بعد أيّام، نلتقي بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم(ع)، ونحن أمام أيِّ ذكرى من ذكريات أئمَّة أهل البيت(ع)، لا بدَّ لنا من أن ننفتح على آفاقهم، وأن نتحرَّك في الطّريق الَّذي أرادوا أن نتحرَّك فيه، لنبلغ الأهداف الكبرى الَّتي أرادنا الله أن نبلغها.
وقد كانت عظمة أهل البيت(ع) ـ كما هو دورهم ـ في أن يرصدوا السَّاحة؛ كيف تتحرّك، وإلى أين تتَّجه، وما هي السَّلبيات التي يمكن أن تدخل في عمق الفكر الإسلاميّ، من خلال خطٍّ هنا وحركة فوضى في الوعي الثّقافيّ هناك، لما هو الإسلام في العقيدة وفي الشَّريعة والمنهج وحركة الحياة.
والإمام الكاظم(ع) عاش حياةً متحركةً في الواقع الإسلاميّ، في ظلّ الوضع السّلطويّ الّذي امتدَّ من عهد المنصور إلى هارون الرَّشيد، والَّذي كان ينفتح على تطوّرات ومشاكل وحركات متنوّعة انطلقت من خلال أكثر من موقعٍ من مواقع الهاشميّين، وتمثَّلت فيها أكثر من مجزرة تقترب في بعض مشاهدها من مجزرة كربلاء.
وكانت الحركة الثقافيّة في ذلك الوقت، تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستفهام حول مفردات العقيدة من جهة، وخطوط الشَّريعة من جهةٍ أخرى، والواقع السّياسيّ من جهةٍ ثالثة. وكانت المرحلة لا تخلو من العنف في الجانب السّياسيّ والأمنيّ، لأنَّ السّلطة الّتي كانت تتمثّل في الخلفاء، ولا سيّما المنصور والمهدي والهادي والرّشيد، كانت لا تزال تخشى الاتّجاهات المضادَّة، ولذلك، كانت تعنف في المواجهة إلى حدِّ الوحشيَّة في التَّعذيب والقتل وإزهاق أرواح النّاس، بتضييق الزنزانات عليهم، فلا ينفذ الهواء إليها.
لقد عاش الإمام الكاظم(ع) في هذه المرحلة، وقد استطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانيَّة، وأن يرصد الانحرافات الّتي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلاميّ، ليصحّحها ويقوّمها في الاتجاه الصَّحيح.
صفات الله
وفي هذا اللّقاء، نحاول أن نثير بعض الأحاديث بما كان يثار في الوسط الثقافيّ الإسلاميّ حول عقيدة التوحيد، فلقد كانت هناك حركة تتحدَّث عن الله وعن صفاته: هل هو جسم كبقيَّة الأجسام، أو هو جسم لا كالأجسام، أي أنّه جسم من نوع آخر لا نعقله، وليس كالأجسام الّتي يعرفها النّاس في الموجودات الماديّة؟
وقد دخل الإمام الكاظم(ع) هذه المعركة، فتحدَّث بأكثر من أسلوب وفي أكثر من فكرة، ففي الحديث الأوّل عن محمد بن حكيم، قال: "كتب أبو الحسن موسى بن جعفر(ع) إلى أبي: إنَّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفّوا عمّا سوى ذلك"[1]. ففي الحديث، نجد أنَّ الإمام(ع) يريد أن يشير إلى أنَّنا لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله، لأنّه لا يعرف الله حقَّ معرفته إلا هو، فهو الّذي أحاط بذاته، ولم يحط بذاته أحد إلاّ من خلاله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق الّذي لا حدود لأيّة صفة من صفاته، ولهذا، فإنَّ المحدود، مهما كانت عظمته، لا يستطيع أن يفهم حقيقة الله.
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الإمام(ع) يقول لنا، إذا أردتم أن تعرفوا الله في صفاته، فاعرفوه بما وصف به نفسه، فإنّ ما وصف به نفسه هو الّذي يمكن لنا أن نطلّ من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله، أمّا أنتم، فقد تصفون الله من خلال ما تتخيَّلونه وتنظرونه.
