من الملامح البارزة في شخصية الإمام الكاظم(ع)

من الملامح البارزة في شخصية الإمام الكاظم(ع)

عندما نريد أن نتحدّث عن أئمة أهل البيت(ع)، فإننا نتحدث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع الإسلامي كلِّه من موقع القيادة والرياسة والمسؤولية.. والإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإنَّنا نجد مدرسته تتميّز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، بحيث لم تكن مدرسته مدرسةً مذهبيّةً تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته وحسب، بل كان مرجعاً لكلِّ الناس الذين يتنوّعون في اهتماماتهم.

وقد كانت عظمة أهل البيت(ع) ـ كما هو دورهم ـ أن يرصدوا الساحة في حركتها واتجاهاتها، وما هي السلبيات التي يمكن أن تدخل في عمق الفكر الإسلاميّ من خلال خطٍّ منحرف هنا، وحركة فوضى في الوعي الثقافي هناك.. ومن هنا، فقد واجه الإمام الكاظم(ع) كلَّ التيارات الجديدة المنحرفة التي حاولت أن تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ لتبتعد به عن الخط المستقيم، فواجهها بالفكر الإسلاميّ النقيّ الصافي الذي أخذه عن آبائه(ع) عن جدّهم رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله تعالى.. وكان(ع) يبرز الرأي الصحيح في كلِّ خلاف فكريّ على مستوى القضايا العقيدية والشرعيّة وكافة المفاهيم الإسلاميّة، وكان في كلِّ مواقفه ناصحاً للمسلمين في شؤونهم الخاصة والعامة وشتى مجالات حياتهم..

عبـادتـه

والآن، ما هي الملامح البارزة لشخصيّة الإمام الكاظم(ع) في الطابع العام لحياته، فيما يمكن أن يكون أساساً للشخصيّة الرساليّة، في الخصائص المتصلة بالعمق الداخلي للمضمون الروحيّ الذي تتأكد فيه الصفة الإيمانية الشموليّة في الإخلاص لله تعالى، والمحبة له في الحالة العفويّة المنفتحة على كلِّ معاني العبوديّة الكامنة في سرِّ وجود الذات الإنسانية أمام الألوهيّة الرحيمة القادرة في ما توحي به كلمة إسلام الوجه لله التي يعيشها الإنسان في أجواء الحبِّ لله والخوف منه، وهذا ما كان يعيشه الأئمة من أهل البيت(ع) في الجوِّ العبادي المميّز الذي كان يتمثّل في ابتهالاتهم الخاشعة الخاضعة في الأدعية المعبِّرة عن كلِّ ما يعيش في قلوبهم من انفتاح على الله بكلِّ كياناتهم، في نطاق متحرّك من الروحانية الصافية المليئة بالشعور الفيّاض بالطهارة الروحية في ذوبان الذات في إحساسها بوجودها الفقير في كلِّ شي‏ء إلى الله تعالى..

وإذا لاحظنا النهج الإيماني العرفانيّ في سلوك أهل البيت(ع) وأدعيتهم، في معانيها التي لا تغرق في تعقيد الفلسفات العرفانية الواردة إلى التفكير الإسلاميّ من خلال قواعد التفكير لدى الآخرين، فإننا نرى فيها انسجاماً مع النهج القرآني في الحديث عن الله وصفاته، وعن نعمه وآفاق عظمته، فلا تشعر وأنت تقرأها بأيِّ جوٍّ غريب عن تفاصيل الجوّ القرآنيّ، بل ترى فيها حركة قرآنية على مستوى المفاهيم والمشاعر والتطلّعات.

ولن تجد في الاستغراق في المضمون العبادي على مستوى الفكر والسلوك أيّ نوع من الانفصال عن الحياة في قضاياها وأوضاعها المسؤولة، بل تجد بدلاً من ذلك استغراقاً في المسؤولية الواسعة التي يفرضها الموقع القياديّ الذي يقفون فيه، ولذلك، فإنَّك تجد حياة الأئمة مليئة بالنشاط العلميّ والاجتماعيّ، بالإضافة إلى النشاط العباديّ الذي كان يمثّل الحالة الروحيّة المتطلّعة إلى الله في شوق ولهفةٍ وحبٍّ كبير، ما يجعل التفرّغ لعبادة الله مطلباً روحياً يبتهل إلى الله من أجل التوفيق إليه، لا محاولةً للتخلّص من المسؤوليات الأخرى.. فهي نوعٌ من العبادة المتمثّلة في التعبير عن عمق الحبّ لله في الخشوع بين يديه، والابتهالات في رحاب قدسه ورضوانه، وهذا ما نستوحيه مما رُويَ عن الإمام الكاظم(ع) في قوله وهو في السجن: "اللهم إنَّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد"(1).

وهكذا نرى كيف حوّل الإمام الكاظم(ع) إقامته في السجن إلى فرصة للعبادة المتواصلة، كما كانت حاله خارج السجن التي يعيش فيها الفرح الروحي مع الله، كما هي حالة أولياء الله الذين يشغلهم حبُّ الله عن التفكير في الآلام الصغيرة، فقد ورد في التواريخ أنَّ هارون الرشيد عندما أرسله إلى البصرة وسُجِن فيها سنة كاملةً عند أحد أقرباء الرشيد، وهو عيسى بن موسى، وقد راقب الإمام الكاظم(ع) طوال مدّة إقامته في السجن: هل يتألم من وضعه، وما هي انفعالاته؟ فكان لا يراه إلا مشغولاً بعبادة الله، ولم تبدر منه أيّة كلمة تجاه هذا الشخص الذي تولّى حبسه، ولا بالنسبة إلى الرشيد، حيث كان منصرفاً إلى العبادة والتضرّع إلى الله تعالى.. ولما طلب الرشيد من عيسى بن موسى أن يقتله، كتب إليه: "يا أمير المؤمنين، كتبت إليَّ في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه، بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويَّتهُ ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قطّ، ولم يكن عنده تطلّعٌ إلى ولاية ولا خروجٌ ولا شي‏ءٌ من أمر الدنيا، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلّمه مني، وإلا سرّحت سبيله، فإنَّني منه في غاية الحرج".

واستجاب الرشيد لطلبه، وأتى به إلى بغداد، فوضعه تحت عين الفضل بن الربيع(2)، وكان هذا الرجل متعاطفاً مع الكاظم(ع)، وقال بعض من كان يزور الفضل: "دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالسٌ على سطح، فقال لي: أدنُ مني، فدنوت منه حتى حاذيته، ثم قال لي: أشْرِفْ إلى البيت في الدار، فأشرفت فقال: ما ترى في البيت؟ قلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت ونظرت فتيقّنت فقلت: رجلٌ ساجد، فقال لي: تعرفه؟ قلت: لا، قال: هذا مولاك، قلت: ومَنْ مولاي؟ فقال: تتجاهل عليَّ؟ فقلت: ما أتجاهل، ولكني لا أعرف لي مولى..

فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر، إنِّي أتفقده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أُخبرك بها، إنَّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دُبُر صلاته، إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدةً، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام قد زالت الشمس، إذ يثب فيبتدى‏ء الصلاة من غير أن يجدّد وضوءاً، فأعلم أنَّه لم ينم في سجوده ولا أغفى..

فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يُحدث حَدَثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شويِّ (تصغير شواء، أي شواء قليل) يُؤتى به، ثم يجدّد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه، فينام نومةً خفيفةً، ثم يقوم فيجدِّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، فلستُ أدري متى يقول الغلام إنَّ الفجر قد طلع، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبُه منذ حُوِّل إليَّ.

فقلت: اتّقِ الله، ولا تُحْدثنَّ في أمره حَدَثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنَّه لم يفعل أحدٌ بأحدٍ منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة، فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرّة يأمرونني بقتله، فلم أُجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني"(3).

وقد ورد في تاريخ أبي الفداء عن شقيقة السندي بن شاهك حينما سُجن الإمام(ع) في بيت أخيها عن عبادة الإمام في السجن: "أنّه إذا صلَّى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثم يقوم ويصلّي حتى يطلع الصبح، فيصلّي الصبح، ثم يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد ويستيقظ قبل الزوال، ثم يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات(ع)"(4).

كيف نستوحي هذا السلوك في حياتنا؟

وهذا ما يجب أن نستوحيه للمسلمين الذين تفرض عليهم الظروف الصعبة القاسية دخول سجون الكافرين والطاغين، ويتعرّضون فيها للكثير من الضغوطات القاسية مما يمارسه السجّانون عليهم، ليُسقطوا مواقفهم، ويهزموا روحياتهم، ويقودوهم إلى بعض الأوضاع السلبيّة، في ما يلوّحون به من الوعد بالتخفيف عنهم في حالات الألم الشديد، فإنَّ بإمكانهم أن يستلهموا روحانية الإيمان بالله في الانفتاح على التفكير به سبحانه والخشوع له تعالى والدعاء في كلِّ مهماتهم، لترتفع معنوياتهم من خلال ذلك، لينفصلوا عن الجوِّ الخانق إلى الجوِّ الرحب الواسع في آفاق الله، في رحمته ولطفه ورضوانه..

وإننا نحتاج إلى استلهام هذا السلوك العبادي الذي كان يعيشه الأئمة الهداة من أهل البيت(ع)، ولا سيما في ما قرأناه من عبادة الإمام موسى الكاظم(ع)، وذلك في ما يجب أن تعيشه التربية الإسلاميّة في إعداد العلماء والدعاة إلى الله، بالتأكيد على الجانب الروحيّ في حركة الجوِّ العباديّ الذي يرتفع بالإنسان المؤمن إلى آفاق الروحانية العليا التي تجعل العلاقة بالله هي الغاية العظيمة التي يتحرّك نحوها، في ما يريده لنفسه من حركةٍ وحياةٍ في الاتجاه العمليّ الذي يُعدّ نفسه له في القيام بمهمة خدمة الإسلام في الدعوة إليه، والجهاد في سبيله، والعمل الدائب من أجل إعادة الإسلام إلى الحياة على مستوى الحكم والشريعة والمنهج والحركة الشاملة.. وذلك يحتاج إلى طاقةٍ روحية كبيرة، فيما هي روحانية الفكر والممارسة، انطلاقاً من التحديات الكثيرة التي تواجهه على مستوى الترغيب أو الترهيب، في المغريات التي تقدّم إليه، وفي التهاويل التي تدور في آفاقه، من أجل إسقاط موقفه للانحراف به عن الخطّ، أو لإرباك الواقع الإسلامي من خلاله.. فإنَّ العلم لا يكفي في صيانة صاحبه إذا لم يرافقه إيمانٌ يتعمّق في مواقع الروح العميقة في وعي الإنسان، كما أنَّ طبيعة الانتماء إلى الحركة الإسلاميّة لا يكفي في إخلاص الحركيّين بدون تقوى ترتكز على الفكر والعمل، لأنَّ الحركيّة قد تتحوّل إلى نوع من المهنة والعادة..

