نلتقي هذه الأيّام بذكرى استشهاد الإمام السّابع من أئمّة أهل البيت(ع)، الإمام موسى الكاظم(ع).. هذا الإمام الّذي إذا قرأناه في تراثه كلّه، فإنَّنا نجد أنّه ككلّ أئمَّة أهل البيت(ع)، لم يترك جانباً من جوانب حركة الإسلام إلاّ وأولاه اهتماماً، سواء في عقل الإنسان بما يريد أن يربّي للإنسان عقله، أو في قلبه بما يريد أن يربّي به قلبه، أو في سلوكيّات حياته بما يريد أن يعمِّق له الخطّ المستقيم في حركته في الحياة.
هذا الإمام الذي لا بدَّ للنَّاس من أن يقرأوه في هذا الأفق الواسع الممتدّ في عالم المعرفة، والّذي يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، ويربط الإنسان بالإنسان، ويربط الإنسان بمسؤوليَّته عن الحياة كلّها، فلا يكون مجرَّد شخصٍ يعيش في سجن ذاته، ولكنَّه يشعر بأنَّه لا بدَّ من أن يعيش في حجم العالم كلّه، لينمِّي طاقاته بالمستوى الّذي يستطيع أن يكون فيه عالمياً، لأنَّ الله تعالى أرادنا أن نقتدي برسول الله(ص) في قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[1]، وقد كان رسول الله(ص) في رسالته إنسانيّاً عالميّاً.. كان يفكّر في الناس كلّهم، وكان يريد أن يؤسلم العالم كلّه.
ولا بدّ لكلّ مسلم ومسلمة من أن يعيش هذا الأفق، فلا يحبس نفسه في ذاته ولا في عائلته ولا في وطنه ولا في قوميته، بل يعيش إنسانيته في معنى الإنسان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. فالله سبحانه وتعالى لا يلغي خصوصياتنا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}[2]. وتبقى التقوى هي الأساس الذي يتفاضل الناس فيه.
كاظم الغيظ
هذا الإمام الذي عاش رحابة الأفق في خلقه، فكان يحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويتّسع صدره حتى ليحضن أعداءه، ليعلّمهم كيف يحبّ الإنسان الإنسان، بقطع النظر عن التعقيدات التي يمكن أن تتحرك هنا وهناك. كان(ع) يواجه الغيظ من كلّ الذين لا يحترمون إنسانية الإنسان، ومن كلّ المستكبرين في الأرض، والذين يعيشون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، أولئك الذين لا يعرفون معنى الحبّ، ولذلك فهم يعملون على أساس أن ينفّسوا عن حقدهم ضد الطيبين، لكنّ الإمام(ع) كان يكظم غيظه، فلم يتحرّك بردّ فعل سلبيّ، بل كان لديه فعل من نوع آخر، فلقد كان القوم يسيئون إليه، وكان يحاول أن يعطيهم درساً في معنى الإحسان، ودرساً في معنى العفو، ولذلك سمّي كاظم الغيظ.
العلاقة مع الله
كان الإنسان الّذي عاش مع الله سبحانه وتعالى بأعلى الدَّرجات، فقد كان الله حاضراً في عقله، فليس في عقله مكان إلاّ لله، وكان الله حاضراً في قلبه، فقلبه كلّه عرشٌ لله، وكان الله حاضراً في حياته كلّها، فكانت حياته للرّسالة كلّها، وكان يعيش اللّذّة باللّقاء بالله، ولذلك كان يطيل السجود، وكانت سجدته تمتدّ من الصباح إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب، ولم تكن سجدة تقليدية، ولكنّها كانت سجدة يرتفع من خلالها بروحه إلى الله عزّ وجلّ، فيناجيه ويلبّيه ويدعوه ويعطيه الحبّ كلّه، فكان يقول فيما مضمونه: "اللّهمّ إنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد"[3]. وبذلك فإنّه كان العاشق لربّه.. يحبّه.. يناجيه.. يتحدَّث معه، ويتواضع معه، وكان يكرّر في سجوده: "اللّهمّ إنّي اسألك الرّاحة عند الموت، والعفو عند الحساب"[4]. وليس هناك ذنب يستغفر الله منه، ولكنّه تواضع جمّ لله، بحيث يجلس بين يديه ليعيش كما يعيش العبد أمام سيده، لأنّ عبوديّة الإمام(ع) كعبوديّة آبائه وأبنائه، ارتفعت إلى المستوى الذي اندفع فيه مع الله في كلّ معاني الذّوبان بالله.
ولأنّه أحبّ الله في أعلى درجات الحبّ، وأطاعه في أرحب مواقع الطّاعة، وجاهد في الله حقَّ جهاده بكلِّ معاني كلمة الجهاد: بالكلمة والموقف والمجابهة، فقد انطلق ليتحدَّى. وانفتح المسلمون عليه، حتى شعرت الخلافة بأنّ موقعه في المسلمين يهدّد الخلافة، فلم يتحرّك بثورة، ولكنّه كسائر الأئمّة من أهل البيت(ع)، كانت ثورتهم أن يغرسوا الوعي في عقول الناس، وأن يعرّفوهم أنّ معنى أن تكون مسلماً، أن تقلع كلّ عاطفة للظّالمين في نفسك، حتى لو كانت المسألة تتعلّق بمصلحتك. أخرج الظّالمين من دائرة مشاعرك كلّها، حتى لا يبقى أي مجال للظّلم أو تأييد للظلم فيه.
الواقعيّة السياسيّة
فلقد حدَّث الإمام(ع) أحد شيعته (صفوان الجمّال) الّذي كان يؤجّر جماله لهارون الرّشيد في الطريق من المدينة إلى مكَّة، وقال: "كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً... إكراؤك جمالك من هذا الرّجل". فقال صفوان: "والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا لصيدٍ ولا للهوٍ، ولكنّي أكريته لهذا الطّريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني". قال: "يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟"، قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فقال: "أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك؟"(أجرتك)، قلت: نعم، قال: "فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم"[5]. وهذا هو خطّ الوعي الّذي انطلق به أئمَّة أهل البيت(ع) في تعميق رفض الظّلم في نفوس المسلمين، وهذا هو ما نستوحيه في أنَّنا عندما نعيش في أجواء الظّالمين - أيّاً كان الظّالمون - فإنّ علينا أن نعيش البراءة منهم، البراءة في العقل بأن ترفضهم عقولنا المرتكزة على الحقّ، والبراءة في قلوبنا بأن ترفضهم لأنّها مملوءة بالعدل، والبراءة في حياتنا حتى لا نساعدهم في شيء إلا في مواقع الاضطرار، وذلك هو معنى أن تعمّق الثورة في وجدان الناس، فالثورة ليست انفعالاً وليست صراخاً ولا مغامرة، وإنّما تنطلق فكرة، وتتحرّك خطّة، وتنفتح على الأهداف من موقع عقلاني.
وكان الإمام(ع) ينهى بعض أصحابه عن التعاون مع الظّالم، ويؤكّد على البعض الآخر أن يتوظّفوا عند السلطة الظالمة لأنها كانت أمراً واقعاً، وكان المؤمنون يحتاجون إلى الكثير من الخدمات ودفع الضّرر، ولذلك كان الإمام يزرع في كلّ المواقع أشخاصاً يوجّههم لخدمة المؤمنين وإنقاذهم والابتعاد بهم عن ظلم الظّالم، وكانت سياسة الإمام الكاظم(ع) سياسة واقعيَّة، فلم يكن سلبيّاً بالمطلق من موقع عقدة، ولم يكن إيجابيّاً بالمطلق، بل كانت مصلحة الإسلام والمسلمين هي الأساس عنده، فكان سلبيّاً عندما تقتضي المصلحة الإسلاميَّة أن يؤكِّد السَّلب، وكان إيجابيّاً عندما تقتضي هذه المصلحة الإيجاب.
المنهج السياسيّ
وهذا ما سار عليه الأئمَّة(ع)، اقتداءً بأبيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) عندما قال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة"[6]، سواء كان المسلمون ممن يتمذهبون بمذهبه، أو ممن لا يتمذهبون به، فنحن نعرف أنّ أغلب النّاس في مرحلة ما بعد وفاة الرّسول(ص) وقبل خلافة عليّ(ع)، لم يكونوا في خطّ عليّ(ع)، بل كان بعضهم ممن أبعد عليّاً(ع) عن خطّ الخلافة، ومع ذلك، فإنَّ عليّاً(ع) لم يكن ينظر إلى هذا الشَّخص كيف ظلمه، وإلى ذاك كيف أبعده، بل كان ينظر إلى الإسلام من خلال مواقع المجتمع الإسلامي، وهذا هو ما يجب أن نتعلَّمة في السَّاحات الإسلاميَّة كلّها، فإذا حلّت بالمسلمين، سواء كانوا من مذهبنا أو من غير مذهبنا، كارثة، بحيث إنَّ الإسلام أضحى معرَّضاً لهجمة في أهله وأرضه واقتصاده وسياسته، فإنَّ علينا أن نقف مع المسلمين ونهدم الحواجز الّتي بيننا وبين أبناء الإسلام من أجل مواجهة الخطر الدَّاهم، وأن لا نفكِّر طائفيّاً وإنّما إسلاميّاً. وقد قلت أكثر من مرّة، إنَّ المطالبة بالوحدة الإسلاميَّة لا يعني أن يكون السنيّ شيعيّاً، وأن يكون الشيعي سنيّاً دون اقتناع، بل ليبق كلّ منهم على مذهبه من وجهة نظر فكريّة، ويجري الحوار على أساس قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}[7]، وذلك بأن لا يحمل المسلم عقدة ضدّ أخيه المسلم. وهذا ما يجب أن نتعلَّمه من الإمام أمير المؤمنين(ع) الذي تعلّمه من كتاب الله ومن رسوله.
وهكذا كان الإمام الكاظم(ع)، فلقد كان واقعيّاً في سياسته، وكان يدرس الواقع، فينظر إلى مصلحة المسلمين في هذا الأمر أو ذاك، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه - أيّها الأحبَّة - ونحن نعيش في واقع سياسيّ تهتزّ فيه الأرض من تحت أقدامنا، فالاستكبار العالميّ في تحالفه مع الكفر العالميّ، قد أعلن الحرب على الإسلام كلّه، وعلى الإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر والاستكبار كلّه، ولنتذكّر كلمة النبيّ(ص) في وقعة الخندق عندما قال: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"[8]. فلقد كانت قوّة الإسلام مجتمعةً في عليّ(ع)، وقوّة الشّرك مجتمعة في عمرو بن عبد ودّ، ولذلك كان انتصار أحدهما انتصاراً لخطّه، وعندما انتصر عليّ(ع)، قال النبيّ(ص): "لضربة عليّ لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين"[9]. ونحن نعرف لو أنّ عمرو بن عبد ودّ في ذلك الوقت تغلّب على عليّ(ع)، لاندفع جيش الأحزاب الذي جاء من أجل أن يصفّي الإسلام في المدينة، بحيث لا يُبقي منه شيئاً، ولذلك فإنّ هذه الضّربة التي تمثّل انتصار الإسلام على الشّرك، تعدل عبادة الثقلين، لأنّه لولاها، لما انطلق الثقلان في عبادتهما لله ربّ العالمين. ولذا فإنّ (ابن تيميّة) في اعتراضه على هذه الرّواية، لم يكن يفهم مغزاها.
يوم الأسير العالمي
وفي هذا الجوّ الكاظميّ، كان الإمام(ع) القريبَ إلى الله، وكلّنا نعرف أنّه باب الحوائج إلى الله، وأنّ الكثيرين من الذين توسّلوا إلى الله به في قضاء حوائجهم، استجاب الله دعاءهم، لأنّه عَبَدَ الله تعالى كما يجب أن يعبد، وأطاعه حقّ طاعته، وأحبّ الله كأفضل ما يكون الحبّ بين العبد وربّه. وقد أعطى حياته كلّها لله حتى أدخل إلى السجن وعاش فيه أربع سنوات، وكانت من أقسى الفترات عليه، وكان (هارون الرشيد) يخافه وهو في السجن، ولذلك ينقل أنّ (السنديّ بن شاهك) جمع سبعين أو ثمانين من وجوه بغداد وشخصياتهم ليزوروا الإمام(ع)، وكانوا في شوقٍ لزيارته، قال لهم: انظروا إلى موسى بن جعفر، فهو موسّع عليه، وهو صحيح الجسد، لم يُضرّب ولم يُجلَد ولم يتعرّض لأذى، وكان يخطّط لأخذ البراءة من خلال شهادة هؤلاء أنّ الإمام(ع) سليم معافى، وأنه لم يضطهد جسدياً ولم يقتل، بل إنّ السندي قال لهم إن الرشيد ينتظر الفرصة كيما يحاوره ويناظره، وكأنّ الاعتقال هو اعتقال ثقافي، ولكنّ الإمام(ع) لم يترك له هذه الفرصة، فقال لهم ما معناه: أمّا ما ذكر من التوسعة عليّ فهو صحيح، ولكنّي صحيح الظاهر سقيم الباطن، فقد سقيت السمّ تسع مرّات. ويقال إنّ السندي اصفرّ وجهه واهتزّ. وكان الإمام(ع) يكتب إلى الرشيد وهو في الحبس قائلاً: "إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرّخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يومٍ ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون"[10].
وهكذا فقد كان الإمام موسى بن جعفر(ع) الأسير الشّهيد، وقد اقترحت في سنوات سابقة أن نتخذ يوماً للأسير ـ وما أكثر أسرى المسلمين! ـ فليكن يوم وفاة الإمام الكاظم(ع) (يوم الأسير العالمي)، ليتذكّره الأسرى وليتذكَّره أهله.
مأساة الإسلام
هذه هي بعض ملامح صورته(ع) في الوجدان، ونحن نحاول، كما هي طريقتنا في منهج التّعامل مع سيرة أهل البيت(ع)، أن لا يكون ذكرنا للأئمّة(ع) في جوّ المأساة فقط، ولقد عاشوها في حياتهم وفي مماتهم، ولكنّ المأساة لم تكن شخصيّة، وإنّما كانت مأساة رساليّة، فقد عذّب الأئمة(ع) وسجنوا واستشهدوا لأنّهم ساروا في خطّ الإسلام الحقّ، وقد قالها أبوهم أمير المؤمنين(ع): "ما ترك لي الحقّ من صاحب". وقالها الإمام الحسين(ع): "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"[11].
لذلك، فإنَّ علينا عندما ندرس مأساة الأئمة(ع)، أن لا نبكي عليهم في داخل الذّات فقط، وإن كانت الجوانب الإنسانية مما تُجري الدموع مدراراً، وإنّما نبكي أيضاً على الإسلام وعلى الواقع الإسلامي الذي حكمه هؤلاء الطغاة، الّذين نفّذوا تلك المآسي التي يندى لها جبين الإنسانية، حيث إنّهم قتلوا أولياء الله، واضطهدوا عباده الصالحين الذين هم في مستوى القيادة للإسلام والمسلمين. فعندما تذكرون أئمة أهل البيت(ع) في مآسيهم، اذكروا مأساة الإسلام، وعندما تذكرون مأساة الإسلام، فلا تستغرقوا في تلك المأساة في التّأريخ، ولكن اذكروا مأساة الإسلام في الحاضر، وفكِّروا في عدم تمكين الطّغاة من اضطهاد السّائرين على خطّ الإمام الكاظم(ع) وخطّ آبائه وأجداده، لأنَّ بعض الناس ربّما يبكون على الإمام الكاظم(ع)، ولكنهم يقتلون ألف كاظم وكاظم، ولو في مستوى الواحد في المائة، ويبكون على الإمام الحسين(ع)، ولكنهم يبايعون ألف يزيد ويزيد.. فقيمة الدموع هي أن تكون حارّة تحرق قلبك وتلهب إرادتك وتحرّك حياتك، أمَّا دموع الخنوع والذلّ، فإنّها تماماً كدموع عمر بن سعد الّتي كانت تنحدر على لحيته المشؤومة عندما سمع نداء زينب(ع)، ولكنَّه كان يتطلّع إلى ملك الرّيّ، وكان يقول: "إشهدوا لي عند الأمير أنّي أول من رمى". فكم من أمير نطلب أن يشهد لنا النّاس عنده بأنّا سجنّا مؤمناً وقتلنا مؤمناً واضطهدنا مؤمناً وشوّهنا صورة مؤمن وما إلى ذلك! وكم لدينا من عمر بن سعد يبكي ولكنّه يقتل الحسين(ع)! وكم لدينا من أمثال هؤلاء الّذين كانوا يسلبون بنات الإمام الحسين(ع) ودموعهم تنحدر على خدودهم، ليقولوا إنّنا نخاف أن يسلبكنّ أناس آخرون قساة! كم لدينا من هذه العقليّات؟
أيّها الأحبَّة: إنَّ الأئمّة(ع) انطلقوا من أجل الإسلام، حتى إنّه يروى عن علي بن الحسين(ع) أنّه قال: "أحبّونا حبّ الإسلام"[12]. لا حبّ الذات، لأنّهم يجسّدون الإسلام فكراً في فكرهم، وقلباً في مشاعرهم، وحركة في مشاعرهم. فلا بدَّ من أن تتمثّلوا الإمام الكاظم(ع) عندما تعيشون في ذكرى وفاته.
العقل عند الإمام الكاظم(ع)
وفي كتاب (أصول الكافي)، هناك رسالة من الإمام الكاظم(ع) في وصيّة له لصاحبه هشام بن الحكم، يؤكّد فيها دور العقل، ويستعرض فيها الآيات التي تحدّث الله سبحانه وتعالى فيها عن العقل، وكيف يربط بين العقل والعلم، وبين الطاعة للّه والانفتاح عليه. ولعلّ هذه الرسالة هي من أكثر الرسائل تفصيلاً وتعظيماً لدور العقل في حياة الإنسان، وقد اقتطعت بعض الكلمات منها، ويمكن مراجعتها في كتاب "أصول الكافي"، ج1، ص110.
"يا هشام، إنَّ لكل شيء دليلاً"، يدلّ عليه وعلاقة توحي به، "ودليل العقل التفكّر". هل لديك عقل؟ قد تدّعي أنّ لك عقلاً، ولكن ما هو دليلك على أنَّ لك عقلاً عندما تفكّر في كلّ ما يعرض عليك في جانب العقيدة والشَّريعة وحركة الحياة؟ عندما تفكّر، فلا تجمّد فكرك، ولا تستعر فكرك من أحد، بل أعمل فكرك لتدلّل على أنّ لك عقلاً، لأنّ العقل في دوره ومعناه يميِّز بين الخطأ والصواب وبين الحسن والقبيح.
"ودليل التفكّر الصّمت"، لأنَّ الفكر لا يتحرّك في الضّوضاء وفي الصّخب، بل يحتاج إلى مناخ هادئ تتحرّك فيه الأفكار بوضوح وبموضوعيّة، ولذلك فإنّك عندما تكون الإنسان الذي يغلب عليه الصّمت، لا صمت العيّ والعجز، ولكن صمت التفكير، فإنّ ذلك دليل على أنّك تفكّر، أمَّا المهذار الذي يتكلّم ويتكلّم من دون أيّة ضوابط، بحيث لا يكون له مجال للتّفكير، فمن الصّعب أن نعطيه صفة العاقل.
"ولكلّ شيء مطيّة، ومطيّة العقل التواضع". لأنَّ التكبّر يعني أنَّك لا تفهم نفسك، ولا تعرف ميزانك، ولا تستطيع أن تدرس موقعك مقارناً بمواقع الآخرين. والتكبّر يعني أنّك لا تعرف نقاط ضعفك، فيدفعك غرورك إلى تصوّر نقاط الضعف على أنّها نقاط قوَّة، وذلك هو الجهل كلّه. فأن تتواضع، يعني أن تزن نفسك بميزان إنسانيّتك، وأن تعرف مقدارك ومقادير الناس من حولك، وأن تجلس لتتواضع لله، فتشعر بأنَّ كلّ ما عندك هو من الله، وأنّك لا تملك في نفسك شيئاً من نفسك، بل كلّه من الله سبحانه وتعالى، فكيف تتكبّر؟!
"وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه". أي أن تعمل على ارتكاب المحرَّمات، لأنّ المحرَّمات تمثّل الأفعال التي تختزن في داخلها الفساد في عقلك أو في جسدك أو في حياتك أو في موقفك، وأيّ عقل أو علم يبرّر لك أن تفعل ما يفسد حياتك؟ إنَّ وعي الإنسان لحياته ومسؤوليّته عن طاقاته كلّها، هو أن لا يحرّكها في طريق الفساد، بل في طريق الصلاح.
"يا هشام: ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله". فكلّ الرّسل وكلّ الرّسالات جاءت من أجل أن تفتح عقول النّاس على الله في وجوده وتوحيده وربوبيّته، وفيما أراد منهم وما نهاهم عنه، ولذلك كانت دعوة الأنبياء(ع) تختصر في كلمة واحدة: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[13]. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[14]. فإذا عقلت عن الله، فقد عرفت كلّ شيء يتَّصل بمسؤوليّتك، لأنَّ الله تعالى هو أساس وجودك، وهو أساس وجود العالم، والحكيم الّذي جعل لكلّ شيء قدراً، وهو الذي خطَّط للحياة كلّ ما تهتدي به، فهو الذي ألهم كلّ نفسٍ هداها. فإذا عرفت الله عرفت نفسك، وإذا عرفت نفسك عرفت مسؤوليّتك، وإذا عرفت مسؤوليّتك عرفت كلّ مفردات حياتك وحياة الناس من حولك. ولذلك جاء في القرآن: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[15].
"فأحسنهم استجابةً أحسنهم معرفةً". فالّذي يستجيب لله أكثر ويطيعه أكثر ويتبعه أكثر، هو الّذي يعرفه أكثر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[16] الذين يعرفون الله أكثر.
"وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً في الدّنيا والآخرة"، لأنَّ العقل يهديك إلى التعرّف إلى كلّ ما يتّصل بالله في ربوبيّته لك وللكون، فكلّما كنت أعلم بأمر الله، دلّ ذلك على أنَّ عقلك استطاع أن يتّسع في رحابة أفقه إلى المستوى الّذي يعرف فيه ربّه، وما أراد منه، وبذا يرفع الله درجته بمقدار عقله. ولذا ورد: "ركعتان يصلّيهما العالم، أفضل من ألف ركعة يصلّيها الجاهل"[17]، لأنّ الله يثيب المرء على قدر عقله. وقد سبق أكثر من مرّة أن ذكرت لكم قصّة العابد الذي يعبد الله في جزيرة، وكيف أنّ أحد الملائكة لاحظ أنّ أجره دون مستوى عبادته، فترك الله له أن يصحبه ليرى حقيقة أمره، فتبيّن أنّ عقله صغير، حيث كان يرى كلّ شيء على ما يرام، ما عدا حاجة الجزيرة إلى حمار يبعثه الله ليأكل من حشائشها، فأوحى الله إلى الملك أنّي أثيب الإنسان على قدر عقله. ولذلك فكلّما اكتمل عقل الإنسان كان ثوابه أكثر، لأنَّ العبادة ليست جسماً ولكنّها روح، وروح العبادة المعرفة.
"يا هشام، إنَّ لله حجّتين: حجَّة ظاهرة وحجَّة باطنة، فأمّا الظّاهرة، فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول". حتى ورد في بعض الأحاديث أنَّ "الرّسول عقل من خارج، والعقل رسول من داخل".
"يا هشام، إنَّ العاقل الّذي لا يشغل الحلال شكره"، أي عندما يأخذ بالحلال بكلّ ما فيه من لذَّات وشهوات، فإنَّ ذلك لا يلهيه ولا يشغله ولا يستغرقه بحيث ينسى شكر الله على ذلك، بل إنّ كلّ نعمة ينعم الله بها على العاقل، يؤدِّي شكرها ليعرف حقَّ الله عليه، وبذلك تزداد نعم الله عليه.
"ولا يغلب الحرام صبره". فصبره فوق الحرام، وهو الذي يحجزه عن ارتكاب المحرّمات، لأنّ عقله يتغلّب على غريزته، فيحول بينه وبين الوقوع في الحرام.
"يا هشام، من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكّره بطول أمله". فالإنسان الذي يطول أمله في الدنيا، يفقد إشراقة عقله، لأنّ العقل عندما يدرس سنن الله في الخلق وآجاله، فإنه يدرك أنّ طول الأمل لا يمثّل الحقيقة، وخصوصاً أنّ الأمر ليس بيده، وإنّما هو بيد الله سبحانه وتعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}[18]. ثم إنّ الإنسان الّذي يطول أمله، يؤجّل حلّ القضايا والمشكلات، ولا يفكِّر فيها في مواقعها، وربّما كانت الفرصة متاحةً الآن ولن تتاح له غداً.
"ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه". فقد يتكلَّم الإنسان كلاماً لا ضرورة له، ولا يتّصل بحاجاته المعرفيّة والواقعيّة والعمليّة، ومسؤوليّاته في الدنيا والآخرة، فيفقد الحكمة في حياته، لأنَّ الحكيم هو الذي يتكلَّم بحسب الحاجة والمسؤوليّة، ولا يتكلّم بفضول الكلام مما هو في غنى عنه.
"وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه". فعلى الإنسان أن يعيش تجارب الآخرين، سواء الماضية أو الحاضرة، ليأخذ منها العبرة والدرس، أمّا الإنسان الذي يستسلم للشّهوات، فلا يأخذ العبرة، "فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله، أفسد عليه دينه ودنياه".
"يا هشام! كيف يزكو عند الله عملك، وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربِّك". فأنت تعيش وقلبك معلّق بالدّنيا وشهواتها وأطماعها، فكيف يزكو عملك؟ لأنَّ العمل إنّما يزكو بالإخلاص والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه.
"وأطعت هواك على غلبة عقلك"[19]، واتّبعت هواك حتى تغلّب على عقلك فصرعه، وصار مقوداً بدلاً من أن يكون قائداً.
ونختم بحديثٍ للإمام(ع): "عن يونس بن عبد الرَّحمن قال: قلت لأبي الحسن الأوَّل ـ الإمام الكاظم(ع) ـ بمَ أوحِّد الله؟"، أي ما هو الأسلوب وما هو المنهج الّذي يمكن اعتماده في توحيد الله سبحانه وتعالى؟ لأنَّ التَّوحيد ليس مجرّد فكرةٍ في العقل، وإنّما هو حركة في الواقع، بأن تتحرَّك مع الله سبحانه وتعالى في حياتك كلِّها، ولا تتحرَّك مع غيره، ولذلك كانت دعوة كلّ نبيّ من الأنبياء(ع): {اُعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[20] فهذا هو التَّوحيد.
"فقال: يا يونس، لا تكوننّ مبتدعاً"، أي تبتدع شريعةً في غير ما جاء بها كتاب الله وسنّة نبيّه، "من نظر برأيه هلك"، أي من استقلّ برأيه مستغنياً عن القرآن وعن السنّة، فهو هالك، لأنَّ رأيه مهما أحاط من علم، فإنّه لا يقدر على معرفة عمق المصلحة والمفسدة، بل الله تعالى هو الّذي يعلم ما يصلحك وما يفسدك {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[21].
"ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ"، لأنّ النبيّ(ص) قال: "إنّي مخلف فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"[22]. "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"[23].
"ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر"[24]، لأنَّ كتاب الله وقول النبيّ(ص) واحد، ولأنّ كلام النبيّ هو وحي الله، لأنّه {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[25]. فالإيمان هو في خطّه العمليّ أن تطيع الله ورسوله فيما أمرك ونهاك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[26].
أيّها الأحبَّة: علينا أن نعيش هذا الأفق العقلانيّ الواسع الّذي يتحرَّك في خطِّ الطّريق إلى الله في كتاب الله وسنَّة نبيِّة وحديث أوليائه، فتعالوا حتى نفهم الأئمَّة أكثر، ونعيش معهم أكثر، وحتى تكون الولاية ولاية الموقف والخطّ والنَّهج، لا مجرّد ولاية نبضة القلب وخفقة الشّعور ودمعة العين. يقول الباقر(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"[27].
والسّلام على الإمام الكاظم(ع)، وعلى آبائه وعلى أبنائه، والسَّلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يشملنا بشفاعته، وأن يقضي حوائجنا للدّنيا والآخرة ببركته، وأن يفرّج عن كلّ المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأن يكشف هذه الغمَّة عن هذه الأمَّة، ببركة دعائه.. يا سيّدنا، اشملنا ببركة دعائك وشفاعتك.
والحمد لله ربِّ العالمين.
المحاضرة السَّابعة عشرة، 23 رجب 1421 ه - 21 تشرين الثَّاني 2000م.
[1] [الأحزاب : 21].
[2] [الحجرات : 13].
[3] بحار الأنوار، المجلسي، ج48، ص107.
[4] الكافي، الكبيني، ج3، ص 323.
[5] روضة المتّقين، ج6، ص495.
[6]نهج البلاغة، ج1، ص125.
[7] [النساء : 59].
[8] بحار الأنوار، ج 20، ص215.
[9] عوالي اللئالي، الأحسائي، ج4، ص 86.
[10] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج8، ص254.
[11] بحار الأنوار، ج45، ص 47.
[12] بحار الأنوار، ج46، ص 73.
[13] [الأعراف : 59].
[14] [الأحقاف : 13].
[15] [الحشر : 19].
[16] [فاطر : 28].
[17] مستطرفات السرائر، ابن إدريس الحلي، ص 217.
[18] [لقمان : 34].
[19] الوافي، الفيض الكاشاني، ج 1، ص92.
[20] [النحل : 36].
[21] [الملك : 14].
[22] الانتصار، الشريف المرتضى، ص80.
[23] الوافي، ج26، ص186.
[24] أهل البيت في الكتاب والسنّة، محمّد الريشهري، ص366.
[25] [النجم : 3ـ4].
[26] [الأحزاب : 36].
[27] الوافي، ج4، ص 173.