القرآن مصدر العقيدة
وبهذا نفهم ـ أيّها الأحبَّة ـ أنَّنا عندما نريد أن ننفذ إلى صفات الله، فإنَّ علينا أن لا نأخذ بأساليب الفلسفة في ذلك، ولا سيَّما إذا عرفنا أنَّ الفلسفة الإسلاميَّة في أصولها انطلقت من الفلسفة اليونانيَّة، وبهذا، فقد تختلط جذور الفلسفة اليونانيَّة الّتي فرضت نفسها على كثيرٍ من مناهج الفلاسفة المسلمين، بما يسمَّى الفلسفة الإسلاميَّة في امتداد الواقع الإسلاميّ، فيخيَّل إلينا أننا نقرأ فلسفة إسلاميّة في عناوين الإسلام، ولكنّها في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانيّة التي ولدت في بيئةٍ ثقافيةٍ أخرى تختلف عن البيئة الثقافيّة التي ولدت فيها الفلسفة الإسلاميّة.. وفي الوقت الّذي نقدِّر الفلاسفة المسلمين الّذي درسوا الفلسفة اليونانيّة، وحاولوا أن يسجِّلوا ملاحظاتٍ عليها، نرى أنَّ المنهج بقي يفرض نفسه على مدى التّفكير. لذلك، أراد الإمام(ع) من خلال ما نستوحيه من هذا الحديث، أن يقول لنا إنّكم إذا أردتم أن تأخذوا عقائدكم، فخذوها من القرآن، وليس معنى ذلك انتقاصاً من السنَّة، فالسنَّة أكّدها القرآن في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[2]. لكنَّ الإمام أراد أن يؤكِّد الفكر الذاتيَّ في هذا المجال.
وفي حديثٍ آخر عن الحسن بن عبد الرّحمن الحمّاني، قال: "قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر(ع)، إنَّ هشام بن الحكم زعم أنَّ الله جسم ليس كمثله شيء"، أي أنّه جسم ليس كالأجسام الّتي يراها النّاس في الموجودات الماديّة، ولكنه جسم من نوع آخر، ويقال إنَّ "هشام" قد ترك هذا المنهج إلى منهجٍ آخر، بعد أن صحَّح له الأئمَّة الّذين عاصرهم وعاشرهم ذلك.
وتابع هشام كلامه فقال: "عالم سميع بصير قادرٌ متكلِّم ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحداً، ليس شيء منها مخلوقاً". فحتى الكلام كأنما هو شيء في ذاته، وكذلك القدرة والعلم لا فرق، فكأنه لا يقول بخلق الكلام، "فقال ـ أي الإمام ـ قاتله الله، أما علم أنَّ الجسم محدود"، والكلام هنا موجَّه إلى الفكرة لا إلى الذّات، "والكلام غير المتكلّم"، فلا يمكن أن يكون الكلام صفةً في الذات، بمعنى أن يكون داخلاً في تكوين الذّات، كما يظهر من كلام هشام، "معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد، وكلّ شيء سواه مخلوق، إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان"[3]، فليست كالكلمات الّتي تخطر في الذّهن وتتردَّد في الفكر ثم تنطلق بعد ذلك، فالإمام(ع) يريد أن يصحِّح هذه الفكرة المنحرفة الّتي تبتعد عن صفاء التّوحيد في صفات الله.
التَّدقيق في الأدعية والزّيارات
وكان(ع) يصحِّح حتى الدّعاء، ومن ذلك، يمكننا أن نرصد نقطةً مهمَّة، وهي أن لا نأخذ كلّ دعاء أخذاً مسلّماً، لأنَّ المشكلة هي أنَّ كتب الأدعية امتلأت بالكثير من الأدعية الّتي لا نعرف مصادرها، حتى إنَّ السيّد ابن طاووس ـ رحمه الله ـ في الإقبال، يتحدَّث فيقول: وجدت في كتابٍ عتيق، وقل كذا، وادع كذا، وما إلى ذلك مما قد يكون من تأليفه، فيقبله النّاس كما لو كان من مصدر معصوم، في حين أنَّ الأدعية تمثِّل الثّقافة الروحيَّة التي تنطلق فيها المفاهيم الإسلاميَّة، فعندما ندعو الله ونتحدّث عنه وعن صفاته، وعن النبيّ وصفاته، وعن الإمام وصفاته، فذلك يمثِّل بمجمله منظومة المفاهيم الإسلاميَّة، وقد يقول بعض النّاس عن الله أو الحديث عن أنبياء الله وأوليائه، أو الحديث عن بعض الخطوط الرّوحيّة والأخلاقيّة والفكريّة، بأنّها تمثّل منهجاً إسلاميّاً في المفاهيم الإسلاميّة المتَّصلة بهذا الجانب أو ذاك.
ولذلك، علينا أن لا نأخذ من الأدعية إلاّ ما ثبت لنا صحّته، إمَّا من القرآن، أو من النّبيّ(ص)، أو من الأئمَّة(ع) بشكلٍ دقيق، فالأدعية، وحتى الزّيارات، بحاجةٍ إلى توثيق، تماماً كما نوثِّق الأحكام الشّرعيَّة، فكما أنَّ لدينا أحكاماً شرعيَّة تحتاج إلى بحثٍ وتمحيص، كذلك لدينا مفاهيم إسلاميّة تحتاج إلى ذلك، وهذه المفاهيم تمثِّل أساس التصوّر الإسلاميّ، ولذلك، نعتقد أنّ تراثنا كلّه، سواء في باب الواجبات، أو باب المستحبّات، أو باب الأدعية، أو باب الزّيارات والحكم والأمثال، لا بدَّ من أن نخضعه للدّراسة العلميّة، حتى لا ينفذ إلينا مفهوم غير إسلاميّ، من خلال تراثٍ يتعنون على أنّه تراث إسلاميّ، ولكن لم يُدقّق في انتمائه إلى المصادر الأصليّة للإسلام.
فعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: "كتبت إلى أبي الحسن(ع) في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إليَّ: لا تقولنَّ منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى، ولكن قل منتهى رضاه"[4]. فكم هي دقيقة هذه الملاحظة! ولعلَّنا ندعو دائماً فنقول: الحمد لله منتهى علمه، غير عارفين أنَّ ذلك يجعل علم الله محدَّداً فيما بين البداية والنّهاية، والحال أنَّ علم الله يتحرَّك في خطّ اللانهاية، لأنّه العلم اللامحدود، فينبغي أن نقول: منتهى رضاه، لأنَّ رضاه يتَّصل بالمخلوقين في درجات تتحرّك حتى تبلغ منتهاها، ولا يتعلَّق ذلك في ذاته وفي صفته.
مناقشة آراء المجسّمة
وعن يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم(ع)، وهذه هي كنية الإمام الكاظم(ع)، قال: "ذكر عنده قومٌ يزعمون أنَّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السَّماء الدّنيا. وهذه الفكرة كانت موجودةً عند بعض المجسَّمة، وربما تصل إلى حدّ الخرافة في وصف الله ـ تقدَّس عن ذلك ـ فهم يقولون إنّه ينزل على حمارٍ بصورة شابّ أمرد وما شاكل. "فقال: إنَّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنَّما منظره"، يعني بمراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة، "في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شيء، بل يحتاج إليه، وهو ذو الطّول، لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم. أمَّا قول الواصفين إنّه ينزل ـ تبارك وتعالى ـ فإنَّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقصٍ وزيادة"، لأنّ الحاجة إلى النّزول وإلى الارتفاع، إنما تكون في الممكن الّذي ينقص، فيحتاج إلى أن يكمِّل نقصه، ويزيد فيحتاج إلى أن يستزيد من زيادته أو يعتدل، "وكلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به، فمن ظنَّ بالله الظّنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدٍّ تحدّونه بنقصٍ أو زيادةٍ أو تحريكٍ أو تحرّكٍ أو زوالٍ أو استنزالٍ أو نهوضٍ أو قعود، فإنَّ الله جلَّ وعزَّ عن صفة الواصفين، ونعت النّاعتين، وتوهّم المتوهّمين، وتوكّل على العزيز الرّحيم الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين"[5].
فمن ذلك، نلاحظ كيف أنَّ الإمام(ع) رصد الانحراف في تصوّر الله سبحانه وتعالى، وكيف وضع المسألة في نصابها التَّوحيديّ بالدَّرجة التي جرّدت الله سبحانه وتعالى عن كلّ صفات الممكن، ووجَّهت النّاس إلى أن لا يخوضوا في صفاته بما لا يملكون معرفته وعمقه، بل إنَّ عليهم أن يصفوه بما وصف به نفسه، فإنّه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلِّها.
مفهوم الرِّزق والقضاء
ويتحدَّث الإمام(ع) عن موقف الإنسان المؤمن من الله عندما يعيش بعض الضّيق في رزقه، وعندما يعيش المشكلة في قضائه، فنحن قد يلمّ بنا ضيق العيش، وقد نتضايق من بعض القضاء الَّذي يمثِّل لوناً من ألوان القسوة في حياتنا الخاصَّة أو العامَّة.
فعن صفوان الجمَّال عن أبي الحسن(ع)، قال: "ينبغي لمن عقل عن الله"، أي وعاه وعرفه، واستطاع أن يعرف صفاته في حكمته وقدرته ورحمته، "أن لا يستبطئه في رزقه"، فإذا أبطأ عليه الرّزق، فلا يشعر بالسَّلبيّة في ذلك، لأنَّ الله عندما يقدِّر عليك رزقك، أو يوسِّع عليك رزقك، فإنَّ ذلك ينطلق من معرفته بمصلحتك، فقد لا يصلحك إلا الضّيق في بعض مراحل حياتك، وقد لا يصلحك إلا السّعة في بعض هذه المراحل، "ولا يتَّهمه في قضائه"[6]، أي لا يتَّهمه بالظّلم، ولا بأيِّ شيءٍ لا يتناسب مع حكمته ورحمته وعظمته ولطفه ورعايته لعباده.
الجانب الحيويّ في العبادة
وكان(ع) يعلِّم بعض أصحابه كيف يدعون في القضايا الّتي تتَّصل بالجانب الحيويّ من حياتهم. فعن الفضل بن يونس عن أبي الحسن(ع)، قال: "أكْثِر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين، ولا تخرجني من حدِّ التّقصير". قال، قلت: "أمَّا المعارون، فقد عرفت أنّ الرّجل يعار الدّين ثم يخرج منه". فالمعار في إيمانه هو الرّجل الَّذي يعار الدّين ثم يخرج منه، فالبعض من النّاس لا يثبت الدّين في عقولهم وفي قلوبهم، بل إنّ الدّين يدخل في شخصيّاتهم كشيءٍ مستعار يحصل عليه الإنسان، ثم لا يلبث أن يعيده إلى موقعه.
قال صفوان: "فما معنى لا تخرجني من التّقصير". فهذه كلمة غامضة، فقال الإمام الكاظم(ع): "كلّ عملٍ تريد به الله عزَّ وجلَّ، فكن فيه مقصِّراً عند نفسك"، فلا تشعر بأنّك أدَّيت إلى الله حقَّه، مهما عبدته، ومهما قدَّمت له من ألوان الطّاعة، بل عليك أن تشعر بأنّه لا يمكن للإنسان أن يبلغ حقَّ الله في كلّ ما يعمل من عملٍ أو يطيع من طاعة، "فإنَّ الناس كلَّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ"[7]، وبلغ الدّرجة العليا في ذلك، وحتى الّذين عصمهم الله، عندما يتحدّثون مع الله، فإنهم يتحدَّثون معه بلغة التّقصير تواضعاً في ذلك.
وفي حديثٍ آخر عنه(ع): "فإنَّ الله لا يعبد حقَّ عبادته"[8]. ولو درسنا ذلك، لرأينا أنّه يمثِّل أمراً طبيعيّاً، فلو فكّرنا فيما أعطانا الله من نعمه الَّتي لا تعدّ ولا تحصى، لرأينا أنّه قد أعطانا الوجود، فهو سرّ وجودنا، وقد أعطانا كلَّ مفردات هذا الوجود، ما جعل وجودنا وجوداً كاملاً في أكثر مواقعه، بحيث تنطلق فيه من موقع الرَّاحة والطّمأنينة.
ثم إنّنا عندما نعمل الخير لنسأل أنفسنا هذا السّؤال: ما هي الوسائل الّتي نستخدمها لعمل الخير؟ إنّها كلّ أعضائنا وجوارحنا، فحتى العقل الّذي نستلهم منه الخير، لو سألنا: من الذي خلق العقل الَّذي تنطلق منه فكرة الخير؟ ومن الَّذي خلق اللّسان الّذي تنطلق به كلمات الخير؟ ومن الّذي خلق لنا أعضاءنا كلَّها الّتي نحركها في عمل الخير؟ ومن الّذي هيَّأ لنا الأدوات المحيطة بنا، وسخَّر لنا الظّواهر الكونيَّة؟ ومن الّذي أعطانا ذلك كلّه؟
الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أعطانا ذلك، وليس لنا ـ نحن البشر ـ أيّ شيء حتى في عبادته، فنحن نعبد الله بما أعطانا، فليس هناك شيء منك، بحيث تستقلّ فيه مما لا دخل لله فيه، لتقول إنّني أدّيت حقّ الله؛ فهل الخير الّذي يمثّل طاعة الله هو عمل ينبغي أن تشكر الله عليه؟ كما قال ذلك الشّاعر.
شكر الإله نعمة موجبة لشكره وكيف شكري برّه وشكرهُ من برّه
فلا شيء لنا البتَّة، ولذا، قال أمير المؤمنين(ع): "أقلّ ما يلزمكم لله، أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه"[9]، فإذا أردت أن تعصي الله، فهل يمكن أن تعصيه بشيءٍ لم يمنعه عليك؟!
صفات الشّيعيّ
وعن أبي الحسن الأوّل(ع) قال، وهو يوجِّه كلامه إلى الشّيعة ـ فمن هو يا ترى الشّيعيّ الّذي يمثّل النّموذج الّذي يحبّه الله ورسوله وأهل بيته؟ـ "ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المُخدَّرات بورعه في خدورهنّ"، بحيث يصل إلى مرتبةٍ من الورع عن الحرام في قوله وفعله وعلاقاته ومواقفه، فينتشر أمره بين النّاس، حتى إنَّ المخدَّرات المحجَّبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع، تصلهنَّ أخبار ورعه، بحيث يتحدَّثن عن ورعه. "وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجلٍ فيهم من خلق الله أورع منه"[10]، فلو كان عندنا عشرة آلاف رجل، وفيهم شيعيّ، فلا بدَّ من أن يكون هذا الشّيعيّ أورع من هؤلاء كلِّهم.
ومن هنا، نعرف أنَّ التشيّع ليس كلمةً، وليس عاطفةً، وليس مجرّد دمعة ـ وإن كان لذلك كلّه دور ـ ولكنَّ التشيّع هو كما قال الإمام الباقر(ع): "فوالله، ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتّواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله... وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"[11].
العلاقة بين المسلمين
ويقول الإمام الكاظم(ع) وهو يشير إلى الّذين يحسدون غيرهم، لأنَّ الله أعطاهم من النّعم ما لم يعطهم، ويحقدون عليهم لأنَّ الله جعل لهم فضلاً لم ينعم عليهم به، "اصبرْ على أعداء النّعم"، هؤلاء الَّذين يعادون نعم الله عليك، فيتعقّدون منها، ويحاولون أن يثيروا الحقد في أنفسهم ضدَّك، فإنَّ من يحقد عليك، إنما يحقد على نعمة الله الّتي أنعمها عليك، مما أعطاك الله من علمٍ أو كرمٍ أو خلقٍ أو ما إلى ذلك، "فإنّك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه"[12]، فهو قد عصى الله فيك، فحقد عليك وحسدك، فأطع الله فيه بأن تكظم غيظك، فتكون من المحسنين. والله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[13].
وعن أبي حمزة قال: "سمعت العبد الصّالح"، وهو من ألقاب الإمام الكاظم(ع) "يقول: من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره، يطلب به ثواب الله وتنجّز ما وعد الله عزَّ وجلّ"، فالزّيارة على قسمين؛ فتارةً تزور أخاك لغرضٍ في نفسك، أي زيارة تجاريّة أو مصلحيّة نفعيّة، لأنّه زارك، أو لتحصل على مكسبٍ من خلال زيارتك له، وتارةً تزوره قربةً إلى الله تعالى من أجل أخوّة الإيمان بينك وبينه، "وكّل عزَّ وجلَّ به سبعين ألف ملكٍ من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه، فينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنَّة، تبوّأت من الجنّة منزلاً"[14].
النّيروز عيد غير إسلاميّ
وقد تحدَّث الإمام(ع) عن يوم النّيروز الَّذي دخل في تقاليدنا الإسلاميَّة، وجاءت به أحاديث من أنّه يستحبّ الغسل والصّلاة فيه، وأنه من الأيام المباركة التي كانت بركتها ممتدّةً في الزمن، من خلال أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الكثير من نشاطات الأنبياء في هذا اليوم.
يقول صاحب(البحار): "حكي أنَّ المنصور"، وحكي تعني أنَّ الحديث غير مسند، "تقدَّم إلى موسى بن جعفر(ع) بالجلوس للتّهنئة في يوم النّيروز، وقبض ما يحمل إليه من الهدايا، فقال(ع): إنّي قد فتّشت الأخبار عن جدّي رسول الله(ص)، فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنّه سنَّة للفرس، ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام"[15].
وكما ذكرنا، فإنَّ صاحب الوسائل يذكر ثلاثة أحاديث كلّها مرويّة عن شخصٍ واحد، وهو (المعلّى بن خنيس)، ولقد اختلف الرّأي في هذا الشّخص، فهناك من علماء الرّجال من لا يوثّقه، وهناك من يوثّقه، انطلاقاً من أنّه قتل مظلوماً على يد بعض ولاة بني العباس، وجاء في الحديث عن الإمام الصَّادق(ع) أنَّ الله يدخله الجنَّة. والملاحظ أنَّ العنصر الفارسيّ وغير العربيّ، دخل في الخلافة العباسيَّة، ولذلك، ردَّ المنصور على الإمام الكاظم(ع) أنَّ ما تقوله صحيح، لكنَّنا نريد أن نجامل الجند في ذلك.
فالسّؤال هنا هو: لماذا لم يروِ عن الإمام الصّادق(ع) ذلك إلاّ المعلّى بن خنيس، والرواة حوله كثر، وينقل في هذا المجال، أنّه جيء إلى الإمام عليّ(ع) بحلوى، فقال: ما هذا، فقيل: نيروز، فقال(ع): إذاً، نيروزونا كلّ يوم، فلم يعطه الأهميَّة إلا بمقدار اعتبار اليوم مناسبةً لتوزيع الحلوى. والمسألة تحتاج إلى بحثٍ علميّ دقيق، لأنَّ إدخال أيّ يوم ليكون عيداً في التقاليد الإسلاميّة، أمر يحتاج إلى التأكيد، من خلال المصادر الأصليَّة، إمَّا من القرآن، أو السنّة الشّريفة، أو من أحاديث الأئمَّة من أهل البيت(ع). فالإشكال في أن نحتفل به كعيدٍ شرعيٍّ وإسلاميّ، أمّا الاحتفال به كمطلعٍ للرّبيع، وما يسمّى اليوم بـ(عيد الشّجرة)، فلا بأس. فنحن لا نعتبر حتى مواليد النّبيّ(ص) والأئمّة(ع) أعياداً شرعيّة، ولكنَّها مما ينبغي أن نحتفل به، باعتبار ما تمثّله شخصيّة النبيّ(ص) والأئمّة(ع).
ولقد أعطانا الإمام عليّ(ع) خطّاً عامّاً للعيد حينما قال: "كلّ يومٍ لا يعصى الله فيه فهو عيد"[16]. وبذلك، نستطيع أن نجعل أيّامنا كلَّها أعياداً، إذا كانت أيّامنا في طاعة الله وبعيدة عن معصيته، فأيّ عيدٍ أكبر من رضا الله عن الإنسان ومن القرب منه؟!
إنَّ علينا ـ أيّها الأحبّة ـ أن نقرأ تراث أئمَّتنا من أهل البيت(ع)، لأنّه يضيء لنا العقيدة، ويضيء لنا الشَّريعة، ويضيء لنا المنهج، ويضيء لنا ظلمات الحياة كلّها.
والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 102.
[2] [الحشر: 7].
[3] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 107.
[4] المصدر نفسه، ج 1، ص 107.
[5] المصدر نفسه، ج 1، ص 125.
[6] المصدر نفسه، ج 2، ص 61.
[7] المصدر نفسه، ج 2، ص 73.
[8] المصدر نفسه، ج 2، ص 73.
[9] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ص 78.
[10] الكافي، ج 2، ص 79.
[11] المصدر نفسه، ج 2، ص 74.
[12] المصدر نفسه، ج 2، ص 109.
[13] [آل عمران: 134].
[14] الكافي، ج 2، ص 179.
[15] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 108.
[16] نهج البلاغة، ج 4، ص 100.