إنَّ الطاقة الروحية هي روح الحركة، وسرّ الشخصيّة، وشرط الثبات، فلا بدَّ أن نتحرّك فيها من موقع الفكرة في آيات الله وكلمات رسوله، ومن موقع القدوة في سيرة النبيِّ(ص) وأهل بيته(ع) والصالحين من عباده.. ونحن إذ نتوقف عند الإمام الكاظم(ع)، فإننا نرى هذا المنهج في سيرته، وقد روى المفيد في الإرشاد: "كان أبو الحسن موسى(ع) أعبدَ أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نَفْساً.. ورُويَ أنَّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح حتى تطلُع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً ويقول: "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب"، ويكرِّر ذلك. وكان من دعائه: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك" و"كان يبكي حتى تخضلّ لحيتُه بالدموع"(5).

وفي سيرته(ع) روى الكليني (صاحب كتاب الكافي) عن عليِّ بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن موسى بن بكر عن أبي إبراهيم الكاظم(ع)، أنَّه(ع) كتب دعاءً إليه في قرطاس: "اللهم اردد إلى جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلي، صغيرها وكبيرها، في يسرٍ منك وعافية، وما لم تبلغه قوّتي ولم تَسَعْه ذاتُ يدي، ولم يَقْوَ عليه بدني ويقيني ونفسي، فأدِّه عني من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليَّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي، يا أرحم الراحمين..

أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الدين كما شرّع، وأنَّ الإسلام كما وصف، وأنَّ الكتاب كما أنزل، وأنَّ القول كما حدّث، وأنَّ الله هو الحقُّ المبين، ذكر اللهُ محمداً وأهلَ بيته بخير، حيّا محمداً وأهل بيته بالسلام"(6).

إنَّ هذا الدعاء يمثّل أسلوباً تربوياً في عملية التهذيب النفسيّ في التحرّر من كلِّ نقاط الضعف الإنساني، فيما يمكن أن تقود الإنسان إلى العدوان على الآخرين انطلاقاً من بعض الأوضاع النفسيّة المعقّدة، وذلك بأن يبتهل الإنسان إلى الله لأن يرزقه القوّة بردّ المظالم التي صدرت منه لأهلها، سواء كانت المظالم ماليّة في ما أخذه من أموالهم، أو غير ذلك في ما تصرّف فيه بغير حقٍّ في أجسادهم وأعراضهم وما إلى ذلك، وأن يتيسر له ذلك في عافية منه.. حتى إذا شعر بالعجز عن ذلك رفع أمره إلى الله ليعوِّض أصحاب المظالم عنها، فيرضيهم بما يمنحهم من فضله ليتخفّف من ذلك بشكل نهائيّ، وليبدأ حياة جديدةً خالصةً من كلِّ ظلم، بعيدة عن كلِّ انحراف..

والمشكلة في بعض الممارسات الخاطئة التي قد يقوم بها البعض، لا سيما في ما يتعلّق بحقوق الناس، هي أنَّها قد تتحوّل إلى عقدةٍ مستعصيةٍ عميقةِ الجذور في النفس، بحيث قد تعقّد الإنسان وتمنعه من الانفتاح على الحياة الجديدة الطاهرة الخالية من الأخطاء.

وهكذا نرى أنّ الدعاء قد انتهى بإعلان الإنسان إلى الله بأنَّه يؤمن بالله ورسوله وكتابه ورسالته كشاهدٍ على التزامه بالخطِّ المستقيم في خطِّه الإسلاميّ الأصيل، بحيث يمثّل الانضباط في كلِّ أقواله وأفعاله وعلاقاته بهذا الخطّ.

وقد نلاحظ أنَّ الدعاء الإسلاميّ الذي يتمثّل في ما رُويَ عن النبيِّ(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع)، يمثّل الأسلوب العمليّ الإيماني الذي يدفع بالإيحاءات الطاهرة إلى أعماق النفس، ليعيش الإنسان المفاهيم الصحيحة والانفعالات الطاهرة من موقع إحساسه بها من الداخل في مجال اعترافه بها أمام الله، واستعانته به على أن ينقذه من كلِّ نتائجها السلبيّة، ليكون بذلك أقدر على معالجتها مما لو جاءت إليه كنصيحةٍ من الخارج..

وإذا كان هذا النموذج من الدعاء يمثّل أسلوباً تربويّاً في التهذيب النفسيّ، فإنَّ هناك نموذجاً آخر يمثّل أسلوباً روحيّاً في تعميق العلاقة بالإخوان المؤمنين من خلال الإيحاء الداخليّ الشعوري، وهو الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب..

فقد جاء في كتاب (الكافي) عن عليِّ بن ابراهيم عن أبيه، قال: "رأيت عبد الله بن جندب بالموقف (في جبل عرفات)، فلم أرَ موقفاً كان أحسنَ من موقفه، ما زال مادّاً يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خدِّه حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس، قلتُ له: يا أبا محمّد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك، قال: والله ما دعوتُ إلا لإخواني، وذلك أنَّ أبا الحسن موسى بن جعفر(ع) أخبرني أنَّه مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب نُوديَ من العرش: ها! ولك مائة ألف ضعف مثله، فكرهتُ أن أدَعَ مائة ألف ضعف مضمونةٍ لواحد لا أدري هل يُستجاب أوْ لا"(7).

إنَّ هذا الانفتاح على الإخوة المؤمنين في ظهر الغيب، في ما يعانونه من مشاكل وآلام أو يتطلّعون إليه من رغبات وأحلام، توحي للإنسان المؤمن بالعلاقة الحميمة التي تشدّه إلى إخوانه، بحيث يعيش الهمَّ الكبيرَ في شؤونهم الحياتية، كما لو كان الهمُّ همَّه في شؤونه الخاصة، ما يعمّق في داخله الإحساس بالمحبة والمودّة في ما يتمثّل ذلك بالمعاناة الروحيّة في السلوك الدعائي.. فإذا تحوّل هذا الأسلوب العمليّ الروحيّ إلى نهج عام في حياة المؤمنين، وتفاعلت آثارُه الإيجابية في مشاعرهم، كان ذلك بمثابة ميثاقٍ إيمانيّ روحيّ غير مكتوب، يعيش فيه كلُّ مؤمن الالتزام العباديّ في ما يمثّله الدعاء من أسلوب العبادة، بأنّه سيعيش همومَ أخيه بين يدي الله، ليتحوّل بعد ذلك إلى همٍّ عمليّ في حياته، عندما يؤكّد حركة الشعور إلى حركةٍ مساعدةٍ في الحياة في ما يقدّمه لأخيه من جهدٍ كبير..

وإذا كان الحديث يؤكّد الثواب الكبير غير العادي الذي يحصل عليه الداعي لإخوانه بظهر الغيب، فإنَّه يدلُّ على القيمة العظيمة التي جعلها الإسلام لهذا السلوك العباديّ في المنهاج العام للدعاء في حياة المؤمن.

وفي ضوء هذه المسألة، وبعد أن عرفنا كيف يركّز أئمة أهل البيت(ع) مفهوم الدعاء في عقل المسلم ووجدانه، والتي تحمل في عمقها أصالة المفاهيم الإسلاميّة، نشير إلى كثير من الكلمات التي اعتاد الناس ترديدها في بعض الأدعية أو الأحاديث أو الزيارات، ما يحمل بعض الكلمات القلقة التي قد توحي ظواهرها ببعض المفاهيم التي ليست مقصودةً للمتكلم، لأنها لا تنسجم في طبيعتها الظاهرية مع المرتكزات العقيدية للمفاهيم الإسلامية.. وهنا نلاحظ أنَّ البعض يصرُّ على إبقائها في التداول التقليدي للأدعية والزيارات، لتأخذ حريتها بعد ذلك إلى أذهان بعض الناس المعقّدين من التشيّع وأهله، ليعتبروها أساساً للتشكيك بالعقيدة في ما يتحدّثون عنه من الانحراف في عقيدة الغلوّ ونحوها، ويرون في هذه الكلمات شاهداً على ذلك.

ونقدّم أمام هذه الملاحظة ما يردّده الناس في دعاء الفرج الذي ينتهي بهذه الكلمات: "فرّج عنّا يا الله بحقّهم فرجاً عاجلاً قريباً كلمح البصر أو هو أقرب من ذلك يا الله، يا الله يا الله، يا محمد يا عليّ، يا عليّ يا محمد، اكفياني فإنكما كافيان، وانصراني فإنكما ناصران"... ما الذي يوحي به هذا الكلام بظاهره غير أنَّ هناك استعانةً بالنبي(ص) وبالإمام علي(ع) في عرض (مقابل) الاستعانة بالله، وكيف يكفينا الرسول(ص) والإمام(ع) أو ينصراننا إذا لم يكن الله هو الذي يريد أن يكفينا مما نخاف أو ينصرنا على من نخاف منه؟!.. إننا نؤكّد أنَّ المقصود بهذه الكلمات هو الاستشفاع بهما إلى الله في الكفاية والنُصرة، ولكنَّ التعبير يوهم غير ذلك مما هو غير مقصود، فلماذا نصرُّ على إبقائه في التداول الشعبيّ الذي قد يركّز في الذهن عقيدة غير واضحة في ما يمكن أن يسبق إلى الذهن من هذه الظواهر في نصٍّ لم تثبت روايته من نبيّ أو إمام معصوم..

علاقته بالقرآن

وعندما ننفذ إلى حياة الإمام الكاظم(ع)، فإننا نقرأ أنَّه كان أحسنَ الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ القرآن، يقرأه بالصوت الحسن الذي يخشع له السامعون، ولعلَّ هذا ينطلق من أنَّ الصوت الحسن يعطي الكلمة تجسيداً، بحيث تملأ الكلمة القرآنية عقلَ الإنسان وقلبه، فتتعمّق فيه أكثر مما إذا قرأها بشكلها الطبيعي العاديّ، ولذلك قال تعالى:{ورتِّل القرآنَ ترتيلاً} [المزمّل:4]، وقال تعالى: {ورتّلناهُ ترتيلا}[الفرقان:32]، ولذلك جاء في الرواية عن الكاظم(ع): "كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضلّ لحيته بالدموع"(8).

المصادر:

(1) مناقب ابن شهرآشوب، ج:2، ص:379.

(2) الفضل بن الربيع بن يونس، عمل حاجباً عند هارون الرشيد، ومن ثمّ عند ولده الأمين حيث لازمه وأكرمه. تاريخ بغداد، 12/343.

(3) أمالي الصدوق، 146.

(4) تاريخ أبي الفداء، ج:3، ص:13.

(5) الإرشاد للمفيد، ص:231.

(6) الكافي، ج:3، ص:555.

(7) الكافي، ج:2، ص:508.

(8) بحار الأنوار، ج:48، ص:107.

