تختلف أحكام التقاط الضالة (أي: الحيوان الضائع) في برية لا عمران فيها عن أحكام التقاطها في مواضع العمران؛ والمراد بمواضع العمران: (ما حول القرى من المواضع التي تسرح فيها البهائم آمنة ـ عادة ـ من السباع). وتفصيل ذلك يقع في مسائل:
ـ لا يجوز التقاط الحيوان الضائع في كل موضع يؤمن عليه فيه من السباع، إما لكونه في مواضع العمران، أو في غيرها لكنَّه كان على حالة من القوة أو ضخامة الجسد أو سرعة العدو بحيث يحفظ نفسه من صغار السباع كالذئب والثعلب، مع ندرة السباع الخطرة التي يخشى عليه منهـا؛ وكان ـ إضافة إلى ذلك ـ بحيث لا يخشى عليه من التلف لمرض أو جوع أو تردٍ في بئر أو من شاهق. فإن لم يكن كذلك، بأن كان في برية لا عمران فيها ولا يحفظ نفسه من سباعها، أو كان في عمران لكنه كان مريضاً أو يفقد المرعى أو يخشى من ترديه في بئر أو نحو ذلك، جاز التقاطه على كراهة، إلا أن يكون في معرض التلف بحيث يعد تركه هدراً للمال وتضييعاً له فيجب التقاطه.
ـ يجب على من التقط الضالة أمور:
الأول: التعريف عنها، فإن كان الإلتقاط غير جائز له فالتقطها رغم ذلك، عرَّف عنها في الأماكن التي يرجى تعرف المالك عليها فيها حتى ييأس من معرفته فيتصدق بها ـ حينئذ ـ عن صاحبها، والأحوط وجوباً أن يكون بإذن الحاكم الشرعي، وكذا حكم ما لو وجب عليه الإلتقاط خشية التلف. وأما إن كان الالتقاط جائزاً ـ كما في الملتقط في البرية مع عدم امتناعه بنفسه، كالشاة ونحوها ـ عرَّف عنه في موضع الالتقاط إن كان فيه نُزَّال، فإن لم يَعرفْ المالك جاز له تملكه والتصرف فيه بالأكل أو البيع أو نحوهما، كما يجوز له إبقاؤه أمانة عنده إلى أن يعرف صاحبه ما دام لم ييأس من معرفته. هذا، وحيث يجوز له التقاطه، ويتوقف التعريف عنه على بذل مال، فإن وجد باذل متبرع وجب الاكتفاء به، ولم يجز معه بيعُ ما لَهُ من نماء ولا إجارةُ ما لَه من منافع مع وجودها، وإلا جاز له فعل ذلك والإنفاق عليه منه، فإن لم يكن له شيء من ذلك وجب عليه الإنفاق من ماله ثم الرجوع به على مالكه إن كان قد نوى الرجوع. أما إذا لم يكن التقاطه جائزاً فليس له الإنفاق عليه من منافعه، بل ينفق عليه من ماله دون أن يرجع به على المالك إن وجده حتى مع نية الرجوع عليه.
الثاني: يجب عليه حفظه ورعايته من التلف والتعيُّب وتقديم الماء والعلف والعلاج بالنحو الذي يحتاجه، وذلك حتى يتم التعريف عنه ويتحدد مصيره ما بين التصدّق به أو تملكه أو إبقائه أمانة عنده، سواء كان قد جاز له التقاطه أو لم يجز له فالتقطه عاصياً؛ وحينئذ فإن كان ثمة مصدر مجاني لحاجات الحيوان، كالحشيش النابت في البرية، أو وجد متبرع بها، فهو خير، وإلا فإن كان له نماء ومنافع يمكن بيعها أو إجارتها والإنفاق عليه منها، وكان التقاطه جائزاً، أنفق منها، وإلا وجب عليه الإنفاق من ماله، ثم إذا ظهر المالك جاز له الرجوع عليه بما أنفقه إن كان قد نوى الرجوع عليه وكان التقاطه جائزاً، وإلا لم يرجع عليه بشيء.
الثالث: ضمانه عليه، فإن لم يكن أَخْذُه جائزاً له كانت يده عليه يد عدوان، فيضمن منافعه المفوّتة ولو لم يستوفها ومنافعه الفائتة إذا استوفاها، كما يضمن تلفه أو تعيبه مطلقاً، ولا يرتفع عنه الضمان بإعادته إلى محل التقاطه، بل يجب عليه إيصاله إلى صاحبه إن عرفه، فإن تلف عنده قبل إيصاله إلى مالكه، أو قبل التصدق به بإذن الحاكم الشرعي إن لم يعرف مالكه، ضمنه ولو كان التلف بآفة طبيعية أو من أجنبي. وإن كان أخْذُه جائزاً له أو واجباً عليه لم يضمنه إذا تلف عنده بدون تعد منه ولا تفريط، نعم، إذا كان الملتقط هو المتلف، وذلك كما لو أتلفه من غير قصد، أو كما في صورة ما لو جاز له تملكه فأتلفه بمثل الأكل أو البيع ثم عرف صاحبه، فإنَّ عليه ضمان قيمته له يوم الأداء.
ـ ما يكون للحيوان من نماء منفصل خلال مدة التقاطه يختلف حكمه على نحوين:
الأول: ما إذا لم يجز له التقاطه. وحكمه أنه لا يجوز لملتقطه أخذ ما يبقى من نمائه المنفصل، كشعره وصوفه وولده ونحوها، لأن يده عليه يد عدوان، فيجب حفظه مع العين حتى يعرف صاحب الحيوان فيدفعه إليه مع نمائه، أو ييأس من معرفته فيتصدّق به مع الحيوان عن صاحبه بإذن الحاكم الشرعي، وأما ما يفسد من نمائه، بحيث لا يبقى حتى يصل إلى صاحبه، فإنه يجب عليه التصدّق به عنه بإذن الحاكم الشرعي قبل فساده. هذا حكم نمائه، أما منافعه فإنه لا يجوز لمن يده يد عدوان أن يستوفي شيئاً من منافعه، فإن استوفى منها شيئاً أثم، وعليه ضمان منافعه المفوّتة ولو لم يستوفها، وضمان منافعه الفائتة إذا استوفاها. هذا، ولا يحق له احتساب نمائه ومنافعه في الإنفاق عليه، لأن نفقته مضمونة عليه لا على المالك بعد كون يده يد عدوان.
الثاني: ما إذا جاز له التقاطه. وحكمه أنه يجوز له أخذ نمائه المنفصل وأكله أو بيعه خلال مدة التعريف، سواءً ما يُسرع إليه الفساد وغيره، فإن عرف مالكه بعد ذلك ضمن له ما أخذ بقيمته حين الأداء، إلا أن يكون قد احتسبه بإزاء ما أنفق من ماله على الحيوان على أساس قيمة كل منهما. وكذا حكم منافعه المستوفاة منه دون غير المستوفاة، مفوّتة كانت أو فائتة. هذا حكمه خلال فترة التعريف، أما حكمه بعد انقضاء فترة التعريف فإنه يتبع اختيار الملتقط، فإن تملكه تملك معه نماءه ومنافعه، وتكون مضمونة عليه بقيمتها يوم الأداء إن تبيّن صاحبه، إذا لم يكن قد احتسبها في نفقته، وكذا لو أبقاه عنده أمانة، وإن تصدّق به لم يكن عليه شيء.
ـ إذا تعمد صاحب الحيوان تركه في الطريق أو في خلاء من البرية، فإن عُلم بأنه قد أعرض عنه وأباح تملكه لآخذه صار كالمباحات الأصلية، فيجوز أخذه ويملكه آخذه دون أن يكون مضموناً عليه؛ وإن لم يعلم ذلك، بل عَلم ـ أو احتمل ـ أنه تركه للعجز عن الإنفاق عليه أو عن معالجته أو لعجز الحيوان عن السير وحاجته إلى الراحة أو نحو ذلك من الأسباب الداعية إلى تسريح الحيوان، فإن كان الحيوان قادراً على العيش في موضعه، ولا يخشى عليه فيه من التلف، لم يجز أخذه، ولو أخذه ضمنه بالنحو السابق، وإن لم يكن الموضع صالحاً لعيشه فيه، ولم يعلم نية المالك الرجوع لأخذه قبل ورود الخطر عليه، جاز لكل أحد أخذه دون ضمان.
ـ إذا دخل الحيوان دار الإنسان أو نحوها من الأماكن المحجوبة لم يصدق بذلك أنه أخذه ووضع يده عليه، ولا يكون ـ حينئذ ـ في ضمانه، وله إخراجه منها، بل يجب عليه إن احتمل عدم ضياعه من صاحبه، ولو علم ضياعه جرى عليه حكم الحيوان الملتقط في العمران الذي سبق ذكره، أي: عرَّفه من حوله فإن عرفه صاحبه دفعه إليه، وإن لم يعرفه أحد تصدق به عن صاحبه، والأحوط وجوباً أن يكون بإذن الحاكم الشرعي.
ـ إذا ملك الطائر جناحيه، كفرخ الحمام ونحوه، فطار عن مالكه ووقع في دار غيره، حل له أخذه، فإن عرف صاحبه وجب رده إليه، وإن لم يعرفه وادّعاه من يوثق بصدقه دفعه إليه، ومع عدم الأمرين يجوز لآخذه تملكه دون تعريف، فإن تبيّن صاحبه بعد ذلك دفعه إليه إن كان موجوداً أو عوّضَ عليه قيمته إن كان قد أتلفه.