العبادة هي التجسيد الحقيقي للإيمان

العبادة هي التجسيد الحقيقي للإيمان

قد يتساءل بعض الناس: لماذا قال النبي نوح(ع): {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} ولم يقل لهم آمنوا بالله أو وحدوه، فإنَّ الدعوة إلى العبادة، لا بدَّ من أن تكون متفرّعةً عن الدعوة إلى الإيمان، إذ لا عبادة بدون إيمان.

ونجيب عن ذلك بأنّ الإيمان ـ في الرسالات الإلهيَّة ـ لا يمثّل فكراً تجريدياً، كما هو الإيمان بالحقائق الرياضيَّة أو الفلسفيَّة، بل هو فكر للحياة وللعمل، لا ينفصل فيه جانب التصور عن الممارسة؛ فللإيمان بُعده العملي إلى جانب بعده النظري، لأنَّ المطلوب هو الإحساس بوجود الله بالمستوى الَّذي يعيش فيه الإنسان حالة الارتباط به في أجواء الطاعة، كما يعيش حالة الارتباط به من خلال حركة الوجود، في ما تمثله الحقيقة الإيمانيَّة من ارتباط وجود الإنسان بالله لجهة البدء والامتداد والنّهاية... وهكذا نجد أنَّ الرّسالات تطرح قضيَّة العبادة في أجواء طرح قضيَّة التوحيد، لتؤكد العلاقة الطبيعيَّة بين توحيد العقيدة وتوحيد العبادة، فلا معنى لأن تؤمن بالله من دون عبادة، كما لا معنى للعبادة من دون إيمان. ولهذا كان التأكيد على العبادة باعتبارها التجسيد الحقيقي للإيمان، ويبقى الإيمان ـ في أسلوب الدعوة ـ قضيّة لا تحتاج إلى الاستدلال أو المناقشة، لأنها من بديهيّات القضايا الفكريَّة؛ ولهذا لاحظنا أنَّ النّبي نوح قد طرحها كشيءٍ مسلَّمٍ به لا مجال للخلاف فيه، لما يوحي به قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}، على ضوء التصوّر القرآني الَّذي لا يرى في الكفر مشكلة فكريَّة تعترض الكافرين لتبعدهم عن خط الإيمان، بل يرى فيه مشكلة ذاتيةً نفسيةً وأخلاقيةً مصدرها اللاّمبالاة، أو عقدة من الالتزام بالفكر الجديد... فليس بين الإنسان والإيمان إلا أن يثير الاهتمام في نفسه بالحقيقة ويتخلّص من العقدة الذاتيّة، لأنَّ ذلك يحطم الحاجز الَّذي يفصله عن الإيمان، ويؤمّن له لقاء الحقيقة بطريقةٍ طبيعيةٍ.

وقد يرد سؤال ثانٍ: لماذا اكتفى القرآن في حديثه عن رسالة نوحٍ بهذه الكلمة: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}؟ والجواب: إنَّ معنى العبادة هو الخضوع لله والتزام الخط الإلهي الَّذي جاء به الرسل في ما يتعلَّق بإقامة العدل المرتكز على النّظام التفصيلي الكامل الَّذي يضع لكلّ ذي حقّ حقه، ويثير الحياة في جوٍّ من الانضباط والالتزام بأوامر الله ونواهيه... وهذا ما يجعل من الدعوة إلى عبادة الله دعوة إلى بناء الحياة على أساس إسلام الأمر إلى الله في كلّ شيء، كما توحي بذلك الآية الكريمة الّتي تلخّص الإيمان في كلمتين: {الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ}[فصلت: 30]، في ما تمثله كلمة {رَبُّنَا اللَّهُ} من المنهج الفكري والعملي للالتزام، وفي ما تمثله كلمة {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} من الحركة العمليَّة في هذا الاتجاه.

وربما كان هذا الأسلوب من أفضل الأساليب في تقديم العقيدة بطريقةٍ موجزةٍ موحيةٍ، تحمل في داخلها معنى الشمول والامتداد، ليعيش الإنسان التصور الإيماني بعيداً عن المتاهات التفصيليَّة التحليليَّة التي قد تضيّع عليه الكثير من حقائق الإيمان. {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهذا هو الأسلوب الإيماني في إثارة الشّعور الذاتي بالخوف، من أجل تحويل ذلك إلى شعور بالاهتمام بالفكرة الَّتي تقدم إليهم، ليناقشوها ويفكروا فيها من أجل الوصول إلى القناعات اليقينيَّة الحاسمة في المسألة، لأنَّ الإنسان لا يحس بالمسؤوليَّة في اتخاذ المواقف الفكريَّة والعمليَّة، إلا إذا خاف على حياته من النّتائج السّلبية الَّتي يسبّبها الإهمال واللامبالاة. وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ هذا التّخويف لا يعتبر سبيلاً للضّغط من أجل الإقناع، بل يتخذ وسيلةً من أجل إثارة الاهتمام بالفكرة، للوصول من خلال الحسابات الفكريَّة إلى القناعة.

ولا بدَّ لنا من أن نستعمل هذا الأسلوب القرآني في الدَّعوة إلى الله، بعيداً من كلّ الأوهام الَّتي تحاول الإيحاء بكونه أسلوباً لا ينسجم مع طبيعة الخطّ الفكريّ الَّذي يحترم في الإنسان إنسانيّته، فلا يلجأ إلى ممارسة الضّغوط عليه من أجل إقناعه بما لا يحس بضرورة الاقتناع به، فإنَّ مثل هذا الأسلوب يؤكّد إنسانيَّة الإنسان، لأنّه يسعى إلى تحريك طاقاته من خلال عناصر الإثارة الطبيعيَّة في حياته في ما خلقه الله فيه من غرائز ذاتيّة تساهم في إيصاله إلى غاياته من أقرب طريق.

المصدر: تفسير من وحي القرآن 

قد يتساءل بعض الناس: لماذا قال النبي نوح(ع): {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} ولم يقل لهم آمنوا بالله أو وحدوه، فإنَّ الدعوة إلى العبادة، لا بدَّ من أن تكون متفرّعةً عن الدعوة إلى الإيمان، إذ لا عبادة بدون إيمان.

ونجيب عن ذلك بأنّ الإيمان ـ في الرسالات الإلهيَّة ـ لا يمثّل فكراً تجريدياً، كما هو الإيمان بالحقائق الرياضيَّة أو الفلسفيَّة، بل هو فكر للحياة وللعمل، لا ينفصل فيه جانب التصور عن الممارسة؛ فللإيمان بُعده العملي إلى جانب بعده النظري، لأنَّ المطلوب هو الإحساس بوجود الله بالمستوى الَّذي يعيش فيه الإنسان حالة الارتباط به في أجواء الطاعة، كما يعيش حالة الارتباط به من خلال حركة الوجود، في ما تمثله الحقيقة الإيمانيَّة من ارتباط وجود الإنسان بالله لجهة البدء والامتداد والنّهاية... وهكذا نجد أنَّ الرّسالات تطرح قضيَّة العبادة في أجواء طرح قضيَّة التوحيد، لتؤكد العلاقة الطبيعيَّة بين توحيد العقيدة وتوحيد العبادة، فلا معنى لأن تؤمن بالله من دون عبادة، كما لا معنى للعبادة من دون إيمان. ولهذا كان التأكيد على العبادة باعتبارها التجسيد الحقيقي للإيمان، ويبقى الإيمان ـ في أسلوب الدعوة ـ قضيّة لا تحتاج إلى الاستدلال أو المناقشة، لأنها من بديهيّات القضايا الفكريَّة؛ ولهذا لاحظنا أنَّ النّبي نوح قد طرحها كشيءٍ مسلَّمٍ به لا مجال للخلاف فيه، لما يوحي به قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}، على ضوء التصوّر القرآني الَّذي لا يرى في الكفر مشكلة فكريَّة تعترض الكافرين لتبعدهم عن خط الإيمان، بل يرى فيه مشكلة ذاتيةً نفسيةً وأخلاقيةً مصدرها اللاّمبالاة، أو عقدة من الالتزام بالفكر الجديد... فليس بين الإنسان والإيمان إلا أن يثير الاهتمام في نفسه بالحقيقة ويتخلّص من العقدة الذاتيّة، لأنَّ ذلك يحطم الحاجز الَّذي يفصله عن الإيمان، ويؤمّن له لقاء الحقيقة بطريقةٍ طبيعيةٍ.

وقد يرد سؤال ثانٍ: لماذا اكتفى القرآن في حديثه عن رسالة نوحٍ بهذه الكلمة: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}؟ والجواب: إنَّ معنى العبادة هو الخضوع لله والتزام الخط الإلهي الَّذي جاء به الرسل في ما يتعلَّق بإقامة العدل المرتكز على النّظام التفصيلي الكامل الَّذي يضع لكلّ ذي حقّ حقه، ويثير الحياة في جوٍّ من الانضباط والالتزام بأوامر الله ونواهيه... وهذا ما يجعل من الدعوة إلى عبادة الله دعوة إلى بناء الحياة على أساس إسلام الأمر إلى الله في كلّ شيء، كما توحي بذلك الآية الكريمة الّتي تلخّص الإيمان في كلمتين: {الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ}[فصلت: 30]، في ما تمثله كلمة {رَبُّنَا اللَّهُ} من المنهج الفكري والعملي للالتزام، وفي ما تمثله كلمة {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} من الحركة العمليَّة في هذا الاتجاه.

وربما كان هذا الأسلوب من أفضل الأساليب في تقديم العقيدة بطريقةٍ موجزةٍ موحيةٍ، تحمل في داخلها معنى الشمول والامتداد، ليعيش الإنسان التصور الإيماني بعيداً عن المتاهات التفصيليَّة التحليليَّة التي قد تضيّع عليه الكثير من حقائق الإيمان. {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهذا هو الأسلوب الإيماني في إثارة الشّعور الذاتي بالخوف، من أجل تحويل ذلك إلى شعور بالاهتمام بالفكرة الَّتي تقدم إليهم، ليناقشوها ويفكروا فيها من أجل الوصول إلى القناعات اليقينيَّة الحاسمة في المسألة، لأنَّ الإنسان لا يحس بالمسؤوليَّة في اتخاذ المواقف الفكريَّة والعمليَّة، إلا إذا خاف على حياته من النّتائج السّلبية الَّتي يسبّبها الإهمال واللامبالاة. وفي ضوء ذلك، نفهم أنَّ هذا التّخويف لا يعتبر سبيلاً للضّغط من أجل الإقناع، بل يتخذ وسيلةً من أجل إثارة الاهتمام بالفكرة، للوصول من خلال الحسابات الفكريَّة إلى القناعة.

ولا بدَّ لنا من أن نستعمل هذا الأسلوب القرآني في الدَّعوة إلى الله، بعيداً من كلّ الأوهام الَّتي تحاول الإيحاء بكونه أسلوباً لا ينسجم مع طبيعة الخطّ الفكريّ الَّذي يحترم في الإنسان إنسانيّته، فلا يلجأ إلى ممارسة الضّغوط عليه من أجل إقناعه بما لا يحس بضرورة الاقتناع به، فإنَّ مثل هذا الأسلوب يؤكّد إنسانيَّة الإنسان، لأنّه يسعى إلى تحريك طاقاته من خلال عناصر الإثارة الطبيعيَّة في حياته في ما خلقه الله فيه من غرائز ذاتيّة تساهم في إيصاله إلى غاياته من أقرب طريق.

المصدر: تفسير من وحي القرآن 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية