الإقرار
01/06/2023

صيغة الإقرار وطبيعته

صيغة الإقرار وطبيعته

وفيه مسائل:
ـ الإقرار هو: «إخبار المكلف عن حق ثابت عليه لغيره أو عن عُلْقة يترتب عليها ـ غالباً ـ حق عليه لغيره، أو إخباره عن نفي حق له على غيره، وذلك بنحو لا يُسمع منه الدعوى على خلافه، ويُقدَّم على جميع الحجج حتى البيّنة»؛ فالإخبار عن الحق مثل: أن يعترف بوجود دين عليه، أو بصدور الزنا أو السرقة منه، أو نحو ذلك، والإخبار عن العلقة مثل: أن يقر بزوجيته لفلانة فيترتب عليه الإنفاق عليها، أو نحو ذلك، والإخبار عن نفي الحق مثل: أن يقر بأن زيداً غير مدين له، أو عن نفي العلقة مثل: أن يقر بأن فلانة ليست زوجة له فيترتب عليه نفي حقه عليها بالاستمتاع، أو نحو ذلك، هذا وسوف نعرض لسائر عناصر التعريف لاحقاً. (أنظر المسألة: 457، وفقرة «الثاني» من المسألة: 465).

ـ الإقرار ليس عقداً، فلا يحتاج في نفوذه إلى قبول الآخر وتصديقه به، بل ينفذ ويترتب عليه الأثر من جانب المقر حتى مع عدم تصديق الآخر، وسيأتي بيان ماله علاقة بذلك لاحقاً. كذلك فإن الإقرار ليس إيقاعاً، لأن الإيقاع إحداث لأمر غير موجود، كالإبراء والطلاق ونحوهما، أما الإقرار فإنه إخبار عن أمر موجود وتأكيد له بحسب اعتقاد المقر.

ـ لا يرتبط الإقرار بحالة التنازع ولا المرافعة، فلا يُشترط في نفوذه صدورُه أمام الحاكم الشرعي، وذلك رغم أن الحاجة إليه كبيرة في تلك الحالة، فإذا أقر الخصم بما يُدّعى عليه به انحسم النزاع وارتفع التخاصم، وأغنى إقراره عن البيّنة، ولم تسمع منه الدعوى على خلافه. وكثيراً ما يكون الهدف من مبادرة المقر إلى الإقرار في غير حالة التنازع هو حرص المقر على إثبات حق الغير عنده وإبراء ذمته منه عند خفائه، إما حيث لا يعلمُ به غيرُه، أو حيث يَخْشى إنكار ورثته له، أو نحو ذلك من الأسباب والدوافع.

ـ لا يشترط في الإقرار صيغة خاصة، بل يكفي فيه كل ما يدل على ثبوت الحق عليه أو نفي حقه عن غيره؛ كما أنه لا يشترط أن تكون الألفاظ صريحة في إفادتها معناها، بل يكفي ظهورها في معانيها ولو بمساعدة القرائن الحالية والمقالية بالنحو الذي يرفع الغموض والإبهام؛ ومن ذلك كفاية الإعتراف باللازم في ثبوت الملزوم، فإذا ادّعى رجل على آخر مالاً، فقابله المدّعى عليه بادعاء الوفاء، كان ذلك إقراراً منه بثبوت مالٍ عليه للمدعي رغم أنه لم يقر به صريحاً. لكن لا بد في كفاية اللازم في الإقرار بالملزوم من كون إفادته للملزوم صريحة وحاسمة لا تحتمل التأويل، ففي مثل ما لو رأى في يد شخص كتاباً ـ مثلاً ـ، فطلب منه بيعه إياه، لم يكن طلب البيع إقراراً من الطالب بملكية المطلوب منه للكتاب (واقعاً) على قاعدة أنه لو لم يكن ملكه لما طلب منه بيعه إياه، وذلك لاحتمال أن يكون طلبه على قاعدة ملكيته الظاهرية له لكونه تحت يده؛ الأمر الذي يتيح له ـ لاحقـاً ـ التراجع عن إقراره وادعاء ملكيته للكتاب ومطالبته به. نعم لا يشترط في صحة الإقرار غير المباشر من خلال الملازمة عِلْمُ المقر بالملازمة والتفاته إليها، فلو نفى كلَّ سبب من أسباب تملكه للعين التي تحت يده واحداً بعد واحد كان ذلك إقراراً منه بعدم ملكيته لها بالملازمة، ولو مع جهله بها وغفلته عنها. هذا، وكما يتحقّق الإقرار باللفظ فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بمثل الإشارة والكتابة من الأمور التي تدل على مضمونها دلالة واضحة.

ـ إذا كان لكلام المقر ظهور في معنى معين من خلال إطلاق الكلام أو القرائن الحالية أو المقالية المقترنة به، لم يُقبل منه صرفُ إقراره عن ظاهره إلا أن يَثْبُتَ أن هذا هو مراده من الأول؛ وذلك كما لو أقر شخص بأن لزيد في ذمته ألف دينار، وفُهم من ظاهر كلامه أن مراده به دينار بلد الإقرار، فإذا ادعى بعد ذلك بأن مراده دينار بلد آخر لم يقبل منه ذلك الإدعاء المخالف لظاهر إقراره، إلا أن يصدقه المقَرُّ له بإقراره بأن سبب الاستحقاق ـ مثلاً ـ هو عقد يتضمن النص على أن العملة المطلوبة منه هي عملة بلد آخر؛ ومثله ما لو ادعى المقر وجود قرينة صارفة لكلامه عن ظهوره، فإنه يعتد بهذه الدعوى إذا أثبتها، وإلا جرى إقراره على ظاهره.

ـ يعتبر في الإقرار الجزم بمضمونه، فلو اشتمل على الشك والترديد، بمثل قوله: «أظن أو احتمل أن لك علي كذا» لم يكن ذلك إقراراً.
ـ إذا تحقّق الإقـرار بشروطـه المعتبـرة ـ التي سنذكرهـا لاحقـاً ـ صار حجة في حق كل أحد، وهو من نوع الحجج الظاهرية التي لا تعتبر نافذة ومؤثرة لأثرها إلا مع احتمال صدقها، فلو عُلم كذب المقر لم يكن لإقراره أثر، مثله في ذلك مثل سائر الحجج، كالبيّنة واليد والأصل؛ ولكن ـ رغم ذلك ـ فإن الإقرار مقدم على غيره من الحجج عند معارضتها له، فمن أقر بدين عليه لزيد، ثم قامت البيّنة على عدمه، أخذ بإقراره ولم يُستمع إلى البيّنة، وهذا هو الإقرار بمعناه المصطلح الذي عقد من أجله هذا البحث، وذلك في قبال بعض الموارد التي لا ينفذ فيها إقرار المقر مع مخالفته لحجة أخرى، مما لا يعدّ إقراراً بالمعنى المصطلح، وهو ما كنّا أشرنا إليه في التعريف ووعدنا ببيانه فيما بعد، وهذا هو محل بيانه فنقول:

إن الإقرار المعقود له هذا الباب مختص بما يبتني قبوله على الإعتراف بحق على المقر أو نفي حق له على غيره، مع وعي المقر لما يترتب على اعترافه من أثر، وهو: ترك استجلاب النفع والعزم على حرمان النفس منه والالتزام ببذله للمُقَرّ له، ويكون في كاشفتيه عن الواقع على درجة من الحُجِّية لا يُقبل معها تراجعُه عنه، ولا تقبل البيِّنَة فيه على خلافه، وذلك مثل: الإقرار بالزوجية، وبالدين للغير، وبثبوت الخيار عليه أو حق الشفعة أو المرور عليه لشريكه أو جاره، أو نفي أن يكون له دين على غيره أو حقُّ خيار أو شفعة أو مرور، أو الإعتراف بزناً أو سرقة أو نحوهما من موجبات الحد أو التعزير أو الضمان للمال أو النفس، وما أشبه ذلك؛ وذلك في قبال موارد أخرى لا يشملها هذا التوصيف للإقرار بالمعنى المصطلح عليه، وإن عُبِّرَ عنها في لغة الفقه بالإقرار مراعاة لشبهها بموارد الإقرار المصطلح وانسياقاً مع المعنى اللغوي، وهذه الموارد كثيرة ومبثوثة في أبواب الفقه، نذكر منها ثلاثة:

الأول: ما يكون من الأموال النقدية أو العينية تحت يد الإنسان لغيره، بوقف أو إجارة أو حق شرعي أو عارية أو وديعة؛ فإذا أَقرَّ به قُبل منه وأُلزم بإقراره، إلا أن يكذبه المقر له فيقدم قوله على قول المقر، أو تقومَ البيّنة أو غيرها من الحجج على خلاف إقراره فتقدم الحجة عليه. وإنما اختلفت هذه عن موارد الإقرار المصطلح من حيث إن بذلها لا يتضرر منه المقر، فلا يتوفر في الإقرار بها من قوة الحجة ما يُفقد البينة اعتبارَها فيها.

الثاني: ما يكون من أفعال مَنْ له سلطةٌ على إنسان أو شيء، فإذا فعل شيئاً في نطاق سلطته وأخبر عنه، قبل منه، وسمي ذلك عند الفقهاء إقراراً، واستخرجوا منه قاعدة مفادها: (من ملك شيئاً ملك الإقرار به)، وذلك مثل: إخبار الأجير بتفريغ ذمة المنوب عنه من العمل المستأجر عليه، ومثل: إخبار الزوج بطلاق زوجته، والولي أو الوكيل بالقيام بالعمل المولَّى عليه أو الموكَّل فيه.
ولا يخفى اختلاف هذه الموارد عن موارد الإقرار المصطلح لخلوها من الإقرار بحقٍ عليه لغيره أو نفي حق له على غيره، ولإمكان رفع اليد عن مضمونها بقيام البينة المخالفة.

الثالث: موارد الإقرار بالنسب، فإنه حيث يُقبـلُ فـي بعض مـوارده ـ كما سيأتي في مباحث النكاح ـ يترتب عليه نفع للمقر ولغيره في باب التوارث، وهو على خلاف توصيفنا للإقرار المصطلح.
وهكذا سائر الموارد.

ـ إذا أقر بشيء لشخص كفى في نفوذ إقراره عدم تكذيبه من قبل المقرَّ له، فضلاً عما لو صدّقه، فإن كذبه ونفى أن يكون له شيء عند المقرِّ تعارض الإقراران وتساقطا، وحينئذ يمكنهما الرجوع إلى الحجـج الأخـرى ـ إن وجدت ـ لإثبات أحد الأمرين وتكون هي المعول عليها، إلا أن يَرجِعَ المُقَر له عن إنكاره في الموارد التي يقبل منه الرجوع فيها ـ كما سنبينـه في المسألة التالية ـ فيؤخذ بإقرار المقر ويؤثر أثره.

ومن جهة أخرى، فإنه لو فرض عند تساقط الإقرارين عدم وجود حجة أخرى في يد المقر لإقناع المقر له بأخذ ماله منـه لـزم المقـر ـ فيما بينه وبين الله تعالى ـ تفريغ ذمته من الدين وتخليص نفسه من العين بالإيصال إلى المالك، وإن كان بمثل دَسِّه في أمواله أو بما أشبهه مما يناسب المقام.

ـ إذا صدر منه الإقرار المصطلح ثم تراجع عنه لم يُقبَل منه تراجعه إلا أن يُثبت أن ذلك قد كان لخلل في شروط الإقرار، بأن ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الغلط أو نحو ذلك مما يعذر فيه المقر؛ أمّا إذا تراجع عنه تكذيباً لنفسه لم يقبل رجوعه عنه، ومنه ما إذا أقـر بالبيـع ـ أو بقبـض الثمـن ـ وأشهد على إقراره، ثم ادّعى أن إقراره شكلي، وأنه كان قد اتفق مع الطرف الآخر على ذلك من أجل تسهيل معاملة رسمية تعنيهما أو تعني أحدهما دون أن يكون لها تحقّق في الواقع؛ فإنَّ تعارُفَ ذلك بين الناس وكَثْرةَ وُقوعه لا يكفي في سماع مثل هذه الدعوى بعد رجوعها إلى تكذيب الإقرار، إلا أن تقوم البينة على تصديقة في مدعاه، أو يحلف المشتري على أنه أقبضه الثمن، وأن البائع غير صادق في ادعاء المواطاة ونفي ما أقرَّ به من قبض الثمن.

هذا إذا كان الإقرار موافقاً لما هو المصطلح، أي: كان من قوة الحجة بدرجة لا يقبل معها دعوىً على خلافه، أما إذا كان على خلاف ذلك، كأن أقر بأن هذا المال وديعة لزيد، أو أقر بإتيان الصلاة المستأجَر عليها نيابة عن المنوب عنه، ثم عدل عن إقراره، سُمع منه العدول ولو لم يُثبته، فضلاً عما لو أقام البينة على المعدول إليه.
 

وفيه مسائل:
ـ الإقرار هو: «إخبار المكلف عن حق ثابت عليه لغيره أو عن عُلْقة يترتب عليها ـ غالباً ـ حق عليه لغيره، أو إخباره عن نفي حق له على غيره، وذلك بنحو لا يُسمع منه الدعوى على خلافه، ويُقدَّم على جميع الحجج حتى البيّنة»؛ فالإخبار عن الحق مثل: أن يعترف بوجود دين عليه، أو بصدور الزنا أو السرقة منه، أو نحو ذلك، والإخبار عن العلقة مثل: أن يقر بزوجيته لفلانة فيترتب عليه الإنفاق عليها، أو نحو ذلك، والإخبار عن نفي الحق مثل: أن يقر بأن زيداً غير مدين له، أو عن نفي العلقة مثل: أن يقر بأن فلانة ليست زوجة له فيترتب عليه نفي حقه عليها بالاستمتاع، أو نحو ذلك، هذا وسوف نعرض لسائر عناصر التعريف لاحقاً. (أنظر المسألة: 457، وفقرة «الثاني» من المسألة: 465).

ـ الإقرار ليس عقداً، فلا يحتاج في نفوذه إلى قبول الآخر وتصديقه به، بل ينفذ ويترتب عليه الأثر من جانب المقر حتى مع عدم تصديق الآخر، وسيأتي بيان ماله علاقة بذلك لاحقاً. كذلك فإن الإقرار ليس إيقاعاً، لأن الإيقاع إحداث لأمر غير موجود، كالإبراء والطلاق ونحوهما، أما الإقرار فإنه إخبار عن أمر موجود وتأكيد له بحسب اعتقاد المقر.

ـ لا يرتبط الإقرار بحالة التنازع ولا المرافعة، فلا يُشترط في نفوذه صدورُه أمام الحاكم الشرعي، وذلك رغم أن الحاجة إليه كبيرة في تلك الحالة، فإذا أقر الخصم بما يُدّعى عليه به انحسم النزاع وارتفع التخاصم، وأغنى إقراره عن البيّنة، ولم تسمع منه الدعوى على خلافه. وكثيراً ما يكون الهدف من مبادرة المقر إلى الإقرار في غير حالة التنازع هو حرص المقر على إثبات حق الغير عنده وإبراء ذمته منه عند خفائه، إما حيث لا يعلمُ به غيرُه، أو حيث يَخْشى إنكار ورثته له، أو نحو ذلك من الأسباب والدوافع.

ـ لا يشترط في الإقرار صيغة خاصة، بل يكفي فيه كل ما يدل على ثبوت الحق عليه أو نفي حقه عن غيره؛ كما أنه لا يشترط أن تكون الألفاظ صريحة في إفادتها معناها، بل يكفي ظهورها في معانيها ولو بمساعدة القرائن الحالية والمقالية بالنحو الذي يرفع الغموض والإبهام؛ ومن ذلك كفاية الإعتراف باللازم في ثبوت الملزوم، فإذا ادّعى رجل على آخر مالاً، فقابله المدّعى عليه بادعاء الوفاء، كان ذلك إقراراً منه بثبوت مالٍ عليه للمدعي رغم أنه لم يقر به صريحاً. لكن لا بد في كفاية اللازم في الإقرار بالملزوم من كون إفادته للملزوم صريحة وحاسمة لا تحتمل التأويل، ففي مثل ما لو رأى في يد شخص كتاباً ـ مثلاً ـ، فطلب منه بيعه إياه، لم يكن طلب البيع إقراراً من الطالب بملكية المطلوب منه للكتاب (واقعاً) على قاعدة أنه لو لم يكن ملكه لما طلب منه بيعه إياه، وذلك لاحتمال أن يكون طلبه على قاعدة ملكيته الظاهرية له لكونه تحت يده؛ الأمر الذي يتيح له ـ لاحقـاً ـ التراجع عن إقراره وادعاء ملكيته للكتاب ومطالبته به. نعم لا يشترط في صحة الإقرار غير المباشر من خلال الملازمة عِلْمُ المقر بالملازمة والتفاته إليها، فلو نفى كلَّ سبب من أسباب تملكه للعين التي تحت يده واحداً بعد واحد كان ذلك إقراراً منه بعدم ملكيته لها بالملازمة، ولو مع جهله بها وغفلته عنها. هذا، وكما يتحقّق الإقرار باللفظ فإنه يتحقّق ـ أيضاً ـ بمثل الإشارة والكتابة من الأمور التي تدل على مضمونها دلالة واضحة.

ـ إذا كان لكلام المقر ظهور في معنى معين من خلال إطلاق الكلام أو القرائن الحالية أو المقالية المقترنة به، لم يُقبل منه صرفُ إقراره عن ظاهره إلا أن يَثْبُتَ أن هذا هو مراده من الأول؛ وذلك كما لو أقر شخص بأن لزيد في ذمته ألف دينار، وفُهم من ظاهر كلامه أن مراده به دينار بلد الإقرار، فإذا ادعى بعد ذلك بأن مراده دينار بلد آخر لم يقبل منه ذلك الإدعاء المخالف لظاهر إقراره، إلا أن يصدقه المقَرُّ له بإقراره بأن سبب الاستحقاق ـ مثلاً ـ هو عقد يتضمن النص على أن العملة المطلوبة منه هي عملة بلد آخر؛ ومثله ما لو ادعى المقر وجود قرينة صارفة لكلامه عن ظهوره، فإنه يعتد بهذه الدعوى إذا أثبتها، وإلا جرى إقراره على ظاهره.

ـ يعتبر في الإقرار الجزم بمضمونه، فلو اشتمل على الشك والترديد، بمثل قوله: «أظن أو احتمل أن لك علي كذا» لم يكن ذلك إقراراً.
ـ إذا تحقّق الإقـرار بشروطـه المعتبـرة ـ التي سنذكرهـا لاحقـاً ـ صار حجة في حق كل أحد، وهو من نوع الحجج الظاهرية التي لا تعتبر نافذة ومؤثرة لأثرها إلا مع احتمال صدقها، فلو عُلم كذب المقر لم يكن لإقراره أثر، مثله في ذلك مثل سائر الحجج، كالبيّنة واليد والأصل؛ ولكن ـ رغم ذلك ـ فإن الإقرار مقدم على غيره من الحجج عند معارضتها له، فمن أقر بدين عليه لزيد، ثم قامت البيّنة على عدمه، أخذ بإقراره ولم يُستمع إلى البيّنة، وهذا هو الإقرار بمعناه المصطلح الذي عقد من أجله هذا البحث، وذلك في قبال بعض الموارد التي لا ينفذ فيها إقرار المقر مع مخالفته لحجة أخرى، مما لا يعدّ إقراراً بالمعنى المصطلح، وهو ما كنّا أشرنا إليه في التعريف ووعدنا ببيانه فيما بعد، وهذا هو محل بيانه فنقول:

إن الإقرار المعقود له هذا الباب مختص بما يبتني قبوله على الإعتراف بحق على المقر أو نفي حق له على غيره، مع وعي المقر لما يترتب على اعترافه من أثر، وهو: ترك استجلاب النفع والعزم على حرمان النفس منه والالتزام ببذله للمُقَرّ له، ويكون في كاشفتيه عن الواقع على درجة من الحُجِّية لا يُقبل معها تراجعُه عنه، ولا تقبل البيِّنَة فيه على خلافه، وذلك مثل: الإقرار بالزوجية، وبالدين للغير، وبثبوت الخيار عليه أو حق الشفعة أو المرور عليه لشريكه أو جاره، أو نفي أن يكون له دين على غيره أو حقُّ خيار أو شفعة أو مرور، أو الإعتراف بزناً أو سرقة أو نحوهما من موجبات الحد أو التعزير أو الضمان للمال أو النفس، وما أشبه ذلك؛ وذلك في قبال موارد أخرى لا يشملها هذا التوصيف للإقرار بالمعنى المصطلح عليه، وإن عُبِّرَ عنها في لغة الفقه بالإقرار مراعاة لشبهها بموارد الإقرار المصطلح وانسياقاً مع المعنى اللغوي، وهذه الموارد كثيرة ومبثوثة في أبواب الفقه، نذكر منها ثلاثة:

الأول: ما يكون من الأموال النقدية أو العينية تحت يد الإنسان لغيره، بوقف أو إجارة أو حق شرعي أو عارية أو وديعة؛ فإذا أَقرَّ به قُبل منه وأُلزم بإقراره، إلا أن يكذبه المقر له فيقدم قوله على قول المقر، أو تقومَ البيّنة أو غيرها من الحجج على خلاف إقراره فتقدم الحجة عليه. وإنما اختلفت هذه عن موارد الإقرار المصطلح من حيث إن بذلها لا يتضرر منه المقر، فلا يتوفر في الإقرار بها من قوة الحجة ما يُفقد البينة اعتبارَها فيها.

الثاني: ما يكون من أفعال مَنْ له سلطةٌ على إنسان أو شيء، فإذا فعل شيئاً في نطاق سلطته وأخبر عنه، قبل منه، وسمي ذلك عند الفقهاء إقراراً، واستخرجوا منه قاعدة مفادها: (من ملك شيئاً ملك الإقرار به)، وذلك مثل: إخبار الأجير بتفريغ ذمة المنوب عنه من العمل المستأجر عليه، ومثل: إخبار الزوج بطلاق زوجته، والولي أو الوكيل بالقيام بالعمل المولَّى عليه أو الموكَّل فيه.
ولا يخفى اختلاف هذه الموارد عن موارد الإقرار المصطلح لخلوها من الإقرار بحقٍ عليه لغيره أو نفي حق له على غيره، ولإمكان رفع اليد عن مضمونها بقيام البينة المخالفة.

الثالث: موارد الإقرار بالنسب، فإنه حيث يُقبـلُ فـي بعض مـوارده ـ كما سيأتي في مباحث النكاح ـ يترتب عليه نفع للمقر ولغيره في باب التوارث، وهو على خلاف توصيفنا للإقرار المصطلح.
وهكذا سائر الموارد.

ـ إذا أقر بشيء لشخص كفى في نفوذ إقراره عدم تكذيبه من قبل المقرَّ له، فضلاً عما لو صدّقه، فإن كذبه ونفى أن يكون له شيء عند المقرِّ تعارض الإقراران وتساقطا، وحينئذ يمكنهما الرجوع إلى الحجـج الأخـرى ـ إن وجدت ـ لإثبات أحد الأمرين وتكون هي المعول عليها، إلا أن يَرجِعَ المُقَر له عن إنكاره في الموارد التي يقبل منه الرجوع فيها ـ كما سنبينـه في المسألة التالية ـ فيؤخذ بإقرار المقر ويؤثر أثره.

ومن جهة أخرى، فإنه لو فرض عند تساقط الإقرارين عدم وجود حجة أخرى في يد المقر لإقناع المقر له بأخذ ماله منـه لـزم المقـر ـ فيما بينه وبين الله تعالى ـ تفريغ ذمته من الدين وتخليص نفسه من العين بالإيصال إلى المالك، وإن كان بمثل دَسِّه في أمواله أو بما أشبهه مما يناسب المقام.

ـ إذا صدر منه الإقرار المصطلح ثم تراجع عنه لم يُقبَل منه تراجعه إلا أن يُثبت أن ذلك قد كان لخلل في شروط الإقرار، بأن ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الغلط أو نحو ذلك مما يعذر فيه المقر؛ أمّا إذا تراجع عنه تكذيباً لنفسه لم يقبل رجوعه عنه، ومنه ما إذا أقـر بالبيـع ـ أو بقبـض الثمـن ـ وأشهد على إقراره، ثم ادّعى أن إقراره شكلي، وأنه كان قد اتفق مع الطرف الآخر على ذلك من أجل تسهيل معاملة رسمية تعنيهما أو تعني أحدهما دون أن يكون لها تحقّق في الواقع؛ فإنَّ تعارُفَ ذلك بين الناس وكَثْرةَ وُقوعه لا يكفي في سماع مثل هذه الدعوى بعد رجوعها إلى تكذيب الإقرار، إلا أن تقوم البينة على تصديقة في مدعاه، أو يحلف المشتري على أنه أقبضه الثمن، وأن البائع غير صادق في ادعاء المواطاة ونفي ما أقرَّ به من قبض الثمن.

هذا إذا كان الإقرار موافقاً لما هو المصطلح، أي: كان من قوة الحجة بدرجة لا يقبل معها دعوىً على خلافه، أما إذا كان على خلاف ذلك، كأن أقر بأن هذا المال وديعة لزيد، أو أقر بإتيان الصلاة المستأجَر عليها نيابة عن المنوب عنه، ثم عدل عن إقراره، سُمع منه العدول ولو لم يُثبته، فضلاً عما لو أقام البينة على المعدول إليه.
 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية