعة في مواقع الفراغ.

رفض الوثنيّة

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}[4]، فهم يتساءلون في تعجّبٍ واستنكارٍ لما صدر عنه من كلامٍ ضدَّهم وضدَّ أصنامهم، مما لم يسمعوه من أحدٍ من أفراد مجتمعهم من قبل، ولم يتصوَّروا صدوره عن شخصٍ يتكلَّم بالجدّيّة المتوازنة، كأنهم لا يصدِّقون جديّته، لأنّه كان المستبعَد عندهم أن يفكِّر هذا الفتى الّذي عاش في بيئة أب "عاقل" عابد لهذه الأوثان، وتربّى في أحضانه، بحيث ينبغي أن يكون قد تأثر به في فكره والتزامه، أن يفكّر بهذه الطريقة، ولذا أخذوا يصوغون اعتراضهم بصيغة الاستفهام الإنكاريّ أو التوبيخيّ، ليقوده ذلك إلى التّراجع من دون إحراج، ليعتذر إليهم بأنَّ ما قاله كان من خلال الأخذ بأسلوب العبث واللّعب.

{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}[5]، في موقف تأكيد رفضه للأصنام من موقع الجديّة الفكريّة الّتي تصل إلى مستوى الحقيقة عنده، بحيث يشهد بها كما لو كانت محسوسةً لديه عياناً، أو كما لو كان شاهداً عليها من صميم الوجدان، فهو لا يرى إلهاً له ولقومه وللناس وللكون كلّه في السّماوات والأرض، إلا الله الواحد الّذي خلقهم من العدم بقدرته المطلقة الّتي لا تقف عند حدٍّ معيّن، فكيف يمكن أن يدَّعي أحد غيره الألوهيَّة، ولا سيَّما إذا كان ذلك في صورة هذه الأحجار الصمَّاء الّتي حوّلوها ـ بالفنّ البشريّ ـ إلى تماثيل منحوتة من دون أيِّ معنى تختزنه في داخلها؟

لذلك، فقد واجههم بطريقةٍ حاسمةٍ بالحكم بضلال موقفهم، وأعلن لهم الحقيقة السّاطعة بتأكيد التّوحيد الإلهيّ، الَّذي تمتدّ قدرته وتفيض ألطافه على الكون كلِّه والإنسان كلِّه، ما يفرض عليهم أن يتحرَّروا من تخلّفهم الجاهل، ويستنطقوا فطرتهم الصَّافية التي لا يجدون في إيحاءاتها إلا الله الواحد؛ خالق السَّماوات والأرض، ومبدع الإنسان، وموجد الكون كلّه في نظامه وقوانينه الحكيمة البديعة.

وتتعاظم الثّورة في نفسه، فيلجأ إلى الأسلوب القويّ الّذي يتميَّز بالعنف، في عمليَّة إثارةٍ للوضع الّذي يخضع فيه قومه لهذه العبادة الوثنيَّة، ليثبت لهم سخف التزامهم بهذه الأوثان، وذلك في حركة حسّيَّة تصدم أفكارهم، حتى يفقدوا معها التَّوازن، ويغيبوا عن الوعي أمام الصَّدمة القويَّة الّتي لا يعرفون كيف يجيبون عن نتائجها غير المعقولة.

تحطيم الأصنام

وهكذا، عزم على الكيد للأصنام في عمليَّة تحطيمٍ وتكسير، {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم}[6]، في تدبيرٍ خفيٍّ محكَمٍ، يستهدف وجودها واحترامها وقداستها بالتَّكسير والتَّحطيم، لأنَّ من الضّروريّ أن تواجَهَ العقيدة الضّالّة المتخلّفة بالتّحليل الفكريّ المضادّ الّذي يفسح المجال للقناعة الإيمانيّة بأن تنطلق من مواقع الفكر، وأن تواجَه أيضاً بالتَّحطيم العمليّ الّذي يدمِّر هيبتها واحترامها في النّفوس، ليراها الناس ـ على الطبيعة ـ مجرَّد أحجارٍ جامدة، لا تملك أن تدفع عن نفسها ضرّاً، ولا تجلب لها نفعاً.

وهكذا كانت أفكاره تتَّجه إلى الخطَّة الخفيَّة الَّتي تهدف إلى تحطيم هذه الأوثان، لإثارة الجدل الفكريّ الّذي يقودهم إلى التَّفكير في الموضوع من موقعٍ جديد.

وكان عقله يتحرَّك في أكثر من اتّجاه، في محاولةٍ لاكتشاف الأسلوب المتحرّك الّذي يستطيع من خلاله اقتحام التحجّر الفكريّ الّذي يعيشون فيه، فراح يخاطبهم في مناجاة ذاتيَّة، ويقسم لهم إنّه في مناجاته الذّاتيّة سوف يدمِّر هذه الأصنام، في خطّةٍ دقيقةٍ لا يملكون معها الوقوف أمامها على صعيد الفكر والواقع. {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[7]، فيخلو الجوّ له في التحرك بحرّية فيما يريد أن يقوم به.

وذهب القوم إلى أعمالهم، وبقي إبراهيم هناك في بيت الأصنام، أو أنّه عاد إليها خِلسةً من دون أن يشعر به أحد، وتوجَّه إليها مكسِّراً محطِّماً، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً}، أي قطعاً مكسورة، والجذّ هو كسر الشَّيء وتفتيته، {إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ}، وهو الصَّنم الأكبر، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}[8]، في إيحاءٍ خفيٍّ بأنّه هو الّذي صنع ذلك، على أساس ما يعتقدونه فيه من سرّ القدرة الّتي تخوّله القيام بما يشاء، كما يصنع الإله في حركة الحياة، فقد يفكِّرون بهذه الطَّريقة، فيرجعون إلى الصَّنم الأكبر ليسألوه، فلا يملك لهم جواباً، فيدفعهم ذلك إلى إعادة التّفكير في العقيدة الوثنيَّة، أو إلى الرّجوع إلى إبراهيم(ع)، ليتَّهموه ويناقشوه، فيكون ذلك وسيلةً لإثارة الحديث معهم حول سلبيَّات المسألة، أو لعلَّهم يرجعون إلى الله بالعبادة، عندما يكتشفون ـ بالفطرة السّليمة ـ أنَّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهةً. ولعلَّ الأوّل هو الأقرب، لأنَّ الظّاهر من كلام إبراهيم، أنَّ هدفه كان أن يوحي إليهم باتّهام الصَّنم الأكبر، ليقودهم ذلك إلى الصَّدمة الفكريَّة الّتي تهزُّ قناعاتهم حول الموضوع.

إبراهيم في مواجهة قومه

وجاؤوا إلى المعبد ليمارسوا طقوس العبادة المألوفة لديهم، واكتشفوا طبيعة الحدث، وثارت بهم الحميَّة، وأقبلوا عليه من كلِّ مكان، بعد أن شاع خبر الاعتداء على الآلهة، وبدأوا يتساءلون فيما بينهم لاكتشاف المعتدي الَّذي تجرّأ على المقدَّسات. {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[9]، وأيّ ظلمٍ أعظم من أن يسيء إنسان إلى مقام الآلهة المقدَّسة، الَّتي تملك حقّ التّعظيم والاحترام على الجميع، وتمثّل الكرامة الاجتماعية للناس كلّهم؟! فلا بدَّ من اكتشافه لينال الجزاء العادل عن جريمته.

{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[10]، فهو الوحيد بيننا الَّذي يرفض عبادتها ولا يؤمن بها، ويرمي الَّذين يعبدونها بالضَّلال والتخلّف، ويسيء في كلامه ونظرته إليها، فهو المؤهَّل للقيام بمثل هذا العمل الشَّنيع، وإليه يجب توجيه الاتهام. {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ}، وأحضروه إلى الاجتماع الجماهيريّ العلني الّذي يشهده الجميع، {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}[11]، بما سمعوه منه، فيحرجونه بذلك، فيعترف بما فعله أمامهم، فيقرِّرون عقابه في محاكمة عادلة. {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[12]، إنّنا نوجِّه الاتهام إليك، لأنَّك الوحيد من بيننا الَّذي لا تعبد الأصنام، ما يجعلك في الموقع الطَّبيعيّ للاتهام، لأنَّ الّذي يعبد الأصنام لا يمكن أن يسيء إليها، لأنّه يخاف من نتائج ذلك على نفسه وأهله.

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، فهو الوحيد الَّذي بقي سالماً من هؤلاء، ما يوحي بأنَّه هو الّذي قام بالعدوان عليهم، إذ يختلف معهم من خلال ما يفرضه عامل الكِبَر من العظمة والقوَّة المؤهّلة لإسقاط قوّة الباقين، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}[13]، فهم الَّذين يجب أن يوجَّه إليهم السّؤال، لأنّهم هم الَّذين كانوا محلاً للاعتداء، وهم الأعرف بالمعتدي، فوجّهوا إليهم السّؤال إن كانوا يملكون منطقاً للجواب؟!

إنَّه يريد أن يصدم عقيدتهم بالحقيقة الدّامغة، ولكنّهم لم يكونوا يريدون أن يفكّروا في نتائجها السلبيّة على العقيدة، ليقودهم ذلك إلى التفكير من جديد، وإلى القبول بإدارة الحوار حولها.

إحراج القوم

وعلى ضوء هذا، فإنَّ إبراهيم(ع) لم يكذب في كلامه باتهام الصَّنم الكبير، لأنّه لم يقصد الحكاية عن الواقع، بل قصد التَّمهيد لإظهار الحقيقة، للوصول إلى النّتائج الإيجابيَّة في خطِّ الدَّعوة.

وربما ورد في بعض الرّوايات، أنَّ كلمة: {إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}، راجعة إلى قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، أي أنَّ الكبير هو الذي فعله، إن كان الأصنام الصّغار ينطقون، فإذا لم ينطقوا فلم يفعله كبيرهم.

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}، وفكّروا في المسألة، وفي هذا العجز الَّذي بدا في عدم قدرة التّماثيل على الدّفاع عن نفسها، أو النّطق لتقدّم الجواب عن السّؤال المطروح عليها، {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}[14]، قالها كلّ واحدٍ لنفسه، لأنّه ظلم نفسه بهذه العقيدة الضّالة المتخلّفة الّتي لا معنى لها ولا مبرّر إلا التّقليد الأعمى للآباء، أو قالها كلّ واحدٍ للآخر في عمليّة اعتراف مباشر بذلك.

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ}، من خلال إحساسهم بالعجز عن مواجهة إبراهيم في اتّهامه للصَّنم الكبير بالعدوان، لأنَّ ذلك يكشف زيف عبادتهم لها، ولكنَّهم لا يملكون التراجع عنها ـ بفعل العصبيّة ـ بل أصرّوا على الخطأ، فمضوا يواجهونه بأنَّ ما طلبه من توجيه السّؤال إلى الأصنام لا معنى له، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}[15]، فكيف يوجّه السّؤال إليهم؟ وكيف نوجّه الاتهام في ذلك إلى الصَّنم الكبير الَّذي لا يحسّ ولا يعقل ولا ينطق؟ فإنَّ ذلك يعني أنك أنت الذي حطّمت الأصنام.

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ}[16]، هؤلاء لا يملكون الوعي ولا النّطق ولا القوّة، فكيف يمكن أن يكونوا آلهةً تعبدونها من دون الله، وهم لا يملكون أدنى صفات المخلوق الحيّ؟!

{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، إنَّ ذلك يدعو إلى التأفّف النّفسيّ الّذي يشعر الإنسان معه بالضّيق، نتيجة ما يعيشه النّاس من ضلال وتخلّف وضياع، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[17]، ألم تحكّموا عقولكم فيما تلتزمونه في شؤون العقيدة من الباطل والضّلال؟

معجزة إلهيّة

ولكنَّهم لم يطيقوا هذا الموقف العقلانيّ الّذي وقفه إبراهيم معهم، ولم يملكوا أيّة حجّة في مواجهته، وخافوا أن يؤدّي موقفه المتحدّي لهم، ومنطقه الّذي كشف زيف دعواهم، إلى أن يتأثّر النّاس بما قاله، ولا سيَّما البسطاء منهم، الَّذين يتأثّرون بالكلام الطيِّب النابع من الفطرة، فقرَّروا أن يتخلَّصوا منه بطريقة وحشيَّة، وذلك بإحراقه حيّاً، ليستريحوا من التحدّي الكبير الذي قد يُبطل عقائدهم، ويعطّل أوضاعهم، ويسيء إلى أوثانهم، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[18]، فقد ثبت من أجواء كلامه أنَّه هو الفاعل، فيستحقّ الإحراق بالنّار الّذي هو جزاء المعتدين على الآلهة، فإنَّ ذلك هو المظهر الطّبيعيّ لنصرة الآلهة، ما يمنع كلَّ المعتدين من فعل ذلك في المستقبل.

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[19]، فقد ألقوه في النَّار إنفاذاً لحكم الإحراق الصَّادر عن كبارهم، ولكنَّ الله سبحانه ـ بقدرته ـ برّد النّار التي ألقي فيها، وجعلها برداً وسلاماً عليه، فلم تضرّه شيئاً. ولكن كيف كان ذلك؟ كيف عزلها الله عن التّأثير في جسد إبراهيم؟ هل من خلال إيجاد طبقةٍ عازلةٍ بينها وبين جسده، أو بتبريد النّار أو بغير ذلك؟

إنّنا لا نملك الجواب عن ذلك، لأنَّ المسألة من مسائل الإعجاز الإلهيّ الّتي اختصّ الله بعلمها، مما يتمثَّل فيها من روابط التأثير، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً}، من خلال اتّهامه بما حدث، ومن ثمّ إصدار الحكم عليه وتنفيذه بأن يقتلوه حرقاً، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[20]، وكان ذلك موجباً لإيمان النّاس بهذا الفتى الّذي يتصرَّف بطريقة عقلانيّة تجلب انتباه النّاس إليه وإلى كلماته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 52].

[2]  [الأنبياء: 53].

[3]  [الأنبياء: 54].

[4]  [الأنبياء: 55].

[5]  [الأنبياء: 56].

[6]  [الأنبياء: 57].

[7]  [الأنبياء: 57].

[8]  [الأنبياء: 58].

[9]  [الأنبياء: 59].

[10]  [الأنبياء: 60].

[11]  [الأنبياء: 61].

[12]  [الأنبياء: 62].

[13]  [الأنبياء: 63].

[14]  [الأنبياء: 64].

[15]  [الأنبياء: 65].

[16]  [الأنبياء: 66].

[17]  [الأنبياء: 67].

[18]  [الأنبياء: 68].

[19]  [الأنبياء: 69].

[20]  [الأنبياء: 70].


ونلتقي بإبراهيم(ع) في تجربةٍ جديدة، ومنطقٍ ناقد، وحركة تحدٍّ مع أبيه وقومه، في منطقٍ يوحي بالقوَّة، بالرّغم من ضعفه الاجتماعيّ أمامهم، لأنَّ روحيَّة الرِّسالة في مواجهة القوى المشركة المضادَّة، تمنحه صلابة الموقف وحدَّة المواجهة، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وهذا هو الَّذي يجعل من هذا النَّبيّ نموذجاً فريداً، ومثلاً حيّاً في أسلوبه القويّ الَّذي يختزن التّحدّي، ويوحي بالفكرة الحقَّة في معرض النَّقد لما يلتزم به الآخرون.

إبراهيم في مواجهة قومه

قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[1]، قالها لأبيه في موقفٍ يوحي بأنَّ الأبوَّة، مهما كانت تختزن في داخلها من الاحترام والهيبة، لا تمنع الولد من مواجهتها بالأسئلة الحاسمة في القضايا المتَّصلة بالعقيدة، لأنها تتجاوز كلَّ الانفعالات الشّعوريّة في العلاقات الإنسانيّة، لتتركَّز في دائرة القضايا المصيريَّة، ما يعني أنَّ الحواجز النّفسيَّة الّتي تضعها العادات والتّقاليد، لا تمثِّل حائلاً بين الإنسان والآخرين في ما يريد أن يؤكِّده من قضايا الفكر والحياة.

لذا، وقف إبراهيم أمام قومه الَّذين كانوا يملكون السّلطة الضَّاغطة على كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، وقف بكلّ شجاعة الموقف الرّساليّ الّذي يملك أن يطلق التحدّي، وأن يردَّه في عمليَّة الدَّعوة والهداية والدّفاع عن الحقّ، وقال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الحجريَّة الجامدة الَّتي تتعبَّدون لها في خشوعٍ وابتهال؟! وما دورها في حياتكم وحياة النّاس؟! وما هي الأسرار الكامنة في داخلها الّتي تميّزها عن الأحجار الأخرى؟! هل هو الشَّكل والصّورة أم ماذا؟ إنكم أنتم من صنعها، فلم تكن منـزلةً عليكم من الغيب، ولولاكم لما كان لها أيّة ميزة نوعيّة، فهل فكرتم في ذلك كلّه؟ وهل وعيتم معنى العبادة في العمق، ومستوى المسؤوليَّة المرعيَّة بين العابد والمعبود، فيما يمثّله المعبود من قوّةٍ مطلقةٍ في الخلق والهيمنة والنِّعم الشّاملة لكلِّ جوانب الحياة والموت؟! فهو الَّذي يملك الأمر كلَّه، فلا يملك أحدٌ منه ما يملكه منه، وهو الَّذي يكفي من كلِّ شيء ولا يكفي منه شيء، فماذا تملك هذه التَّماثيل من ذلك كلّه؟! وهل تستطيع أن تدفع عن نفسها الضَّرر القادم من أيِّ واحدٍ منّا إذا قام بتكسيرها وتحطيمها؟! هل تملكون تفسيراً لذلك، وبالتّالي، هل لديكم ما تدافعون به عن عقيدتكم هذه، ليكون ذلك مبرّراً لكم ولمن حولكم للسَّير في هذا الاتجاه؟

عبادة الأصنام وهمٌ وتخلّف

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}[2]، فهم الَّذين أعطوها القداسة والاحترام عندما عبدوها خاشعين، فقد رأيناهم يطلبون منها الرِّزق والولد والأمن، ولم نعرف لماذا يقدِّسونها ويحترمونها، وما هي مبرّرات ذلك كلِّه، وهم لم يشرحوا لنا شيئاً منه، بل كلّ ما هناك، أنّهم أمرونا بالطَّاعة فأطعنا، وبالعبادة فعبدنا، كما هو شأن الأولاد النّجباء مع آبائهم العقلاء، فليس لهم أن يعترضوا أو يناقشوا في ذلك.

فلم يكن هذا الأمر منطلقاً عندهم من وحيٍ منـزل، بل هي الأهواء العابثة الّتي تجعل من الوهم حقيقةً، ومن العبث قاعدةً، ومن الخرافة أساساً للحياة.

كما أنَّ التخلّف العقليّ والرّوحيّ والعمليّ الّذي يعيشه هؤلاء، هو ما يقودهم إلى الضَّلال فيما يلتزمون به وما يتحركون فيه من شؤون العبادة والحياة، ممّا يحوِّلونه في عقولهم ومشاعرهم إلى إرثٍ مقدَّس لا يحمل في داخله أيَّ شيء من معنى القداسة. ولكنَّه التَّقليد الأعمى الّذي يفرضه الآباء الجاهلون على الأبناء المتخلّفين، والضَّلال الواضح الّذي لا شبهة فيه ولا ارتياب.

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[3]، ما هي القيمة العلميَّة لهؤلاء الآباء؟ ومن أين انطلقوا في عبادتهم لهذه الأوثان؟ وإلى أية حجَّةٍ استندوا في تقديسها والخضوع لها؟ وما هي القاعدة الّتي حكمت اتّباعكم إيّاهم؟ وهل يمكن للنَّسب أن يمنح النّاس إرث العقيدة على طريقة إرث المال، ولا سيَّما أنَّ الجهل الّذي يطبق على عقولكم، هو نفسه الّذي كان يُطبق على عقولهم؟ وهل يمكن للجهل أن يعطي وعياً وعلماً للسّائرين في مواقعه؟ إنّه الضَّلال الّذي يدفع بكم إلى المتاهات الضَّائعة في مواقع الفراغ.

رفض الوثنيّة

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}[4]، فهم يتساءلون في تعجّبٍ واستنكارٍ لما صدر عنه من كلامٍ ضدَّهم وضدَّ أصنامهم، مما لم يسمعوه من أحدٍ من أفراد مجتمعهم من قبل، ولم يتصوَّروا صدوره عن شخصٍ يتكلَّم بالجدّيّة المتوازنة، كأنهم لا يصدِّقون جديّته، لأنّه كان المستبعَد عندهم أن يفكِّر هذا الفتى الّذي عاش في بيئة أب "عاقل" عابد لهذه الأوثان، وتربّى في أحضانه، بحيث ينبغي أن يكون قد تأثر به في فكره والتزامه، أن يفكّر بهذه الطريقة، ولذا أخذوا يصوغون اعتراضهم بصيغة الاستفهام الإنكاريّ أو التوبيخيّ، ليقوده ذلك إلى التّراجع من دون إحراج، ليعتذر إليهم بأنَّ ما قاله كان من خلال الأخذ بأسلوب العبث واللّعب.

{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}[5]، في موقف تأكيد رفضه للأصنام من موقع الجديّة الفكريّة الّتي تصل إلى مستوى الحقيقة عنده، بحيث يشهد بها كما لو كانت محسوسةً لديه عياناً، أو كما لو كان شاهداً عليها من صميم الوجدان، فهو لا يرى إلهاً له ولقومه وللناس وللكون كلّه في السّماوات والأرض، إلا الله الواحد الّذي خلقهم من العدم بقدرته المطلقة الّتي لا تقف عند حدٍّ معيّن، فكيف يمكن أن يدَّعي أحد غيره الألوهيَّة، ولا سيَّما إذا كان ذلك في صورة هذه الأحجار الصمَّاء الّتي حوّلوها ـ بالفنّ البشريّ ـ إلى تماثيل منحوتة من دون أيِّ معنى تختزنه في داخلها؟

لذلك، فقد واجههم بطريقةٍ حاسمةٍ بالحكم بضلال موقفهم، وأعلن لهم الحقيقة السّاطعة بتأكيد التّوحيد الإلهيّ، الَّذي تمتدّ قدرته وتفيض ألطافه على الكون كلِّه والإنسان كلِّه، ما يفرض عليهم أن يتحرَّروا من تخلّفهم الجاهل، ويستنطقوا فطرتهم الصَّافية التي لا يجدون في إيحاءاتها إلا الله الواحد؛ خالق السَّماوات والأرض، ومبدع الإنسان، وموجد الكون كلّه في نظامه وقوانينه الحكيمة البديعة.

وتتعاظم الثّورة في نفسه، فيلجأ إلى الأسلوب القويّ الّذي يتميَّز بالعنف، في عمليَّة إثارةٍ للوضع الّذي يخضع فيه قومه لهذه العبادة الوثنيَّة، ليثبت لهم سخف التزامهم بهذه الأوثان، وذلك في حركة حسّيَّة تصدم أفكارهم، حتى يفقدوا معها التَّوازن، ويغيبوا عن الوعي أمام الصَّدمة القويَّة الّتي لا يعرفون كيف يجيبون عن نتائجها غير المعقولة.

تحطيم الأصنام

وهكذا، عزم على الكيد للأصنام في عمليَّة تحطيمٍ وتكسير، {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم}[6]، في تدبيرٍ خفيٍّ محكَمٍ، يستهدف وجودها واحترامها وقداستها بالتَّكسير والتَّحطيم، لأنَّ من الضّروريّ أن تواجَهَ العقيدة الضّالّة المتخلّفة بالتّحليل الفكريّ المضادّ الّذي يفسح المجال للقناعة الإيمانيّة بأن تنطلق من مواقع الفكر، وأن تواجَه أيضاً بالتَّحطيم العمليّ الّذي يدمِّر هيبتها واحترامها في النّفوس، ليراها الناس ـ على الطبيعة ـ مجرَّد أحجارٍ جامدة، لا تملك أن تدفع عن نفسها ضرّاً، ولا تجلب لها نفعاً.

وهكذا كانت أفكاره تتَّجه إلى الخطَّة الخفيَّة الَّتي تهدف إلى تحطيم هذه الأوثان، لإثارة الجدل الفكريّ الّذي يقودهم إلى التَّفكير في الموضوع من موقعٍ جديد.

وكان عقله يتحرَّك في أكثر من اتّجاه، في محاولةٍ لاكتشاف الأسلوب المتحرّك الّذي يستطيع من خلاله اقتحام التحجّر الفكريّ الّذي يعيشون فيه، فراح يخاطبهم في مناجاة ذاتيَّة، ويقسم لهم إنّه في مناجاته الذّاتيّة سوف يدمِّر هذه الأصنام، في خطّةٍ دقيقةٍ لا يملكون معها الوقوف أمامها على صعيد الفكر والواقع. {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[7]، فيخلو الجوّ له في التحرك بحرّية فيما يريد أن يقوم به.

وذهب القوم إلى أعمالهم، وبقي إبراهيم هناك في بيت الأصنام، أو أنّه عاد إليها خِلسةً من دون أن يشعر به أحد، وتوجَّه إليها مكسِّراً محطِّماً، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً}، أي قطعاً مكسورة، والجذّ هو كسر الشَّيء وتفتيته، {إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ}، وهو الصَّنم الأكبر، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}[8]، في إيحاءٍ خفيٍّ بأنّه هو الّذي صنع ذلك، على أساس ما يعتقدونه فيه من سرّ القدرة الّتي تخوّله القيام بما يشاء، كما يصنع الإله في حركة الحياة، فقد يفكِّرون بهذه الطَّريقة، فيرجعون إلى الصَّنم الأكبر ليسألوه، فلا يملك لهم جواباً، فيدفعهم ذلك إلى إعادة التّفكير في العقيدة الوثنيَّة، أو إلى الرّجوع إلى إبراهيم(ع)، ليتَّهموه ويناقشوه، فيكون ذلك وسيلةً لإثارة الحديث معهم حول سلبيَّات المسألة، أو لعلَّهم يرجعون إلى الله بالعبادة، عندما يكتشفون ـ بالفطرة السّليمة ـ أنَّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهةً. ولعلَّ الأوّل هو الأقرب، لأنَّ الظّاهر من كلام إبراهيم، أنَّ هدفه كان أن يوحي إليهم باتّهام الصَّنم الأكبر، ليقودهم ذلك إلى الصَّدمة الفكريَّة الّتي تهزُّ قناعاتهم حول الموضوع.

إبراهيم في مواجهة قومه

وجاؤوا إلى المعبد ليمارسوا طقوس العبادة المألوفة لديهم، واكتشفوا طبيعة الحدث، وثارت بهم الحميَّة، وأقبلوا عليه من كلِّ مكان، بعد أن شاع خبر الاعتداء على الآلهة، وبدأوا يتساءلون فيما بينهم لاكتشاف المعتدي الَّذي تجرّأ على المقدَّسات. {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[9]، وأيّ ظلمٍ أعظم من أن يسيء إنسان إلى مقام الآلهة المقدَّسة، الَّتي تملك حقّ التّعظيم والاحترام على الجميع، وتمثّل الكرامة الاجتماعية للناس كلّهم؟! فلا بدَّ من اكتشافه لينال الجزاء العادل عن جريمته.

{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[10]، فهو الوحيد بيننا الَّذي يرفض عبادتها ولا يؤمن بها، ويرمي الَّذين يعبدونها بالضَّلال والتخلّف، ويسيء في كلامه ونظرته إليها، فهو المؤهَّل للقيام بمثل هذا العمل الشَّنيع، وإليه يجب توجيه الاتهام. {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ}، وأحضروه إلى الاجتماع الجماهيريّ العلني الّذي يشهده الجميع، {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}[11]، بما سمعوه منه، فيحرجونه بذلك، فيعترف بما فعله أمامهم، فيقرِّرون عقابه في محاكمة عادلة. {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[12]، إنّنا نوجِّه الاتهام إليك، لأنَّك الوحيد من بيننا الَّذي لا تعبد الأصنام، ما يجعلك في الموقع الطَّبيعيّ للاتهام، لأنَّ الّذي يعبد الأصنام لا يمكن أن يسيء إليها، لأنّه يخاف من نتائج ذلك على نفسه وأهله.

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، فهو الوحيد الَّذي بقي سالماً من هؤلاء، ما يوحي بأنَّه هو الّذي قام بالعدوان عليهم، إذ يختلف معهم من خلال ما يفرضه عامل الكِبَر من العظمة والقوَّة المؤهّلة لإسقاط قوّة الباقين، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}[13]، فهم الَّذين يجب أن يوجَّه إليهم السّؤال، لأنّهم هم الَّذين كانوا محلاً للاعتداء، وهم الأعرف بالمعتدي، فوجّهوا إليهم السّؤال إن كانوا يملكون منطقاً للجواب؟!

إنَّه يريد أن يصدم عقيدتهم بالحقيقة الدّامغة، ولكنّهم لم يكونوا يريدون أن يفكّروا في نتائجها السلبيّة على العقيدة، ليقودهم ذلك إلى التفكير من جديد، وإلى القبول بإدارة الحوار حولها.

إحراج القوم

وعلى ضوء هذا، فإنَّ إبراهيم(ع) لم يكذب في كلامه باتهام الصَّنم الكبير، لأنّه لم يقصد الحكاية عن الواقع، بل قصد التَّمهيد لإظهار الحقيقة، للوصول إلى النّتائج الإيجابيَّة في خطِّ الدَّعوة.

وربما ورد في بعض الرّوايات، أنَّ كلمة: {إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}، راجعة إلى قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، أي أنَّ الكبير هو الذي فعله، إن كان الأصنام الصّغار ينطقون، فإذا لم ينطقوا فلم يفعله كبيرهم.

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}، وفكّروا في المسألة، وفي هذا العجز الَّذي بدا في عدم قدرة التّماثيل على الدّفاع عن نفسها، أو النّطق لتقدّم الجواب عن السّؤال المطروح عليها، {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}[14]، قالها كلّ واحدٍ لنفسه، لأنّه ظلم نفسه بهذه العقيدة الضّالة المتخلّفة الّتي لا معنى لها ولا مبرّر إلا التّقليد الأعمى للآباء، أو قالها كلّ واحدٍ للآخر في عمليّة اعتراف مباشر بذلك.

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ}، من خلال إحساسهم بالعجز عن مواجهة إبراهيم في اتّهامه للصَّنم الكبير بالعدوان، لأنَّ ذلك يكشف زيف عبادتهم لها، ولكنَّهم لا يملكون التراجع عنها ـ بفعل العصبيّة ـ بل أصرّوا على الخطأ، فمضوا يواجهونه بأنَّ ما طلبه من توجيه السّؤال إلى الأصنام لا معنى له، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}[15]، فكيف يوجّه السّؤال إليهم؟ وكيف نوجّه الاتهام في ذلك إلى الصَّنم الكبير الَّذي لا يحسّ ولا يعقل ولا ينطق؟ فإنَّ ذلك يعني أنك أنت الذي حطّمت الأصنام.

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ}[16]، هؤلاء لا يملكون الوعي ولا النّطق ولا القوّة، فكيف يمكن أن يكونوا آلهةً تعبدونها من دون الله، وهم لا يملكون أدنى صفات المخلوق الحيّ؟!

{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، إنَّ ذلك يدعو إلى التأفّف النّفسيّ الّذي يشعر الإنسان معه بالضّيق، نتيجة ما يعيشه النّاس من ضلال وتخلّف وضياع، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[17]، ألم تحكّموا عقولكم فيما تلتزمونه في شؤون العقيدة من الباطل والضّلال؟

معجزة إلهيّة

ولكنَّهم لم يطيقوا هذا الموقف العقلانيّ الّذي وقفه إبراهيم معهم، ولم يملكوا أيّة حجّة في مواجهته، وخافوا أن يؤدّي موقفه المتحدّي لهم، ومنطقه الّذي كشف زيف دعواهم، إلى أن يتأثّر النّاس بما قاله، ولا سيَّما البسطاء منهم، الَّذين يتأثّرون بالكلام الطيِّب النابع من الفطرة، فقرَّروا أن يتخلَّصوا منه بطريقة وحشيَّة، وذلك بإحراقه حيّاً، ليستريحوا من التحدّي الكبير الذي قد يُبطل عقائدهم، ويعطّل أوضاعهم، ويسيء إلى أوثانهم، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[18]، فقد ثبت من أجواء كلامه أنَّه هو الفاعل، فيستحقّ الإحراق بالنّار الّذي هو جزاء المعتدين على الآلهة، فإنَّ ذلك هو المظهر الطّبيعيّ لنصرة الآلهة، ما يمنع كلَّ المعتدين من فعل ذلك في المستقبل.

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[19]، فقد ألقوه في النَّار إنفاذاً لحكم الإحراق الصَّادر عن كبارهم، ولكنَّ الله سبحانه ـ بقدرته ـ برّد النّار التي ألقي فيها، وجعلها برداً وسلاماً عليه، فلم تضرّه شيئاً. ولكن كيف كان ذلك؟ كيف عزلها الله عن التّأثير في جسد إبراهيم؟ هل من خلال إيجاد طبقةٍ عازلةٍ بينها وبين جسده، أو بتبريد النّار أو بغير ذلك؟

إنّنا لا نملك الجواب عن ذلك، لأنَّ المسألة من مسائل الإعجاز الإلهيّ الّتي اختصّ الله بعلمها، مما يتمثَّل فيها من روابط التأثير، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً}، من خلال اتّهامه بما حدث، ومن ثمّ إصدار الحكم عليه وتنفيذه بأن يقتلوه حرقاً، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[20]، وكان ذلك موجباً لإيمان النّاس بهذا الفتى الّذي يتصرَّف بطريقة عقلانيّة تجلب انتباه النّاس إليه وإلى كلماته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [الأنبياء: 52].

[2]  [الأنبياء: 53].

[3]  [الأنبياء: 54].

[4]  [الأنبياء: 55].

[5]  [الأنبياء: 56].

[6]  [الأنبياء: 57].

[7]  [الأنبياء: 57].

[8]  [الأنبياء: 58].

[9]  [الأنبياء: 59].

[10]  [الأنبياء: 60].

[11]  [الأنبياء: 61].

[12]  [الأنبياء: 62].

[13]  [الأنبياء: 63].

[14]  [الأنبياء: 64].

[15]  [الأنبياء: 65].

[16]  [الأنبياء: 66].

[17]  [الأنبياء: 67].

[18]  [الأنبياء: 68].

[19]  [الأنبياء: 69].

[20]  [الأنبياء: 70].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية