نظرة الإمام عليّ(ع) إلى التطوّر

نظرة الإمام عليّ(ع) إلى التطوّر



   ونبقى مع عليّ(ع)، لنستنطقه في الكثير ممّا نعيشه، لأنّنا نريد لذكراه أن تكون حركة فكرية عملية في حركة الواقع من حولنا، ذلك لأنَّ علياً عندما تحدّث، لم يتحدَّث للناس الّذين عاشوا في زمنه وحسب، ولكنّه تحدّث للأجيال التي تأتي من بعده، لأنَّ حديث عليّ هو حديث رسول الله(ص)، وهو حديث الإسلام الّذي انطلق به رسول الله(ص)، وحديث رسول الله هو حديث الله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}1.

 

   هل يصلح الماضي للحاضر؟

   لذلك، فنحن هنا من أجل أن نسأل عليّاً(ع) عمَّا نعيشه من قضايا تفرض نفسها على الذهنيّة العامة للإنسان المعاصر.

   والسؤال الأول الذي نوجّهه إليه: يا أمير المؤمنين، إنّ في حياتنا دعوات تقول إنّ ما يصلح للماضي لا يصلح للحاضر، وإنّ التشريعات التي جاء بها الإسلام في زمان الدعوة وما بعده، ربّما لا تنسجم مع التطورات التي يتحرّك فيها الزمن وينطلق بها الناس، فهناك أوضاع جديدة فرضت نفسها على الواقع، وهناك تطورات جديدة فرضت نفسها على حركة الفكر والتشريع، وهناك أحداث جديدة قد تحتاج إلى حلولٍ لا تنسجم مع الحلول التي كانت مع الأحداث القديمة.

   هذا هو سؤالنا لعليّ(ع)، وقد أجاب(ع) عن هذا السؤال بقوله: "واعلموا عبادَ الله، أنّ المؤمن يستحلّ العام ـ يعني السنة ـ ما استحلّ عاماً أوّل، ويحرّم العام ما حرَّم عاماً أوّل، وإنّ ما أحدث النّاس ـ من أفكار ومن تشريعات ومن عادات ومن تقاليد ومن أوضاع ـ لا يحلّ لكم شيئاً ممّا حرّم عليكم، ولكنّ الحلال ما أحلّ الله، والحرام ما حرّم الله".

   حقيقة التطوّر

   إذاً، عندما يجتهد المجتهدون في الحلال ليروا الحقيقة فيه، فهو حلالٌ في مدى الزمن، والحرام عندما يكتشفه العلماء اكتشافاً يقينيّاً، فهو حرام في مدى الزمن، ونحن نعرف أنّ الله عندما ختم رسالاته بمحمد(ص)، فإنّ معنى ذلك أنّ رسالة الله تمتدّ مدى الحياة، "إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي".

   لذلك كانت رسالته رسالة الحياة، لأنّ رسالته وحيٌ فيما يحتاجه النّاس وفيما يؤمّن لهم شروط حياتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}2، فكلّ دعوة رسول الله في حلاله وحرامه، هي دعوة للحياة في تطوّرها، وهي دعوة تنفتح على آفاق جديدة.

   أمَّا ما أخذه الناس من أفكارٍ ومن عاداتٍ ومن أوضاع، فقد يقول قائل إنّها تمثّل تطوّر الزمن، ونحن لا نستطيع أن نتجمّد في مرحلة من الزمن، ذلك أنَّ الحياة تطوّرت، ولا بدّ للإنسان الذي يريد أن يبقى متحرِّكاً، من أن ينطلق مع التطور، ولكن نتساءل: هل إنّ الزمن في ذاته يحمل عناصر التطوّر؟ إنّ الزّمن واحد، والشّمس هي التي تحدّد الزمن ليله ونهاره، وليس الزمن الّذي انطلق منذ أن خلق الله الشّمس، مختلفاً عن الزّمن الذي بقي وامتدّ إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

   إنّ الزمن ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا يتطوّر، ولا يمنح الحياة أيّ عنصر من عناصر التطوّر.

   هل الحياة في أرضها وفي زمانها وفي جبالها وفي سهولها وأنهارها وبحارها تحمل عنصر التطوّر الذي يعطي خطّاً للفكر جديداً، أو يعطي حركة في الجانب العملي جديداً؟ كذلك الأرض هي الأرض، مهما تتنوّع في شكلها ممّا يصنع الإنسان فيها، والجبال هي الجبال والبحار والأنهار والسهول كما هي.

   فمن الذي صنع هذا التطوّر؟ إنَّ الإنسان هو صانع هذا التطوّر، من خلال أنّ هناك فكراً لمفكّر فرض نفسه على الذهنيّة العامّة بفعل القوة التي يملكها، أو بفعل العناصر التي أحاطت بهذا الفكر، فجعلت الناس يفكّرون بهذه الطريقة.

   فالمسألة هي هل إنّ الحياة تطوّرت بطبيعتها، أو أنّ الزمان تطوّر بطبيعته، أو أنّ هناك فكراً فرص نفسه على الواقع، وهل معنى ذلك أنّ على الإسلام أن ينحني لفكرٍ آخر؟ إنّ معنى انحناء الإسلام لهذا التطوّر، هو أنَّ الإسلام ينحني للفكر الذي حرّك هذا النوع من التطوّر، وليس من الطبيعي أن تفرض على أيّ فكر، سواء كان إلهيّاً أو بشرياً، أن يخضع لفكرٍ آخر، لأنّ للإسلام وجهة نظر في هذا الفكر الّذي أطلق حرية الإنسان بشكل شامل، أو أطلق حرية المرأة أو أطلق كثيراً من الحريّات، وكثيراً من الأفكار الاقتصادية أو الاجتماعية.

   إنّه يقول لنا تعالوا يا مَن فرضتم أنفسكم بفعل القوّة التي تملكونها، أو بفعل القوّة التي انضمت إليكم، فإنّني أعتبر أنّ هذا التطوّر عمليّة تراجعية في حياة الإنسان، فتعالوا نتحاور {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}3.

   مفهوم التطوّر عند عليّ(ع)

   لذلك يقول الإمام عليّ(ع): "إنَّ ما أحدث الناس لا يَحلُّ لكم شيئاً ممّا حُرِّم عليكم"، لأنّ ما أحدث الناس هو من خلال فكرهم الّذي انطلق بعيداً عمّا أنزله الله من فكر، وعمّا أراده من شريعة، وعمّا خطّط له من منهج، فتعالوا وقولوا لهؤلاء النّاس لنتحاور فيما أحدثتموه وفيما قدّمه الإسلام.

   إنّني أحبّ ـــ أيها الأحبّة ــــ أنْ تدقّقوا في هذه النقطة، لأنّ كلاماً يقال بطريقة الاستهلاك الفكري أو الاستهلاك الحضاري، لا يجدي شيئاً، فذلك أنّ الزمن هو هكذا:

   يقولون الزّمانُ به فساد    وهم فسدوا وما فسدَ الزمانُ

   إنّ الزمن إطار، والأرض إطار، والإنسان هو الذي يتغيّر {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}4، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}5. فالقضيّة إذاً ليست أنّ الحياة فرضت تطوّرها على الإسلام، ليتراجع الإسلام على أساس أنّ هناك خطاً أفضل منه، ولكنّ الناس هم الذين أمسكوا بزمام الحياة، على أساس القوّة، وعلى أساس الظّلم، وعلى أساس تضليل الناس.

   لهذا، لا بدّ لنا كمسلمين من أن نبقى على إسلامنا، بعد أن اقتنعنا بأنّه وحي الله، وبأنّه كلمة الله الأولى والأخيرة إلى العالم. علينا أن نرفض كلّ ما يتنافى مع الإسلام، وأن نفهم أنّ ما أحدث الناس لا يُحلّ لنا ما حُرّم علينا، ولكن الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله، وإذا جاء الآخرون يقولون لكم إنّكم متخلّفون في نظرتكم إلى المرأة، وفي نظرتكم إلى قضايا الحريات، وفي نظرتكم إلى القضايا الاقتصاديّة، نقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، تعالوا إلى الحوار من موقع الموضوعيّة العقلانيّة الهادئة، كما علّم الله رسولَه(ص): {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}6. فـــ"حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة".

   ثم يتابع عليّ(ع) حديثه ليربطكم بالتجربة، وعليّ عندما يتحدَّث عن التجربة، يتحدث عن المنهج القرآني الذي زاوج بين الدليل العقلي الذي ينطلق من تأمّلات الإنسان في فطرته، وبين الدّليل التجريبي {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}7، فلقد كان لكم عبرة في كلّ ذلك، لذلك يقول الإمام، إذا أردت أن تفهم القضايا جيّداً، ادرسها في الواقع، ادرس تجربتك وافهم عناصر التجربة، وافهم حركية التجربة، وافهم الظروف التي تحيط بالتجربة، وبعد ذلك حاول أن تستنتج التجربة، "فقد جرّبتم الأمور وضرستموها ـــ أي أطبقتم عليها ـــ ووعظتم بمن كان قبلكم ـ أولئك الّذين انحرفوا عن الخطِّ الّذي وضعه الأنبياء لهم ـ وضربت الأمثال لكم ـ من وحي الله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}8، إنّ الله ضرب لكم الأمثال في أولئك كلّهم ـ ودعيتم إلى الأمر الواضح ـ فإنّ الشريعة قد انطلقت بالوضوح الذي يعطيك وضوحاً في العقل، ووضوحاً في القلب، ووضوحاً في واقع الحياة ـ فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى. التفتوا إلى هذه الكلمة من خلال عليّ(ع) في التّجربة في كلّ شيء في الحياة، ولا تعتبروا أنّ ما انطلق به الأقدمون هو الحقيقة دائماً، فلا بدّ من أن تجرّبوا ما انطلق به الأقدمون، لتروا هل هو حقيقة أم لا، أن تجرّبوه تجربةً فكرية، وأن تجربوه تجربة عملية.

   ـ ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتّجارب، لم ينتفع بشيء من العظة ـ ذلك أن الإنسان الذي لا يتعلّم من معاناته، ولا يتعلّم من حركيّته، ولا يتعلّم من كلّ ما يدور حوله بكلّ ما ينطلق فيه، وبكلّ ما يتحرّك فيه الناس معه، فكيف تنفعه العظة، إنَّ من لا ينتفع بالألم الّذي يعيشه في خطِّ الانحراف، فكيف يمكن أن ينتفع بالكلمات؟!

   الانتفاع من التّجارب

   لذلك، فنحن بحاجة ـــ أيها الأحبة ـــ أن ننتفع من الكثير من تجاربنا في الهزيمة، وتجاربنا في الألم، وتجاربنا في الفرح، ومن كلّ التّجارب الأخرى، لأنّ ذلك يعطينا فكراً جديداً وعظة جديدة، وقد قال عليّ(ع) في كلمةٍ أخرى: "والعقل حفظُ التجارب"9، لأنّ التجربة تعطيك عقلاً جديداً: "خيرُ ما جرّبتَ ما وعظك"، والتجربة التي تضيف إلى علمك علماً، وإلى فكرك فكراً، فهي التجربة الكبرى في حياتك.

   ـ وأتاه التقصير من أمامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف ـ أي تنقلب الصّورة عنده، فإذا الصّورة المنكرة تتحوّل إلى صورة معروفة، والصّورة المعروفة تتحول إلى صورة منكرة، لأنّه لا يحرّك وعيه من خلال تجربة الواقع وتجربة الفكر.

   ـ وإنّما الناس رجلان: متّبع شرعة، ومبتدع بدعة ـ أي أنّ الناس على خطّين: فهناك الذي يتّبع الشرّع في كل تفاصيله، والذي تكون عقائده عقائد الإسلام وليس غير الإسلام، ويكون شرعه شرع الإسلام ومفاهيمه مفاهيم الإسلام ومناهجه مناهج الإسلام، وهناك الإنسان الذي يبتدع فكراً آخر غير فكر الإسلام، ونهجاً آخر غير نهج الإسلام.

   ـ ليس معه ـــ أي المبتدع ـــ من الله برهان سنّة، ولا ضياءُ حجَّة ـ ولذلك تراه يتخبَّط في حياته.

   ثم يقول لنا وهو يشير إلى القرآن الكريم، هذا الَّذي يعرِّفنا حقائق الإسلام في حقائق الوحي:

   ـ وإنَّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنَّه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيعُ القلب، وينابيع العلم ـ إذا قرأته، فإنّك تشعر بأنّ قلبك يخضرّ بكلّ تلك الخضرة المعشبة بعشب الفكر والوحي والروح، وتشعر بأنَّ العلم يتفجّر من كلّ آية من آياته، ليعيش في قلبك ينبوع فكر وينبوع حركة.

   ـ وما للقلب جلاء غيره ـ فالقرآن هو الّذي يعطيك جلاء القلب إذا تراكم الصّدأ والأدران عليه، لتجد بقراءة القرآن الجلاء عن الصّدأ، وقد ورد في الحديث النبويّ الشّريف: "إنَّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت"10.

   ـ مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، وبقي الناسون والمتناسون، فإذا رأيتم خيراً ـ وهذا الخطّ الذي يرسمه عليّ لأتباعه، فتّش في الشّارع والبيت، وفتّش في أيّ مكان، فإذا ما رأيت الخير يتحرّك أمامك، خيراً في حياة الناس وفي فكرهم وفي ساحة الصّراع ـ فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه ـ لأنّ الإنسان في خطّ القرآن ونهجه يتحرّك بين الخير والشرّ ـ فإنّ رسول الله(ص) كان يقول: يا بن آدم، اعمل الخير ودع الشرّ، فإذا أنت جواد قاصد"11، أي فرس مستقيم ينطلق في الجادة إلى الهدف الكبير في الحياة.

   التلوّن في الدين

   وهكذا يريدنا الإمام(ع) في نهاية المطاف: "فإيّاكم والتلّون في دين الله". والتلّون كناية عن النفاق في أن تظهر شيئاً وتخفي شيئاً، والله يخاطب نبيّه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}12، فالنفاق انحراف عن الحقّ وعن إنسانية الإنسان، فهو ـــ أي عليّ ـــ يدعو إلى التوّحد في دين الله والاجتماع على دينه، فما يجمعه الله بينكم من خلال دينه، لا يفرّقكم عنه أحد.

   {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}13، والأخوّة الإيمانيّة قد تكون أعظم من الأخوة النسبيّة، لأنّ أخوّة النسب انطلقت من خلال اللّحم والدمّ، وأمّا أخوّة الإيمان، فقد انطلقت من فكر ينفتح على الله، ومن خطٍّ يتحرّك في طريق الله، ومن شرعٍ يجمع الناس على حكم الله، فعلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نلتقي على أخوّة الإيمان وأخوّة الإسلام، حتى لو اختلفنا في بعض التفاصيل فيما نفكّر ونستفتي، أو بعض ما نأخذ من خطّ سياسي هنا أو اقتصادي أو اجتماعي هناك، فعندما يجمعنا الله على كلمته، فإنّ كلّ تفاصيل الكلمات لا يمكن أن تفرّقنا. فلنعِ جيّداً أمرنا في انفتاحنا على الله، لنعي أمرنا في مواجهتنا للتحدّيات الكبرى، وفي ساحة الصّراع، حتى نعرف كيف يمكن لنا أن نجمع المتفرّقات بدلاً من أن نفرّق المجتمعات، فنحن مولعون بأن نفرّق ما اجتمع، وأن نمزّق ما التأم، وأن نبعّد ما قرب، ولذا فإنّنا نحتاج إلى إيمانٍ يختزن العقل في نظرته إلى الواقع، وإلى قلبٍ ينفتح على المحبة التي تنطلق من محبّتنا لله ولرسوله ولأوليائه.

   فهل يعجبكم كلام عليّ؟ ولو جاءكم عليّ ليتحدَّث معكم شفاهاً، فهل تقبلونه أو ترفضونه؟ ذلك أنّ مشكلتنا أنّنا مع عليّ عندما يكون في التأريخ، ولكن عندما يأتينا عليّ والسّائرون في خطّ عليّ ويقولون كلمة الإسلام وكلمة القرآن وكلمة الرسول وكلمة عليّ التي هي كلمة الله وكتابه ورسوله، فأخشى أن نرفضه لنقول له: ارجع يا أبا الحسن إلى سنة الأربعين من الهجرة حيث كنت في مسجد الكوفة، فلا تربك حياتنا، ولا تزعج عصبيّاتنا، ولا تصادر أنانيّاتنا، ولا تحدّثنا عن الحقّ، فسوف لن يكون لك صديق بيننا الآن، كما لم يكن لك صديق هناك، عندما قلت: "ما ترك لي الحقّ من صاحب"، فإنّ الذين يحملون الحقّ فكراً في عقولهم، ونبضة في قلوبهم، وحركةً في خطواتهم، يرجمهم الناس بالحجارة... فهل ترانا نقول لعليّ ذلك؟ ربّما قلنا له أكثر من ذلك!!

   "فإيّاكم والتلوّن في دين الله، فإنَّ جماعةً فيما تكرهون من الحقّ، خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل ـ فلو درستم هذه الجماعة، و"يد الله مع الجماعة" الّتي تجمعكم على الحقّ حتى لو كرهتموها، وحتى لو أتعبتكم وصادرت بعض منافعكم، فستجدون أنَّ النتائج الإيجابيّة التي تحصلون عليها من اجتماعكم على الحقّ، أفضل من النتائج الإيجابية التي تتصوّرونها عندما تتفرّقون من خلال الباطل.

   ـ وإنّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقةٍ خيراً"، فلن يكون هناك خير من الفرقة، لا في بداية الزّمان ولا في نهايته ـ ممّن مضى ولا ممّن بقي"14.

   وختاماً، يعظنا عليّ(ع) بكلّ محبّة وبكلّ روحانيّة: "يا أيّها النّاس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس ـ أن تجلس لتفكّر في أخطائك وسلبيّاتك وعيوبك، حتى إذا اكتشفتها أصلحتها قبل أن تفكِّر في عيوب الناس، لأنّك مسؤول عن عيوبك، وأمّا عيوب الناس، فهم مسؤولون عنها، فلماذا تفكّر فيما لا مسؤوليّة لك فيه إلاّ من خلال الدعوة والإصلاح، بينما تفقد نفسك، وهناك كلمة مأثورة للسيّد المسيح(ع): "ماذا ينفعك إذا ربحت العالم وخسرت نفسك"، وما فائدة أن تعرف كلّ عيوب النّاس من حولك، ولا تفهم عيوب نفسك؟!.

   ـ وطوبى لمن لَزِمَ بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربّه ـ ولا يعني لزوم البيت الانعزال عن الناس، بل الابتعاد عن كلّ الساحات التي يمكن أن تضلّه أو تهدم إيمانه ـ وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والنّاس منه في راحة"15، وذلك هو المؤمن الّذي يكون النّاس منه في راحة، لأنّه لا يؤذي أحداً، ولا يشتم أحداً، ولا يخون أحداً ولا يضرّه...

ذلك هو عليٌّ في كلماته، والّذي يبقى لنا ومعنا، فهل نبقى معه؟!

هذا هو السّؤال الكبير الّذي يفرض نفسه علينا في حركة الواقع.

والحمد لله ربِّ العالمين. 


       فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الرّابعة والعشرون، بتاريخ: 30/11/1996.


1 النّجم: 3-4.

2 الأنفال: 24.

3 البقرة: 111.

4 الرّعد: 11.

5 الأنفال : 53

6 سبأ: 24.

7 الحشر: 2.

8 الفجر: 6ـ 7.

9 نهج البلاغة، ج3، ص53.

10 مستدرك الوسائل، ج2، ص104.

11 نهج البلاغة، ج2، ص95.

12 الشّورى: 15.

13 الحجرات: 10.

14 نهج البلاغة، ج2، ص96.

15 نهج البلاغة، ج2، ص96.





   ونبقى مع عليّ(ع)، لنستنطقه في الكثير ممّا نعيشه، لأنّنا نريد لذكراه أن تكون حركة فكرية عملية في حركة الواقع من حولنا، ذلك لأنَّ علياً عندما تحدّث، لم يتحدَّث للناس الّذين عاشوا في زمنه وحسب، ولكنّه تحدّث للأجيال التي تأتي من بعده، لأنَّ حديث عليّ هو حديث رسول الله(ص)، وهو حديث الإسلام الّذي انطلق به رسول الله(ص)، وحديث رسول الله هو حديث الله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}1.

 

   هل يصلح الماضي للحاضر؟

   لذلك، فنحن هنا من أجل أن نسأل عليّاً(ع) عمَّا نعيشه من قضايا تفرض نفسها على الذهنيّة العامة للإنسان المعاصر.

   والسؤال الأول الذي نوجّهه إليه: يا أمير المؤمنين، إنّ في حياتنا دعوات تقول إنّ ما يصلح للماضي لا يصلح للحاضر، وإنّ التشريعات التي جاء بها الإسلام في زمان الدعوة وما بعده، ربّما لا تنسجم مع التطورات التي يتحرّك فيها الزمن وينطلق بها الناس، فهناك أوضاع جديدة فرضت نفسها على الواقع، وهناك تطورات جديدة فرضت نفسها على حركة الفكر والتشريع، وهناك أحداث جديدة قد تحتاج إلى حلولٍ لا تنسجم مع الحلول التي كانت مع الأحداث القديمة.

   هذا هو سؤالنا لعليّ(ع)، وقد أجاب(ع) عن هذا السؤال بقوله: "واعلموا عبادَ الله، أنّ المؤمن يستحلّ العام ـ يعني السنة ـ ما استحلّ عاماً أوّل، ويحرّم العام ما حرَّم عاماً أوّل، وإنّ ما أحدث النّاس ـ من أفكار ومن تشريعات ومن عادات ومن تقاليد ومن أوضاع ـ لا يحلّ لكم شيئاً ممّا حرّم عليكم، ولكنّ الحلال ما أحلّ الله، والحرام ما حرّم الله".

   حقيقة التطوّر

   إذاً، عندما يجتهد المجتهدون في الحلال ليروا الحقيقة فيه، فهو حلالٌ في مدى الزمن، والحرام عندما يكتشفه العلماء اكتشافاً يقينيّاً، فهو حرام في مدى الزمن، ونحن نعرف أنّ الله عندما ختم رسالاته بمحمد(ص)، فإنّ معنى ذلك أنّ رسالة الله تمتدّ مدى الحياة، "إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي".

   لذلك كانت رسالته رسالة الحياة، لأنّ رسالته وحيٌ فيما يحتاجه النّاس وفيما يؤمّن لهم شروط حياتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}2، فكلّ دعوة رسول الله في حلاله وحرامه، هي دعوة للحياة في تطوّرها، وهي دعوة تنفتح على آفاق جديدة.

   أمَّا ما أخذه الناس من أفكارٍ ومن عاداتٍ ومن أوضاع، فقد يقول قائل إنّها تمثّل تطوّر الزمن، ونحن لا نستطيع أن نتجمّد في مرحلة من الزمن، ذلك أنَّ الحياة تطوّرت، ولا بدّ للإنسان الذي يريد أن يبقى متحرِّكاً، من أن ينطلق مع التطور، ولكن نتساءل: هل إنّ الزمن في ذاته يحمل عناصر التطوّر؟ إنّ الزّمن واحد، والشّمس هي التي تحدّد الزمن ليله ونهاره، وليس الزمن الّذي انطلق منذ أن خلق الله الشّمس، مختلفاً عن الزّمن الذي بقي وامتدّ إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

   إنّ الزمن ـــ أيّها الأحبّة ـــ لا يتطوّر، ولا يمنح الحياة أيّ عنصر من عناصر التطوّر.

   هل الحياة في أرضها وفي زمانها وفي جبالها وفي سهولها وأنهارها وبحارها تحمل عنصر التطوّر الذي يعطي خطّاً للفكر جديداً، أو يعطي حركة في الجانب العملي جديداً؟ كذلك الأرض هي الأرض، مهما تتنوّع في شكلها ممّا يصنع الإنسان فيها، والجبال هي الجبال والبحار والأنهار والسهول كما هي.

   فمن الذي صنع هذا التطوّر؟ إنَّ الإنسان هو صانع هذا التطوّر، من خلال أنّ هناك فكراً لمفكّر فرض نفسه على الذهنيّة العامّة بفعل القوة التي يملكها، أو بفعل العناصر التي أحاطت بهذا الفكر، فجعلت الناس يفكّرون بهذه الطريقة.

   فالمسألة هي هل إنّ الحياة تطوّرت بطبيعتها، أو أنّ الزمان تطوّر بطبيعته، أو أنّ هناك فكراً فرص نفسه على الواقع، وهل معنى ذلك أنّ على الإسلام أن ينحني لفكرٍ آخر؟ إنّ معنى انحناء الإسلام لهذا التطوّر، هو أنَّ الإسلام ينحني للفكر الذي حرّك هذا النوع من التطوّر، وليس من الطبيعي أن تفرض على أيّ فكر، سواء كان إلهيّاً أو بشرياً، أن يخضع لفكرٍ آخر، لأنّ للإسلام وجهة نظر في هذا الفكر الّذي أطلق حرية الإنسان بشكل شامل، أو أطلق حرية المرأة أو أطلق كثيراً من الحريّات، وكثيراً من الأفكار الاقتصادية أو الاجتماعية.

   إنّه يقول لنا تعالوا يا مَن فرضتم أنفسكم بفعل القوّة التي تملكونها، أو بفعل القوّة التي انضمت إليكم، فإنّني أعتبر أنّ هذا التطوّر عمليّة تراجعية في حياة الإنسان، فتعالوا نتحاور {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}3.

   مفهوم التطوّر عند عليّ(ع)

   لذلك يقول الإمام عليّ(ع): "إنَّ ما أحدث الناس لا يَحلُّ لكم شيئاً ممّا حُرِّم عليكم"، لأنّ ما أحدث الناس هو من خلال فكرهم الّذي انطلق بعيداً عمّا أنزله الله من فكر، وعمّا أراده من شريعة، وعمّا خطّط له من منهج، فتعالوا وقولوا لهؤلاء النّاس لنتحاور فيما أحدثتموه وفيما قدّمه الإسلام.

   إنّني أحبّ ـــ أيها الأحبّة ــــ أنْ تدقّقوا في هذه النقطة، لأنّ كلاماً يقال بطريقة الاستهلاك الفكري أو الاستهلاك الحضاري، لا يجدي شيئاً، فذلك أنّ الزمن هو هكذا:

   يقولون الزّمانُ به فساد    وهم فسدوا وما فسدَ الزمانُ

   إنّ الزمن إطار، والأرض إطار، والإنسان هو الذي يتغيّر {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}4، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}5. فالقضيّة إذاً ليست أنّ الحياة فرضت تطوّرها على الإسلام، ليتراجع الإسلام على أساس أنّ هناك خطاً أفضل منه، ولكنّ الناس هم الذين أمسكوا بزمام الحياة، على أساس القوّة، وعلى أساس الظّلم، وعلى أساس تضليل الناس.

   لهذا، لا بدّ لنا كمسلمين من أن نبقى على إسلامنا، بعد أن اقتنعنا بأنّه وحي الله، وبأنّه كلمة الله الأولى والأخيرة إلى العالم. علينا أن نرفض كلّ ما يتنافى مع الإسلام، وأن نفهم أنّ ما أحدث الناس لا يُحلّ لنا ما حُرّم علينا، ولكن الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله، وإذا جاء الآخرون يقولون لكم إنّكم متخلّفون في نظرتكم إلى المرأة، وفي نظرتكم إلى قضايا الحريات، وفي نظرتكم إلى القضايا الاقتصاديّة، نقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، تعالوا إلى الحوار من موقع الموضوعيّة العقلانيّة الهادئة، كما علّم الله رسولَه(ص): {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}6. فـــ"حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة".

   ثم يتابع عليّ(ع) حديثه ليربطكم بالتجربة، وعليّ عندما يتحدَّث عن التجربة، يتحدث عن المنهج القرآني الذي زاوج بين الدليل العقلي الذي ينطلق من تأمّلات الإنسان في فطرته، وبين الدّليل التجريبي {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}7، فلقد كان لكم عبرة في كلّ ذلك، لذلك يقول الإمام، إذا أردت أن تفهم القضايا جيّداً، ادرسها في الواقع، ادرس تجربتك وافهم عناصر التجربة، وافهم حركية التجربة، وافهم الظروف التي تحيط بالتجربة، وبعد ذلك حاول أن تستنتج التجربة، "فقد جرّبتم الأمور وضرستموها ـــ أي أطبقتم عليها ـــ ووعظتم بمن كان قبلكم ـ أولئك الّذين انحرفوا عن الخطِّ الّذي وضعه الأنبياء لهم ـ وضربت الأمثال لكم ـ من وحي الله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}8، إنّ الله ضرب لكم الأمثال في أولئك كلّهم ـ ودعيتم إلى الأمر الواضح ـ فإنّ الشريعة قد انطلقت بالوضوح الذي يعطيك وضوحاً في العقل، ووضوحاً في القلب، ووضوحاً في واقع الحياة ـ فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى. التفتوا إلى هذه الكلمة من خلال عليّ(ع) في التّجربة في كلّ شيء في الحياة، ولا تعتبروا أنّ ما انطلق به الأقدمون هو الحقيقة دائماً، فلا بدّ من أن تجرّبوا ما انطلق به الأقدمون، لتروا هل هو حقيقة أم لا، أن تجرّبوه تجربةً فكرية، وأن تجربوه تجربة عملية.

   ـ ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتّجارب، لم ينتفع بشيء من العظة ـ ذلك أن الإنسان الذي لا يتعلّم من معاناته، ولا يتعلّم من حركيّته، ولا يتعلّم من كلّ ما يدور حوله بكلّ ما ينطلق فيه، وبكلّ ما يتحرّك فيه الناس معه، فكيف تنفعه العظة، إنَّ من لا ينتفع بالألم الّذي يعيشه في خطِّ الانحراف، فكيف يمكن أن ينتفع بالكلمات؟!

   الانتفاع من التّجارب

   لذلك، فنحن بحاجة ـــ أيها الأحبة ـــ أن ننتفع من الكثير من تجاربنا في الهزيمة، وتجاربنا في الألم، وتجاربنا في الفرح، ومن كلّ التّجارب الأخرى، لأنّ ذلك يعطينا فكراً جديداً وعظة جديدة، وقد قال عليّ(ع) في كلمةٍ أخرى: "والعقل حفظُ التجارب"9، لأنّ التجربة تعطيك عقلاً جديداً: "خيرُ ما جرّبتَ ما وعظك"، والتجربة التي تضيف إلى علمك علماً، وإلى فكرك فكراً، فهي التجربة الكبرى في حياتك.

   ـ وأتاه التقصير من أمامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف ـ أي تنقلب الصّورة عنده، فإذا الصّورة المنكرة تتحوّل إلى صورة معروفة، والصّورة المعروفة تتحول إلى صورة منكرة، لأنّه لا يحرّك وعيه من خلال تجربة الواقع وتجربة الفكر.

   ـ وإنّما الناس رجلان: متّبع شرعة، ومبتدع بدعة ـ أي أنّ الناس على خطّين: فهناك الذي يتّبع الشرّع في كل تفاصيله، والذي تكون عقائده عقائد الإسلام وليس غير الإسلام، ويكون شرعه شرع الإسلام ومفاهيمه مفاهيم الإسلام ومناهجه مناهج الإسلام، وهناك الإنسان الذي يبتدع فكراً آخر غير فكر الإسلام، ونهجاً آخر غير نهج الإسلام.

   ـ ليس معه ـــ أي المبتدع ـــ من الله برهان سنّة، ولا ضياءُ حجَّة ـ ولذلك تراه يتخبَّط في حياته.

   ثم يقول لنا وهو يشير إلى القرآن الكريم، هذا الَّذي يعرِّفنا حقائق الإسلام في حقائق الوحي:

   ـ وإنَّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنَّه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيعُ القلب، وينابيع العلم ـ إذا قرأته، فإنّك تشعر بأنّ قلبك يخضرّ بكلّ تلك الخضرة المعشبة بعشب الفكر والوحي والروح، وتشعر بأنَّ العلم يتفجّر من كلّ آية من آياته، ليعيش في قلبك ينبوع فكر وينبوع حركة.

   ـ وما للقلب جلاء غيره ـ فالقرآن هو الّذي يعطيك جلاء القلب إذا تراكم الصّدأ والأدران عليه، لتجد بقراءة القرآن الجلاء عن الصّدأ، وقد ورد في الحديث النبويّ الشّريف: "إنَّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: قراءة القرآن وذكر الموت"10.

   ـ مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، وبقي الناسون والمتناسون، فإذا رأيتم خيراً ـ وهذا الخطّ الذي يرسمه عليّ لأتباعه، فتّش في الشّارع والبيت، وفتّش في أيّ مكان، فإذا ما رأيت الخير يتحرّك أمامك، خيراً في حياة الناس وفي فكرهم وفي ساحة الصّراع ـ فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شرّاً فاذهبوا عنه ـ لأنّ الإنسان في خطّ القرآن ونهجه يتحرّك بين الخير والشرّ ـ فإنّ رسول الله(ص) كان يقول: يا بن آدم، اعمل الخير ودع الشرّ، فإذا أنت جواد قاصد"11، أي فرس مستقيم ينطلق في الجادة إلى الهدف الكبير في الحياة.

   التلوّن في الدين

   وهكذا يريدنا الإمام(ع) في نهاية المطاف: "فإيّاكم والتلّون في دين الله". والتلّون كناية عن النفاق في أن تظهر شيئاً وتخفي شيئاً، والله يخاطب نبيّه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}12، فالنفاق انحراف عن الحقّ وعن إنسانية الإنسان، فهو ـــ أي عليّ ـــ يدعو إلى التوّحد في دين الله والاجتماع على دينه، فما يجمعه الله بينكم من خلال دينه، لا يفرّقكم عنه أحد.

   {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}13، والأخوّة الإيمانيّة قد تكون أعظم من الأخوة النسبيّة، لأنّ أخوّة النسب انطلقت من خلال اللّحم والدمّ، وأمّا أخوّة الإيمان، فقد انطلقت من فكر ينفتح على الله، ومن خطٍّ يتحرّك في طريق الله، ومن شرعٍ يجمع الناس على حكم الله، فعلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نلتقي على أخوّة الإيمان وأخوّة الإسلام، حتى لو اختلفنا في بعض التفاصيل فيما نفكّر ونستفتي، أو بعض ما نأخذ من خطّ سياسي هنا أو اقتصادي أو اجتماعي هناك، فعندما يجمعنا الله على كلمته، فإنّ كلّ تفاصيل الكلمات لا يمكن أن تفرّقنا. فلنعِ جيّداً أمرنا في انفتاحنا على الله، لنعي أمرنا في مواجهتنا للتحدّيات الكبرى، وفي ساحة الصّراع، حتى نعرف كيف يمكن لنا أن نجمع المتفرّقات بدلاً من أن نفرّق المجتمعات، فنحن مولعون بأن نفرّق ما اجتمع، وأن نمزّق ما التأم، وأن نبعّد ما قرب، ولذا فإنّنا نحتاج إلى إيمانٍ يختزن العقل في نظرته إلى الواقع، وإلى قلبٍ ينفتح على المحبة التي تنطلق من محبّتنا لله ولرسوله ولأوليائه.

   فهل يعجبكم كلام عليّ؟ ولو جاءكم عليّ ليتحدَّث معكم شفاهاً، فهل تقبلونه أو ترفضونه؟ ذلك أنّ مشكلتنا أنّنا مع عليّ عندما يكون في التأريخ، ولكن عندما يأتينا عليّ والسّائرون في خطّ عليّ ويقولون كلمة الإسلام وكلمة القرآن وكلمة الرسول وكلمة عليّ التي هي كلمة الله وكتابه ورسوله، فأخشى أن نرفضه لنقول له: ارجع يا أبا الحسن إلى سنة الأربعين من الهجرة حيث كنت في مسجد الكوفة، فلا تربك حياتنا، ولا تزعج عصبيّاتنا، ولا تصادر أنانيّاتنا، ولا تحدّثنا عن الحقّ، فسوف لن يكون لك صديق بيننا الآن، كما لم يكن لك صديق هناك، عندما قلت: "ما ترك لي الحقّ من صاحب"، فإنّ الذين يحملون الحقّ فكراً في عقولهم، ونبضة في قلوبهم، وحركةً في خطواتهم، يرجمهم الناس بالحجارة... فهل ترانا نقول لعليّ ذلك؟ ربّما قلنا له أكثر من ذلك!!

   "فإيّاكم والتلوّن في دين الله، فإنَّ جماعةً فيما تكرهون من الحقّ، خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل ـ فلو درستم هذه الجماعة، و"يد الله مع الجماعة" الّتي تجمعكم على الحقّ حتى لو كرهتموها، وحتى لو أتعبتكم وصادرت بعض منافعكم، فستجدون أنَّ النتائج الإيجابيّة التي تحصلون عليها من اجتماعكم على الحقّ، أفضل من النتائج الإيجابية التي تتصوّرونها عندما تتفرّقون من خلال الباطل.

   ـ وإنّ الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقةٍ خيراً"، فلن يكون هناك خير من الفرقة، لا في بداية الزّمان ولا في نهايته ـ ممّن مضى ولا ممّن بقي"14.

   وختاماً، يعظنا عليّ(ع) بكلّ محبّة وبكلّ روحانيّة: "يا أيّها النّاس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس ـ أن تجلس لتفكّر في أخطائك وسلبيّاتك وعيوبك، حتى إذا اكتشفتها أصلحتها قبل أن تفكِّر في عيوب الناس، لأنّك مسؤول عن عيوبك، وأمّا عيوب الناس، فهم مسؤولون عنها، فلماذا تفكّر فيما لا مسؤوليّة لك فيه إلاّ من خلال الدعوة والإصلاح، بينما تفقد نفسك، وهناك كلمة مأثورة للسيّد المسيح(ع): "ماذا ينفعك إذا ربحت العالم وخسرت نفسك"، وما فائدة أن تعرف كلّ عيوب النّاس من حولك، ولا تفهم عيوب نفسك؟!.

   ـ وطوبى لمن لَزِمَ بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربّه ـ ولا يعني لزوم البيت الانعزال عن الناس، بل الابتعاد عن كلّ الساحات التي يمكن أن تضلّه أو تهدم إيمانه ـ وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والنّاس منه في راحة"15، وذلك هو المؤمن الّذي يكون النّاس منه في راحة، لأنّه لا يؤذي أحداً، ولا يشتم أحداً، ولا يخون أحداً ولا يضرّه...

ذلك هو عليٌّ في كلماته، والّذي يبقى لنا ومعنا، فهل نبقى معه؟!

هذا هو السّؤال الكبير الّذي يفرض نفسه علينا في حركة الواقع.

والحمد لله ربِّ العالمين. 


       فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الرّابعة والعشرون، بتاريخ: 30/11/1996.


1 النّجم: 3-4.

2 الأنفال: 24.

3 البقرة: 111.

4 الرّعد: 11.

5 الأنفال : 53

6 سبأ: 24.

7 الحشر: 2.

8 الفجر: 6ـ 7.

9 نهج البلاغة، ج3، ص53.

10 مستدرك الوسائل، ج2، ص104.

11 نهج البلاغة، ج2، ص95.

12 الشّورى: 15.

13 الحجرات: 10.

14 نهج البلاغة، ج2، ص96.

15 نهج البلاغة، ج2، ص96.



اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية