إنّ الإنسان إذا شعر بأنّه مراقَب من محيطه والناس من حوله، تراه منتبهاً لخطواته، ويتصرّف بانضباطيَّة متناهية. هذا مع البشر العاديّين، فكيف إذا كان من يراقبه، والعليم بعلانيته وجهره وسرِّه وباطنه، هو الله سبحانه وتعالى؟! فالله تعالى يقول في كتابه المجيد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}[الحديد: 4]، {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرَى}[العلق: 14]، {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء: 218]، وغير ذلك من الآيات المباركة الّتي تشير إلى حضور الله الدَّائم معنا، ونحن أحياء وموجودون بوجوده ورحمته وفضله.
إنَّ أرقى درجات الإيمان وأفضلها، أن يشعر المؤمن بأنَّ الله حاضر على الدَّوام معه، في نفسه ووجدانه وقلبه وعقله، فهو الَّذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السّماء، وما من حركة أو نفَسٍ إلا وهو يعلمه.
وما دام الأمر كذلك، فإنَّ أفضل منزلةٍ يمكن أن يصل إليها المؤمن، هي منزلة الحياء من الله تعالى، بأن نستحي منه، عبر ضبط أفعالنا، فلا نُقبِل على فعل الحرام وقول الزّور وممارسة الفساد والظّلم والأذى للآخرين، وأن نضبط حركتنا، فلا نقف موقف الباطل، ولا نعتدي على حقوق النّاس وكراماتهم وأعراضهم وأموالهم، ولا نبادر إلى الغيبة والبهتان.
كم من النَّاس يخافون ممن يملكون القوَّة والجاه، فيهابونهم ويفعلون كلَّ شيء يقرّبهم إليهم، ويتصرّفون معهم بكلّ انضباطيَّة وحياء وتودّد، وعندما يأتون إلى حقّ الله عليهم، تراهم يتهرَّبون من مسؤوليَّاتهم تجاهه، ولا يقيمون له وزناً واعتباراً، في تأدية حمده وشكره، وكفِّ أذاهم عن النّاس، والتزام حدوده! أليس أجدى بنا أن نلتزم الحياء مع الله، وهو {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]؟!
فمن علامات الإيمان، حياء اللّسان؛ حيث نعرف كيف نضبط ألسنتنا، فلا نقول إلا كلمة الحقّ، ونبتعد عن قول الزّور وشهادة الباطل، وإطلاق الفتن والشّائعات والكلام الفاحش البذيء الّذي يهتك الحرمات والأعراض.
ومن علامات الإيمان، الابتعاد عن آفة الكذب؛ هذا الكذب المقيت عند الله، والَّذي لا يؤدّي إلا إلى الخراب والفساد، فلا يمكن للإنسان المؤمن أن يعيش الحياء مع الله تعالى، وهو يخون الأمانة، ولا يؤدّي الحقوق إلى أهلها، ويخون أمانة العقل، فلا يفكّر ولا يتدبَّر في أموره...
ومن علامات حياء القلب، ألا يتحرّك إلا في حبّ الله وحبّ الناس، ولا يحمل إلا عطفاً ورحمةً وحناناً، ويرفض أن يحمل بين جنبيه غلاً أو حقداً أو ضغينةً على أحد.
أن تعيش الحياء مع الله تعالى، معناه أن تكون على خُلُقٍ كريم حسَن، فتبتعد عن المزاجيّة والعصبيّة والانفعاليّة، وأن تكون قريباً إلى قلوب النّاس، محبّباً إليهم وودوداً، فيشعروا معك بالأمن والطَّمأنينة والأنس.
والمؤمن الَّذي يستحي من الله تعالى، يحمله هذا الحياء على أن يعيش الاستقامة في قوله وعمله وسلوكه، فيمنعه حياؤه من أن يعصي الله في كبيرة أو صغيرة. لذا، هو دائم الحيطة والحذر من ارتكاب الذّنوب والمعاصي.
كما أنَّ الحياء من الله تعالى، يجعل من الإنسانِ المؤمنَ الموحِّد لله، الَّذي يعيش التَّوحيد العمليَّ في جميع حركاته وسكناته، فيكون الله تعالى حاضراً في قلبه وعقله، ويحسب حسابه تعالى في كلِّ شيء.
ومن علامات الحياء من الله، أن تغضَّ بصرك عمَّا حرَّم الله النّظر إليه من المفاتن الّتي تثير الغرائز والشّهوات، وأن تصون أذنيك عمّا يحرم السَّماع إليه، وأن تكون عيناك مشدودتين إلى ما أحلَّ الله، وأن تستمع أذناك إلى الكلام الّذي ينعش الرّوح، ويحيي القلوب والنّفوس.
إنَّ الحياء من صفات المؤمنين الباحثين عن رضا الله، السَّاعين لأن يكونوا من أهل طاعته ورضوانه ومحبَّته.
من هنا، تأتي أهميّة أن نربّي أنفسنا وأبناءنا على الحياء من الله تعالى، وأن يكونوا قدوةً في هذا السبيل، وبخاصّة في زمن كثرت المغريات والانحرافات، وباتت الأجيال محاصرةً بكلّ أنواع الضّغوطات الّتي تحاول جرّها إلى مهالك الفساد والفوضى والانحطاط، فالله تعالى أرادنا أن نستحي منه، بأن نشعر بمراقبته إيّانا في السرّ والعلانية، وأن نشعر بحضوره الدّائم في نفوسنا، فلا يغيب عنّا للحظةٍ واحدة.
فلنتخلّق بأخلاق الله تعالى، ولننمِّ نبتة الحياء في نفوسنا، ولنسقها بكلِّ فعلٍ يقرّبنا إلى الله، ولنعصم أنفسنا ممّا حرّمه تعالى علينا، ولنقبل على كلّ ما أحلّه لنا، كي نفوز برحمته وعطفه.
أيّها المؤمنون، الفرصة أمامنا متاحة، فلنتُب إلى ربّنا، ولنستحِ منه، ولنخلص له، كي نحصل على التّوبة والمغفرة والفوز.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.