لا يزال الحديث يتمحور حول الآيات التي خاطب الله بها رسوله بعنوان "قُلْ"، مما أراد الله لرسوله أن يبلغه للناس بشكل مباشر في أكثر من قضية تتصل بالعقيدة بالله أو بالرسول، أو بالإجابة عن سؤال، أو بمعالجة بعض المشكلات التي تتصل بعلاقات الناس فيما بينهم، فمن بين هذه الآيات قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[1]، لقد أراد الله لرسوله أن يؤكد للناس بشريّته بكلّ ما للبشريّة من خصائص في قدراتها الذاتية، وفي كل ما يعرض على الجسد من حياة وموت، ومن صحة ومرض، ومن خوف وأمن، وما إلى ذلك، لأنَّ الله يريد لرسله ـ كلّ رسله ـ أن يقدِّموا أنفسهم إلى النّاس من خلال رسالتهم، لا من خلال بعض الخصائص التي ترتفع بالإنسان عن الطّبيعة البشريَّة، فالله يختار من رسله للناس بشراً مثلهم، وعظمة هذا البشر أنّه يملك من الخصائص العقليّة والروحيّة والعلميّة مما ألهمه الله، ما يجعله جديراً بهذه الرّسالة.
كما أنّ هذه الرّسالة تنطلق من خلال الوحي الّذي يوحي به الله إلى رسوله، من خلال الوسائل المتعدّدة لهذا الوحي، فقد يكون الوحي بواسطة ملك ينزل على الرّسول، كما كان يحدث مع الرّسول(ص)، حيث ينزل عليه جبرائيل، أو من خلال إلهام الله له، أو من خلال التعلميات الّتي يصدرها الله إلى رسوله بواسطة المنام، كما حدث بالنّسبة إلى إبراهيم(ع)، أو يكلمه الله، كما حدث مع موسى(ع).
البشرية الكاملة
وقد أراد الله للنبي(ص) أن يقدِّم نفسه إلى الناس بصفته البشرية، لئلا يطلب الناس منه شيئاً خارج القدرات البشرية، بل باعتباره مبلّغاً لوحي الله، وأنه يمثل التجسيد الحركي للوحي في كل خصائصه الرسالية: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} في كل عناصر البشرية، ولذلك، أُمارس ما يمارسه البشر، وأخضع لما يخضع له البشر.
ولكن ما يميّز الرسول(ص) عن بقية الناس، هو أنّ الله اختصَّه بأن جعله رسوله الذي يوحي إليه، والوحي هو القاعدة التي تختصر الرسالة، وتمتدّ منه كلّ الأسس التي تتصل بالشرائع والقيم والمفاهيم التي تنطلق في التّوحيد. {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وعندما نؤمن بالإله الواحد، فإننا نجعل كلّ حياتنا له، فنأتمر بأمره، وننتهي عن نهيه، ونتحرك في منهجه، ونصنع شخصياتنا على الصورة التي يحبها ويرضاها، مما نصنعه من خلال عقولنا من ركائز يرتكز عليها تفكيرنا، ومن خلال قلوبنا في النبضات التي ينبض بها القلب، ومن خلال حياتنا في الخطوات التي تتحرك بها.
ثم يؤكّد النبي(ص) فيما يريد الله له أن يقوله للناس: إنكم أيها الناس، إذا كنتم تؤمنون بالله الواحد، فإننا سنلقى الله، وسنرجع إليه، مما يلزم معه العيش في نطاق هذا الرجاء في لقائه سبحانه وتعالى، ولكنَّ لهذا اللقاء شرطين؛ الشرط الأول: أن تلقى الله وأنت موحِّد، والشرط الثاني: أن تكون قد عملت عملاً صالحاً في دنياك، والعمل الصالح هو أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}[2]، فالإيمان بالتوحيد والعمل الصالح، هما الطريقة المثلى في الامتثال للأوامر لإلهية.
وتلتقي مع هذه الآية آية أخرى، ولكنها تعيش في نطاق التحدّيات التعجيزيّة التي كان المشركون من قريش يوجّهونها إلى النبيّ، من خلال فكرة مختزنة في داخل وجدانهم الثقافيّ، أو من خلال فرضية يفرضونها لإسقاط موقع الرسول الذي يدعوهم إلى السّير في خطّ الإيمان، ليردّدوا في مواجهته المقولة التي كان يردِّدها من كان قبلهم من الأمم، عندما كان الرسول يقدِّم لهم نفسه، فينكروا عليه رسوليته، باعتبار أن الرسالة تمثل شأناً من شؤون الغيب، فلا بدَّ من أن يكون الرسول شخصية غيبية ملائكية، أو أن يصاحبه ملك. أما أن يكون شخصية بشرية، يولد كما يولدون، ويموت كما يموتون، ويعيش كما يعيشون، ويشعر بضغط الحاجة، فهذا أمر لا يتناسب مع دعوى الرسالة.
هنا، يقول الله تعالى مما جرى على ألسنة هؤلاء: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} بأنّك رسول الله، {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً}[3]، فنحن في صحراء، وعليك أن تفجر لنا الينابيع من هذه الأرض، لأنّ هذا هو شأن الذي يرتبط بالله، فيملك القدرات الغيبيّة التي يمنحها الله لمن يرسله من الرّسل بالرّسالة، ليستجيب للناس في كلّ ما يطلبونه وما يحتاجونه، {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً}[4]، بستان فيه نخيل وعنب وأنهار تجري بداخله لتساعده على النموّ، {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}، فإن كنت تملك القدرات التي تهدّدنا بها فيما لو لم نؤمن لك، فأسقط السّماء علينا قطعاً متناثرة، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً}[5]، أو أن ينزل الله من عليائه، ومعه ملائكته، ليأتوا إلى مكّة ليشهدوا أنك رسول الله، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} من ذهب، {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء}، ونحن ننظر إليك، فلا يكفي أن تخبرنا، بل يجب أن تأتي بشاهد، {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ}، لعروجك إلى السّماء، {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ}.
وأمام هذه الاقتراحات التعجيزية، يأتي الخطاب لرسول الله(ص): {قُلْ} يا محمد، {سُبْحَانَ رَبِّي} عن كلّ ما تنسبونه إليه، {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}[6]، فأنا بشر، وقدراتي قدرات البشر وإن كنت رسولاً، إذ ليس من مهمتي أن أغيّر الواقع، وأن أُحوِّل الصحراء إلى جنائن، وأن أفجر الينابيع من الأرض، أو أن أرقى إلى السماء، أو يكون لي بيت من زخرف، أو ما إلى ذلك. إن دور الرسول هو المبشر والمنذر، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}[7]، وإن دوري هو أن أنقل إليكم رسالات الله، وليس من شأن الرسول أن يغيّر الطبيعة، وليس من قدرة البشر تغيير الصحراء وتحويلها إلى جنائن، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}.
وهنا، يريد القرآن الكريم الحديث عن مشكلة هؤلاء الناس في فهمهم لمسألة الرسالة وطبيعة تفكيرهم الخاطئ، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً}[8]، في إشارة إلى عدم تعقّلهم لها. و(قُلْ) تشير إلى أن الرسول لا بدّ من أن يكون من نوع المخلوقات التي يُرسل إليها، فإذا كان الله يرسل إلى الناس رسولاً، فإنه يلزم أن يرسل بشراً، حتى تكون قدراته بمستوى قدراتهم، فيخاطبهم ويخاطبونه، ويكون القدوة لهم، لأنه إذا كان ملكاً، فإنه لا يمكن أن يكون قدوة، إذ يقال ـ عندئذٍ ـ هذا ملك ونحن بشر، والبشر لا يستطيعون ما يستطيعه الملك، {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً}[9]، إذ لا بدّ من أن يكون الرسول من فصيلة الذين يُرسَل إليهم، كي ينشأ التناسب بين الذهنيات، لأنّ الرسول لا بد من أن تكون ذهنيته ذهنية المرسَل إليهم، ولكن ليس بالمستوى والمرتبة، بل بحسب الطبيعة، وأن تكون لغته لغة من أُرسِل إليهم، ويملك أن يعيش مع هؤلاء الذين أرسل إليهم، بحيث يكون جزءاً من حياتهم.
هذه سنَّة الله، وحكمته في ذلك، لأن دور الرسول بالدرجة الأولى هو دور ثقافي ـ إن صحَّ التعبير ـ ومن خلال تنوع هذه الثقافة، فإن له دوراً تربوياً ودوراً روحياً. وهذا يحتاج إلى أن يكون هناك تفاعل بين الرسول ومجتمعه، {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً}.
دور النبيّ(ص)
ثم بعد أن يركّز النبيّ(ص) الفكرة، ويرفض الاقتراحات التعجيزيّة من خلال رفض الأساس الّذي انطلقوا منه، يؤكّد رسالته بطريقة إيحائيّة على مستوى الصّدمة: {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}[10]، فإني لا أريد أن أقدّم نفسي كرسول من خلال ما تطرحونه عليّ، مما لا أملك قدرته، ومما لم يعطني الله قدرته، مع أنّ الله قادر على أن يعطي من القدرات لعباده إذا اقتضت حكمته ذلك، ولكن ليست هناك حكمة في أن يرسل الله الرّسول في مهمة تغيير العالم وما أشبه ذلك.
وإذا كان بعض النّاس يتحدّث عن الولاية التكوينيّة للأنبياء وللأئمّة(ع)، فإن القرآن دليل صارخ على رفض هذه الفكرة، لأننا إذا قلنا إنّ الله غير قادر على أن يعطي الأنبياء والأئمة هذه القدرة، فهذا غير معقول، لأنّ الله قادر على أن يفعل ذلك، كما هو حال المعجزة، حيث يحوّل العصا إلى ثعبان، ويحوّل اليد السمراء إلى يد بيضاء، ويعطي عيسى(ع) القدرة على أن يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، كمعاجز في ظروف معيّنة، نتيجة حاجة الرّسالة إليها، ولكن الله لم يعط رسله وأولياءه هذه القدرة بالمطلق، لأنهم لا يحتاجون إليها، فهي ليست مهمتهم، فالبحث ليس في القدرة، إنما هو في الحاجة إلى ذلك.
ثم نحن نقول دائماً: لماذا الولاية؟! الولاية إنما تُجعل لسدّ النقص، فالشخص البالغ المستقلّ الرّشيد ألا ترتفع عنه الولاية؟! وإنما يجعل شخص وليّاً على شخص أو على أمر، إذا كان هناك نقص، فإنّ الوليّ يكمله. والله هو وليّ الكون، وقد نظم الكون وفق قوانين وسنن كلها برهان على هذا الكمال، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[11]، و{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[12]، و{مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ}[13]، فإذا كان خلق الله لهذا الكون بهذا المستوى من الكمال، فلماذا يجعل وليّاً عليه؟ فهل يأتي الوليّ لينقل الشّمس من المشرق لتشرق من المغرب؟! أو هل إنّه قادر على أن يجفّف البحار، وحتى يحوِّل الصّحارى ـ بدون وسائل ـ جنائن وأنهاراً وغير ذلك؟! إنّ الله أعطى الإنسان وسائل طبيعيّة لعمليّة التغيير، وضمن القوانين التي أودعها في الكون.
ولذلك نقول إنّ القرآن هو الدّليل على نفي الولاية التكوينيّة. {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}، وذلك في خطابه للنبيّ(ص)، الّذي هو أعظم من الأئمّة(ع)... أما ما يمكن أن يستدلّ به من التّدبير، نظير تدبير الملائكة، كما في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً}[14]، فإن ذلك لا يعني خصوصيّةً وتمييزاً للأنبياء والأئمة(ع)، وإلا، فهل نعتقد بالولاية للملائكة؟ أو هل نعتقد بالولاية للجنّ، حيث قال العفريت لسليمان(ع): {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ}[15]، فقال الّذي عنده علم الكتاب، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[16]؟!
فقد استدلَّ القائلون بالولاية التكوينيّة بما قاله الذي عنده علم الكتاب، بدعوى أنّ الذي يملك علم الكتاب كله، وهم الأئمة(ع)، أولى بذلك، فإن الفرق بين العفريت والذي عنده علم الكتاب هو بالزمن؛ ذلك يأتي به قبل أن يقوم من مقامه، وهذا قبل أن يرتدّ إليه الطرف، فهل نقول إنّ هذا دليل على الولاية للجنّ؟ إن هذه من القدرات المحدودة التي أعطاها الله ـ لحكمة ـ لنفرٍ من خلقه، وهذا نظير المعاجز التي يجريها على أيدي الأنبياء أو الكرامات لبعض أوليائه وبعض خلقه، لحكمة يراها هو سبحانه وتعالى، بل حتى المعجزات، فإنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي حوَّل العصا إلى ثعبان، وهو الّذي حوَّل يد موسى(ع) إلى يدٍ بيضاء، وكذلك عيسى(ع)، فالله هو الذي يحيي الموتى، ولكنّ الله أجرى هذه الأشياء على يده. وكما في قصة إبراهيم(ع): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً}[17]، فإنّ الله هو الّذي أحياها.
ولذلك، يجب أن نقرأ القرآن بتدبر، وأن نأخذ عقائدنا الإسلاميّة الأساسيّة منه. وهذا لا يعني أن نلغي السنّة، بل إنّ ذلك هو من السنَّة أيضاً، إذ روي عن النبيّ(ص) والأئمّة(ع): "ما جاءك في رواية من برٍّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من برٍّ أو فاجرٍ يخالف القرآن فلا تأخذ به"[18]، "ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"[19]. وإذا كنا ننفي أن يكون للنبي القدرة على التصرف في الكون، فإن هذا ليس انتقاصاً من النبي(ص) أو الأئمة(ع)، لأنَّ عظمة النَّبي أنَّ الله أرسله واصطفاه، وعظمة الأئمة(ع) أنهم أوصياء رسول الله، وأنهم حملوا الرسالة وأخلصوا لها، وقد يعطي الله ما يحتاجه النبي لنبوّته، وما يحتاجه الإمام لإمامته.
دور الوحي في حركة الرّسل
وفي آية أخرى من سورة الأحقاف، يقول الله تعالى: {قُلْ} يا محمد، {مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ}، أنا رسول، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}[20]، و{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[21]، فأنا كباقي الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله إلى أممهم من قبل، فكما أنهم بشر فأنا بشر، وكما أنهم يعيشون نقاط الضّعف البشريّ بأجسادهم وقدراتهم، فأنا أعيش ذلك، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}، فإني لا أعرف ماذا يجري عليّ غداً وما يحدث لكم غداً، فإن الله لم يعطني من الملكات التي وهبني إياها ملكة العلم بالغيب، وإن كان قد يعطيني غيبه، بحسب ما يرى من حكمة مما يطلعني عليه، كما في قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ}[22]، و{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}[23]، إذ هناك فرق بين أن نقول إن الله يطلع رسوله على معلومات غيبية مما يوحي إليه بهذا الغيب أو ذاك الغيب، كما في قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ}، وكما في قضية يوسف(ع) أو في قضية مريم(ع)، {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، و{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[24]، وبين أن يكون النبي قادراً على الاطلاع على الغيب في أي وقت يشاء ويريد، أي عن نفس قادرة على ذلك. {قُلْ مَا كُنتُ}، قل للناس أن ينظروا إليك كبشر يحمل رسالته من دون أي تهاويل، ومن دون أن تقدم نفسك لهم بقدرات غيبية، إلا من خلال الوحي، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}، فإني أنتظر الوحي، {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[25]، فإن دوري هو أن أنذركم بطريقة واضحة تعرِّفكم مسؤولياتكم أمام الله، وأعرّفكم ما يريد الله لكم أن تعرفوه.
رسول الرّحمة
وفي آية أخرى، يقدِّم الله سبحانه وتعالى رسوله إلى الناس بصفاته الروحية والأخلاقية التي تصوِّر القيم الاجتماعية الإنسانية التي يتمتع بها الرسول، وكيف يقدم النبي نفسه للناس: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، من هذا المجتمع، ومن العائلة نفسها، ومن البيئة نفسها، ومن المنطقة نفسها، ومن هؤلاء الناس، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، يحمل آلام الأمّة عندما تعيش المشقّات التي تجهدها وترهقها وتورطها في مشاكل كبيرة، فإنه يعزّ عليه ذلك، مما يلاقي الناس من العنت، أي المشقة، {حَرِيصٌ عَلَيْكُم}، يحوطكم ويحرص عليكم أن لا تضيعوا، وأن لا تعيشوا في المتاهات، وأن لا تسقطوا، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[26]، فإن خُلُقه الرأفة بكم والعطف عليكم والرحمة، {فَإِن تَوَلَّوْاْ}، أي أعرضوا عنك، ولم يتقبلوك، ولم يتفاعلوا مع هذه الإنسانية المنفتحة على كل آلامهم وحياتهم وأوضاعهم، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ}، فأنا لا أحتاجكم، وإنما بُعثت لأجلكم، لا لأحصل على العزة أو القوة من قبلكم، {لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، فهو الذي يملك الأمر كله، إذا توكل عليه عبدٌ فهو حسبه، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، فإذا أراد شيئاً كان، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[27]، يعطي الناس بحسب حكمته، وبحسب ما يحتاجونه مما يرضاه لهم، {عَلَيْهِتَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[28]، وهذه الكلمة: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، أراد من خلالها أن يوحي بما لله من العلوّ والعظمة، ليعيش الناس في نفوسهم المسؤولية في الاستجابة للرسول من قبله.
ثم إننا نستوحي من قوله تعالى: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، فكرة أساسية ومهمة، وهذه الفكرة هي أن هذا المنطق ليس مختصاً بالنبي(ص) كشخص، بل إنه منطق كل داعية إلى الله يطرح الفكرة أمام الناس، فإن تقبلها الناس، فإنه يحمد الله، وإن لم يتقبلها الناس، أو أعرضوا عنها، ورفضوه، فإنه لا يشعر بالضعف وبالسقوط، لأن الداعية إلى الله لا يستمدّ قوته من الناس، تماماً كما كان النبي(ص) لا يستمدّ قوته من الناس، بل كان يستمدّ قوته من الله سبحانه وتعالى، ولذلك يبقى الله في نفس المؤمن مصدر القوة.
وهذا درس لكل الدعاة إلى الله وكل الساعين في طريق الرسالة، لأن يكونوا أقوى من الرفض الاجتماعي، وأقوى من الرفض السياسي والمالي والرفض الأمني، لأنه يرتكز على قوة الله سبحانه وتعالى. وهذا ما أكده القرآن في أكثر من آية، كما في حديثه عن المؤمنين في إحدى المعارك الإسلامية الكبرى، عندما لم يكن هناك توازن بين عدد المؤمنين وعدد الأعداء، وعندما كان الأعداء يحاولون أن يقوموا بأساليب التهويل لإسقاط معنوياتهم، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ}، كما نعيش هذه الأيام في ظل هيمنة الاستكبار العالمي من قبل أميركا في موقفها ضد المستضعفين من المسلمين، وهي تتهم العالم الإسلامي بالإرهاب، كل ذلك لغرض أن نسقط أمامها ونستسلم، كما هو موقف المرجفين ممن يتوسلون ويبشرون بنظرية التوسل، مما يوحي به كل هذا العجز العربي والإسلامي، {فَاخْشَوْهُمْ}، أي خافوا منهم، والخوف أمر طبيعي إنساني، {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}، فإنهم عندما سمعوا هذا التهديد الذي جاءهم من الناس، رجعوا إلى إيمانهم، وقارنوا بين الناس وبين الله، وهذه مسألة أساسية، فإننا لا بد من أن ندخل في مقارنة من هذا القبيل، لأن مشكلتنا هي في الضعف الروحي الذي يصيبنا، وفي ضعف العلماء والدعاة إلى الله، وضعف المجاهدين، لأنهم أحياناً يستغرقون في قوة القوي وفي ضعفهم، وينسون قوة الله، في حين أن المؤمن الداعي المنفتح دائماً، يدخل في مقارنة بين قوة الله وضعف الآخرين، {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ} من الناس، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فكل أمرنا إليه، ما يعني الثقة به، لا التكاسل والخمول، {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[29]، وهذا هو برنامج المؤمنين. وفي آية أخرى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[30]. من هم؟ وما هي صفاتهم؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ}، فهل يجدون عندهم العزة والقوة، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[31]، وهذا منطق لا بد من أن يأخذ به الدعاة إلى الله والسائرون على خط الرسالة.
ويقول الله تعالى: {قُلْ}، وفي هذا الخطاب للنبي(ص)، يشير سبحانه وتعالى إلى الطريقة التي يقدّم بها الرسول(ص) نفسه للناس، داعياً إلى الله، وموحّداً له، {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}[32]، أدعوه في كل ما أهمني، وفي كل ما أحتاجه، وفي كل مواقع الضعف التي ربما تعرض عليّ، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} فلا أدعو غيره، {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً}، فإني لا أستطيع دفع الضرر، لأن الضرر بيد الله، {وَلَا رَشَداً}[33]، كناية عن النفع، و{قُلْ} يا محمد، {إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ}، فلو فرضنا أن الله أراد أن يهلكني، فليس هناك من يملك القوة ليجيرني من الله، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}[34]، يعني مكاناً أهرب إليه أو أختبئ فيه، {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}، فإن هذا هو الذي أملكه، {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}[35]، ثم {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}[36]، هؤلاء الذين عصوا الله ورسله.
و{قُلْ} يا محمد، وهم ينظرون إليك كأنك تعلم الغيب كله، {إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً}[37]، فمتى تأتي القيامة؟ ومتى يأتيكم العذاب من حيث الزمان؟ كل ذلك يرجع إلى الله، {عَالِمُ الْغَيْبِ} وحده، {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}[38]، يعطيه غيبه كما بيّنّا، {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ}، فإنه يعطي الرسول بعض علم الغيب، لا أن يجعل في ذاته القدرة على الغيب، وإنما يظهره على بعض غيبه، {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ}، لأن الله يبين بعض الأمور التي يحتاجها النبي في نبوته وفي رسالته، ويحتاجها الإمام في إمامته، {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}[39]، وقد يجعل الله مراقبين على الرسل ملائكة، {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}، أي يعلم من خلال ذلك، وإلا فهو يعلم كل شيء، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}[40].
هذه هي بعض الآيات التي أراد الله لرسوله بالتحديد أن يبلّغها للناس، من خلال كلمة {قُلْ}. ومن خلال ذلك كله، نفهم أن علينا أن نأخذ عقائدنا من القرآن، لأنه هو النور، وعندما نأخذ السنّة من خلال أحاديث النبي(ص) وأحاديث الأئمة(ع)، فإننا نعتمد البرنامج الذي وضعه النبي للأئمة من أهل البيت(ع): "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"[41]، نعرض كلّ شيء على كتاب الله، "ما وافق الكتاب فخذوه، وما خالفه فاتركوه".
*ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة
[1] [فصلت: 6].
[2] [الكهف: 110].
[3] [الإسراء: 90].
[4] [الإسراء: 91].
[5] [الإسراء: 92].
[6] [الإسراء: 93].
[7] [الفرقان: 56].
[8] [الإسراء: 94].
[9] [الإسراء: 95].
[10] [الإسراء: 96].
[11] [الطلاق: 3].
[12] [القمر: 49].
[13] [الملك: 3، 4].
[14] [النازعات: 5].
[15] [النمل: 39].
[16] [النمل: 40].
[17] [البقرة: 260].
[18] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 244.
[19] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 27، ص 119.
[20] [آل عمران: 144].
[21] [الزمر: 65].
[22] [هود: 49].
[23] [الجن: 26، 27].
[24] [آل عمران: 44].
[25] [الأحقاق: 9].
[26] [التوبة: 128].
[27] [الطلاق: 3].
[28] [التوبة: 129].
[29] [آل عمران: 174، 175].
[30] [النساء: 138].
[31] [النساء: 139].
[32] [الجن: 20].
[33] [الجن: 21].
[34] [الجن: 22].
[35] [الجن: 23].
[36] [الجن: 24].
[37] [الجن: 25].
[38] [الجن: 26، 27].
[39] [الجن: 27].
[40] [الجن: 28].
[41] بحار الأنوار، ج 2، ص 242.