ننتقل إلى موقع آخر، فنرى الإمام الرّضا(ع) يلتقي بتلميذه (السيد عبد العظيم الحسني) الذي يُزار في منطقة الري (طهران)، ويسمّى بـ(الشاه عبد العظيم)، فلقد كان يرسله، ليبلّغ أولياءه ما يريد منهم، لأنَّه كان يفكّر فيهم وفي أوضاعهم وفي كلِّ ما يعيشونه، ويراقب أوضاعهم، لأنَّ ذلك هو موقع القيادة في أيِّ مكان وأيِّ زمان، بأن يكون القائد في موقع الرّاصد لكلِّ أتباعه وجنوده، ليبتدئهم إذا لم يسألوه، وليجيبهم إذا سألوه.
قال(ع): "يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السّلام، وقل لهم ألاَّ يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ــــ أن يعرفوا خطوات الشيطان ووساوسه وحِيَلَه وألاعيبه، وأن يعملوا على أن يتفادوا ذلك كلَّه في سلوكهم العملي، فيغلقوا كلَّ النوافذ التي يمكن أن يُطِلَّ عليهم منها، ويسدّوا كلَّ الطرق التي يمكن أن يأتي إليهم منها.
والوصيّة هي لنا، لأنَّه يوصي أولياءه، ونحن من أوليائه في كلِّ زمانٍ ومكان ـ وأْمرهم بالصدق في الحديث"، ألاَّ يكونوا الكاذبين في ما يحدّثون به، لأنَّ الكذب يعطّل وضوح الحقيقة في الواقع، فعندما نعيش الواقع في جزئيّاته وكليّاته بعيداً من الحقيقة، فإنَّه يُصاب بالضّياع وبالارتباك وبالخَلَل في موازينه وأحكامه وأداء الأمانة، لأنَّ الله يأمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها، سواء كان أهلها من الكافرين أو من المسلمين، ولأنَّ أداء الأمانة، سواء كانت أمانة مالٍ أو أمانة سرٍّ أو أمانة مسؤوليّة، هي التي تحافظ على توازن المجتمع، وعلى تركيز قواعد الثقة الاجتماعيّة بين أفراد المجتمع، عندما يحترم كلُّ شخصٍ الآخر من خلال ما اؤتمن عليه في حياته، مالاً كان أو أمراً سياسيّاً أو اجتماعياً، وأْمُرهم بالسكوت، بالصمت الذي ينطلق به الإنسان ليفكّر، لا صمت الغباء، ولكن صمت الفكر، لأنَّ الإنسان إذا لم يُعطِ نفسه فرصةً للصمت وللسكوت، فإنَّه قد لا يجد فرصةً للتّفكير الصافي المنفتح.
لذلك، نحن بحاجةٍ إلى بعض الصمت وبعض السكوت، حتى نستطيع من خلال صفاء الفكر وهدوئه وابتعاده عن الضجيج، أن نفكّر في ما عملناه وفي ما قلناه وخطّطنا له، لندرس إيجابيّاته وسلبيّاته، وأن نعرف ما نريد أن نخطّط له أو نقوله، أو أن نفعله، لندرس نقاط ضعفه ونقاط قوّته، في أين الصّواب هنا، وأين الخطأ هناك؟
الجدال بالحقّ
ويكمل الإمام الرضا(ع) وصيته، فيقول: "وترك الجدال في ما لا يعنيهم". وهذه وصيّة حيّة مهمّة رائعة، وهي أنَّك عندما تدخل في جدالٍ حول أمرٍ تختلف فيه مع الآخر، فكّر في هذا الأمر الذي تثير الجدال فيه؛ هل هو من الأمور التي تتّصل بالخطوط الأساسيّة للعقيدة، باعتبار أنَّ عقيدتك مسؤوليّة فكرك الذي تقدّم فيه حسابك إلى الله، أو أنَّه يتصل بخطٍّ حيويٍّ بالشّريعة، باعتبار أنَّ الشريعة تمثّل حركة حياتك في مسؤولياتك السلبيّة أو الإيجابيّة أمام الله، أو هل يتّصل بشأنٍ من شؤون الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بما يتعلّق بقضايا المصير؟
وإذا رأيت أنَّ هذا الأمر لا علاقة له بالعقيدة أو بالشريعة أو بالحياة، ولا علاقة له بالمصير، وإنَّما هو مجرّد شيءٍ تجريدي، سواء اعتقدته أو لم تعتقده، فإنَّه لن يغيّر من الأمر شيئاً، تماماً كما كان أهل قسطنطينية يتجادلون في ما لا ينفع، والفاتح يدقّ الأبواب، وفلاسفتهم يتناقشون هل إنَّ البيضة أصل الدّجاجة، أو الدّجاجة أصل البيضة؟ فهذا يقول إنَّ البيضة أصل، وذاك يقول إنَّ الدّجاجة هي الأصل، وهل إنَّ الملائكة ذكورٌ أم إناث؟ ويختلفون فيما بينهم، ولا يلتفتون إلى القضايا المصيريّة..
هذا كلامٌ فارغٌ كالكثير من الكلام الفارغ الذي يدور في القضايا التي ينطلق فيها الناس على أنَّه مَن هو أفضل ذاك أم هذا، وهذه أم تلك؟ في حين أنَّ الأمور عندما لا تتصل بمسؤوليّتنا أمام الله ولا بمسؤوليّتنا بحركة الحياة، فإنَّها تمثّل طواحين الهواء التي تطحن وتطحن ويبقى الهواء هواءً، إذ لا يمكن أن يتحوَّل الهواء إلى أيِّ شيء، ولكن عندما تطحن الحنطة، فإنَّها تتحوّل إلى دقيق تستطيع أن تعجنه خبزاً. ولكنَّ المشكلة، هي أنّنا أناسٌ متخلّفون بكلِّ أسف، فنحن نحاول أن نصعد بالتخلّف إلى الدّرجات العليا من مواقعنا، ولا نلتفت إلى الآثار المؤسفة المترتّبة على هذا التخلّف، ونتنازع ونتكافر ونتضالل، في حين لا علاقة لقضايا الخلاف والنزاع بالدنيا ولا علاقة لها بالآخرة.
الوحدة والتضامن
ثم يقول الإمام الرّضا(ع): "وإقبال بعضهم على بعض ــــ وذلك بألاَّ يتقاطعوا، وأن يُقبل المؤمن على المؤمن بعقله ليعطي النصيحة، وبقلبه ليعطي المحبة، وبحياته ليعطي الطاقة ــــ والمزاورة ـ بأن يزور بعضهم بعضاً ــــ فإنَّ ذلك قربة إليَّ ــــ لأنَّهم بذلك يوحِّدون الصفّ ويقوّون الموقع ـــ ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً ــــ في حين أنَّ الكثيرين يزورون الإمام الرّضا(ع)، وهم يمزّقون بعضهم بعضاً، وكأنَّهم لا يشعرون بأنَّ "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً"، وكأنَّهم لا يعرفون "مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر".
ـــــ فإنّي آليتُ على نفسي أنَّه من فعل ذلك ـــــ من شيعتي وأوليائي، بأنْ عمِل على تمزيق الواقع الإسلاميّ والإيماني تحت أيِّ اعتبار ـــــ وأسخط وليّاً من أوليائي ـــــ بالإساءة إليه، وباتهامه بما ليس فيه، وبغيبته وتشويه صورته، وبإسقاط موقعه ـــــ دعوتُ اللهَ ليعذّبه في الدنيا أشدَّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين".
وهذه المسألة تحتاج إلى تأمّل، فلو دعا عليك شخصٌ عاديٌّ، فالأمر هيّن، ولكنّ الإمام الرّضا(ع) يقول أنا أخذتُ على نفسي عهداً أمام الله، أنَّهم إذا فعلوا ذلك، ودمّروا واقع المؤمنين ومجتمعهم بالتفرقة والبغضاء والحقد، دعوت عليهم بأن يعذِّبهم الله أشدَّ العذاب. وبذلك، فعلى مَن لديه عقدةٌ نفسيّةٌ أو مشكلةٌ شخصيّة أو وضعٌ فئويٌّ معيّن أو وضعٌ عائليٌّ خاصّ، أن يعرف حاله قبل أن يزور الإمام الرّضا(ع)؛ هل هو ممن يدعو عليه الإمام(ع) أو ممن يرتضيه من أوليائه؟
ثم يوصيه: "وعرّفهم أنَّ الله قد غفر لمحسنهم ـــــ عندما ينطلقون من قاعدة الإسلام، ومن قاعدة الخطِّ الأصيل، وهو خطُّ الولاية في الإسلام ـــــ وتجاوز عن مسيئهم، إلاَّ من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنَّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه ـــــ أي عندما تعود القلوب مفتوحةً على المحبّة لبعضها البعض، فإذا كان الشخص يؤذي وليّاً، أو يضمر له سوءاً ـــــ فإن رجع عنه ـــــ تاب الله عليه ـــــ وإلا نزع روح الإيمان من قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".
وهذه مسألة تعطينا صورة عن واقعنا، فالبعض، ومن باب تبرير عمله، يقول أفعلُ ما أفعل من أجل الدّين، أو من أجل المذهب، أو من أجل الإسلام، أو من أجل الوطن، وعندما ندخل إلى داخل نفوسنا، نجد أنَّها تقوم بكلِّ ذلك من أجل الذّات حسداً أو حقداً أو عداوة، وأعوذ بالله من ذلك.
من كتاب "في رحاب أهل البيت"، ج 2.