أسلوب النبيّ إبراهيم(ع) في الحوار

أسلوب النبيّ إبراهيم(ع) في الحوار

استكمالاً لما تحدَّثنا عنه من سيرة النَّبيّ إبراهيم(ع) مع قومه، نتابع الحديث حول الأسلوب الَّذي اتَّبعه خليل الله إبراهيم(ع) في حواره مع قومه، وكيف كان يتحرَّك وعظه لهم في مسألة الإيمان.

الدَّعوة إلى التَّوحيد

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ـ أي وحِّدوه في العبادة في كلِّ مفرداتها ـ وَاتَّقُوهُ ـ راقبوه في كلِّ أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم، وتحمَّلوا المسؤوليَّة عنها، وأطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ـ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[1]، لأنَّ توحيد الله في العبادة، وتقواه في حركة الحياة، هما اللَّذان ينظِّمان للإنسان أموره، ويحرّكانه في الخطِّ المستقيم، ويوحِّدان له منهجه وغايته عندما ترتبط كلّ القضايا بالله، وتتَّجه كلّ الدّروب إليه.

وهذا ما يحترم فيه الإنسان عقله الّذي يفكِّر له في حسن الأشياء وقبحها وصحَّتها وفسادها، ولكنَّ المشكلة أنَّكم أهملتم العقل في أوضاعكم، وجمَّدتم تفكيركم عن اتّخاذ القرارات الَّتي تفتح لكم أبواب الخير، وهذا يتمثَّل بالخرافات الَّتي ورثتموها من آبائكم: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً}، من هذه الأصنام الحجريَّة المصنوعة، من دون أن يكون لها أيّ معنى في مسألة الألوهيَّة، وكيف تتركون الخضوع لله، والانفتاح عليه، والتعبّد لربوبيَّته، وتقبلون على الالتزام بها في ذهنيَّة متخلّفة متحجّرة لا تنبض بأيّة فكرة، ولا تنفتح على أيّ شعور، لأنَّ هذه الأصنام لا تختلف عن الأحجار المتناثرة في الأرض، أو الصّخور المنحوتة في الجبال؟ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}، من هذه الأكاذيب الَّتي تصنعونها وتدعون النَّاس إليها، وتخضعون لها في دعواتكم الخرافيَّة في الارتباط بالأحجار الصمَّاء، بمنحها صفة الآلهة، وبما تثيرونه حولها من أوهامٍ وقداساتٍ لا أساس لها.

والسّؤال الّذي يوجَّه إليكم، والّذي يقودكم إلى احترام عقولكم، هو: هل فكَّرتم في هذه الأصنام الّتي تعبدونها من دون الله تفكير عاقلٍ يملك استقامة الرّأي؟ وهل دخلتم في مقارنةٍ بينها وبين الله في قدرته وفي حاجاتكم إليه؟

ثم يطرح عليهم مسألة مهمَّة مثيرة للجدل حول ما يتطلّعون إليه في حياتهم من الحصول على الرّزق الّذي ينظّم لهم حاجاتهم، ويحقِّق لهم غاياتهم، فهل تملك هذه الأوثان في متابعتهم لها أن تمنحهم الرّزق الَّذي يطلبونه؟ {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً}، لأنَّهم لا يملكون في ذاتهم أيَّ شيء، ولا يستطيعون تحقيق أيِّ أمرٍ من الضّرّ والنّفع لأنفسهم، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فما معنى كلّ هذا التوجّه إليهم، والتوسّل بهم، والخضوع لهم في قضاء حاجاتكم وتوسعة أرزاقكم، مما هو بيد الله وأمره؛ خالق السَّماوات والأرض، الّذي يهيِّئ للإنسان كلَّ وسائل الرزق، ومنبت النبات، وخالق الحيوان الّذي جعله غذاءً للإنسان؟! إنّه هو الخالق للكون كلِّه، وهو المنعم على الإنسان بكلِّ النِّعم الصَّغيرة والكبيرة. أمّا هذه الأحجار، فهي مجرَّد أشلاءٍ متناثرةٍ يحطِّمها الآخرون، وليس لها من أمرها شيء.

{فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَـ فهو الرزّاق ذو القوَّة الكريم، وهو القادر على إنزال الرّزق إليكم ـ وَاعْبُدُوهُ ـ لأنّه ـ وحده ـ المستحقّ للعبادة، في ألوهيَّته المطلقة، وقدرته الشَّاملة، ورزقه الواسع ـ وَاشْكُرُوا لَهُ ـ لأنّه الرّبّ المنعم الّذي ترجع كلّ النِّعم إليه ـ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[2]، في يوم القيامة، لتواجهوا الحساب أمامه على أعمالكم، ما يفرض عليكم الارتباط به في حاجاتكم وعباداتكم وفي شكركم لنعمه، لأنَّ المسألة في غاية الخطورة على مستوى الوجود والمصير.

هذه هي الدَّعوة الّتي دعا إبراهيم(ع) قومه إلى الأخذ بها، من خلال أنّه رسول الله إليهم. ثم يقول لهم: {وَإِن تُكَذِّبُوا ـ بما جئتكم به، من دون أيّة حجَّة على التّكذيب، فلست أوَّل رسول كذَّبه قومه من دون برهان ـفَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ـ ولم يسقط الرّسول أمام ذلك، لأنَّ دوره هو البلاغ المبين ـ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[3]، فإذا استكمل بلاغ الرّسالة، فقد أدَّى مهمَّته وحصل على رضوان الله، لأنَّ مسألة الهداية الواقعيَّة لا تتَّصل بالرّسول وحده، بل تتَّصل بالنّاس وبالظّروف الموضوعيَّة والرّساليَّة المحيطة بالرّسول.