عندما نريد أن نتحدّث عن أئمة أهل البيت(ع)، فإننا نتحدث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع الإسلامي كلِّه من موقع القيادة والرياسة والمسؤولية.. والإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإنَّنا نجد مدرسته تتميّز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، بحيث لم تكن مدرسته مدرسةً مذهبيّةً تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته وحسب، بل كان مرجعاً لكلِّ الناس الذين يتنوّعون في اهتماماتهم.

وقد كانت عظمة أهل البيت(ع) ـ كما هو دورهم ـ أن يرصدوا الساحة في حركتها واتجاهاتها، وما هي السلبيات التي يمكن أن تدخل في عمق الفكر الإسلاميّ من خلال خطٍّ منحرف هنا، وحركة فوضى في الوعي الثقافي هناك.. ومن هنا، فقد واجه الإمام الكاظم(ع) كلَّ التيارات الجديدة المنحرفة التي حاولت أن تفرض نفسها على الواقع الإسلاميّ لتبتعد به عن الخط المستقيم، فواجهها بالفكر الإسلاميّ النقيّ الصافي الذي أخذه عن آبائه(ع) عن جدّهم رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله تعالى.. وكان(ع) يبرز الرأي الصحيح في كلِّ خلاف فكريّ على مستوى القضايا العقيدية والشرعيّة وكافة المفاهيم الإسلاميّة، وكان في كلِّ مواقفه ناصحاً للمسلمين في شؤونهم الخاصة والعامة وشتى مجالات حياتهم..

عبـادتـه

والآن، ما هي الملامح البارزة لشخصيّة الإمام الكاظم(ع) في الطابع العام لحياته، فيما يمكن أن يكون أساساً للشخصيّة الرساليّة، في الخصائص المتصلة بالعمق الداخلي للمضمون الروحيّ الذي تتأكد فيه الصفة الإيمانية الشموليّة في الإخلاص لله تعالى، والمحبة له في الحالة العفويّة المنفتحة على كلِّ معاني العبوديّة الكامنة في سرِّ وجود الذات الإنسانية أمام الألوهيّة الرحيمة القادرة في ما توحي به كلمة إسلام الوجه لله التي يعيشها الإنسان في أجواء الحبِّ لله والخوف منه، وهذا ما كان يعيشه الأئمة من أهل البيت(ع) في الجوِّ العبادي المميّز الذي كان يتمثّل في ابتهالاتهم الخاشعة الخاضعة في الأدعية المعبِّرة عن كلِّ ما يعيش في قلوبهم من انفتاح على الله بكلِّ كياناتهم، في نطاق متحرّك من الروحانية الصافية المليئة بالشعور الفيّاض بالطهارة الروحية في ذوبان الذات في إحساسها بوجودها الفقير في كلِّ شي‏ء إلى الله تعالى..

وإذا لاحظنا النهج الإيماني العرفانيّ في سلوك أهل البيت(ع) وأدعيتهم، في معانيها التي لا تغرق في تعقيد الفلسفات العرفانية الواردة إلى التفكير الإسلاميّ من خلال قواعد التفكير لدى الآخرين، فإننا نرى فيها انسجاماً مع النهج القرآني في الحديث عن الله وصفاته، وعن نعمه وآفاق عظمته، فلا تشعر وأنت تقرأها بأيِّ جوٍّ غريب عن تفاصيل الجوّ القرآنيّ، بل ترى فيها حركة قرآنية على مستوى المفاهيم والمشاعر والتطلّعات.

ولن تجد في الاستغراق في المضمون العبادي على مستوى الفكر والسلوك أيّ نوع من الانفصال عن الحياة في قضاياها وأوضاعها المسؤولة، بل تجد بدلاً من ذلك استغراقاً في المسؤولية الواسعة التي يفرضها الموقع القياديّ الذي يقفون فيه، ولذلك، فإنَّك تجد حياة الأئمة مليئة بالنشاط العلميّ والاجتماعيّ، بالإضافة إلى النشاط العباديّ الذي كان يمثّل الحالة الروحيّة المتطلّعة إلى الله في شوق ولهفةٍ وحبٍّ كبير، ما يجعل التفرّغ لعبادة الله مطلباً روحياً يبتهل إلى الله من أجل التوفيق إليه، لا محاولةً للتخلّص من المسؤوليات الأخرى.. فهي نوعٌ من العبادة المتمثّلة في التعبير عن عمق الحبّ لله في الخشوع بين يديه، والابتهالات في رحاب قدسه ورضوانه، وهذا ما نستوحيه مما رُويَ عن الإمام الكاظم(ع) في قوله وهو في السجن: "اللهم إنَّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد"(1).

وهكذا نرى كيف حوّل الإمام الكاظم(ع) إقامته في السجن إلى فرصة للعبادة المتواصلة، كما كانت حاله خارج السجن التي يعيش فيها الفرح الروحي مع الله، كما هي حالة أولياء الله الذين يشغلهم حبُّ الله عن التفكير في الآلام الصغيرة، فقد ورد في التواريخ أنَّ هارون الرشيد عندما أرسله إلى البصرة وسُجِن فيها سنة كاملةً عند أحد أقرباء الرشيد، وهو عيسى بن موسى، وقد راقب الإمام الكاظم(ع) طوال مدّة إقامته في السجن: هل يتألم من وضعه، وما هي انفعالاته؟ فكان لا يراه إلا مشغولاً بعبادة الله، ولم تبدر منه أيّة كلمة تجاه هذا الشخص الذي تولّى حبسه، ولا بالنسبة إلى الرشيد، حيث كان منصرفاً إلى العبادة والتضرّع إلى الله تعالى.. ولما طلب الرشيد من عيسى بن موسى أن يقتله، كتب إليه: "يا أمير المؤمنين، كتبت إليَّ في هذا الرجل، وقد اختبرته طول مقامه، بمن حبسته معه عيناً عليه، لينظروا حيلته وأمره وطويَّتهُ ممن له المعرفة والدراية، ويجري من الإنسان مجرى الدم، فلم يكن منه سوء قطّ، ولم يكن عنده تطلّعٌ إلى ولاية ولا خروجٌ ولا شي‏ءٌ من أمر الدنيا، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلّمه مني، وإلا سرّحت سبيله، فإنَّني منه في غاية الحرج".

واستجاب الرشيد لطلبه، وأتى به إلى بغداد، فوضعه تحت عين الفضل بن الربيع(2)، وكان هذا الرجل متعاطفاً مع الكاظم(ع)، وقال بعض من كان يزور الفضل: "دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالسٌ على سطح، فقال لي: أدنُ مني، فدنوت منه حتى حاذيته، ثم قال لي: أشْرِفْ إلى البيت في الدار، فأشرفت فقال: ما ترى في البيت؟ قلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت ونظرت فتيقّنت فقلت: رجلٌ ساجد، فقال لي: تعرفه؟ قلت: لا، قال: هذا مولاك، قلت: ومَنْ مولاي؟ فقال: تتجاهل عليَّ؟ فقلت: ما أتجاهل، ولكني لا أعرف لي مولى..

فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر، إنِّي أتفقده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أُخبرك بها، إنَّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دُبُر صلاته، إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدةً، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام قد زالت الشمس، إذ يثب فيبتدى‏ء الصلاة من غير أن يجدّد وضوءاً، فأعلم أنَّه لم ينم في سجوده ولا أغفى..

فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يُحدث حَدَثاً، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شويِّ (تصغير شواء، أي شواء قليل) يُؤتى به، ثم يجدّد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه، فينام نومةً خفيفةً، ثم يقوم فيجدِّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، فلستُ أدري متى يقول الغلام إنَّ الفجر قد طلع، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبُه منذ حُوِّل إليَّ.

فقلت: اتّقِ الله، ولا تُحْدثنَّ في أمره حَدَثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنَّه لم يفعل أحدٌ بأحدٍ منهم سوءاً إلا كانت نعمته زائلة، فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرّة يأمرونني بقتله، فلم أُجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني"(3).

وقد ورد في تاريخ أبي الفداء عن شقيقة السندي بن شاهك حينما سُجن الإمام(ع) في بيت أخيها عن عبادة الإمام في السجن: "أنّه إذا صلَّى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثم يقوم ويصلّي حتى يطلع الصبح، فيصلّي الصبح، ثم يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد ويستيقظ قبل الزوال، ثم يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات(ع)"(4).

كيف نستوحي هذا السلوك في حياتنا؟

وهذا ما يجب أن نستوحيه للمسلمين الذين تفرض عليهم الظروف الصعبة القاسية دخول سجون الكافرين والطاغين، ويتعرّضون فيها للكثير من الضغوطات القاسية مما يمارسه السجّانون عليهم، ليُسقطوا مواقفهم، ويهزموا روحياتهم، ويقودوهم إلى بعض الأوضاع السلبيّة، في ما يلوّحون به من الوعد بالتخفيف عنهم في حالات الألم الشديد، فإنَّ بإمكانهم أن يستلهموا روحانية الإيمان بالله في الانفتاح على التفكير به سبحانه والخشوع له تعالى والدعاء في كلِّ مهماتهم، لترتفع معنوياتهم من خلال ذلك، لينفصلوا عن الجوِّ الخانق إلى الجوِّ الرحب الواسع في آفاق الله، في رحمته ولطفه ورضوانه..

وإننا نحتاج إلى استلهام هذا السلوك العبادي الذي كان يعيشه الأئمة الهداة من أهل البيت(ع)، ولا سيما في ما قرأناه من عبادة الإمام موسى الكاظم(ع)، وذلك في ما يجب أن تعيشه التربية الإسلاميّة في إعداد العلماء والدعاة إلى الله، بالتأكيد على الجانب الروحيّ في حركة الجوِّ العباديّ الذي يرتفع بالإنسان المؤمن إلى آفاق الروحانية العليا التي تجعل العلاقة بالله هي الغاية العظيمة التي يتحرّك نحوها، في ما يريده لنفسه من حركةٍ وحياةٍ في الاتجاه العمليّ الذي يُعدّ نفسه له في القيام بمهمة خدمة الإسلام في الدعوة إليه، والجهاد في سبيله، والعمل الدائب من أجل إعادة الإسلام إلى الحياة على مستوى الحكم والشريعة والمنهج والحركة الشاملة.. وذلك يحتاج إلى طاقةٍ روحية كبيرة، فيما هي روحانية الفكر والممارسة، انطلاقاً من التحديات الكثيرة التي تواجهه على مستوى الترغيب أو الترهيب، في المغريات التي تقدّم إليه، وفي التهاويل التي تدور في آفاقه، من أجل إسقاط موقفه للانحراف به عن الخطّ، أو لإرباك الواقع الإسلامي من خلاله.. فإنَّ العلم لا يكفي في صيانة صاحبه إذا لم يرافقه إيمانٌ يتعمّق في مواقع الروح العميقة في وعي الإنسان، كما أنَّ طبيعة الانتماء إلى الحركة الإسلاميّة لا يكفي في إخلاص الحركيّين بدون تقوى ترتكز على الفكر والعمل، لأنَّ الحركيّة قد تتحوّل إلى نوع من المهنة والعادة..

إنَّ الطاقة الروحية هي روح الحركة، وسرّ الشخصيّة، وشرط الثبات، فلا بدَّ أن نتحرّك فيها من موقع الفكرة في آيات الله وكلمات رسوله، ومن موقع القدوة في سيرة النبيِّ(ص) وأهل بيته(ع) والصالحين من عباده.. ونحن إذ نتوقف عند الإمام الكاظم(ع)، فإننا نرى هذا المنهج في سيرته، وقد روى المفيد في الإرشاد: "كان أبو الحسن موسى(ع) أعبدَ أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نَفْساً.. ورُويَ أنَّه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح حتى تطلُع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً ويقول: "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب"، ويكرِّر ذلك. وكان من دعائه: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك" و"كان يبكي حتى تخضلّ لحيتُه بالدموع"(5).

وفي سيرته(ع) روى الكليني (صاحب كتاب الكافي) عن عليِّ بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن موسى بن بكر عن أبي إبراهيم الكاظم(ع)، أنَّه(ع) كتب دعاءً إليه في قرطاس: "اللهم اردد إلى جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلي، صغيرها وكبيرها، في يسرٍ منك وعافية، وما لم تبلغه قوّتي ولم تَسَعْه ذاتُ يدي، ولم يَقْوَ عليه بدني ويقيني ونفسي، فأدِّه عني من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليَّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي، يا أرحم الراحمين..

أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الدين كما شرّع، وأنَّ الإسلام كما وصف، وأنَّ الكتاب كما أنزل، وأنَّ القول كما حدّث، وأنَّ الله هو الحقُّ المبين، ذكر اللهُ محمداً وأهلَ بيته بخير، حيّا محمداً وأهل بيته بالسلام"(6).

إنَّ هذا الدعاء يمثّل أسلوباً تربوياً في عملية التهذيب النفسيّ في التحرّر من كلِّ نقاط الضعف الإنساني، فيما يمكن أن تقود الإنسان إلى العدوان على الآخرين انطلاقاً من بعض الأوضاع النفسيّة المعقّدة، وذلك بأن يبتهل الإنسان إلى الله لأن يرزقه القوّة بردّ المظالم التي صدرت منه لأهلها، سواء كانت المظالم ماليّة في ما أخذه من أموالهم، أو غير ذلك في ما تصرّف فيه بغير حقٍّ في أجسادهم وأعراضهم وما إلى ذلك، وأن يتيسر له ذلك في عافية منه.. حتى إذا شعر بالعجز عن ذلك رفع أمره إلى الله ليعوِّض أصحاب المظالم عنها، فيرضيهم بما يمنحهم من فضله ليتخفّف من ذلك بشكل نهائيّ، وليبدأ حياة جديدةً خالصةً من كلِّ ظلم، بعيدة عن كلِّ انحراف..

والمشكلة في بعض الممارسات الخاطئة التي قد يقوم بها البعض، لا سيما في ما يتعلّق بحقوق الناس، هي أنَّها قد تتحوّل إلى عقدةٍ مستعصيةٍ عميقةِ الجذور في النفس، بحيث قد تعقّد الإنسان وتمنعه من الانفتاح على الحياة الجديدة الطاهرة الخالية من الأخطاء.

وهكذا نرى أنّ الدعاء قد انتهى بإعلان الإنسان إلى الله بأنَّه يؤمن بالله ورسوله وكتابه ورسالته كشاهدٍ على التزامه بالخطِّ المستقيم في خطِّه الإسلاميّ الأصيل، بحيث يمثّل الانضباط في كلِّ أقواله وأفعاله وعلاقاته بهذا الخطّ.

وقد نلاحظ أنَّ الدعاء الإسلاميّ الذي يتمثّل في ما رُويَ عن النبيِّ(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع)، يمثّل الأسلوب العمليّ الإيماني الذي يدفع بالإيحاءات الطاهرة إلى أعماق النفس، ليعيش الإنسان المفاهيم الصحيحة والانفعالات الطاهرة من موقع إحساسه بها من الداخل في مجال اعترافه بها أمام الله، واستعانته به على أن ينقذه من كلِّ نتائجها السلبيّة، ليكون بذلك أقدر على معالجتها مما لو جاءت إليه كنصيحةٍ من الخارج..

وإذا كان هذا النموذج من الدعاء يمثّل أسلوباً تربويّاً في التهذيب النفسيّ، فإنَّ هناك نموذجاً آخر يمثّل أسلوباً روحيّاً في تعميق العلاقة بالإخوان المؤمنين من خلال الإيحاء الداخليّ الشعوري، وهو الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب..

فقد جاء في كتاب (الكافي) عن عليِّ بن ابراهيم عن أبيه، قال: "رأيت عبد الله بن جندب بالموقف (في جبل عرفات)، فلم أرَ موقفاً كان أحسنَ من موقفه، ما زال مادّاً يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خدِّه حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس، قلتُ له: يا أبا محمّد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك، قال: والله ما دعوتُ إلا لإخواني، وذلك أنَّ أبا الحسن موسى بن جعفر(ع) أخبرني أنَّه مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب نُوديَ من العرش: ها! ولك مائة ألف ضعف مثله، فكرهتُ أن أدَعَ مائة ألف ضعف مضمونةٍ لواحد لا أدري هل يُستجاب أوْ لا"(7).

إنَّ هذا الانفتاح على الإخوة المؤمنين في ظهر الغيب، في ما يعانونه من مشاكل وآلام أو يتطلّعون إليه من رغبات وأحلام، توحي للإنسان المؤمن بالعلاقة الحميمة التي تشدّه إلى إخوانه، بحيث يعيش الهمَّ الكبيرَ في شؤونهم الحياتية، كما لو كان الهمُّ همَّه في شؤونه الخاصة، ما يعمّق في داخله الإحساس بالمحبة والمودّة في ما يتمثّل ذلك بالمعاناة الروحيّة في السلوك الدعائي.. فإذا تحوّل هذا الأسلوب العمليّ الروحيّ إلى نهج عام في حياة المؤمنين، وتفاعلت آثارُه الإيجابية في مشاعرهم، كان ذلك بمثابة ميثاقٍ إيمانيّ روحيّ غير مكتوب، يعيش فيه كلُّ مؤمن الالتزام العباديّ في ما يمثّله الدعاء من أسلوب العبادة، بأنّه سيعيش همومَ أخيه بين يدي الله، ليتحوّل بعد ذلك إلى همٍّ عمليّ في حياته، عندما يؤكّد حركة الشعور إلى حركةٍ مساعدةٍ في الحياة في ما يقدّمه لأخيه من جهدٍ كبير..

وإذا كان الحديث يؤكّد الثواب الكبير غير العادي الذي يحصل عليه الداعي لإخوانه بظهر الغيب، فإنَّه يدلُّ على القيمة العظيمة التي جعلها الإسلام لهذا السلوك العباديّ في المنهاج العام للدعاء في حياة المؤمن.

وفي ضوء هذه المسألة، وبعد أن عرفنا كيف يركّز أئمة أهل البيت(ع) مفهوم الدعاء في عقل المسلم ووجدانه، والتي تحمل في عمقها أصالة المفاهيم الإسلاميّة، نشير إلى كثير من الكلمات التي اعتاد الناس ترديدها في بعض الأدعية أو الأحاديث أو الزيارات، ما يحمل بعض الكلمات القلقة التي قد توحي ظواهرها ببعض المفاهيم التي ليست مقصودةً للمتكلم، لأنها لا تنسجم في طبيعتها الظاهرية مع المرتكزات العقيدية للمفاهيم الإسلامية.. وهنا نلاحظ أنَّ البعض يصرُّ على إبقائها في التداول التقليدي للأدعية والزيارات، لتأخذ حريتها بعد ذلك إلى أذهان بعض الناس المعقّدين من التشيّع وأهله، ليعتبروها أساساً للتشكيك بالعقيدة في ما يتحدّثون عنه من الانحراف في عقيدة الغلوّ ونحوها، ويرون في هذه الكلمات شاهداً على ذلك.

ونقدّم أمام هذه الملاحظة ما يردّده الناس في دعاء الفرج الذي ينتهي بهذه الكلمات: "فرّج عنّا يا الله بحقّهم فرجاً عاجلاً قريباً كلمح البصر أو هو أقرب من ذلك يا الله، يا الله يا الله، يا محمد يا عليّ، يا عليّ يا محمد، اكفياني فإنكما كافيان، وانصراني فإنكما ناصران"... ما الذي يوحي به هذا الكلام بظاهره غير أنَّ هناك استعانةً بالنبي(ص) وبالإمام علي(ع) في عرض (مقابل) الاستعانة بالله، وكيف يكفينا الرسول(ص) والإمام(ع) أو ينصراننا إذا لم يكن الله هو الذي يريد أن يكفينا مما نخاف أو ينصرنا على من نخاف منه؟!.. إننا نؤكّد أنَّ المقصود بهذه الكلمات هو الاستشفاع بهما إلى الله في الكفاية والنُصرة، ولكنَّ التعبير يوهم غير ذلك مما هو غير مقصود، فلماذا نصرُّ على إبقائه في التداول الشعبيّ الذي قد يركّز في الذهن عقيدة غير واضحة في ما يمكن أن يسبق إلى الذهن من هذه الظواهر في نصٍّ لم تثبت روايته من نبيّ أو إمام معصوم..

علاقته بالقرآن

وعندما ننفذ إلى حياة الإمام الكاظم(ع)، فإننا نقرأ أنَّه كان أحسنَ الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ القرآن، يقرأه بالصوت الحسن الذي يخشع له السامعون، ولعلَّ هذا ينطلق من أنَّ الصوت الحسن يعطي الكلمة تجسيداً، بحيث تملأ الكلمة القرآنية عقلَ الإنسان وقلبه، فتتعمّق فيه أكثر مما إذا قرأها بشكلها الطبيعي العاديّ، ولذلك قال تعالى:{ورتِّل القرآنَ ترتيلاً} [المزمّل:4]، وقال تعالى: {ورتّلناهُ ترتيلا}[الفرقان:32]، ولذلك جاء في الرواية عن الكاظم(ع): "كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، إذا قرأ يحزن، وبكى السامعون لتلاوته، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضلّ لحيته بالدموع"(8).

المصادر:

(1) مناقب ابن شهرآشوب، ج:2، ص:379.

(2) الفضل بن الربيع بن يونس، عمل حاجباً عند هارون الرشيد، ومن ثمّ عند ولده الأمين حيث لازمه وأكرمه. تاريخ بغداد، 12/343.

(3) أمالي الصدوق، 146.

(4) تاريخ أبي الفداء، ج:3، ص:13.

(5) الإرشاد للمفيد، ص:231.

(6) الكافي، ج:3، ص:555.

(7) الكافي، ج:2، ص:508.

(8) بحار الأنوار، ج:48، ص:107.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية