يتحدّث الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عمّا يعلّمه لرسوله من الدعاء، وما يخطِّط له من الخطوط في حركة الدعوة إليه وتعالى، وفي الآفاق التي يبلغها الإنسان الذي يتحرك في مسؤولياته بين سلب وإيجاب، يقول سبحانه: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[1].
إنَّ الله تعالى يقول لرسوله وهو يحدثه عن النتائج القاسية التي يواجهها الذين ظلموا أنفسهم في الحياة الدنيا، سواء كان ذلك ظلماً في العقيدة أو في غير ذلك، كالذين ظلموا ربهم بإنكار وجوده أو بإنكار توحيده، وظلموا أنفسهم، إضافةً إلى ظلمهم لحق ربهم عليهم بالطاعة والإخلاص في العبادة، فاستحقوا بذلك العذاب، فالله يقول للرسول: قل وأنت مبتهلٌ إلى الله: إذا أريتني يوم القيامة ما يوعد به الظالمون من العذاب، فلا تجعلني معهم، ومعنى ذلك، أن لا يجعله الله تعالى مع الذين ظلموا، بأن يوفّقه في الدنيا، في أن لا يظلم نفسه، ولا يظلم ربه، ولا يظلم الناس من حوله.
وبذلك، فإنه لا يكون معهم، لأن الإنسان إنما يُحشر مع الظالمين فيما إذا سار في الخط الذي ساروا فيه، وأخذ بالانحراف الذي انحرفوا فيه. والله تعالى يستجيب لنبيّه بأنه سوف يريه ما يحدث لهؤلاء الظالمين من العذاب نتيجة ظلمهم: {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}[2]، فهذا ليس من التمنيات التي لا يبلغها الإنسان، بل إن الله تعالى يكرمك بأن يفتح عينيك ويعطيك الفرصة في يوم القيامة لترى ما يحل بهؤلاء الناس الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو بالانحراف عن خطّ الاستقامة.
ثم يقول الله تعالى لنبيّه، إنك إذا أردت أن تتعامل مع الناس الذين هم مسؤوليتك في الدعوة والنصح والتوجيه، حاول أن تستعمل أفضل الأساليب السلمية التي تقنعهم بحسب طبيعتها، والتي تكون حجة عليهم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُالسَّيِّئَةَ}، ولا تردّ بالأساليب السلبية التي يواجهونك بها، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}[3]، نحن أعلم بالوسائل والأساليب التي يأخذون بها في ما يتحدثون به، مما لا ينسجم مع خط الحق ومع خط المسؤولية.
أما إذا كنت في المجتمع ـ وفي المجتمع الكثير من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ـ فقل: {رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[4]، أعوذ بك من وساوسهم، ومن كل حبائلهم وخدعهم، وكل أمانيهم وغرورهم ورجلهم وخيلهم وشركائهم، لأن هؤلاء الشياطين وضعوا من أجل أن يضلوا الإنسان عن الخط المستقيم، وينحرفوا به عمّا أراده الله له من الأخذ بأسباب المسؤولية.
ومن الطّبيعي أنَّ النبي(ص) معصوم من الخضوع لهمزات الشياطين ولوساوسهم، ولكن ربما كان هذا على طريقة ما ورد عن الإمام محمد الباقر(ع): "إنَّ القرآن نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة"[5]، فالمخاطب هنا هو الناس، ولكن من خلال مخاطبة الرسول(ص)، لإبراز أهمية هذا الموضوع، فإذا كان النبي يدعو ربه أن يجيره من همزات الشياطين وهو من هو في عصمته، فكيف بالنسبة إلى الناس الآخرين المعرّضين لكل ما يقوم به الشيطان في خطواته التي يُضلهم بها، {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}[6]، أي أن يحيطوا بي، وأن يكونوا في ساحتي، ويتدخلوا في أموري وفي مشاريعي، ليعبثوا بها حتى تنقلب من حالة الخير إلى حالة الشر.
ثم يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الناس الذين ظلموا أنفسهم وعن مصيرهم في الآخرة، حتى نستعد لأنّ لا يكون مصيرنا مصيرهم، وذلك بأن نخلص لله سبحانه وتعالى في ما حملنا من المسؤوليات، فنطيعه حق طاعته، ونعبده حق عبادته، ونستقيم على خطه المستقيم، لأنّه {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، بعد أن أسلف ما أسلفه من الانحراف عن خط الله سبحانه وتعالى في الدنيا، {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}[7]، لأنه كان قبل الموت لا يُصدِّق بما بعد الموت من حساب المسؤولية، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[8]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[9]، فإذا عاين هذا الموقف، ورأى أنَّ ما قاله له الرسل حق، وأن هناك آخرة، ويرى أن العمل الصالح يؤجر عليه الإنسان، والعمل غير الصالح يُعاقب عليه. عند ذلك، يطلب من الله تعالى أن يعيده إلى الدنيا، بعد أن عاين كل ذلك ليعمل عملاً صالحاً، حتى يأخذ النتائج من خلال ذلك، فيتراجع عما فعله في المرحلة السابقة.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[10]، والجواب أنّ الفرصة فاتت، فليس هناك إلا فرصة واحدة، وهي فرصة العمر الذي يقضيه الإنسان في الدنيا، ويقيم الله فيه الحجة عليه، من خلال عقله، ومن خلال الرُسل الذين أرسلهم إليه ليعرِّفوه ربه، وليعرّفوه مسؤوليته أمام ربه.
{كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[11]، ويقول المفسِّرون إنَّ المقصود من البرزخ هو العالم الذي يقع بين الدنيا والآخرة حيث يُحشر الناس. وللبرزخ ثوابه وعقابه في ما يعلمه الله تعالى من ذلك.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ}، وهو البوق، والمقصود به النفخة التي تنتج صوتاً يهزّ الأموات من أجداثهم، فيعودون إلى ربهم ويحشرون إليه، {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}، عند ذلك يتحرك كل إنسان بفرديته، فليست هناك أي عناوين للنسب، سواء كان نسباً كبيراً أو نسباً صغيراً، لأن كل إنسان يُحشر بفرديته {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[12]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ}[13]، ليس هناك أحدٌ لأحد، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[14]، لأنّ الأنساب في الدنيا هي لتنظيم العلاقات بين الناس، ولتقريب من هو قريب أو تبعيد من هو بعيد، ولكن في الآخرة ليس هناك نسب، وليست هناك أية علاقات نسبية، بل يحشر الناس بفرديتهم، ليقدم كل إنسان عمله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[15]، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[16]، لأن كل شخص مشغول بنفسه ولا يسأل أحدٌ أحداً، لأن الجميع واقفون واجمون أمام رب العالمين، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، من خلال العمل الصالح الذي يثقل به ميزان الأعمال، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}، لأنه لم يقدِّم عملاً صالحاً فيما هي مسؤولياته التي تُثقل ميزانه، {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}، لأن الإنسان يربح نفسه يوم القيامة بعمله، كما أنّه يخسرها بعمله أيضاً {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[17]، عابسون مقطِّبون من خلال طبيعة العذاب.
ويتوجّه النداء إليهم من الله أني أقمت عليكم الحجة، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}[18]، ألم يأتكم الأنبياء؟ ألم تستمعوا إلى الآيات التي تعرفكم لقاء يومكم هذا وتعرفكم مسؤولياتكم أمام ربكم {فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}، ماذا نفعل؟ إنه شقاؤنا؛ سوء عاقبتنا، سوء أعمالنا، النفس الأمارة بالسوء، هذه غلبت علينا، فانحرفنا عن الخط المستقيم الذي أردْتَنا أن نسير عليه {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}[19]، تائهين، لم نسلك طريق الهدى {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[20]، لن نعود إلى ما كنا عليه، {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا}، فقد أقمت عليكم الحجة، ولم أُقصِّر في إبلاغكم ما يجب عليكم، {وَلا تُكَلِّمُونِ}[21]، لا تحكوا معي، وهذه غاية الاحتقار لهؤلاء الناس من قبل رب العالمين.
ثم يقول لهم كيف كان تعاملكم مع الناس المؤمنين ومع المتقين؟ وكيف كنتم تسخرون منهم في الدنيا عندما كنتم تعيشون معهم؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[22]، يدعون ربهم بالغداة والعشي، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا}، فأخذتم تسخرون منهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ}، جزيت هؤلاء المؤمنين، هؤلاء المستغفرين، هؤلاء المسترحمين، هؤلاء الذين ساروا على الخط في طاعتهم لله سبحانه وتعالى، {بِمَا صَبَرُوا}، أمام التحديات التي تأتي من داخل نفوسهم الأمارة بالسوء، أو صبروا من خلال التحديات التي توجه إليهم من الكافرين {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[23]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[24].
*من محاضرة لسماحته
[1] [المؤمنون:93-94]
[2] [المؤمنون:95]
[3] [المؤمنون:96]
[4] [المؤمنون:97]
[5] [المحقق الحلي، ج 1، ص 23]
[6] [المؤمنون:97-98]
[7] [المؤمنون:99-100]
[8] [المطففين:6]
[9] [النحل:111]
[10] [المؤمنون: 99، 100]
[11] [المؤمنون:100]
[12] [مريم:95]
[13] [الأنعام:94]
[14] [عبس:34-37]
[15] [النحل:111]
[16] [المؤمنون:101]
[17] [المؤمنون:103-104]
[18] [المؤمنون:105-106]
[19] [المؤمنون:105-106]
[20] [المؤمنون:107]
[21] [المؤمنون:108]
[22] [المؤمنون:109]
[23] [المؤمنون:110-111]
[24] [المطففين:26]