المعرفة الإيمانيَّة

ثم يثير أمامهم حقيقة الألوهيَّة في قدرتها على إبداع الحياة وإيقاع الموت، ما يفرض عليهم الانطلاق في المعرفة الإيمانيَّة المرتكزة على القدرة: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ـ أولم يروا في نظرتهم العلميَّة والبصريَّة، كيف يحصل إبداء الخلق ثم إعادته، باعتبارهما من سنخٍ واحدٍ في إيجاد ما لم يكن ـ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[4]، فهو الّذي أبدع الوجود كلّه، فلا يعجزه شيء من ذلك، لأنَّ من أوجد الحياة من عدم، قادر على بعثها بعد الموت، باعتبار أنَّ سرَّ إبداع الحياة واحد، فإذا انطلقتم في الفكرة من التجربة الحيَّة من خلال ما تشاهدونه من تنوّع الخلائق واختلافهم في ألوانهم وأشكالهم وطبائعهم من غير مثالٍ سابق، فإنَّ ذلك سيوحي إليكم بعظمة القدرة واتّساعها وشمولها، الأمر الَّذي يجعلكم تدركون أنَّ عمليّة الإعادة هي نتيجة طبيعيَّة، باعتبار أنَّها أقلّ صعوبةً من عمليَّة الإيجاد.

{ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]، لأنَّ قدرته على النَّشأة الأولى تفرض قدرته على النَّشأة الأخرى، كما جاء في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[6].

{يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[7]، أي تردّون إليه، فيحاسبكم على أعمالكم، فيعذِّب من يستحقّ العذاب، ويرحم من يستحقّ الرَّحمة، لئلا تكون الحياة عبثاً من دون نتيجةٍ أو غاية. {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء}، فأنتم خاضعون لحكمه فيما يقدِّره ويقضيه في الكون كلّه، فلا تستطيعون دفعاً لعذابه، ولا ردّاً لقضائه في الدّنيا والآخرة.

{وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[8]، لن يستطيع أحد أن يتولَّى أمركم من دون الله، بحيث تستغنون به عن الله أو يدافع عنكم، فينصركم مما يريد الله أن يوقعه بكم من العذاب.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ}، لم يؤمنوا بآيات الله، ولا بالرّجوع إليه في يوم القيامة، وتصرّفوا بذهنيَّة الغريزة لا بروحيَّة المسؤوليَّة، فعاثوا في الأرض فساداً، وابتعدوا عن خطِّ الصَّلاح والإصلاح، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}، لأنَّ رحمة الله لا تنال الجاحدين له والمعاندين لرسله، {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[9]، جزاءً على كفرهم وعنادهم.

والظّاهر أنَّ الخطاب موجَّه إلى النّبيّ ليبلغه لقومه، وليحذِّرهم نتائج موقفهم، وليس من كلام النّبيّ، وإلا لكان المناسب أن يقول: من رحمة الله.

والمراد بآيات الله هي الدَّلائل الدالّة على أصول العقيدة من التّوحيد والنبوّة، أمّا يأسهم من رحمة الله، وهي الجنَّة والمغفرة والرّضوان، فينطلق من جحودهم بالرّحمة الإلهيّة، أو من طبيعة قضاء الله بأنَّ رحمته لا تنال الكافرين.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِـ على هذه الدَّعوة الواعية التي تفتح الذّات على الله من خلال التأمّل العميق والنَّظرة الشّاملة ـ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، لأنّهم لا يملكون الردَّ المتوازن الّذي يناقش القضايا المطروحة بدقّةٍ وعمق، وذلك من خلال فقدانهم الحجَّة على تأكيد ما ينكرون أو ما يعتقدون به، الأمر الّذي يجعل موقفهم موقف الضَّعيف المهزوم الَّذي لا يمكنه الدّفاع بالأسلوب العقليّ، فيدافع عن موقفه بالطّريقة الغوغائيَّة العدوانيَّة بالتَّهديد والقوَّة.

{فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِـ بأن جعل النّار برداً وسلاماً عليه، وكان ذلك معجزةً إلهيّةً أكرم الله بها إبراهيم(ع) ـ  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[10]، لأنهم يرون فيها مظهر القدرة الإلهيَّة الّتي تحوّل النار إلى عنصر بارد لا يشعر الّذي يلقى فيها بالحرارة والاحتراق، مما ليس مألوفاً لدى النّاس في الأمور العاديّة، لأنّه من خوارق العادة.

أوهام الوثنيَّة

ويتابع القرآن حديث إبراهيم مع قومه في تفسيره للعلاقات الّتي تربط بينهم، والّتي تنطلق من توافقهم في أوهامهم الوثنيَّة، على أساس المودَّة العاطفيَّة الّتي تجذب الإنسان إلى الإنسان، فيخضع لما يفكِّر الآخر فيه من دون النّظر والتأمّل في هذا التّفكير. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[11]، فلم يكن اتخاذكم لها منطلقاً من اقتناعٍ فكريٍّ مبنيٍّ على حجّةٍ عقليّة، بل كان منطلقاً من علاقات المودَّة القائمة بينكم في الحياة الدنيا، من خلال القرابة أو الصَّداقة أو المصلحة، ما يجعل للألفة دورها الكبير، وللعاطفة أهميّتها العليا في تكوين العقائد والعادات والتّقاليد.

ثم تتَّسع المسألة، فتتحوَّل إلى عقيدة عامّة للأمَّة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات القرآنيَّة الأخرى التي ناقشت تقديس عقائد الآباء والأجداد، وذلك فيما حدَّثنا الله به عن إبراهيم(ع) في جواب قومه له: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}[12]، وفي قوله: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[13]. ولعلَّ هذا هو الَّذي جعل الكثير من الأمم تعتزّ بتراثها القوميّ، على أساس طبيعة الارتباط العاطفيّ بالأرض، واللّغة المشتركة التي ينتمي إليها هؤلاء، بحيث يكون لذلك أثرٌ في تقديس المضمون التراثي، بعيداً عمّا إذا كان حقّاً أو باطلاً.

هكذا أراد إبراهيم ـ النّبيّ ـ أن يؤكِّد لهم الأساس اللاعقلاني الّذي لا يملك أيَّ ثباتٍ في حركة الحقيقة فيما يركّزون عليه عقيدتهم وعبادتهم، ليدعوهم إلى تحكيم العقل في ذلك، لأنَّ العقيدة القائمة على المودَّة سوف تتبدَّل نتائجها إذا تبدَّلت المودّة وتحوَّلت إلى عداوة، ما يجعل كلّ فريق يلقي المسؤوليّة على الفريق الآخر.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ}[14]، عندما يكفر بكم هؤلاء الّذين اتخذتموهم آلهةً من دون الله، ويتبرّأون منكم، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}[15]، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً}، فتتراشقون اللّعن في النّار، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}[16]، فذلك هو الجزاء الإلهيّ للنّاس الّذين لا يملكون الحجَّة على العقيدة المنحرفة والعمل السيّئ، بل تكون الحجَّة لله عليهم. ويبقى للدّار الآخرة في جحيمها ونعيمها، دورها الكبير في إثارة الإحساس الإنسانيّ بالخوف من المصير الّذي يدفعه إلى الخروج من أجواء اللامبالاة التي تجمِّد إحساسه بالمسؤوليَّة، فتمنعه من الانفتاح على الرّسالة والرّسول.

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، ليكون داعيةً إلى الله ومرسلاً من قبله إلى قومه بأمر من الله.

هجرة إبراهيم(ع) إلى الله

{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[17]، والقائل هنا هو إبراهيم(ع)، الَّذي كانت علاقته بالله علاقة الخليل مع خليله، والحبيب مع حبيبه، فقد عاش مع الله في عقله وقلبه وشعوره، وذلك من خلال حضور الله معه في كلِّ حياته، لأنّه لم يكن له غيره. وقد جاء في قوله تعالى، فيما يشبه هذه الهجرة الروحيَّة الرساليَّة، وذلك في سورة الصّافّات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[18]، لأنَّ الله هو الّذي يملأ كيانه بالهداية التي تمتدّ معه في كلّ مسؤوليّاته التي كلّفه الله بها، ولذا كانت رحلته إليه وهجرته إلى مواقع القرب منه.

والهجرة إلى الله هي الخروج إلى الأرض الواسعة الّتي يملك فيها حريّة الحركة في عبادة الله، والدَّعوة إليه، والعمل في سبيله، بعيداً عن كلِّ الضّغوط الّتي تمنعه من ذلك، وعن الحلقة المفرغة التي كان يدور فيها من غير جدوى في دائرة قومه الضيِّقة.

والهجرة إلى الله شعار إيمانيّ يحمله المسلم في قلبه، ويحرّكه في حياته، ليكون نقطة الانطلاق إلى الانفتاح على المواقع الجديدة الَّتي يأمل فيها الحصول على القوَّة عندما تحاصره القوى المضادَّة في نقاط ضعفه المحيطة به، لتجمِّده عن كلّ حركة، ليستطيع من خلال ذلك العودة إلى السَّاحة من مركز قوّة، ليحوِّلها إلى ساحة إيمان، والعمل على توسعة آفاقه التي تقرّبه إلى الله والناس، وتقرّب الناس من الله، لأنَّ رسالته لا تقتصر على قومه، بل تشمل كلَّ الناس.

وهكذا رأينا أنَّ هجرة إبراهيم(ع) إلى الله كانت السَّبب في بنائه للبيت، ليكون مثابةً للنّاس وأمناً ومسجداً للطّائفين والقائمين والركَّع السجود، وانطلاقاً للحنيفيَّة الّتي دعا إليها في تلك المنطقة، مما قد لا يحصل في حال بقائه في دائرة قومه.

وقد نجد في إعلانه ذلك لقومه، إيحاءً إليهم باليقين الرّاسخ عنده بأنّه لن يضيع عندما يتركونه، ولن يذلَّ عندما يخذلونه، بل سيجد عند ربّه الهدى في حكمته ووحيه، وسيحصل على العزة في قوَّته وجبروته، لأنَّ ربّه ليس مجرّد فكرة تجريديّة يخلقها في داخل نفسه، كما يخلقون أصنامهم من خلال أوهامهم، بل هو حقيقة تهيمن على الكون كلّه وتدبّره وترعاه وترعى كلّ موجود فيه، ولن يستطيع أحد أن يرعاه كما يرعاه ربّه، أو يحميه كما يحميه الله، ولذلك، فإنّه مهاجر إليه بعد خذلان قومه له واضطهادهم إيّاه.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[19]، لا يذلّ من نصره، ولا يضيِّع من حفظه.

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، أي كرَّمنا إبراهيم(ع)، بأن جعلنا النبوَّة تمتدّ في أبنائه إسحاق ويعقوب، لما كان منه من تسليم قلبه لله، ومن صبرٍ على تحمّل أعباء الرّسالة، ولما حمله أولاده في قلوبهم من إيمانٍ وإسلامٍ لله، وفي سلوكهم من التزامٍ بأوامر الله ونواهيه، بحيث استحقّوا أن يكونوا موضعاً لكرامة الله، فخصَّهم بالنبوّة وإنزال الكتاب على أيديهم، فيما أنزله الله على أبيهم إبراهيم(ع) من الصّحف.

{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}، فيما أكرمه الله به من الكتاب المنـزل، وفي تخليد السَّلام عليه وعلى آله في رسالاته، ليكون ذلك ذكراً خالداً له في النّاس، ليذكروا روعة الإسلام لله في حياته، وعظمة الجهاد في رسالته، وصفاء التأمّل في حركة فكره، ووداعة المحبَّة في نقاء روحه. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[20]، الّذين ينالون كرامة الله في رضوانه وجنَّته، في المجتمع المتوازن الّذي يعيشون في داخله روحيّة صلاحهم، بعيداً عن الاختلاط بالمجتمع غير الصَّالح، فيما كانوا يعانونه من ضغطٍ وخوفٍ واضطهاد، فها هم في الجنّة مسرورون برضوان الله، منفتحون على بعضهم البعض في خيرٍ ولطفٍ ومحبّةٍ وأخوّة، لم يعرفوا طعمها الحلو في الدّنيا كما يعرفونه الآن.

ثم إنَّنا نلاحظ أنَّ الله يوحي إلينا بالحديث عن الأنبياء في اعتبارهم من الصَّالحين في الآخرة، أنَّ مجتمع الصالحين في الجنّة لا ينفصل فيه الأنبياء عن المؤمنين الصَّالحين، لأنه يتحدَّث في آيةٍ أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}[21]، ما يوحي بأنَّ الصَّلاح في الفكر والخطّ والعمل، هو العنوان الّذي يفتح للإنسان أبواب الجنّة، من خلال الرّسالة التي يحملها ويبلّغها أو يؤمن بها ويؤيِّدها ويجاهد في سبيلها، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[22].

البراءة من الأوثان

ويبقى منطق إبراهيم مع أبيه وقومه، يؤكِّد البراءة منهم من خلال التبرّؤ من وثنيّتهم المتخلّفة المضادَّة لحقيقة التّوحيد، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ}[23]، وهذا ما يجعل البراءة من الأوثان براءةً ممن يعبدونها، لأنَّ سلوكهم الانحرافيّ التضليليّ هو الّذي يؤدّي إلى النتائج السّلبيّة على المجتمع. ولكنّه في الوقت الّذي يعلن هذه البراءة، يرتفع في وعيه العقليّ إلى الإيمان بالله الخالق الّذي فطره وأوجده من العدم، والّذي حشد في كيانه كلَّ عناصر الهدى المتمثِّل بالإسلام لله في أموره، وفي امتداده في ذريَّته، كإرثٍ توحيديٍّ منفتحٍ على الحقيقة الصَّافية، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[24].

وتتحرّك هذه البراءة بشكلٍ صارخٍ لتشمل المجتمع المؤمن الّذي يحيط بإبراهيم، لتدعوه إلى الاقتداء بهذا النبيّ في منطقه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً}، لأنَّ هذا الاختلاف القاطع في قضيَّة التَّوحيد والشِّرك، قد ألغى كلَّ ما يجمع بيننا وبينكم. {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وتنتقلوا من دائرة الشِّرك إلى دائرة الإيمان بالله الواحد في آفاق التَّوحيد الخالص، لتكون العلاقة بيننا علاقة الفكر الواحد الَّذي ينفتح على الله ولا ينفتح على غيره.

ولم يبق في الواقع الّذي يتحرك فيه إبراهيم، إلا أن يدعو الله بالهداية لأبيه: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، ليهديك الله إلى سواء السَّبيل، انطلاقاً من عاطفة الابن لأبيه في الدّعاء بأن يفتح الله عقله وقلبه على الإيمان، لا أن يغفر الله له وهو مصرٌّ على الشّرك. ولكنّ إبراهيم يبقى في أفق التمنّي الرّوحيّ العاطفيّ: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[25]. ويبقى الانفصال بين الموقفين، لأنَّه لا لقاء بين الله والأوثان، وبين المؤمنين والمشركين، وتبقى الدّعوة تفرض نفسها على حركة النبوّة في خطِّ الإيمان.

وللحديث بقيَّة في الأسبوع القادم، إن شاء الله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [العنكبوت: 16].

[2]  [العنكبوت: 17].

[3]  [العنكبوت: 18].

[4]  [العنكبوت: 19].

[5]  [العنكبوت: 20].

[6]  [يس: 78، 79].

[7]  [العنكبوت: 21].

[8]  [العنكبوت: 22].

[9]  [العنكبوت: 23].

[10]  [العنكبوت: 24].

[11]  [العنكبوت: 25].

[12]  [الأنبياء: 53].

[13]   [الشعراء: 74].

[14]  [العنكبوت: 25].

[15]  [مريم: 82].

[16]  [العنكبوت: 25].

[17]  [العنكبوت: 26].

[18]   [الصافات: 99].

[19]  [العنكبوت: 26].

[20]  [العنكبوت: 27].

[21]  [العنكبوت: 9].

[22]   [المطففين: 26].

[23]  [الزخرف: 26].

[24]   [الزخرف: 27، 28].

[25]  [الممتحنة: 4].


استكمالاً لما تحدَّثنا عنه من سيرة النَّبيّ إبراهيم(ع) مع قومه، نتابع الحديث حول الأسلوب الَّذي اتَّبعه خليل الله إبراهيم(ع) في حواره مع قومه، وكيف كان يتحرَّك وعظه لهم في مسألة الإيمان.

الدَّعوة إلى التَّوحيد

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ـ أي وحِّدوه في العبادة في كلِّ مفرداتها ـ وَاتَّقُوهُ ـ راقبوه في كلِّ أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم، وتحمَّلوا المسؤوليَّة عنها، وأطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ـ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[1]، لأنَّ توحيد الله في العبادة، وتقواه في حركة الحياة، هما اللَّذان ينظِّمان للإنسان أموره، ويحرّكانه في الخطِّ المستقيم، ويوحِّدان له منهجه وغايته عندما ترتبط كلّ القضايا بالله، وتتَّجه كلّ الدّروب إليه.

وهذا ما يحترم فيه الإنسان عقله الّذي يفكِّر له في حسن الأشياء وقبحها وصحَّتها وفسادها، ولكنَّ المشكلة أنَّكم أهملتم العقل في أوضاعكم، وجمَّدتم تفكيركم عن اتّخاذ القرارات الَّتي تفتح لكم أبواب الخير، وهذا يتمثَّل بالخرافات الَّتي ورثتموها من آبائكم: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً}، من هذه الأصنام الحجريَّة المصنوعة، من دون أن يكون لها أيّ معنى في مسألة الألوهيَّة، وكيف تتركون الخضوع لله، والانفتاح عليه، والتعبّد لربوبيَّته، وتقبلون على الالتزام بها في ذهنيَّة متخلّفة متحجّرة لا تنبض بأيّة فكرة، ولا تنفتح على أيّ شعور، لأنَّ هذه الأصنام لا تختلف عن الأحجار المتناثرة في الأرض، أو الصّخور المنحوتة في الجبال؟ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}، من هذه الأكاذيب الَّتي تصنعونها وتدعون النَّاس إليها، وتخضعون لها في دعواتكم الخرافيَّة في الارتباط بالأحجار الصمَّاء، بمنحها صفة الآلهة، وبما تثيرونه حولها من أوهامٍ وقداساتٍ لا أساس لها.

والسّؤال الّذي يوجَّه إليكم، والّذي يقودكم إلى احترام عقولكم، هو: هل فكَّرتم في هذه الأصنام الّتي تعبدونها من دون الله تفكير عاقلٍ يملك استقامة الرّأي؟ وهل دخلتم في مقارنةٍ بينها وبين الله في قدرته وفي حاجاتكم إليه؟

ثم يطرح عليهم مسألة مهمَّة مثيرة للجدل حول ما يتطلّعون إليه في حياتهم من الحصول على الرّزق الّذي ينظّم لهم حاجاتهم، ويحقِّق لهم غاياتهم، فهل تملك هذه الأوثان في متابعتهم لها أن تمنحهم الرّزق الَّذي يطلبونه؟ {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً}، لأنَّهم لا يملكون في ذاتهم أيَّ شيء، ولا يستطيعون تحقيق أيِّ أمرٍ من الضّرّ والنّفع لأنفسهم، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فما معنى كلّ هذا التوجّه إليهم، والتوسّل بهم، والخضوع لهم في قضاء حاجاتكم وتوسعة أرزاقكم، مما هو بيد الله وأمره؛ خالق السَّماوات والأرض، الّذي يهيِّئ للإنسان كلَّ وسائل الرزق، ومنبت النبات، وخالق الحيوان الّذي جعله غذاءً للإنسان؟! إنّه هو الخالق للكون كلِّه، وهو المنعم على الإنسان بكلِّ النِّعم الصَّغيرة والكبيرة. أمّا هذه الأحجار، فهي مجرَّد أشلاءٍ متناثرةٍ يحطِّمها الآخرون، وليس لها من أمرها شيء.

{فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَـ فهو الرزّاق ذو القوَّة الكريم، وهو القادر على إنزال الرّزق إليكم ـ وَاعْبُدُوهُ ـ لأنّه ـ وحده ـ المستحقّ للعبادة، في ألوهيَّته المطلقة، وقدرته الشَّاملة، ورزقه الواسع ـ وَاشْكُرُوا لَهُ ـ لأنّه الرّبّ المنعم الّذي ترجع كلّ النِّعم إليه ـ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[2]، في يوم القيامة، لتواجهوا الحساب أمامه على أعمالكم، ما يفرض عليكم الارتباط به في حاجاتكم وعباداتكم وفي شكركم لنعمه، لأنَّ المسألة في غاية الخطورة على مستوى الوجود والمصير.

هذه هي الدَّعوة الّتي دعا إبراهيم(ع) قومه إلى الأخذ بها، من خلال أنّه رسول الله إليهم. ثم يقول لهم: {وَإِن تُكَذِّبُوا ـ بما جئتكم به، من دون أيّة حجَّة على التّكذيب، فلست أوَّل رسول كذَّبه قومه من دون برهان ـفَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ـ ولم يسقط الرّسول أمام ذلك، لأنَّ دوره هو البلاغ المبين ـ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[3]، فإذا استكمل بلاغ الرّسالة، فقد أدَّى مهمَّته وحصل على رضوان الله، لأنَّ مسألة الهداية الواقعيَّة لا تتَّصل بالرّسول وحده، بل تتَّصل بالنّاس وبالظّروف الموضوعيَّة والرّساليَّة المحيطة بالرّسول.

المعرفة الإيمانيَّة

ثم يثير أمامهم حقيقة الألوهيَّة في قدرتها على إبداع الحياة وإيقاع الموت، ما يفرض عليهم الانطلاق في المعرفة الإيمانيَّة المرتكزة على القدرة: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ـ أولم يروا في نظرتهم العلميَّة والبصريَّة، كيف يحصل إبداء الخلق ثم إعادته، باعتبارهما من سنخٍ واحدٍ في إيجاد ما لم يكن ـ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[4]، فهو الّذي أبدع الوجود كلّه، فلا يعجزه شيء من ذلك، لأنَّ من أوجد الحياة من عدم، قادر على بعثها بعد الموت، باعتبار أنَّ سرَّ إبداع الحياة واحد، فإذا انطلقتم في الفكرة من التجربة الحيَّة من خلال ما تشاهدونه من تنوّع الخلائق واختلافهم في ألوانهم وأشكالهم وطبائعهم من غير مثالٍ سابق، فإنَّ ذلك سيوحي إليكم بعظمة القدرة واتّساعها وشمولها، الأمر الَّذي يجعلكم تدركون أنَّ عمليّة الإعادة هي نتيجة طبيعيَّة، باعتبار أنَّها أقلّ صعوبةً من عمليَّة الإيجاد.

{ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]، لأنَّ قدرته على النَّشأة الأولى تفرض قدرته على النَّشأة الأخرى، كما جاء في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[6].

{يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[7]، أي تردّون إليه، فيحاسبكم على أعمالكم، فيعذِّب من يستحقّ العذاب، ويرحم من يستحقّ الرَّحمة، لئلا تكون الحياة عبثاً من دون نتيجةٍ أو غاية. {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء}، فأنتم خاضعون لحكمه فيما يقدِّره ويقضيه في الكون كلّه، فلا تستطيعون دفعاً لعذابه، ولا ردّاً لقضائه في الدّنيا والآخرة.

{وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[8]، لن يستطيع أحد أن يتولَّى أمركم من دون الله، بحيث تستغنون به عن الله أو يدافع عنكم، فينصركم مما يريد الله أن يوقعه بكم من العذاب.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ}، لم يؤمنوا بآيات الله، ولا بالرّجوع إليه في يوم القيامة، وتصرّفوا بذهنيَّة الغريزة لا بروحيَّة المسؤوليَّة، فعاثوا في الأرض فساداً، وابتعدوا عن خطِّ الصَّلاح والإصلاح، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}، لأنَّ رحمة الله لا تنال الجاحدين له والمعاندين لرسله، {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[9]، جزاءً على كفرهم وعنادهم.

والظّاهر أنَّ الخطاب موجَّه إلى النّبيّ ليبلغه لقومه، وليحذِّرهم نتائج موقفهم، وليس من كلام النّبيّ، وإلا لكان المناسب أن يقول: من رحمة الله.

والمراد بآيات الله هي الدَّلائل الدالّة على أصول العقيدة من التّوحيد والنبوّة، أمّا يأسهم من رحمة الله، وهي الجنَّة والمغفرة والرّضوان، فينطلق من جحودهم بالرّحمة الإلهيّة، أو من طبيعة قضاء الله بأنَّ رحمته لا تنال الكافرين.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِـ على هذه الدَّعوة الواعية التي تفتح الذّات على الله من خلال التأمّل العميق والنَّظرة الشّاملة ـ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، لأنّهم لا يملكون الردَّ المتوازن الّذي يناقش القضايا المطروحة بدقّةٍ وعمق، وذلك من خلال فقدانهم الحجَّة على تأكيد ما ينكرون أو ما يعتقدون به، الأمر الّذي يجعل موقفهم موقف الضَّعيف المهزوم الَّذي لا يمكنه الدّفاع بالأسلوب العقليّ، فيدافع عن موقفه بالطّريقة الغوغائيَّة العدوانيَّة بالتَّهديد والقوَّة.

{فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِـ بأن جعل النّار برداً وسلاماً عليه، وكان ذلك معجزةً إلهيّةً أكرم الله بها إبراهيم(ع) ـ  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[10]، لأنهم يرون فيها مظهر القدرة الإلهيَّة الّتي تحوّل النار إلى عنصر بارد لا يشعر الّذي يلقى فيها بالحرارة والاحتراق، مما ليس مألوفاً لدى النّاس في الأمور العاديّة، لأنّه من خوارق العادة.

أوهام الوثنيَّة

ويتابع القرآن حديث إبراهيم مع قومه في تفسيره للعلاقات الّتي تربط بينهم، والّتي تنطلق من توافقهم في أوهامهم الوثنيَّة، على أساس المودَّة العاطفيَّة الّتي تجذب الإنسان إلى الإنسان، فيخضع لما يفكِّر الآخر فيه من دون النّظر والتأمّل في هذا التّفكير. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[11]، فلم يكن اتخاذكم لها منطلقاً من اقتناعٍ فكريٍّ مبنيٍّ على حجّةٍ عقليّة، بل كان منطلقاً من علاقات المودَّة القائمة بينكم في الحياة الدنيا، من خلال القرابة أو الصَّداقة أو المصلحة، ما يجعل للألفة دورها الكبير، وللعاطفة أهميّتها العليا في تكوين العقائد والعادات والتّقاليد.

ثم تتَّسع المسألة، فتتحوَّل إلى عقيدة عامّة للأمَّة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات القرآنيَّة الأخرى التي ناقشت تقديس عقائد الآباء والأجداد، وذلك فيما حدَّثنا الله به عن إبراهيم(ع) في جواب قومه له: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ}[12]، وفي قوله: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[13]. ولعلَّ هذا هو الَّذي جعل الكثير من الأمم تعتزّ بتراثها القوميّ، على أساس طبيعة الارتباط العاطفيّ بالأرض، واللّغة المشتركة التي ينتمي إليها هؤلاء، بحيث يكون لذلك أثرٌ في تقديس المضمون التراثي، بعيداً عمّا إذا كان حقّاً أو باطلاً.

هكذا أراد إبراهيم ـ النّبيّ ـ أن يؤكِّد لهم الأساس اللاعقلاني الّذي لا يملك أيَّ ثباتٍ في حركة الحقيقة فيما يركّزون عليه عقيدتهم وعبادتهم، ليدعوهم إلى تحكيم العقل في ذلك، لأنَّ العقيدة القائمة على المودَّة سوف تتبدَّل نتائجها إذا تبدَّلت المودّة وتحوَّلت إلى عداوة، ما يجعل كلّ فريق يلقي المسؤوليّة على الفريق الآخر.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ}[14]، عندما يكفر بكم هؤلاء الّذين اتخذتموهم آلهةً من دون الله، ويتبرّأون منكم، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}[15]، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً}، فتتراشقون اللّعن في النّار، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}[16]، فذلك هو الجزاء الإلهيّ للنّاس الّذين لا يملكون الحجَّة على العقيدة المنحرفة والعمل السيّئ، بل تكون الحجَّة لله عليهم. ويبقى للدّار الآخرة في جحيمها ونعيمها، دورها الكبير في إثارة الإحساس الإنسانيّ بالخوف من المصير الّذي يدفعه إلى الخروج من أجواء اللامبالاة التي تجمِّد إحساسه بالمسؤوليَّة، فتمنعه من الانفتاح على الرّسالة والرّسول.

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، ليكون داعيةً إلى الله ومرسلاً من قبله إلى قومه بأمر من الله.

هجرة إبراهيم(ع) إلى الله

{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}[17]، والقائل هنا هو إبراهيم(ع)، الَّذي كانت علاقته بالله علاقة الخليل مع خليله، والحبيب مع حبيبه، فقد عاش مع الله في عقله وقلبه وشعوره، وذلك من خلال حضور الله معه في كلِّ حياته، لأنّه لم يكن له غيره. وقد جاء في قوله تعالى، فيما يشبه هذه الهجرة الروحيَّة الرساليَّة، وذلك في سورة الصّافّات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[18]، لأنَّ الله هو الّذي يملأ كيانه بالهداية التي تمتدّ معه في كلّ مسؤوليّاته التي كلّفه الله بها، ولذا كانت رحلته إليه وهجرته إلى مواقع القرب منه.

والهجرة إلى الله هي الخروج إلى الأرض الواسعة الّتي يملك فيها حريّة الحركة في عبادة الله، والدَّعوة إليه، والعمل في سبيله، بعيداً عن كلِّ الضّغوط الّتي تمنعه من ذلك، وعن الحلقة المفرغة التي كان يدور فيها من غير جدوى في دائرة قومه الضيِّقة.

والهجرة إلى الله شعار إيمانيّ يحمله المسلم في قلبه، ويحرّكه في حياته، ليكون نقطة الانطلاق إلى الانفتاح على المواقع الجديدة الَّتي يأمل فيها الحصول على القوَّة عندما تحاصره القوى المضادَّة في نقاط ضعفه المحيطة به، لتجمِّده عن كلّ حركة، ليستطيع من خلال ذلك العودة إلى السَّاحة من مركز قوّة، ليحوِّلها إلى ساحة إيمان، والعمل على توسعة آفاقه التي تقرّبه إلى الله والناس، وتقرّب الناس من الله، لأنَّ رسالته لا تقتصر على قومه، بل تشمل كلَّ الناس.

وهكذا رأينا أنَّ هجرة إبراهيم(ع) إلى الله كانت السَّبب في بنائه للبيت، ليكون مثابةً للنّاس وأمناً ومسجداً للطّائفين والقائمين والركَّع السجود، وانطلاقاً للحنيفيَّة الّتي دعا إليها في تلك المنطقة، مما قد لا يحصل في حال بقائه في دائرة قومه.

وقد نجد في إعلانه ذلك لقومه، إيحاءً إليهم باليقين الرّاسخ عنده بأنّه لن يضيع عندما يتركونه، ولن يذلَّ عندما يخذلونه، بل سيجد عند ربّه الهدى في حكمته ووحيه، وسيحصل على العزة في قوَّته وجبروته، لأنَّ ربّه ليس مجرّد فكرة تجريديّة يخلقها في داخل نفسه، كما يخلقون أصنامهم من خلال أوهامهم، بل هو حقيقة تهيمن على الكون كلّه وتدبّره وترعاه وترعى كلّ موجود فيه، ولن يستطيع أحد أن يرعاه كما يرعاه ربّه، أو يحميه كما يحميه الله، ولذلك، فإنّه مهاجر إليه بعد خذلان قومه له واضطهادهم إيّاه.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[19]، لا يذلّ من نصره، ولا يضيِّع من حفظه.

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، أي كرَّمنا إبراهيم(ع)، بأن جعلنا النبوَّة تمتدّ في أبنائه إسحاق ويعقوب، لما كان منه من تسليم قلبه لله، ومن صبرٍ على تحمّل أعباء الرّسالة، ولما حمله أولاده في قلوبهم من إيمانٍ وإسلامٍ لله، وفي سلوكهم من التزامٍ بأوامر الله ونواهيه، بحيث استحقّوا أن يكونوا موضعاً لكرامة الله، فخصَّهم بالنبوّة وإنزال الكتاب على أيديهم، فيما أنزله الله على أبيهم إبراهيم(ع) من الصّحف.

{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}، فيما أكرمه الله به من الكتاب المنـزل، وفي تخليد السَّلام عليه وعلى آله في رسالاته، ليكون ذلك ذكراً خالداً له في النّاس، ليذكروا روعة الإسلام لله في حياته، وعظمة الجهاد في رسالته، وصفاء التأمّل في حركة فكره، ووداعة المحبَّة في نقاء روحه. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[20]، الّذين ينالون كرامة الله في رضوانه وجنَّته، في المجتمع المتوازن الّذي يعيشون في داخله روحيّة صلاحهم، بعيداً عن الاختلاط بالمجتمع غير الصَّالح، فيما كانوا يعانونه من ضغطٍ وخوفٍ واضطهاد، فها هم في الجنّة مسرورون برضوان الله، منفتحون على بعضهم البعض في خيرٍ ولطفٍ ومحبّةٍ وأخوّة، لم يعرفوا طعمها الحلو في الدّنيا كما يعرفونه الآن.

ثم إنَّنا نلاحظ أنَّ الله يوحي إلينا بالحديث عن الأنبياء في اعتبارهم من الصَّالحين في الآخرة، أنَّ مجتمع الصالحين في الجنّة لا ينفصل فيه الأنبياء عن المؤمنين الصَّالحين، لأنه يتحدَّث في آيةٍ أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}[21]، ما يوحي بأنَّ الصَّلاح في الفكر والخطّ والعمل، هو العنوان الّذي يفتح للإنسان أبواب الجنّة، من خلال الرّسالة التي يحملها ويبلّغها أو يؤمن بها ويؤيِّدها ويجاهد في سبيلها، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[22].

البراءة من الأوثان

ويبقى منطق إبراهيم مع أبيه وقومه، يؤكِّد البراءة منهم من خلال التبرّؤ من وثنيّتهم المتخلّفة المضادَّة لحقيقة التّوحيد، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ}[23]، وهذا ما يجعل البراءة من الأوثان براءةً ممن يعبدونها، لأنَّ سلوكهم الانحرافيّ التضليليّ هو الّذي يؤدّي إلى النتائج السّلبيّة على المجتمع. ولكنّه في الوقت الّذي يعلن هذه البراءة، يرتفع في وعيه العقليّ إلى الإيمان بالله الخالق الّذي فطره وأوجده من العدم، والّذي حشد في كيانه كلَّ عناصر الهدى المتمثِّل بالإسلام لله في أموره، وفي امتداده في ذريَّته، كإرثٍ توحيديٍّ منفتحٍ على الحقيقة الصَّافية، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[24].

وتتحرّك هذه البراءة بشكلٍ صارخٍ لتشمل المجتمع المؤمن الّذي يحيط بإبراهيم، لتدعوه إلى الاقتداء بهذا النبيّ في منطقه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً}، لأنَّ هذا الاختلاف القاطع في قضيَّة التَّوحيد والشِّرك، قد ألغى كلَّ ما يجمع بيننا وبينكم. {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وتنتقلوا من دائرة الشِّرك إلى دائرة الإيمان بالله الواحد في آفاق التَّوحيد الخالص، لتكون العلاقة بيننا علاقة الفكر الواحد الَّذي ينفتح على الله ولا ينفتح على غيره.

ولم يبق في الواقع الّذي يتحرك فيه إبراهيم، إلا أن يدعو الله بالهداية لأبيه: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، ليهديك الله إلى سواء السَّبيل، انطلاقاً من عاطفة الابن لأبيه في الدّعاء بأن يفتح الله عقله وقلبه على الإيمان، لا أن يغفر الله له وهو مصرٌّ على الشّرك. ولكنّ إبراهيم يبقى في أفق التمنّي الرّوحيّ العاطفيّ: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[25]. ويبقى الانفصال بين الموقفين، لأنَّه لا لقاء بين الله والأوثان، وبين المؤمنين والمشركين، وتبقى الدّعوة تفرض نفسها على حركة النبوّة في خطِّ الإيمان.

وللحديث بقيَّة في الأسبوع القادم، إن شاء الله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [العنكبوت: 16].

[2]  [العنكبوت: 17].

[3]  [العنكبوت: 18].

[4]  [العنكبوت: 19].

[5]  [العنكبوت: 20].

[6]  [يس: 78، 79].

[7]  [العنكبوت: 21].

[8]  [العنكبوت: 22].

[9]  [العنكبوت: 23].

[10]  [العنكبوت: 24].

[11]  [العنكبوت: 25].

[12]  [الأنبياء: 53].

[13]   [الشعراء: 74].

[14]  [العنكبوت: 25].

[15]  [مريم: 82].

[16]  [العنكبوت: 25].

[17]  [العنكبوت: 26].

[18]   [الصافات: 99].

[19]  [العنكبوت: 26].

[20]  [العنكبوت: 27].

[21]  [العنكبوت: 9].

[22]   [المطففين: 26].

[23]  [الزخرف: 26].

[24]   [الزخرف: 27، 28].

[25]  [الممتحنة: 4].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية