الحج
18/07/2021

الحجُّ: استجابةٌ لنداءِ اللهِ وملتقى المسلمين

الحجُّ: استجابةٌ لنداءِ اللهِ وملتقى المسلمين
 
 الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده المصطفى ورسوله المنتجب، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
يقول الله في كتابه الكريم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96 – 97].
وقال سبحانه مخاطباً نبيّه إبراهيم (ع): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحجّ: 27 – 28].
أيّام الحجّ
هذه الأيّام هي أيّام الحجّ، وهذه الأيام هي الأيام التي ينتظر فيها الحجّاج، أن ينطلقوا غداً أو بعد غد إلى عرفات، ليقفوا جميعاً في يوم الحجّ الأكبر، الذي يقف فيه الحجاج جميعاً؛ عربيّهم وعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، غنيّهم وفقيرهم، أن يقفوا جميعاً في تلك الصحراء أمام الله، ليشهدوه على أنهم جاؤوا تلبيةً لدعوته، جاؤوا من أجل أن يشهدوا الله على أنهم يوحّدونه ولا يشركون به شيئاً، لا يشركون به أحداً، سواء كان من الدّول العظمى أو من الدول الصغرى، لا يشركون به أحداً، سواء كان ملكاً أو أميراً أو رئيساً، لا يشركون به أيّ شيء، لأنَّ الله هو الواحد الأحد، ويشهدونه على أنهم في خطِّ رسول الله يسيرون؛ الإسلام دينهم، عقيدتهم، شريعتهم، منهجهم في الحياة، سياستهم عندما يريدون أن يتحركوا في السياسة، واجتماعهم عندما يريدون أن يتحركوا في خطِّ الاجتماع.
تلك هي الرّوح الّتي يريد الله لها أن تعيش أجواء الحجّ، الرّوح التي جاءت مهاجرةً عن كلّ خصوصيّاتها، وعن كلّ مواقعها، وعن كلّ الساحات الحميمة التي كانت تعيش فيها، الجميع ينطلقون، كلّ بحسب الوسيلة التي يملكها. لماذا ينطلقون؟ ليقفوا هناك، ليرفعوا رؤوسهم إلى الله من كلّ قلوبهم، ومن كلّ أعماقهم، ومن كلّ مواقفهم، ومن كل تطلعاتهم للحياة.. الكلّ ينادونهم؛ الدول تناديهم ليدخلوا في سياستها، والملوك ينادونهم ليتعبّدوا لهم.. والأمراء، وكلّ مراكز القوى الكافرة والضالّة والطّاغية، ينادونهم من أجل أن ينفّذوا لهم مخطّطاتهم ليستجيبوا لهم، فالمسلمون والمستضعفون يعيشون في ساحة تكثر فيها الأصوات، وتكثر فيها الدَّعوات، وتكثر فيها الاتجاهات، ويكثر فيها كلّ النّاس الّذين يريدون أن ينحرفوا بالمسلمين عن دينهم، ليتّخذوا لهم ديناً هنا وديناً هناك، وحزباً هنا وحزباً هناك.
ولكنَّ الله يقول لإبراهيم (ع): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ...}. اطلب من النّاس، يا إبراهيم، أن يأتوا إلى هذا البيت الّذي أقمته للقائمين وللطّائفين وللركَّع السّجود، ادعُ الناس إلى بيتي، ادعُ الناس إلى ديني، ادع الناس إلى أن يجتمعوا حول هذا البيت، ليطوفوا به ويتعبّدوا لي، وليخلصوا لي، وليوحّدوني، وليرجموا كلّ شياطين الأرض، فيما يرمز إليه الرّجم من رجم الشّيطان، ادعُ النَّاس يا إبراهيم.
الاستجابة لنداء الله
وجاء رسول الله بعد إبراهيم يدعو النَّاس إلى الحجّ، ويقول للنَّاس: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. هذا أمرٌ لله على الناس، {وَمَن كَفَرَ} من لم يحجّ وهو يستطيع {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]، لأنَّ المسلم عندما يحجّ، فإنّه لا يحجّ لأنّ الله يحتاج إلى حجّه، ولأن الله ينتفع بحجّه، ولكنه يحجّ ليشهد منافع له، يحجّ لينتفع هو. ولهذا، من "ركب رأسه" ولم يحجّ، فإنّ الله غنيّ عن العالمين، ليس بحاجة إلى حجّه.
الدعوة تنطلق من كلّ مكان للمسلمين ليستجيبوا لنداء الشّيطان، وتأتي دعوة الله، وينطلق من الأمَّة في كلّ مكان {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النّور: 37]، لينطلقوا ويركبوا كلّ صعب وكلّ مشقّة، ليقفوا هناك في مواقيت الحجّ، ليقولوا لله بكلّ قلوبهم وبكلّ أصواتهم: لبَّيك اللّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنَّ هذه الاستجابة الّتي تنطلق من أعماق المؤمنين، لها مدلول ولها معنى، ولها عمق، كأنّك تقول لله: يا ربّنا، يا ربّ، لقد دعاني كلّ الناس الذين يتحركون في خطِّ الكفر وفي خطِّ الضَّلال وفي خطِّ الطّغيان، دعوني من أجل أن أسير معهم في كفرهم فرفضت، ودعوني لأن أسير معهم في ضلالهم فأبيت، ودعوني لأسير معهم وأشاركهم في طغيانهم فتمرَّدت، لقد تركت الناس كلّهم؛ كبيرهم وصغيرهم، لقد تركت الناس كلّهم وكلّ دعواتهم لآتي إليك يا ربّ، لأستجيب لك، لماذا أستجيب لك؟ لماذا ألبّيك يا ربّ؟ لأنَّ الحمد لك، لك الثّناء، ولك الحمد، وكلّ صاحب حمد في الدّنيا، فحمده مستمدّ من حمدك، لأنك أنت الذي أعطيت للناس كل ما يحمدون به، ولأن كلّ صاحب نعمة، فإنّ نعمته مستمدّة من نعمتك، لأنَّ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النّحل: 53] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النّحل: 18].. وإنَّ كلّ صاحب ملك، فملكه مستمدّ من ملكك، لأنّك {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26].
فإذا كان الحمد لك يا ربّ، وإذا كانت النِّعمة لك يا ربّ، وإذا كان الملك لك يا ربّ، لا يشاركك في نعمتك أحد، ولا يشاركك في حمدك أحد، ولا يشاركك في ملكك أحد، فكيف يمكن أن نجعل شريكاً لك في الألوهيَّة نؤلّهه كما نؤلّهك؟ وكيف يمكن أن نجعل لك شريكاً في العبادة، نعبده كما نعبدك؟ وكيف يمكن أن نجعل لك شريكاً في الطّاعة نطيعه كما نطيعك؟ وكيف يمكن لنا أن نجعل لك شريكاً في الشّريعة، فنأخذ بشريعته كما نأخذ بشريعتك؟
معنى التَّلبية
"لبَّيك، إنَّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك". وإذا لم يكن لك شريك في ذلك كلّه، فلا شريك لك في العبادة، ولا شريك لك في الطَّاعة، نوحِّدك من كلِّ قلوبنا، ونوحِّدك من كلّ أفكارنا، ونوحِّدك من كلِّ مشاعرنا، ونوحِّدك من كلِّ مواقفنا، ونوحِّدك من كلِّ انتماءاتنا، ونوحِّدك من كلِّ التزاماتنا.. لبّيك يا ربِّ لبّيك، ولا نقول لبّيك لغيرك، إلّا لمن يدعون إليك.
ذلك هو الخطّ، وتلك هي الرّوح، ولهذا عندما كان الإمام جعفر الصادق (ع)، وفيما يروى عنه، عندما كان يبدأ الإحرام ويقول لبّيك، يرتجف ويهتزّ ويرتعش، فيقولون له: يا بن رسول الله، لماذا نراك عندما تقول لبّيك ترتجف وتهتزّ وترتعش، يقول لأنّني أقف بين يدي الله، وكلمة التّلبية تعني أنّني أقول له: يا ربّ، لبّيك بكلّ أفكاري، لبّيك بكلّ مشاعري، لبّيك بكلّ مواقفي، لبّيك بكلّ انتماءاتي، لبّيك بكلّ علاقاتي، لبّيك بكلّ أعمالي، لبّيك بكلّ كلماتي... أنا أقول لله هذا، وأخاف أن يطّلع الله على قلبي وأنا أقول لغيره لبّيك، في الوقت الّذي أقول لله لبَّيك.. أليس الكثيرون منا يقولون لله لبّيك هناك، وعقولهم تقول للضالّين وللطّاغين وللمنحرفين لبّيكم هنا؟!... الإمام (ع) كان يقول وهو يعلّمنا ما نريد أن نعيشه، "كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول: لا لبّيك ولا سعديك"، لأنه يعرف أني لم أكن مخلصاً بما أقول، ولم أكن مخلصاً بما أتحدث به..
ولهذا، إنّ التلبية عندما تكون مدخلاً للحجّ، الباب الّذي تدخل فيه إلى الحجّ هو التّلبية، كما أنّ الباب الّذي تدخل فيه للصّلاة هو تكبيرة الإحرام، وتدخل للحجّ، وفي الحجّ صومٌ، لا عن الطعام والشّراب، صومٌ عن كثير من شهواتك، صومٌ عن كثير من نزواتك، صومٌ عن كثير من عاداتك، حتى تتعلّم أنَّك عندما تريد أن تسير في طريق الله، أن لا يؤذيك الحرّ والبرد، وأن لا يؤذيك فقدانك لكثير مما تتطيَّب به وترتاح إليه ومما تشتهيه، صوم عن كثيرٍ من ألوان التّرف، وصوم عن كثير من العادات، وصوم عن كثير من الكلمات، وصوم عن كثير من المجادلات، فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحجّ.
الكعبةُ رمزٌ لطاعة الله
وهكذا تسير في الحجّ، أشعس أغبر، لا يظلّلك شيء من الشّمس، ولا يظلّلك شيء من الحرّ ومن البرد ومن المطر ومن غير ذلك. وتنطلق، حتى إذا جئت إلى مكّة، ورأيت البيت الّذي طهَّره إبراهيم وإسماعيل للطائفين والقائمين والركّع السّجود، واستمعت إلى نداء الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحجّ: 29]، تتطلّع إلى هذا البيت، وأنت في بلادك تتوجّه إليه باعتباره الكعبة، الّذي يريد الله لك مع كلّ المسلمين في العالم أن تتوجّهوا إليه، لا أن تتوجهوا إلى أحجاره، فأحجاره لا تمثّل شيئاً، فقد تغيَّرت أحجار البيت حسب تغيّر بنائه في المئات من السِّنين، ولكنَّ البيت من حيث هو رمزٌ، ساحةٌ لطاعة الله، بيتٌ لله.. فأنت عندما تتوجّه إليه، فإنّك تتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الّذي تعبَّدك بذلك.. وعندما تطوف به، فإنّك تقول لنفسك من خلال ما يوحي إليك به الطّواف، إنّك تطوف بالبيت، باعتباره السّاحة التي يريد الله لك أن لا تتعدَّاها، وساحة البيت تمثّل ساحة عبادة الله، وساحة البيت تمثِّل ساحة طاعة الله، وتمثِّل ساحة الإسلام، وتمثِّل ساحة شريعة الإسلام، كأنَّ الله عندما يقول لك إنَّ عليك أن تطوف بالبيت وله حدود عليك أن لا تتعدَّاها.. إنّ معنى ذلك أنّ عليك أن لا تطوف بساحة إلّا إذا كانت السّاحة لله، وأن لا تطوف ببيت أحد، إلّا إذا كان بيته متّصلاً ببيوت الله، وإلّا إذا كانت حياته متّصلةً بتعاليم الله.. من يطف بالبيت هناك، لا يمكن أن يطوف بالبيت الأبيض والأسود.. إنّ الذين يطوفون بالبيت هناك، عندما يعتمرون وعندما يحجّون، ثم يذهبون ليطوفوا ببيوت الطّغاة في واشنطن وفي لندن وفي باريس وفي موسكو، وفي كلِّ تلك الأماكن، يقبِّلون أعتابها، ويستجدون بركاتها، ويخشعون لها، ويصلّون لها بكلّ سياساتهم ومواقفهم، إنهم لم يطوفوا في البيت، وإنما طافوا بأحجار، لأنَّ هناك فرقاً بين أن تطوف بالبيت من حيث هو معنى، عند ذلك تطوف روحك مع المعنى الّذي يمثِّله البيت، ولكن عندما تكون ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو أيَّ شيء من هذه الدّمى المتحركة في حياتنا السياسيَّة والاقتصاديَّة، فإنَّ جسدك يكون قد طاف بأحجار البيت، ولكنَّ روحك كانت تطوف في مكان آخر، وعقلك كان يتحرَّك في مكان آخر، ومشاعرك تطوف بمكان آخر.
بعض النّاس يطوفون بالبيت في مكَّة، ويطوفون بأماكن اللَّهو في أوروبّا، وبأماكن الطّغيان في أوروبّا وأميركا، وهكذا يلعنهم طوافهم بالبيت، لأنهم عندما يتحركون في حياتهم، فإنهم يرجمون البيتَ بالحجارة، عندما يطوفون ببيوت الّذين يريدون أن يهدّموا البيت في معناه، وإن كانوا يريدون أن يعمّروه في مبناه.. وقصَّتنا ليست قصَّة المباني، ولكنَّها قصّة المعاني، وذلك أن تكون حياتك كلُّها طوافاً بالله، من حيث ما يمثِّله معنى الله من فكرٍ ومن شريعةٍ ومن منهجٍ للحياة.
السّعي بين الصّفا والمروة
وبعد ذلك {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا...}[البقرة: 158].. وتبدأ هناك لتسعى بين الصّفا والمروة، وهما جبلان تعبَّدَنا الله أن نطوف بهما.. لماذا تسعى بين الصَّفا والمروة؟ هل لك شغل؟ هل لك عمل هناك؟ تسعى لأنَّ الله يريد منك أن تسعى.. فساحات الصَّفا والمروة، عندما تذهب من الصَّفا إلى المروة، وعندما ترجع من المروة إلى الصَّفا، ساحات الصَّفا والمروة هي السّاحات التي يريدك الله أن تسير فيها، وتتحرَّك فيها، وتذهب صباحاً إليها، وترجع مساءً منها.. هي ساحات الله فيما أمرك الله أن تتحرَّك في ساحاته..
ولكلِّ بلدٍ صفاه ومروته، لكلِّ بلدٍ ساحته.. فالله يريد لك أن تسعى في كلِّ مكانٍ ترفعُ فيه مستوى النّاسِ علماً، وترفعُ فيه مستوى النّاس على قضاء حوائجهم في الدّنيا، وترفع مستوى الناس سياسةً واجتماعاً وفي كلِّ المجالات.. فعندما تذهب لتكسب رزق عيالك من بيتك إلى مكان العمل، إلى السّوق، إلى المزرعة، إلى المعمل، فأنت تنطلق من الصّفا وتنطلق إلى المروة، وترجع من عملك إلى بيتك من المروة إلى الصَّفا، لأنّك كنت تسعى هناك قربةً إلى الله، وهنا تسعى في عملك قربةً إلى الله. وعندما تخرج في خطِّ الجهاد، تنطلق من بيتِك إلى مواقع جهادِك، وترجع من مواقع جهادِك إلى بيتِك، فأنت تسعى بين الصَّفا والمروة، لأنَّ الله أراد لك أن تجاهد وأن تسير في ساحات الجهاد.
وهكذا، عندما تتحرَّك في حياتك لتواجهَ ظالماً وتواجهَ طاغياً، أو لتخدمَ مؤمناً، أو لتنقذَ مؤمناً، أو لتهديَ ضالاً أو منحرفاً وما إلى ذلك، فأنت تسعى بين الصّفا والمروة، لأنَّ قضيّة السّعي هناك، تشير إليك أنَّ عليك كما سعيت بين الصَّفا والمروة، لأنَّ الله أرادَ لك أن تسعى بينَهما، فإنَّ عليك أن تسعى بين كلِّ نقطةِ بدايةٍ وكلِّ نقطة نهاية، أرادَ الله لك أن تسعى بينَهما من أجلِ هدفٍ يتعلّقُ بحياتِك وبحياةِ النّاسِ، فيما يرضى الله لكَ في حياتِك وفي حياةِ الناس.
وبعد ذلك، ينطلق النّاس في المرحلة الثانية إلى عرفات، وعرفات وقفة تأمّل؛ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة: 198]. ثم بعد ذلك، تنطلق إلى وقفة تأمّل عند المشعر الحرام، ثم تنطلق هناك {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 200 – 201]..
تربية الوعي والإرادة
وهكذا، ينطلق الإنسان في الحجّ ليربّي روحه، وليربّي إرادته، وليربي وعيه في دينه ووعيه لحياته، ليتغيّر روحيّاً وليتغيّر فكريّاً، وليتغيّر على أساس كثير مما اعتاده في حياته، وليكون الإنسان المنفتح على الله، والمنفتح على الناس، والمنفتح على الحياة من خلال انفتاحه على الله، ليكون عنصر خير فاعلاً، يخاف الله في الصَّغير وفي الكبير، ويخاف الله في كلِّ مجال يتحرّك فيه..
وتلك قصّة الحجّ من ناحية فرديّة، فيما يريد الله للإنسان أن يتغيّر فيه، شرط أن يكون حجّه حجاً واعياً، لا حجّاً منغلقاً أعمى.
وقد ورد في بعض كلمات أهل البيت (ع): "ما يُعبَأ بمن يؤمُّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث؛ ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه (سعة صدر، وسعة بال)، وحسن الصّحابة لمن صحبه" .. من رجع من الحجّ وهو كحاله، إذا جاءه الحرام ركض إليه، يمتنع عن الحرام عندما لا يستطيع ارتكاب الحرام، فإذا جاءه الحرام ركض إليه. عندما يرجع من الحجّ وهو ضيّق الصّدر، لا يطيق كلمةً من زوجته، ولا يطيق كلمةً من جاره، ولا يطيق كلمةً ممن حوله، عندما يرجع من الحجّ وليس عنده مرونة يستطيع بها أن يسع الناس من حوله... فالله لا يعتني بهذا الحجّ، ليقول له إنّك جئت الحجّ ورجعت كما كنت، وليست لي حاجة بالحاجّ الذي لا يعطيه الحجّ ورعاً، ولا يعطيه الحجّ سعة صدر، ولا يعطيه الحجّ أخلاقاً يستطيع بها أن يعيش مع النَّاس ويداري النَّاس..
لهذا، على الّذين يغضبون في بيوتهم، ويعيشون مع زوجاتهم كأسوأ ما يعيش الزَّوج مع زوجته، ويعيشون مع جيرانهم كأسوأ ما يعيش الجار مع جاره، ويعيشون مع عمَّالهم وموظَّفيهم كأسوأ ما يعيشُ أصحابُ العملِ مع عمَّالهم وموظَّفيهم، فعليهم أن يعيدوا النّظر في حجّهم، فحجّهم ليس بشيء، لأنّهم لم يستطيعوا أن يتغيّروا بالحجّ في حياتهم العمليّة.. معناه أنهم كانوا يقولون لله لبّيك وكان مزاجهم يقول للشّيطان لبّيك، وكان طبعهم يقول للشّيطان لبّيك، وكانت أيديهم التي يضربون بها النّاس بدون حقّ تقول للشّيطان لبَّيك، وكانت ألسنتهم التي يسبّون بها النّاس تقول للشّيطان لبّيك.. معنى ذلك أنّك لم تكن صادقاً، لأنَّ الحجّ ليس جسداً، ولكنّه روح، ولكنَّه خُلق وسلوك، ولكنَّه هدف، لهذا إنَّ الكثيرين من الناس قد يحجّون ولا يحجّون. ولهذا، ورد في بعض الكلمات: "ما أكثر الضّجيج وأقلّ الحجيج!"، لأنَّ الحجيج ليسوا هم الّذين يطلقون أصواتهم كثيراً، ولكنَّهم هم الّذين يفكّرون في مسؤوليّاتهم أكثر، والّذين يركّزون حياتهم على الخطّ أكثر..
الحجّ مؤتمر عالميّ
وهكذا، هناك في الحجّ مؤتمر إسلاميّ يجتمع فيه الناس من أقصى العالم الإسلاميّ إلى أقصاه، فيما لا يمكن أن يجتمعوا في مكان آخر.. والعالم الإسلاميّ لا يعرف الكثير من قضايا بعضه البعض، فمن في الصّين من المسلمين لا يعرفون الكثير من قضايانا، وقد لا نعرف نحن الكثير من قضاياهم، ومن في أفريقيا وإندونيسيا وغيرهما من بلاد العالم، قد يكون لا يسمع بأسماء بلدان إسلاميّة كثيرة، فضلاً عن أن يعرف ماذا فيها.. فأراد الله أن يجمعهم جميعاً ليتعارفوا وليتآلفوا، وليحاولوا أن يعرضوا كلّ قضاياهم هناك، وليحاولوا أن يتداولوا في كلّ شؤونهم هناك، وليشعر الشّعب الضّعيف من المسلمين عندما يرى الشّعوب الأخرى من بلاد أخرى كبيرة، أنه ليس ضعيفاً، لأنه جزء من عالم إسلاميّ كبير.. وعندما يحاول كلّ بلد مسلم متقدّم أن يعطي تجربته للبلد المسلم المتخلّف، وعندما يحاول كلّ بلدٍ مسلمٍ مجاهد وقف ضدّ الطّغيان وضدّ الاستعمار والاستكبار، أن يعطي تجربته للبلدان المسلمة الواقعة تحت ضغط الطّغيان وتحت ضغط الاستعمار دون أن تعرف ماذا تصنع، وأن يشعر كلّ بلدٍ مسلمٍ أنَّ الإسلام يمكن أن يتحوَّل إلى قوَّة عالميّة كبيرة، لأنَّ ضعف المسلمين في وعيهم للإسلام، وضعف المسلمين أمام مطالبتهم بحكم الإسلام للعالم.. لأنَّ كلّ مسلم يفكّر ضمن دائرته؛ المسلم في لبنان يفكّر في حجم قوّة المسلمين في لبنان، والمسلم في أفريقيا يفكّر في حجم المسلمين في هذا البلد، وهكذا في أوروبا وفي آسيا وفي أيّ بلد آخر. وعندما تدرس طموحاتك وأهدافك من خلال حجمك، فإنك لا تستطيع أن توحي إلى نفسك بالقوّة بهذا الحجم، لأنك تقايس بين قوّتك في حجمك الصّغير، وقوّة الطّغيان والشّرك والكفر في حجمها الكبير. ولكن عندما تفكّر كمسلم، عندما تلتقي هناك في الحجّ بمليوني مسلم يمثّلون أكثر من مليار مسلم في العالم، وتشعر بأنَّ هذا المليار من المسلمين في العالم يملك كثيراً من الثّروات الحيويّة في العالم، ويملك كثيراً من المواقع الاستراتيجيّة في العالم، ويملك كثيراً من المواقع الثّقافيّة في العالم، ويملك كثيراً من الأوضاع العسكريَّة في العالم.. عند ذلك تشعر بأنّ المليار من المسلمين إذا اجتمعوا وإذا تفاهموا وإذا تحاوروا، وإذا حاولوا أن ينقلوا تجارب بعضهم لبعض، وحاولوا أن يكون بعضهم قوّةً لبعض، وانطلقوا في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى، عند ذلك تشعر بأنّ أهدافك يمكن أن تتحقَّق، ويمكن لك أن تعمل من أجل أن تصنع القوَّة في وجه أشرس قوّة، وفي وجه أعتى قوَّة، لأنّك لست وحدك، ولكنَّك رقم يكمل المليار أو أكثر.
ولهذا، أراد الله النّاس أن يتعبّدوه هناك، وفرض على المسلمين أن لا يخلوا البيت الحرام في كلّ سنة، حتى إنّ التشريع الإسلاميّ يقول لك ويقول لأولي الأمر، إذا مرّت سنة ولم يوجد هناك مستطيع، فعلى وليّ الأمر أن يدفع من بيت المال لمن يذهب ليحجّ، حتى لا يخلو بيت الله سنة.. وإذا امتنع النّاس عن الحجّ وهم قادرون على أن يذهبوا إليه، فعلى الوالي أن يجبرهم ولو بالسّوط على أن يذهبوا للحجّ، لأنَّ الله لا يريد لبيته أن يخلو سنة واحدة من المسلمين، ويريد للمسلمين أن يلتقوا فيه، ليشعروا بأنَّ هناك ما يوحّدهم، وليشعروا بأنَّ هناك ما يجمعهم، وليشعروا بأنهم يستطيعون أن يتوحَّدوا في حياتهم كما توحَّدوا في عبادتهم، ويشعروا بأنّهم يستطيعون أن يتوحَّدوا في مواقفهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة كما توحَّدوا في موقفهم في عرفات.. الوحدة هنا نموذج مصغَّر للوحدة العالمية للمسلمين.. ولهذا، أراد لهم أن يطرحوا كلّ شيء.
خطّة الاستعمار
وجاء الاستعمار، وشعر بأنَّ الحجّ يمكن أن يكون قوّة للمسلمين، وكانت الخطّة أن يضعف قوّة المسلمين.. كانت الخطّة أن يجمِّدوا الصَّلاة حتى لا تتجاوز المسجد، وأن يجمِّدوا الصّوم حتى لا يتجاوز شهر رمضان، وأن يجمّدوا الحجّ حتّى لا يتجاوز البيت الحرام.. كانوا يريدون للناس إذا خرجوا من الكعبة، أن ينشغلوا عن كلّ شيء يربطهم بمعنى الكعبة، وإذا خرجوا من عرفات، أن ينسوا أنّ هناك عرفات إلّا في الذّكريات الحالمة التي يتذكَّرها النّاس في سهراتهم للتّفكهة ولمعنى يبتعد عن عرفات.. وهكذا، أراد الاستعمار أن يجمّد العبادة، وأراد أن يوحي إلى الناس أنَّ العبادة نقيض الحياة، وأنّك لكي تعبد الله، عليك أن تنعزل عن الحياة، وأنك كي تقرب إلى الله، عليك أن تبتعد عن السياسة، وأنّك لكي تقرب من الآخرة، عليك أن تبتعد عن الدنيا..
وهكذا، كانت شخصية الإنسان المسلم المثاليّ عند كثير من الناس المسلمين المتخلّفين، هو الذي لا شغل له بالنّاس، عندما يتقاتل النّاس بعضهم مع بعض، يقول ليس شغلي، "فخّار يكسِّر بعضه بعضًا"، عندما تندفع المشاكل لكي تسيطر على الناس، يقول ما لي وللناس، الله هو الذي يدبّر الناس، أنا لست مسؤولاً عنهم، أليس هناك من يقول: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس: 47]... أنا عالم أقعد ببيتي، أنا لست مسؤولاً عن هداية الناس، الله هو المسؤول، عندي فلوس، أنا لست مسؤولاً أن أطعم الناس أو أعطيهم، عندي طاقة، أنا لست مسؤولاً أن أتعب نفسي.. وهكذا بعض الناس يفكّرون.. وهكذا يريدنا الاستعمار أن نفكّر، لأنه يريد أن يعزلنا عن الله، ويريد أن يعزل حياتنا عن الله.. إنّه دائماً يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، لله المسجد، ولله الكنيسة، ولكن ممنوع على الله أن يدخل ساحة السياسة، وممنوع على الله أن يدخل ساحة الجهاد، وممنوع على الله أن يتحدَّث بكلّ هذا! ممنوع، لأنَّ الله يحتاج إلى مرسوم رخصة بالعمل! كما الأحزاب يلزمها رخصة، والحركات يلزمها رخصة، والعمل السياسيّ يلزمه رخصة، كذلك الله عندما يريد أن يحرّك النّاس، يقول ليس عندك رخصة، ليس هناك مرسوم جمهوريّ صادر، ولا هناك مرسوم ملكي ولا أميري، كانت الفكرة هي هذه..
لهذا يقال عندما جاء أحد الضبّاط الإنكليز إلى العراق، لم يكن قد عاش في بلدٍ إسلاميّ قبل ذلك. عند الفجر، سمع شخصاً يؤذِّن، فأمر جنوده أن يستعدّوا.. باعتبار أنَّ هذا الشّخص الّذي يصعد إلى أعلى المئذنة ليؤذّن، قد يكون بهدف دعوة النّاس إلى الثّورة والحرية الجديدة، قال: ماذا يصنع هذا؟ قالوا له يؤذّن، قال: ما معنى ذلك؟ قالوا يذكّر النّاس بالصَّلاة.. قال الصّلاة هل فيها مشكلة أو ضرر على جلالة الملك؟ ملك إنكلترا في ذلك الوقت.. قالوا لا، قال: إذا لم يكن فيها ضرر على جلالة الملك فليست هناك مشكلة، فليؤذّن ما شاء، وليصلّ ما شاء..
المشكلة أنّ الصّلاة الفارغة التي تجعلك تصلّي في المسجد، وتصفّق لعملاء الاستعمار في الساحة، تصلّي في المسجد، وتتجسّس لإسرائيل في بلدك، تصلّي في المسجد وتكون عنصراً من عناصر المخابرات الإقليميّة والمحليّة والدوليّة في مكانٍ آخر، هذه الصلاة يهلّل لها الاستكبار والاستعمار والاستحمار وكلّ هذه الأمور لأنّها صلاة تخدّرك جيّداً، فيكون الدين، كما قال البعض، أفيون الشعوب. لكن الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتقول لك إنَّك إذا أردت أن تصلِّي جيّداً، فعليك أن تحارب الاستعمار جيّداً، وعليك أن تحارب الطّغيانَ جيّداً، وعليك أن تحاربَ الحكمَ المنكَرَ جيّداً، وعليك أن تحارب الكفر جيِّداً، وعليك أن تحارب الضّلال جيّداً، لأن الاستعمار منكَر، ولأنّ الطغيان منكَر، ولأنّ الحكم الظّالم منكَر، ولأنّ الظّلم والفسق والفجور والكفر منكَر، فإذا كانت الصلاة تنهاك عن الفحشاء والمنكَر، فلا بدّ أن تنهاك عن كل التعاطف والتعاون والرّضا مع كلّ ظلم في الحياة.
وهكذا، أريد للصّوم أن تحصل من خلاله على قوّة إرادة؛ إذا سجنْت وجعْتَ، فإنك لا تعترف حتى تسكت جوعَك، أو لا تتعامل مع العدوّ عندما يعتقلك ويطلب منك أن تكون مخابرات له، وتعطش ويقول لك أسقيك الماء وحاول أن تتعاون معنا.. إنّك إذا كنت صائماً جيّداً، فإنّك ترفض ذلك، إنّك تقول إنّنا أمّة جرّبت أن تصوم عن الطعام والشراب قربةً إلى الله، ونحن نريد أن نصوم عن الطعام والشراب في السّجن أو في حالات الحصار قربةً إلى لله، لئلّا نتعاون مع أعداء الله..
أيّها المسلمون اتّحدوا
الاستعمار لا يريد ذلك. ولهذا، عندما انطلقت الجمهورية الإسلامية في دعوتها على لسان إمام الأمَّة الإمام الخميني (حفظه الله)، عندما انطلقت لتطرح هناك الشّعارات الحقيقيّة، لتطرح: يا أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا، كشعار يقوله المسلمون وهم ذاهبون إلى الطواف، وهم ذاهبون إلى السّعي، وهم ذاهبون إلى الرّجم.. وتقول للمسلمين عندما يذهبون إلى رجم الشّيطان إنّ إسرائيل هي الشّيطان الأصغر، وإن أميركا هي الشّيطان الأكبر.. وهكذا، أرادت للمسلمين أن يعيشوا حيويّة المعنى الإسلاميّ التوحيدي لله سبحانه وتعالى في ممارساتهم، حتى يلتقي بعضهم ببعض، وحتى ينطلق بعضهم مع بعض، من أجل أن يجعلوا من الحجّ جهداً ينفع المسلمين، عند ذلك قالوا إنّ إيران تخرّب الحجّ. بعض الصحافيين في الخليج يكتب: إذا سمحنا لإيران وللمسلمين أن يقولوا: الموت لأميركا والموت لإسرائيل، فإنّ بعض الناس قد يأتون فيطرحون شعاراً ثانياً..
نحن نقول إذا كان الشّعار الثاني يلتقي مع خطّ الحجّ، خطّ الإسلام وخطّ الإيمان وخطّ الحرية وخطِّ العدالة وخطّ الثّورة على كلّ ظلم، فمرحباً بتلك الشعارات، لأنها تعمّق تجربة النّاس، ولكن عندما يأتي من يطرح ويقول: الموت للإسلام مثلاً، ويقول: الموت لخطّ الحريّة في الإسلام مثلاً، فنحن نرجمه كما نرجم الشّيطان، لأنّ الإسلام يريدنا أن نرجمه..
ولهذا، فإنّ الحجّ هو الذي يفرض شعاراته، نحن لا نختار شعارات الحجّ اختياراً، ولكنّ الحجّ هو الذي يفرض شعاراته، لأنّ الحجّ إنما جاء من أجل أن يكون الطّواف ببيت الله، ولا يكون الطّواف ببيوت أعداء الله، إنّه يريد أن يكون الطّواف ببيت الإله الواحد، ولا يكون الطواف ببيت الآلهة الذين يدعونهم النّاس من دون الله.. إنّه يريد أن يحرّر الإنسان من الصّنم ومن الوثن. ولهذا، فإنّه يريد أو يوحي إليه أنّ القضيّة ليست قضية أصنام الحجر والخشب، ولكنها قضية أصنام اللّحم والدّم، هي التي يجب أن نرجمها وأن نحطّمها وأن نكسّرها..
فالنبيّ (ص) عندما صعد على الكعبة من أجل أن يحطّم الأصنام الموضوعة هناك، أراد أن يوحي أنّ الكعبة لا تتحمّل صنماً من حجر، ولا تتحمّل صنماً من غير الحجر أيضاً.. ولهذا، فإنّ علينا كما نريد أن نطرد أصنام الأحجار حول الكعبة، أن نطرد كلّ الأصنام المحيطة بالكعبة أيضاً..
وهكذا كانوا، لكنّهم قالوا إنّ الحجّ والسياسة شيئان مختلفان، نحن لا نقول أن يستبدل النّاس بالطواف طوافاً آخر، نحن نطلب من النّاس أن يتعبّدوا كما هي العبادة؛ أن يبكوا ويخشعوا، ويخضعوا ويصلّوا، ويطوفوا في ابتهالٍ وخشوعٍ، ويرجموا في ابتهالٍ وخشوعٍ، ويقفوا في عرفات وفي المشعر وهم يبكون من خشية الله...
الثّورة من أجل الحرّيّة
نحن لا نقول للناس اشتغلوا بالسياسة عن العبادة، ولكنّنا نقول إنّ العبادة تشير لكم إلى خطّ السياسية الذي يجب أن تنتهجوه، وأنّ عليكم في المجالات الأخرى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً}.. أن تفكّر في الحسنة في الدنيا، وهي أن تعيش في الدّنيا حراً عادلاً، تعيش في جوّ العدل وفي جوّ الحرية، كما أراد الله لك أن تعيش..
ولهذا، فإنّ المطالبة بالحرية، والثورة من أجل الحرية، والقتال من أجل الحريّة ومن أجل العدالة، هي جزء من معنى الحجّ ومن معنى العبادة في الإسلام.
وهذا ما خافوا منه، خافوا أن يكتشف المسلمون من خلال خطّ الثورة الإسلاميّة، أن يكتشف المسلمون أنّ قياداتهم التي تتحرّك في عروشهم وفي مواقعهم، هي قيادات مزيَّفة لا تصلح للإسلام وللمسلمين، وأنّ القيادة الحرّة العادلة الفقيهة الحكيمة الواعية، هي قيادة الفقهاء المؤتمنين على الدّين والدّنيا، هي قيادة إمام الأمَّة الذي اتّسع قلبه للعالم كله.. ولذا، فهو لا يخاطب الإيرانيّين، ولكنّه يخاطب العالم كلّه، ويخاطب المستضعفين كلّهم، يخافون أن يكتشف الناس القيادة العالميّة للإسلام، ويخافون أن يكتشف النّاس المفاهيم الحقيقيّة للإسلام، ويخافون أن يكتشف المستعبدون والمستضعفون في أفريقيا وفي آسيا وفي أميركا اللاتينيّة، أنّ عندهم أكثر من طريق للحريّة، وأن عندهم أكثر من سندٍ في العالم لقضايا الحريّة.. إنهم يخافون على عروشهم من أن يتحوّل الحجّ إلى موقف حاسم ضدّ كل عرش لا يطأطئ رأسه ومواقفه لعرش الله سبحانه وتعالى..
وهذا ما أراده إمام الأمّة في ندائه الأخير في مكّة الذي قرئ على المسلمين هناك بالأمس، إنّه أراد من المسلمين جميعاً؛ سنيّهم وشيعيّهم، بكلّ مذاهبهم، أن يتوحَّدوا على الإسلام، وأراد لهم أن يحافظوا على الإسلام؛ أن يحافظوا على عقائده، وأن يحافظوا على شرائعه، وأن يحافظوا على أساليبه ومناهجه وأهدافه في الحياة، وأراد لهم أن يواجهوا الكفر كلّه؛ الكفر في العقيدة، والكفر في السياسة، والكفر في الأخلاق، أراد لهم أن يواجهوا الكفر كلّه، ليلحقوا الهزيمة بالكفر، لأنَّ الكفر كلَّه يريد استغلال شعوب العالم الثّالث لمصلحته الاستراتيجيّة، ولمصلحته الاقتصاديّة والسياسيّة ضدّ شعوب هذا العالم.
ولهذا، أراد للمسلمين من أيّ بلد أن يرجعوا من الحجّ، ويقف كلّ واحد منهم ليحمل مسؤوليّة الإسلام بكلّ ما عنده من طاقة، وبكلِّ ما عنده من إمكانات، ووقف من أجل أن يبصّر المسلمين بأنّ القوى التي تسمّى القوى العظمى في العالم، تعمل على أن تطوّر إمكاناتها من خلال منع العالم، ولا سيما العالم الإسلاميّ، من تطوير إمكاناته واحتلال موقعه الصّحيح.
أساليب الدّول الكبرى
ولهذا، تعمل الدول الكبرى بكلّ ما عندها من وسائل المخابرات، ومن وسائل اقتصاديّة، ومن وسائل عسكريّة، على إيجاد الحروب في كلِّ المناطق التي يوجَد فيها خلاف في العالم، حتى تظلّ الدّول الكبرى مسيطرةً على العالم كلّه، من خلال تدخّلها في هذه الحرب أو تلك، وحتى تمنع العالم من تطوير إمكاناته، ومن احتلال موقعه الصّحيح، ولا سيّما العالم الإسلامي..
وهكذا، نبَّه إمام الأمة المسلمين جميعاً إلى أنَّ عليهم أن ينتبهوا إلى الخطّة الشيطانيّة التي تحاول الدول الكبرى أن تركّزها في نفوسنا، وهي أنّنا لا نستطيع الاستغناء عن أميركا ولا عن أوروبّا، لأنها هي الّتي يمكن أن تعيّشنا ويمكن أن تموّتنا.. إنها تحاول أن توحي إلى العالم بأنّه مرتبط باقتصادها وسياستها وثقافتها وكلّ أوضاعها، وأنها بالنّسبة إلى العالم كالرّوح بالنّسبة إلى الجسد، فإذا فقدَ الجسدُ الرّوحَ ماتَ الجسد.
إنّه أراد أن يقول للعالم، صحيح أنّنا لا نملك الاكتفاء الذّاتي، لأنَّ أوروبّا وأميركا قد سبقتنا أشواطاً في كثير من ميادين المعرفة، وسبقتنا أشواطاً في ميادين الاختراع والتقنيّة، لكن نحن علينا أن نعرف أنّنا نمتلك الإمكانات، وأننا نستطيع أن نطوّر إمكاناتنا، ولو من خلال التّعاون مع هذه الدّول، من أجل أن نملك الاكتفاء الذّاتيّ، وأنّنا نستطيع أن نستقلّ في المستقبل كما استطاعت هذه الدول أن تستقلّ في المستقبل، وأنّ حاجتنا إليها إنما هي حاجة مرحليّة وحاجة طارئة وليست حاجة مطلقة.
وهكذا، دعا المسلمين في العالم، والمستضعفين في العالم، إلى محاصرة الاستعمار في العالم؛ إلى محاصرته اقتصادياً واستراتيجياً وثقافياً فيما يسيء إلى ثقافاتنا، لأنّنا إذا لم نحاصره فهو الآن يحاصرنا، وإذا لم نضيّق عليه الدّائرة، فإنه سيجعلنا نختنق في الدّوائر الضيّقة التي يحبسنا بها..
هل الثّورةُ تستدعي الفوضى؟!
وقد يقول قائل إنّنا إذا أردنا أن نعلن ثورة المستضعفين على المستكبرين في العالم، بمحاصرة المستكبرين في مصالحهم في العالم، فسيكون هناك الفوضى.. إنّ الإمام يقول لا تخافوا من الفوضى، لأنّه لن يكون هناك فوضى، وإنما هو وحي يوحون به إليكم دون أن يكون له أيّ قدر من الصحة، لأنهم يريدون أن يحافظوا على مصالحهم في هذا المجال.. إنّهم يوحون إليكم أنّكم إذا دمّرتم بعض مصالحهم، فإنّ معنى ذلك أنكم سوف لا تستطيعون أن تعيشوا حياة منظَّمة. ولكنّ النظام الفاسد لا يمكن أن يصنع حاضراً صحيحاً، ولكنّ النّظام الصّحيح هو الّذي يمكن أن يصنع الحياة الصّحيحة..
وهكذا، دعا المثقّفين في العالم، حتّى مثقفي أميركا، دعاهم إلى أن لا يبيعوا عقولهم للإسلام الاستهلاكيّ الذي تصنعه المخابرات، التي تقول لهم إنّ الإسلام أصبح ديناً إرهابيّاً، وإنّ الجمهورية الإسلاميّة هي راعية الإرهاب في العالم.. إنّه يدعو المثقَّفين إلى أن يناقشوا هذا الكذب، ليدرسوا أيّ إرهابٍ هو إرهاب أميركا.. هذه التي توزّع قنابلها الذريّة على أوروبا من أجل أن تحرق العالم كلَّه بالقنابل الذريَّة، كما صنعت في هيروشيما في اليابان، وإنها هي الّتي تنشر مخابراتها في العالم لتصنع له حروبه المحليّة، ولا سيّما الحرب في لبنان..
وهكذا، إنه يدعو المسلمين إلى اليقظة، ويدعوهم إلى الوعي، ويدعوهم إلى أن لا يستسلم كلّ واحد منكم لجريدته أو لإذاعته، بل لا بدّ أن ينطلق من خلال عقله، ليناقش كلّ قضايا السياسة من خلال عقله.
 وبهذا، كان للحجّ، وسيصير للحجّ الدور الأكبر الّذي يمكننا من خلاله أن نحوِّل هذا المؤتمر العالميّ الإسلاميّ إلى مؤتمر يمكن أن تُبحَث فيه كل قضايا الحرية، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ قضايا العدالة، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ قضايا الثورة، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ العلاقات فيما بين المسلمين شعوباً، وبين المسلمين أنظمة إذا سارت في خطّ الإسلام...
*محاضرة لسماحته ألقاها بتاريخ 2-4-1984.
 
 الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده المصطفى ورسوله المنتجب، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
يقول الله في كتابه الكريم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96 – 97].
وقال سبحانه مخاطباً نبيّه إبراهيم (ع): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحجّ: 27 – 28].
أيّام الحجّ
هذه الأيّام هي أيّام الحجّ، وهذه الأيام هي الأيام التي ينتظر فيها الحجّاج، أن ينطلقوا غداً أو بعد غد إلى عرفات، ليقفوا جميعاً في يوم الحجّ الأكبر، الذي يقف فيه الحجاج جميعاً؛ عربيّهم وعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، غنيّهم وفقيرهم، أن يقفوا جميعاً في تلك الصحراء أمام الله، ليشهدوه على أنهم جاؤوا تلبيةً لدعوته، جاؤوا من أجل أن يشهدوا الله على أنهم يوحّدونه ولا يشركون به شيئاً، لا يشركون به أحداً، سواء كان من الدّول العظمى أو من الدول الصغرى، لا يشركون به أحداً، سواء كان ملكاً أو أميراً أو رئيساً، لا يشركون به أيّ شيء، لأنَّ الله هو الواحد الأحد، ويشهدونه على أنهم في خطِّ رسول الله يسيرون؛ الإسلام دينهم، عقيدتهم، شريعتهم، منهجهم في الحياة، سياستهم عندما يريدون أن يتحركوا في السياسة، واجتماعهم عندما يريدون أن يتحركوا في خطِّ الاجتماع.
تلك هي الرّوح الّتي يريد الله لها أن تعيش أجواء الحجّ، الرّوح التي جاءت مهاجرةً عن كلّ خصوصيّاتها، وعن كلّ مواقعها، وعن كلّ الساحات الحميمة التي كانت تعيش فيها، الجميع ينطلقون، كلّ بحسب الوسيلة التي يملكها. لماذا ينطلقون؟ ليقفوا هناك، ليرفعوا رؤوسهم إلى الله من كلّ قلوبهم، ومن كلّ أعماقهم، ومن كلّ مواقفهم، ومن كل تطلعاتهم للحياة.. الكلّ ينادونهم؛ الدول تناديهم ليدخلوا في سياستها، والملوك ينادونهم ليتعبّدوا لهم.. والأمراء، وكلّ مراكز القوى الكافرة والضالّة والطّاغية، ينادونهم من أجل أن ينفّذوا لهم مخطّطاتهم ليستجيبوا لهم، فالمسلمون والمستضعفون يعيشون في ساحة تكثر فيها الأصوات، وتكثر فيها الدَّعوات، وتكثر فيها الاتجاهات، ويكثر فيها كلّ النّاس الّذين يريدون أن ينحرفوا بالمسلمين عن دينهم، ليتّخذوا لهم ديناً هنا وديناً هناك، وحزباً هنا وحزباً هناك.
ولكنَّ الله يقول لإبراهيم (ع): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ...}. اطلب من النّاس، يا إبراهيم، أن يأتوا إلى هذا البيت الّذي أقمته للقائمين وللطّائفين وللركَّع السّجود، ادعُ الناس إلى بيتي، ادعُ الناس إلى ديني، ادع الناس إلى أن يجتمعوا حول هذا البيت، ليطوفوا به ويتعبّدوا لي، وليخلصوا لي، وليوحّدوني، وليرجموا كلّ شياطين الأرض، فيما يرمز إليه الرّجم من رجم الشّيطان، ادعُ النَّاس يا إبراهيم.
الاستجابة لنداء الله
وجاء رسول الله بعد إبراهيم يدعو النَّاس إلى الحجّ، ويقول للنَّاس: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. هذا أمرٌ لله على الناس، {وَمَن كَفَرَ} من لم يحجّ وهو يستطيع {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]، لأنَّ المسلم عندما يحجّ، فإنّه لا يحجّ لأنّ الله يحتاج إلى حجّه، ولأن الله ينتفع بحجّه، ولكنه يحجّ ليشهد منافع له، يحجّ لينتفع هو. ولهذا، من "ركب رأسه" ولم يحجّ، فإنّ الله غنيّ عن العالمين، ليس بحاجة إلى حجّه.
الدعوة تنطلق من كلّ مكان للمسلمين ليستجيبوا لنداء الشّيطان، وتأتي دعوة الله، وينطلق من الأمَّة في كلّ مكان {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النّور: 37]، لينطلقوا ويركبوا كلّ صعب وكلّ مشقّة، ليقفوا هناك في مواقيت الحجّ، ليقولوا لله بكلّ قلوبهم وبكلّ أصواتهم: لبَّيك اللّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنَّ هذه الاستجابة الّتي تنطلق من أعماق المؤمنين، لها مدلول ولها معنى، ولها عمق، كأنّك تقول لله: يا ربّنا، يا ربّ، لقد دعاني كلّ الناس الذين يتحركون في خطِّ الكفر وفي خطِّ الضَّلال وفي خطِّ الطّغيان، دعوني من أجل أن أسير معهم في كفرهم فرفضت، ودعوني لأن أسير معهم في ضلالهم فأبيت، ودعوني لأسير معهم وأشاركهم في طغيانهم فتمرَّدت، لقد تركت الناس كلّهم؛ كبيرهم وصغيرهم، لقد تركت الناس كلّهم وكلّ دعواتهم لآتي إليك يا ربّ، لأستجيب لك، لماذا أستجيب لك؟ لماذا ألبّيك يا ربّ؟ لأنَّ الحمد لك، لك الثّناء، ولك الحمد، وكلّ صاحب حمد في الدّنيا، فحمده مستمدّ من حمدك، لأنك أنت الذي أعطيت للناس كل ما يحمدون به، ولأن كلّ صاحب نعمة، فإنّ نعمته مستمدّة من نعمتك، لأنَّ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النّحل: 53] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النّحل: 18].. وإنَّ كلّ صاحب ملك، فملكه مستمدّ من ملكك، لأنّك {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26].
فإذا كان الحمد لك يا ربّ، وإذا كانت النِّعمة لك يا ربّ، وإذا كان الملك لك يا ربّ، لا يشاركك في نعمتك أحد، ولا يشاركك في حمدك أحد، ولا يشاركك في ملكك أحد، فكيف يمكن أن نجعل شريكاً لك في الألوهيَّة نؤلّهه كما نؤلّهك؟ وكيف يمكن أن نجعل لك شريكاً في العبادة، نعبده كما نعبدك؟ وكيف يمكن أن نجعل لك شريكاً في الطّاعة نطيعه كما نطيعك؟ وكيف يمكن لنا أن نجعل لك شريكاً في الشّريعة، فنأخذ بشريعته كما نأخذ بشريعتك؟
معنى التَّلبية
"لبَّيك، إنَّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك". وإذا لم يكن لك شريك في ذلك كلّه، فلا شريك لك في العبادة، ولا شريك لك في الطَّاعة، نوحِّدك من كلِّ قلوبنا، ونوحِّدك من كلّ أفكارنا، ونوحِّدك من كلِّ مشاعرنا، ونوحِّدك من كلِّ مواقفنا، ونوحِّدك من كلِّ انتماءاتنا، ونوحِّدك من كلِّ التزاماتنا.. لبّيك يا ربِّ لبّيك، ولا نقول لبّيك لغيرك، إلّا لمن يدعون إليك.
ذلك هو الخطّ، وتلك هي الرّوح، ولهذا عندما كان الإمام جعفر الصادق (ع)، وفيما يروى عنه، عندما كان يبدأ الإحرام ويقول لبّيك، يرتجف ويهتزّ ويرتعش، فيقولون له: يا بن رسول الله، لماذا نراك عندما تقول لبّيك ترتجف وتهتزّ وترتعش، يقول لأنّني أقف بين يدي الله، وكلمة التّلبية تعني أنّني أقول له: يا ربّ، لبّيك بكلّ أفكاري، لبّيك بكلّ مشاعري، لبّيك بكلّ مواقفي، لبّيك بكلّ انتماءاتي، لبّيك بكلّ علاقاتي، لبّيك بكلّ أعمالي، لبّيك بكلّ كلماتي... أنا أقول لله هذا، وأخاف أن يطّلع الله على قلبي وأنا أقول لغيره لبّيك، في الوقت الّذي أقول لله لبَّيك.. أليس الكثيرون منا يقولون لله لبّيك هناك، وعقولهم تقول للضالّين وللطّاغين وللمنحرفين لبّيكم هنا؟!... الإمام (ع) كان يقول وهو يعلّمنا ما نريد أن نعيشه، "كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول: لا لبّيك ولا سعديك"، لأنه يعرف أني لم أكن مخلصاً بما أقول، ولم أكن مخلصاً بما أتحدث به..
ولهذا، إنّ التلبية عندما تكون مدخلاً للحجّ، الباب الّذي تدخل فيه إلى الحجّ هو التّلبية، كما أنّ الباب الّذي تدخل فيه للصّلاة هو تكبيرة الإحرام، وتدخل للحجّ، وفي الحجّ صومٌ، لا عن الطعام والشّراب، صومٌ عن كثير من شهواتك، صومٌ عن كثير من نزواتك، صومٌ عن كثير من عاداتك، حتى تتعلّم أنَّك عندما تريد أن تسير في طريق الله، أن لا يؤذيك الحرّ والبرد، وأن لا يؤذيك فقدانك لكثير مما تتطيَّب به وترتاح إليه ومما تشتهيه، صوم عن كثيرٍ من ألوان التّرف، وصوم عن كثير من العادات، وصوم عن كثير من الكلمات، وصوم عن كثير من المجادلات، فلا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحجّ.
الكعبةُ رمزٌ لطاعة الله
وهكذا تسير في الحجّ، أشعس أغبر، لا يظلّلك شيء من الشّمس، ولا يظلّلك شيء من الحرّ ومن البرد ومن المطر ومن غير ذلك. وتنطلق، حتى إذا جئت إلى مكّة، ورأيت البيت الّذي طهَّره إبراهيم وإسماعيل للطائفين والقائمين والركّع السّجود، واستمعت إلى نداء الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحجّ: 29]، تتطلّع إلى هذا البيت، وأنت في بلادك تتوجّه إليه باعتباره الكعبة، الّذي يريد الله لك مع كلّ المسلمين في العالم أن تتوجّهوا إليه، لا أن تتوجهوا إلى أحجاره، فأحجاره لا تمثّل شيئاً، فقد تغيَّرت أحجار البيت حسب تغيّر بنائه في المئات من السِّنين، ولكنَّ البيت من حيث هو رمزٌ، ساحةٌ لطاعة الله، بيتٌ لله.. فأنت عندما تتوجّه إليه، فإنّك تتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الّذي تعبَّدك بذلك.. وعندما تطوف به، فإنّك تقول لنفسك من خلال ما يوحي إليك به الطّواف، إنّك تطوف بالبيت، باعتباره السّاحة التي يريد الله لك أن لا تتعدَّاها، وساحة البيت تمثّل ساحة عبادة الله، وساحة البيت تمثِّل ساحة طاعة الله، وتمثِّل ساحة الإسلام، وتمثِّل ساحة شريعة الإسلام، كأنَّ الله عندما يقول لك إنَّ عليك أن تطوف بالبيت وله حدود عليك أن لا تتعدَّاها.. إنّ معنى ذلك أنّ عليك أن لا تطوف بساحة إلّا إذا كانت السّاحة لله، وأن لا تطوف ببيت أحد، إلّا إذا كان بيته متّصلاً ببيوت الله، وإلّا إذا كانت حياته متّصلةً بتعاليم الله.. من يطف بالبيت هناك، لا يمكن أن يطوف بالبيت الأبيض والأسود.. إنّ الذين يطوفون بالبيت هناك، عندما يعتمرون وعندما يحجّون، ثم يذهبون ليطوفوا ببيوت الطّغاة في واشنطن وفي لندن وفي باريس وفي موسكو، وفي كلِّ تلك الأماكن، يقبِّلون أعتابها، ويستجدون بركاتها، ويخشعون لها، ويصلّون لها بكلّ سياساتهم ومواقفهم، إنهم لم يطوفوا في البيت، وإنما طافوا بأحجار، لأنَّ هناك فرقاً بين أن تطوف بالبيت من حيث هو معنى، عند ذلك تطوف روحك مع المعنى الّذي يمثِّله البيت، ولكن عندما تكون ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو أيَّ شيء من هذه الدّمى المتحركة في حياتنا السياسيَّة والاقتصاديَّة، فإنَّ جسدك يكون قد طاف بأحجار البيت، ولكنَّ روحك كانت تطوف في مكان آخر، وعقلك كان يتحرَّك في مكان آخر، ومشاعرك تطوف بمكان آخر.
بعض النّاس يطوفون بالبيت في مكَّة، ويطوفون بأماكن اللَّهو في أوروبّا، وبأماكن الطّغيان في أوروبّا وأميركا، وهكذا يلعنهم طوافهم بالبيت، لأنهم عندما يتحركون في حياتهم، فإنهم يرجمون البيتَ بالحجارة، عندما يطوفون ببيوت الّذين يريدون أن يهدّموا البيت في معناه، وإن كانوا يريدون أن يعمّروه في مبناه.. وقصَّتنا ليست قصَّة المباني، ولكنَّها قصّة المعاني، وذلك أن تكون حياتك كلُّها طوافاً بالله، من حيث ما يمثِّله معنى الله من فكرٍ ومن شريعةٍ ومن منهجٍ للحياة.
السّعي بين الصّفا والمروة
وبعد ذلك {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا...}[البقرة: 158].. وتبدأ هناك لتسعى بين الصّفا والمروة، وهما جبلان تعبَّدَنا الله أن نطوف بهما.. لماذا تسعى بين الصَّفا والمروة؟ هل لك شغل؟ هل لك عمل هناك؟ تسعى لأنَّ الله يريد منك أن تسعى.. فساحات الصَّفا والمروة، عندما تذهب من الصَّفا إلى المروة، وعندما ترجع من المروة إلى الصَّفا، ساحات الصَّفا والمروة هي السّاحات التي يريدك الله أن تسير فيها، وتتحرَّك فيها، وتذهب صباحاً إليها، وترجع مساءً منها.. هي ساحات الله فيما أمرك الله أن تتحرَّك في ساحاته..
ولكلِّ بلدٍ صفاه ومروته، لكلِّ بلدٍ ساحته.. فالله يريد لك أن تسعى في كلِّ مكانٍ ترفعُ فيه مستوى النّاسِ علماً، وترفعُ فيه مستوى النّاس على قضاء حوائجهم في الدّنيا، وترفع مستوى الناس سياسةً واجتماعاً وفي كلِّ المجالات.. فعندما تذهب لتكسب رزق عيالك من بيتك إلى مكان العمل، إلى السّوق، إلى المزرعة، إلى المعمل، فأنت تنطلق من الصّفا وتنطلق إلى المروة، وترجع من عملك إلى بيتك من المروة إلى الصَّفا، لأنّك كنت تسعى هناك قربةً إلى الله، وهنا تسعى في عملك قربةً إلى الله. وعندما تخرج في خطِّ الجهاد، تنطلق من بيتِك إلى مواقع جهادِك، وترجع من مواقع جهادِك إلى بيتِك، فأنت تسعى بين الصَّفا والمروة، لأنَّ الله أراد لك أن تجاهد وأن تسير في ساحات الجهاد.
وهكذا، عندما تتحرَّك في حياتك لتواجهَ ظالماً وتواجهَ طاغياً، أو لتخدمَ مؤمناً، أو لتنقذَ مؤمناً، أو لتهديَ ضالاً أو منحرفاً وما إلى ذلك، فأنت تسعى بين الصّفا والمروة، لأنَّ قضيّة السّعي هناك، تشير إليك أنَّ عليك كما سعيت بين الصَّفا والمروة، لأنَّ الله أرادَ لك أن تسعى بينَهما، فإنَّ عليك أن تسعى بين كلِّ نقطةِ بدايةٍ وكلِّ نقطة نهاية، أرادَ الله لك أن تسعى بينَهما من أجلِ هدفٍ يتعلّقُ بحياتِك وبحياةِ النّاسِ، فيما يرضى الله لكَ في حياتِك وفي حياةِ الناس.
وبعد ذلك، ينطلق النّاس في المرحلة الثانية إلى عرفات، وعرفات وقفة تأمّل؛ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة: 198]. ثم بعد ذلك، تنطلق إلى وقفة تأمّل عند المشعر الحرام، ثم تنطلق هناك {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 200 – 201]..
تربية الوعي والإرادة
وهكذا، ينطلق الإنسان في الحجّ ليربّي روحه، وليربّي إرادته، وليربي وعيه في دينه ووعيه لحياته، ليتغيّر روحيّاً وليتغيّر فكريّاً، وليتغيّر على أساس كثير مما اعتاده في حياته، وليكون الإنسان المنفتح على الله، والمنفتح على الناس، والمنفتح على الحياة من خلال انفتاحه على الله، ليكون عنصر خير فاعلاً، يخاف الله في الصَّغير وفي الكبير، ويخاف الله في كلِّ مجال يتحرّك فيه..
وتلك قصّة الحجّ من ناحية فرديّة، فيما يريد الله للإنسان أن يتغيّر فيه، شرط أن يكون حجّه حجاً واعياً، لا حجّاً منغلقاً أعمى.
وقد ورد في بعض كلمات أهل البيت (ع): "ما يُعبَأ بمن يؤمُّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث؛ ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه (سعة صدر، وسعة بال)، وحسن الصّحابة لمن صحبه" .. من رجع من الحجّ وهو كحاله، إذا جاءه الحرام ركض إليه، يمتنع عن الحرام عندما لا يستطيع ارتكاب الحرام، فإذا جاءه الحرام ركض إليه. عندما يرجع من الحجّ وهو ضيّق الصّدر، لا يطيق كلمةً من زوجته، ولا يطيق كلمةً من جاره، ولا يطيق كلمةً ممن حوله، عندما يرجع من الحجّ وليس عنده مرونة يستطيع بها أن يسع الناس من حوله... فالله لا يعتني بهذا الحجّ، ليقول له إنّك جئت الحجّ ورجعت كما كنت، وليست لي حاجة بالحاجّ الذي لا يعطيه الحجّ ورعاً، ولا يعطيه الحجّ سعة صدر، ولا يعطيه الحجّ أخلاقاً يستطيع بها أن يعيش مع النَّاس ويداري النَّاس..
لهذا، على الّذين يغضبون في بيوتهم، ويعيشون مع زوجاتهم كأسوأ ما يعيش الزَّوج مع زوجته، ويعيشون مع جيرانهم كأسوأ ما يعيش الجار مع جاره، ويعيشون مع عمَّالهم وموظَّفيهم كأسوأ ما يعيشُ أصحابُ العملِ مع عمَّالهم وموظَّفيهم، فعليهم أن يعيدوا النّظر في حجّهم، فحجّهم ليس بشيء، لأنّهم لم يستطيعوا أن يتغيّروا بالحجّ في حياتهم العمليّة.. معناه أنهم كانوا يقولون لله لبّيك وكان مزاجهم يقول للشّيطان لبّيك، وكان طبعهم يقول للشّيطان لبّيك، وكانت أيديهم التي يضربون بها النّاس بدون حقّ تقول للشّيطان لبَّيك، وكانت ألسنتهم التي يسبّون بها النّاس تقول للشّيطان لبّيك.. معنى ذلك أنّك لم تكن صادقاً، لأنَّ الحجّ ليس جسداً، ولكنّه روح، ولكنَّه خُلق وسلوك، ولكنَّه هدف، لهذا إنَّ الكثيرين من الناس قد يحجّون ولا يحجّون. ولهذا، ورد في بعض الكلمات: "ما أكثر الضّجيج وأقلّ الحجيج!"، لأنَّ الحجيج ليسوا هم الّذين يطلقون أصواتهم كثيراً، ولكنَّهم هم الّذين يفكّرون في مسؤوليّاتهم أكثر، والّذين يركّزون حياتهم على الخطّ أكثر..
الحجّ مؤتمر عالميّ
وهكذا، هناك في الحجّ مؤتمر إسلاميّ يجتمع فيه الناس من أقصى العالم الإسلاميّ إلى أقصاه، فيما لا يمكن أن يجتمعوا في مكان آخر.. والعالم الإسلاميّ لا يعرف الكثير من قضايا بعضه البعض، فمن في الصّين من المسلمين لا يعرفون الكثير من قضايانا، وقد لا نعرف نحن الكثير من قضاياهم، ومن في أفريقيا وإندونيسيا وغيرهما من بلاد العالم، قد يكون لا يسمع بأسماء بلدان إسلاميّة كثيرة، فضلاً عن أن يعرف ماذا فيها.. فأراد الله أن يجمعهم جميعاً ليتعارفوا وليتآلفوا، وليحاولوا أن يعرضوا كلّ قضاياهم هناك، وليحاولوا أن يتداولوا في كلّ شؤونهم هناك، وليشعر الشّعب الضّعيف من المسلمين عندما يرى الشّعوب الأخرى من بلاد أخرى كبيرة، أنه ليس ضعيفاً، لأنه جزء من عالم إسلاميّ كبير.. وعندما يحاول كلّ بلد مسلم متقدّم أن يعطي تجربته للبلد المسلم المتخلّف، وعندما يحاول كلّ بلدٍ مسلمٍ مجاهد وقف ضدّ الطّغيان وضدّ الاستعمار والاستكبار، أن يعطي تجربته للبلدان المسلمة الواقعة تحت ضغط الطّغيان وتحت ضغط الاستعمار دون أن تعرف ماذا تصنع، وأن يشعر كلّ بلدٍ مسلمٍ أنَّ الإسلام يمكن أن يتحوَّل إلى قوَّة عالميّة كبيرة، لأنَّ ضعف المسلمين في وعيهم للإسلام، وضعف المسلمين أمام مطالبتهم بحكم الإسلام للعالم.. لأنَّ كلّ مسلم يفكّر ضمن دائرته؛ المسلم في لبنان يفكّر في حجم قوّة المسلمين في لبنان، والمسلم في أفريقيا يفكّر في حجم المسلمين في هذا البلد، وهكذا في أوروبا وفي آسيا وفي أيّ بلد آخر. وعندما تدرس طموحاتك وأهدافك من خلال حجمك، فإنك لا تستطيع أن توحي إلى نفسك بالقوّة بهذا الحجم، لأنك تقايس بين قوّتك في حجمك الصّغير، وقوّة الطّغيان والشّرك والكفر في حجمها الكبير. ولكن عندما تفكّر كمسلم، عندما تلتقي هناك في الحجّ بمليوني مسلم يمثّلون أكثر من مليار مسلم في العالم، وتشعر بأنَّ هذا المليار من المسلمين في العالم يملك كثيراً من الثّروات الحيويّة في العالم، ويملك كثيراً من المواقع الاستراتيجيّة في العالم، ويملك كثيراً من المواقع الثّقافيّة في العالم، ويملك كثيراً من الأوضاع العسكريَّة في العالم.. عند ذلك تشعر بأنّ المليار من المسلمين إذا اجتمعوا وإذا تفاهموا وإذا تحاوروا، وإذا حاولوا أن ينقلوا تجارب بعضهم لبعض، وحاولوا أن يكون بعضهم قوّةً لبعض، وانطلقوا في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى، عند ذلك تشعر بأنّ أهدافك يمكن أن تتحقَّق، ويمكن لك أن تعمل من أجل أن تصنع القوَّة في وجه أشرس قوّة، وفي وجه أعتى قوَّة، لأنّك لست وحدك، ولكنَّك رقم يكمل المليار أو أكثر.
ولهذا، أراد الله النّاس أن يتعبّدوه هناك، وفرض على المسلمين أن لا يخلوا البيت الحرام في كلّ سنة، حتى إنّ التشريع الإسلاميّ يقول لك ويقول لأولي الأمر، إذا مرّت سنة ولم يوجد هناك مستطيع، فعلى وليّ الأمر أن يدفع من بيت المال لمن يذهب ليحجّ، حتى لا يخلو بيت الله سنة.. وإذا امتنع النّاس عن الحجّ وهم قادرون على أن يذهبوا إليه، فعلى الوالي أن يجبرهم ولو بالسّوط على أن يذهبوا للحجّ، لأنَّ الله لا يريد لبيته أن يخلو سنة واحدة من المسلمين، ويريد للمسلمين أن يلتقوا فيه، ليشعروا بأنَّ هناك ما يوحّدهم، وليشعروا بأنَّ هناك ما يجمعهم، وليشعروا بأنهم يستطيعون أن يتوحَّدوا في حياتهم كما توحَّدوا في عبادتهم، ويشعروا بأنّهم يستطيعون أن يتوحَّدوا في مواقفهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة كما توحَّدوا في موقفهم في عرفات.. الوحدة هنا نموذج مصغَّر للوحدة العالمية للمسلمين.. ولهذا، أراد لهم أن يطرحوا كلّ شيء.
خطّة الاستعمار
وجاء الاستعمار، وشعر بأنَّ الحجّ يمكن أن يكون قوّة للمسلمين، وكانت الخطّة أن يضعف قوّة المسلمين.. كانت الخطّة أن يجمِّدوا الصَّلاة حتى لا تتجاوز المسجد، وأن يجمِّدوا الصّوم حتى لا يتجاوز شهر رمضان، وأن يجمّدوا الحجّ حتّى لا يتجاوز البيت الحرام.. كانوا يريدون للناس إذا خرجوا من الكعبة، أن ينشغلوا عن كلّ شيء يربطهم بمعنى الكعبة، وإذا خرجوا من عرفات، أن ينسوا أنّ هناك عرفات إلّا في الذّكريات الحالمة التي يتذكَّرها النّاس في سهراتهم للتّفكهة ولمعنى يبتعد عن عرفات.. وهكذا، أراد الاستعمار أن يجمّد العبادة، وأراد أن يوحي إلى الناس أنَّ العبادة نقيض الحياة، وأنّك لكي تعبد الله، عليك أن تنعزل عن الحياة، وأنك كي تقرب إلى الله، عليك أن تبتعد عن السياسة، وأنّك لكي تقرب من الآخرة، عليك أن تبتعد عن الدنيا..
وهكذا، كانت شخصية الإنسان المسلم المثاليّ عند كثير من الناس المسلمين المتخلّفين، هو الذي لا شغل له بالنّاس، عندما يتقاتل النّاس بعضهم مع بعض، يقول ليس شغلي، "فخّار يكسِّر بعضه بعضًا"، عندما تندفع المشاكل لكي تسيطر على الناس، يقول ما لي وللناس، الله هو الذي يدبّر الناس، أنا لست مسؤولاً عنهم، أليس هناك من يقول: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس: 47]... أنا عالم أقعد ببيتي، أنا لست مسؤولاً عن هداية الناس، الله هو المسؤول، عندي فلوس، أنا لست مسؤولاً أن أطعم الناس أو أعطيهم، عندي طاقة، أنا لست مسؤولاً أن أتعب نفسي.. وهكذا بعض الناس يفكّرون.. وهكذا يريدنا الاستعمار أن نفكّر، لأنه يريد أن يعزلنا عن الله، ويريد أن يعزل حياتنا عن الله.. إنّه دائماً يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، لله المسجد، ولله الكنيسة، ولكن ممنوع على الله أن يدخل ساحة السياسة، وممنوع على الله أن يدخل ساحة الجهاد، وممنوع على الله أن يتحدَّث بكلّ هذا! ممنوع، لأنَّ الله يحتاج إلى مرسوم رخصة بالعمل! كما الأحزاب يلزمها رخصة، والحركات يلزمها رخصة، والعمل السياسيّ يلزمه رخصة، كذلك الله عندما يريد أن يحرّك النّاس، يقول ليس عندك رخصة، ليس هناك مرسوم جمهوريّ صادر، ولا هناك مرسوم ملكي ولا أميري، كانت الفكرة هي هذه..
لهذا يقال عندما جاء أحد الضبّاط الإنكليز إلى العراق، لم يكن قد عاش في بلدٍ إسلاميّ قبل ذلك. عند الفجر، سمع شخصاً يؤذِّن، فأمر جنوده أن يستعدّوا.. باعتبار أنَّ هذا الشّخص الّذي يصعد إلى أعلى المئذنة ليؤذّن، قد يكون بهدف دعوة النّاس إلى الثّورة والحرية الجديدة، قال: ماذا يصنع هذا؟ قالوا له يؤذّن، قال: ما معنى ذلك؟ قالوا يذكّر النّاس بالصَّلاة.. قال الصّلاة هل فيها مشكلة أو ضرر على جلالة الملك؟ ملك إنكلترا في ذلك الوقت.. قالوا لا، قال: إذا لم يكن فيها ضرر على جلالة الملك فليست هناك مشكلة، فليؤذّن ما شاء، وليصلّ ما شاء..
المشكلة أنّ الصّلاة الفارغة التي تجعلك تصلّي في المسجد، وتصفّق لعملاء الاستعمار في الساحة، تصلّي في المسجد، وتتجسّس لإسرائيل في بلدك، تصلّي في المسجد وتكون عنصراً من عناصر المخابرات الإقليميّة والمحليّة والدوليّة في مكانٍ آخر، هذه الصلاة يهلّل لها الاستكبار والاستعمار والاستحمار وكلّ هذه الأمور لأنّها صلاة تخدّرك جيّداً، فيكون الدين، كما قال البعض، أفيون الشعوب. لكن الصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتقول لك إنَّك إذا أردت أن تصلِّي جيّداً، فعليك أن تحارب الاستعمار جيّداً، وعليك أن تحارب الطّغيانَ جيّداً، وعليك أن تحاربَ الحكمَ المنكَرَ جيّداً، وعليك أن تحارب الكفر جيِّداً، وعليك أن تحارب الضّلال جيّداً، لأن الاستعمار منكَر، ولأنّ الطغيان منكَر، ولأنّ الحكم الظّالم منكَر، ولأنّ الظّلم والفسق والفجور والكفر منكَر، فإذا كانت الصلاة تنهاك عن الفحشاء والمنكَر، فلا بدّ أن تنهاك عن كل التعاطف والتعاون والرّضا مع كلّ ظلم في الحياة.
وهكذا، أريد للصّوم أن تحصل من خلاله على قوّة إرادة؛ إذا سجنْت وجعْتَ، فإنك لا تعترف حتى تسكت جوعَك، أو لا تتعامل مع العدوّ عندما يعتقلك ويطلب منك أن تكون مخابرات له، وتعطش ويقول لك أسقيك الماء وحاول أن تتعاون معنا.. إنّك إذا كنت صائماً جيّداً، فإنّك ترفض ذلك، إنّك تقول إنّنا أمّة جرّبت أن تصوم عن الطعام والشراب قربةً إلى الله، ونحن نريد أن نصوم عن الطعام والشراب في السّجن أو في حالات الحصار قربةً إلى لله، لئلّا نتعاون مع أعداء الله..
أيّها المسلمون اتّحدوا
الاستعمار لا يريد ذلك. ولهذا، عندما انطلقت الجمهورية الإسلامية في دعوتها على لسان إمام الأمَّة الإمام الخميني (حفظه الله)، عندما انطلقت لتطرح هناك الشّعارات الحقيقيّة، لتطرح: يا أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا، كشعار يقوله المسلمون وهم ذاهبون إلى الطواف، وهم ذاهبون إلى السّعي، وهم ذاهبون إلى الرّجم.. وتقول للمسلمين عندما يذهبون إلى رجم الشّيطان إنّ إسرائيل هي الشّيطان الأصغر، وإن أميركا هي الشّيطان الأكبر.. وهكذا، أرادت للمسلمين أن يعيشوا حيويّة المعنى الإسلاميّ التوحيدي لله سبحانه وتعالى في ممارساتهم، حتى يلتقي بعضهم ببعض، وحتى ينطلق بعضهم مع بعض، من أجل أن يجعلوا من الحجّ جهداً ينفع المسلمين، عند ذلك قالوا إنّ إيران تخرّب الحجّ. بعض الصحافيين في الخليج يكتب: إذا سمحنا لإيران وللمسلمين أن يقولوا: الموت لأميركا والموت لإسرائيل، فإنّ بعض الناس قد يأتون فيطرحون شعاراً ثانياً..
نحن نقول إذا كان الشّعار الثاني يلتقي مع خطّ الحجّ، خطّ الإسلام وخطّ الإيمان وخطّ الحرية وخطِّ العدالة وخطّ الثّورة على كلّ ظلم، فمرحباً بتلك الشعارات، لأنها تعمّق تجربة النّاس، ولكن عندما يأتي من يطرح ويقول: الموت للإسلام مثلاً، ويقول: الموت لخطّ الحريّة في الإسلام مثلاً، فنحن نرجمه كما نرجم الشّيطان، لأنّ الإسلام يريدنا أن نرجمه..
ولهذا، فإنّ الحجّ هو الذي يفرض شعاراته، نحن لا نختار شعارات الحجّ اختياراً، ولكنّ الحجّ هو الذي يفرض شعاراته، لأنّ الحجّ إنما جاء من أجل أن يكون الطّواف ببيت الله، ولا يكون الطّواف ببيوت أعداء الله، إنّه يريد أن يكون الطّواف ببيت الإله الواحد، ولا يكون الطواف ببيت الآلهة الذين يدعونهم النّاس من دون الله.. إنّه يريد أن يحرّر الإنسان من الصّنم ومن الوثن. ولهذا، فإنّه يريد أو يوحي إليه أنّ القضيّة ليست قضية أصنام الحجر والخشب، ولكنها قضية أصنام اللّحم والدّم، هي التي يجب أن نرجمها وأن نحطّمها وأن نكسّرها..
فالنبيّ (ص) عندما صعد على الكعبة من أجل أن يحطّم الأصنام الموضوعة هناك، أراد أن يوحي أنّ الكعبة لا تتحمّل صنماً من حجر، ولا تتحمّل صنماً من غير الحجر أيضاً.. ولهذا، فإنّ علينا كما نريد أن نطرد أصنام الأحجار حول الكعبة، أن نطرد كلّ الأصنام المحيطة بالكعبة أيضاً..
وهكذا كانوا، لكنّهم قالوا إنّ الحجّ والسياسة شيئان مختلفان، نحن لا نقول أن يستبدل النّاس بالطواف طوافاً آخر، نحن نطلب من النّاس أن يتعبّدوا كما هي العبادة؛ أن يبكوا ويخشعوا، ويخضعوا ويصلّوا، ويطوفوا في ابتهالٍ وخشوعٍ، ويرجموا في ابتهالٍ وخشوعٍ، ويقفوا في عرفات وفي المشعر وهم يبكون من خشية الله...
الثّورة من أجل الحرّيّة
نحن لا نقول للناس اشتغلوا بالسياسة عن العبادة، ولكنّنا نقول إنّ العبادة تشير لكم إلى خطّ السياسية الذي يجب أن تنتهجوه، وأنّ عليكم في المجالات الأخرى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً}.. أن تفكّر في الحسنة في الدنيا، وهي أن تعيش في الدّنيا حراً عادلاً، تعيش في جوّ العدل وفي جوّ الحرية، كما أراد الله لك أن تعيش..
ولهذا، فإنّ المطالبة بالحرية، والثورة من أجل الحرية، والقتال من أجل الحريّة ومن أجل العدالة، هي جزء من معنى الحجّ ومن معنى العبادة في الإسلام.
وهذا ما خافوا منه، خافوا أن يكتشف المسلمون من خلال خطّ الثورة الإسلاميّة، أن يكتشف المسلمون أنّ قياداتهم التي تتحرّك في عروشهم وفي مواقعهم، هي قيادات مزيَّفة لا تصلح للإسلام وللمسلمين، وأنّ القيادة الحرّة العادلة الفقيهة الحكيمة الواعية، هي قيادة الفقهاء المؤتمنين على الدّين والدّنيا، هي قيادة إمام الأمَّة الذي اتّسع قلبه للعالم كله.. ولذا، فهو لا يخاطب الإيرانيّين، ولكنّه يخاطب العالم كلّه، ويخاطب المستضعفين كلّهم، يخافون أن يكتشف الناس القيادة العالميّة للإسلام، ويخافون أن يكتشف النّاس المفاهيم الحقيقيّة للإسلام، ويخافون أن يكتشف المستعبدون والمستضعفون في أفريقيا وفي آسيا وفي أميركا اللاتينيّة، أنّ عندهم أكثر من طريق للحريّة، وأن عندهم أكثر من سندٍ في العالم لقضايا الحريّة.. إنهم يخافون على عروشهم من أن يتحوّل الحجّ إلى موقف حاسم ضدّ كل عرش لا يطأطئ رأسه ومواقفه لعرش الله سبحانه وتعالى..
وهذا ما أراده إمام الأمّة في ندائه الأخير في مكّة الذي قرئ على المسلمين هناك بالأمس، إنّه أراد من المسلمين جميعاً؛ سنيّهم وشيعيّهم، بكلّ مذاهبهم، أن يتوحَّدوا على الإسلام، وأراد لهم أن يحافظوا على الإسلام؛ أن يحافظوا على عقائده، وأن يحافظوا على شرائعه، وأن يحافظوا على أساليبه ومناهجه وأهدافه في الحياة، وأراد لهم أن يواجهوا الكفر كلّه؛ الكفر في العقيدة، والكفر في السياسة، والكفر في الأخلاق، أراد لهم أن يواجهوا الكفر كلّه، ليلحقوا الهزيمة بالكفر، لأنَّ الكفر كلَّه يريد استغلال شعوب العالم الثّالث لمصلحته الاستراتيجيّة، ولمصلحته الاقتصاديّة والسياسيّة ضدّ شعوب هذا العالم.
ولهذا، أراد للمسلمين من أيّ بلد أن يرجعوا من الحجّ، ويقف كلّ واحد منهم ليحمل مسؤوليّة الإسلام بكلّ ما عنده من طاقة، وبكلِّ ما عنده من إمكانات، ووقف من أجل أن يبصّر المسلمين بأنّ القوى التي تسمّى القوى العظمى في العالم، تعمل على أن تطوّر إمكاناتها من خلال منع العالم، ولا سيما العالم الإسلاميّ، من تطوير إمكاناته واحتلال موقعه الصّحيح.
أساليب الدّول الكبرى
ولهذا، تعمل الدول الكبرى بكلّ ما عندها من وسائل المخابرات، ومن وسائل اقتصاديّة، ومن وسائل عسكريّة، على إيجاد الحروب في كلِّ المناطق التي يوجَد فيها خلاف في العالم، حتى تظلّ الدّول الكبرى مسيطرةً على العالم كلّه، من خلال تدخّلها في هذه الحرب أو تلك، وحتى تمنع العالم من تطوير إمكاناته، ومن احتلال موقعه الصّحيح، ولا سيّما العالم الإسلامي..
وهكذا، نبَّه إمام الأمة المسلمين جميعاً إلى أنَّ عليهم أن ينتبهوا إلى الخطّة الشيطانيّة التي تحاول الدول الكبرى أن تركّزها في نفوسنا، وهي أنّنا لا نستطيع الاستغناء عن أميركا ولا عن أوروبّا، لأنها هي الّتي يمكن أن تعيّشنا ويمكن أن تموّتنا.. إنها تحاول أن توحي إلى العالم بأنّه مرتبط باقتصادها وسياستها وثقافتها وكلّ أوضاعها، وأنها بالنّسبة إلى العالم كالرّوح بالنّسبة إلى الجسد، فإذا فقدَ الجسدُ الرّوحَ ماتَ الجسد.
إنّه أراد أن يقول للعالم، صحيح أنّنا لا نملك الاكتفاء الذّاتي، لأنَّ أوروبّا وأميركا قد سبقتنا أشواطاً في كثير من ميادين المعرفة، وسبقتنا أشواطاً في ميادين الاختراع والتقنيّة، لكن نحن علينا أن نعرف أنّنا نمتلك الإمكانات، وأننا نستطيع أن نطوّر إمكاناتنا، ولو من خلال التّعاون مع هذه الدّول، من أجل أن نملك الاكتفاء الذّاتيّ، وأنّنا نستطيع أن نستقلّ في المستقبل كما استطاعت هذه الدول أن تستقلّ في المستقبل، وأنّ حاجتنا إليها إنما هي حاجة مرحليّة وحاجة طارئة وليست حاجة مطلقة.
وهكذا، دعا المسلمين في العالم، والمستضعفين في العالم، إلى محاصرة الاستعمار في العالم؛ إلى محاصرته اقتصادياً واستراتيجياً وثقافياً فيما يسيء إلى ثقافاتنا، لأنّنا إذا لم نحاصره فهو الآن يحاصرنا، وإذا لم نضيّق عليه الدّائرة، فإنه سيجعلنا نختنق في الدّوائر الضيّقة التي يحبسنا بها..
هل الثّورةُ تستدعي الفوضى؟!
وقد يقول قائل إنّنا إذا أردنا أن نعلن ثورة المستضعفين على المستكبرين في العالم، بمحاصرة المستكبرين في مصالحهم في العالم، فسيكون هناك الفوضى.. إنّ الإمام يقول لا تخافوا من الفوضى، لأنّه لن يكون هناك فوضى، وإنما هو وحي يوحون به إليكم دون أن يكون له أيّ قدر من الصحة، لأنهم يريدون أن يحافظوا على مصالحهم في هذا المجال.. إنّهم يوحون إليكم أنّكم إذا دمّرتم بعض مصالحهم، فإنّ معنى ذلك أنكم سوف لا تستطيعون أن تعيشوا حياة منظَّمة. ولكنّ النظام الفاسد لا يمكن أن يصنع حاضراً صحيحاً، ولكنّ النّظام الصّحيح هو الّذي يمكن أن يصنع الحياة الصّحيحة..
وهكذا، دعا المثقّفين في العالم، حتّى مثقفي أميركا، دعاهم إلى أن لا يبيعوا عقولهم للإسلام الاستهلاكيّ الذي تصنعه المخابرات، التي تقول لهم إنّ الإسلام أصبح ديناً إرهابيّاً، وإنّ الجمهورية الإسلاميّة هي راعية الإرهاب في العالم.. إنّه يدعو المثقَّفين إلى أن يناقشوا هذا الكذب، ليدرسوا أيّ إرهابٍ هو إرهاب أميركا.. هذه التي توزّع قنابلها الذريّة على أوروبا من أجل أن تحرق العالم كلَّه بالقنابل الذريَّة، كما صنعت في هيروشيما في اليابان، وإنها هي الّتي تنشر مخابراتها في العالم لتصنع له حروبه المحليّة، ولا سيّما الحرب في لبنان..
وهكذا، إنه يدعو المسلمين إلى اليقظة، ويدعوهم إلى الوعي، ويدعوهم إلى أن لا يستسلم كلّ واحد منكم لجريدته أو لإذاعته، بل لا بدّ أن ينطلق من خلال عقله، ليناقش كلّ قضايا السياسة من خلال عقله.
 وبهذا، كان للحجّ، وسيصير للحجّ الدور الأكبر الّذي يمكننا من خلاله أن نحوِّل هذا المؤتمر العالميّ الإسلاميّ إلى مؤتمر يمكن أن تُبحَث فيه كل قضايا الحرية، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ قضايا العدالة، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ قضايا الثورة، ويمكن أن تُبحَث فيه كلّ العلاقات فيما بين المسلمين شعوباً، وبين المسلمين أنظمة إذا سارت في خطّ الإسلام...
*محاضرة لسماحته ألقاها بتاريخ 2-4-1984.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية