الشّيخ ابن الجنيد الإسكافي

الشّيخ ابن الجنيد الإسكافي

نأتي على ذكر العالِم الجليل، والفقيه الكبير، الشيخ أبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد، الكاتب الإسكافي (إسكاف منطقة تقع في مدينة بعقوبة شمال العاصمة العراقية بغداد).. كان من أعلام القرن الرابع الهجري، ولم تحدِّد لنا المصادر التاريخيّة زمن ولادته، لكن وفاته كانت في العام 381 هجرية، في مدينة الريّ في جنوب العاصمة طهران، وبعض المحقّقين يقارب ولادته في العام 297هـ، ووفاته في العام 385هـ، وعلى هذا، يكون عمره ثمانيةً وثمانين عاماً حين وفاته.

له فضل كبير في تأسيس مدرسة فقهيَّة، وإن تعرّض لموجة من الانتقادات، لأخذه بالقياس، كما أُشيع، إلا أنه كان ثقةً جليلاً، ومن أبرز فقهاء الإماميّة، وله باع طويل في علم الكلام والحديث واللغة.

كان ابن الجنيد يلقَّب بالكاتب، وذلك لمهارته في فنّ الكتابة والإنشاء، وما يؤيّد ذلك، كتابه بعنوان (علم النجابة في فنّ الكتابة)، ولكنّ موهبته لم تقتصر على فنّ الكتابة، فكانت له مساهماته العالية في علومٍ شتّى، فكان الفقيه المحدّث، والأصولي المتكلّم، وصاحب الباع الطّويل في الأدب واللّغة والفهرسة والكتابة.

ويعتبر ابن الجنيد الإسكافي من متكلّمي الشيعة الكبار، تشهد له بذلك تصانيفه ومؤلّفاته الكلاميّة المتعدّدة، من بينها، كتاب في الدّفاع عن الفضل بن شاذان، المتكلّم الشيعي المشهور في القرن الهجري الثّالث، المؤمن بالمنهج الاستدلالي والتّحليلي في الفقه.

عُرِفَ عن عائلة "الجنيد" أنها عريقة بالعلم، وخرجت منها طائفة كبيرة من أعيان العلماء والكتّاب والمحدّثين، ويُستفاد من سيرة حياته، أنّه نشأ وترعرع وعاش في بغداد، ولم يخرج منها سوى في سفرٍ له إلى نيسابور العام 340 هجريّة، وذلك بشهادة تلميذه الشيخ المفيد، الذي أكّد عودته إلى بغداد بعد سفره إلى ناحية نيسابور، وكانت بغداد في ذلك الحين تعيش فترة ضعف الخلافة العباسيّة في فترة حكم البويهيّين، أيام معزّ الدّولة أحمد بن بويه، الذي كان محبّاً للعلم، وجرى بينه وبين ابن الجنيد العديد من المكاتبات...

وشهدت هذه الفترة أيضاً احتدام الصّراع بين أمراء الممالك الإسلاميّة، وتأثر المجتمع في بغداد بذلك، وهو ما أدى إلى نشوب خصومات ووقوع فتنٍ وفوضى بين شطري البيئة البغدادية الشيعة والسنة. هذه الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة المأزومة، رمت بثقلها على الحياة العامة، إذ نشطت الحياة العلمية، حيث قام كل فريق برسم الحدود وتوضيح المسائل حمايةً لمذهبه من الخرق أو الوقوع في الشبهات.. وهذا الوضع العلمي النشط في زمن ابن الجنيد، أدى إلى تنشيط حركة التأليف والتصنيف والبحث، والذي كان ابن الجنيد من أبرز رجالاتها، فلم تنحصر شهرته ومرجعيته العلمية في حدود بغداد فحسب، بل امتدت لتشمل بلاد المشرق ومصر.

ولما كان ابن الجنيد من أبرز فقهاء الإمامية في عصره، ومع كثرة مؤلفاته وتنوّع موضوعاتها، فقد تبوّأ مكانة علمية كبيرة، وشكّل مع ابن أبي عقيل العماني الشخصيتين اللامعتيْن، اللّتين شقّتا طريق الاجتهاد بحقّ، بعد أن كان الفقه قبلهما مبنياً بشكل أساس على ألفاظ الروايات عن أئمة أهل البيت(ع).

هذا وبالرّغم من اتهام البعض من العلماء له بالعمل بقاعدة القياس الأصولية المعمول بها عند أهل السنة والجماعة، واتّخاذ موقف سلبي من آرائه نتيجة لذلك، فقد تعرّضوا لآراء له في حالات معيّنة وذكروها في مصنفاتهم الفقهية، والبعض من العلماء يرى أن أصحاب الموقف السلبي من ابن الجنيد، ربما يكونون قد وقعوا في اشتباه لجهة أخذ ابن الجنيد الإسكافي بدليل القياس، والعمل به، فقد كتب الشّيخ المفيد كتاباً في الردّ عليه أسماه (الردّ على ابن الجنيد في اجتهاد الرّأي)..

وكتب في (المسائل السرورية) ـ إن تمّت نسبة الكتاب إليه ـ ما نصّه: ".. فأما كتاب أبي علي بن الجنيد، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظنّ، واستعمل فيها مذهب المخالفين من القياس الرذل، فخلط بين المنقول عن الأئمة (عليهم السلام)، وبين من قاله برأيه"...[المسائل السرورية، الشيخ المفيد، ص 73].

وتبع المفيد تلميذه المرتضى، الذي وهّن من أهمية آراء ابن الجنيد العلمية، ففي سياق ردّه على رأي الشيخ ابن الجنيد، بعدم جواز أن يشرط الواقف لنفسه بيع الوقف، قال: "لا اعتبار بابن الجنيد..".[السيد المرتضى، الانتصار، ص 47/264].

ورغم وصف الشيخ الطوسي لابن الجنيد بأنه جيّد التصنيف، إلا أنه ترك ذكر كتبه في كتاب (الفهرست)، وتجاهل آراءه الفقهية، بالرغم من كثرة مؤلفات الطوسي الفقهية.

ونذكر هنا ما كان سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) قد قاله: "وضوح قضيّة بطلان القياس عند الشيعة، يمنع من أن ننسب إلى أيّ شخص من علماء الشيعة، حتى ابن الجنيد، من أنه يقول بالقياس.. ومن الممكن جدّاً أن يكون ذهاب ابن الجنيد إلى رأي يلتقي مع القياس لا على أساس الاعتماد على القياس، بل على أساس إحراز الملاك، أو أنّه يعمل بالظنّ المطلق، ويرى حجيّته"... [في حديث لسماحته في مجلس الاستفتاء، 8/1996م].

ومع ذلك، فقد هيّأ الله تعالى من العلماء من يكشف عن مكانة ابن الجنيد، ويعيد إليه شيئاً من حقّه، ونشر فضله، ومن هؤلاء، الشّيخ ابن إدريس الحلي، الذي اهتم بكتابه (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي) وبآرائه، بل وصفه بالقول: "جليل القدر، كبير المنزلة، صنّف فأكثر"، ووصفه في موضع آخر "بأنّه من كبار فقهاء أصحابنا".. [السّرائر، ج 1، ص 428، ص 255].

كما أنّ المحقّق الحلّي نقل عن ابن الجنيد، وأشار في كتابه (المعتبر في شرح المختصر) إلى ذلك، كما اعتنى الشهيد الأوّل والثاني بآراء ابن الجنيد الفقهيّة والعلميّة.

وإذا ما جئنا إلى تحديد منهجه الفقهي، فالصّعوبة تكمن في ضياع كتبه الفقهيّة، ولا سيما كتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، المؤلف من عشرين مجلداً في الفقه الاستدلالي، لذا، بقي ما نقلته المصادر التي ذكرت آراءه الفقهية أو أشارت إليها. وما حاول به بعض العلماء من رميه بالعمل بالقياس، دفعه علماء كبار آخرون، مشيرين إلى اشتباه البعض بأنه عمل بالقياس، ومن هؤلاء، إلى جانب سماحة المرجع السيد فضل الله(رض)، السيد بحر العلوم في كتابه (الفوائد الرجالية)، والسيد الخوانساري في كتاب (روضات الجنات)، والسيد السيستاني في كتابه (الرافد في علم الأصول).

ومن الملاحظات على ابن الجنيد، التزامه الشديد بالقواعد العامة للفقه وأصوله، بغية الوصول إلى الرأي الفقهي. والمتتبِّع أيضاً لسيرته وآرائه، يعتبره بحقّ وإنصاف صاحب شخصيّةٍ علميّةٍ مستقلةٍّ، بعيدة كلّ البعد عن التأثّر بالمشهور وما يتوجّه إليه جمهور الفقهاء، وفي ذلك كلّ الجرأة والشّجاعة، فما يُرجّح لديه من الأدلّة يأخذ بها، ولا يأبه إن كانت مخالفةً لما هو مشهور بين فقهاء الإماميّة، وما يلاحظه البعض على منهج ابن الجنيد الفقهيّ، أنّ عدم عمل فقهاء الإماميّة برواية، لا يمثّل، بحسب رأي الشيخ ابن الجنيد، قرينةً على ضعفها، إذا ما قامت عنده قرائن على صحّتها.

وما يُسجّل له هو القدرة الفقهيّة الفائقة على تفريع بعض المسائل الفقهية، وتفصيل أحكامها بطريقة غير معروفة عند غيره من الفقهاء التقليديين.

يذكر أنّه كان لهذا الفقيه المبدع الكثير من التلامذة والمشايخ الّذين رووا عنه، ومن هؤلاء:

1 ـ الشيخ المفيد، محمد بن النعمان (المتوفى العام 413هـ).

2 ـ الحسين بن عبدالله الغضائري (المتوفى العام 411هـ).

3 ـ أحمد بن عبد الواحد بن عبدون.

4 ـ الرجالي الكبير أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (المتوفى العام 450هـ)، حيث روى عن شيوخه الحسين بن عبيدالله الغضائري، والشيخ المفيد، وسائر مشايخه الثقات المجاز عنهم رواية كتب ابن الجنيد ومصنفاته، كما صرّح به النجاشي.

5 ـ جميع مشايخ النجاشي الذين أجازهم ابن الجنيد، وأجازوا النجاشي رواية مصنفاته.

6 ـ الشيخ الطوسي محمد بن الحسن (المتوفى العام 460هـ).

7 ـ الشيخ الأجلّ هارون بن موسى التلعكبري.

وله عشرات المؤلفات في الفقه والأصول والكلام وغيرها من العلوم:

ـ كتاب تهذيب الأحكام (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، وهو كتاب واسع جداً، قلّ نظيره في كتب القدماء، وعدد مجلداته عشرون مجلداً، حاوٍ لأبواب الفقه من الطهارة إلى الديّات، ويعدّ هذا الكتاب من التراث المفقود لابن الجنيد، وهو كتاب يتناول كلّ موضوعات الفقه بطريقة استدلالية مميزة.

ـ كتاب "الأحمدي للفقه المحمدي"، كتاب "تبصرة العارف ونقد الزائف"، وغير ذلك من الكتب الفقهيّة التي ضمّت آلاف المسائل والعناوين.

وله مؤلفات في أصول الفقه، منها: "المسائل المصرية"، "كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس"، "الفسخ على من أجاز الفسخ لما تم نفعه وجَمُل شرعه".. وله العديد من المؤلفات في الكلام، منها: كتاب "التحرير والتقرير"، كتاب "الألفة"، كتاب "خلاص المبتدئين من حيرة المجادلين"، "تنبيه الساهي بالعلم الإلهي"، وغيرها.. وله كتب في علم الكتابة واللغة والفهارس وغير ذلك.

ومن أقوال العلماء بحقّه، والتي اتفقت كلماتهم على وثاقته وجلالة قدره، ما قاله الشيخ النجاشي في ترجمته: "وجه أصحابنا، ثقة جليل القدر، صنّف فأكثر..."، وقال العلامة الحلّي في (خلاصة الأقوال): "كان شيخ الإماميّة، جيّد التصنيف حسنه، وجه في أصحابنا، ثقة جليل القدر، صنّف فأكثر...".

ووصفه النديم البغدادي في (الفهرست)، بأنّه "من أكابر الإماميّة، قريب العهد".

هذا بعض من سيرة عالم فذٍّ وجليل، قدّم في مسيرته الكثير من المساهمات الفكرية والعلمية التي أغنت مرحلته والمراحل التي تلتها إلى يومنا هذا، وشكّل حالة علمية ومدرسة فكرية واجتهادية فريدة ومميزة.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .


نأتي على ذكر العالِم الجليل، والفقيه الكبير، الشيخ أبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد، الكاتب الإسكافي (إسكاف منطقة تقع في مدينة بعقوبة شمال العاصمة العراقية بغداد).. كان من أعلام القرن الرابع الهجري، ولم تحدِّد لنا المصادر التاريخيّة زمن ولادته، لكن وفاته كانت في العام 381 هجرية، في مدينة الريّ في جنوب العاصمة طهران، وبعض المحقّقين يقارب ولادته في العام 297هـ، ووفاته في العام 385هـ، وعلى هذا، يكون عمره ثمانيةً وثمانين عاماً حين وفاته.

له فضل كبير في تأسيس مدرسة فقهيَّة، وإن تعرّض لموجة من الانتقادات، لأخذه بالقياس، كما أُشيع، إلا أنه كان ثقةً جليلاً، ومن أبرز فقهاء الإماميّة، وله باع طويل في علم الكلام والحديث واللغة.

كان ابن الجنيد يلقَّب بالكاتب، وذلك لمهارته في فنّ الكتابة والإنشاء، وما يؤيّد ذلك، كتابه بعنوان (علم النجابة في فنّ الكتابة)، ولكنّ موهبته لم تقتصر على فنّ الكتابة، فكانت له مساهماته العالية في علومٍ شتّى، فكان الفقيه المحدّث، والأصولي المتكلّم، وصاحب الباع الطّويل في الأدب واللّغة والفهرسة والكتابة.

ويعتبر ابن الجنيد الإسكافي من متكلّمي الشيعة الكبار، تشهد له بذلك تصانيفه ومؤلّفاته الكلاميّة المتعدّدة، من بينها، كتاب في الدّفاع عن الفضل بن شاذان، المتكلّم الشيعي المشهور في القرن الهجري الثّالث، المؤمن بالمنهج الاستدلالي والتّحليلي في الفقه.

عُرِفَ عن عائلة "الجنيد" أنها عريقة بالعلم، وخرجت منها طائفة كبيرة من أعيان العلماء والكتّاب والمحدّثين، ويُستفاد من سيرة حياته، أنّه نشأ وترعرع وعاش في بغداد، ولم يخرج منها سوى في سفرٍ له إلى نيسابور العام 340 هجريّة، وذلك بشهادة تلميذه الشيخ المفيد، الذي أكّد عودته إلى بغداد بعد سفره إلى ناحية نيسابور، وكانت بغداد في ذلك الحين تعيش فترة ضعف الخلافة العباسيّة في فترة حكم البويهيّين، أيام معزّ الدّولة أحمد بن بويه، الذي كان محبّاً للعلم، وجرى بينه وبين ابن الجنيد العديد من المكاتبات...

وشهدت هذه الفترة أيضاً احتدام الصّراع بين أمراء الممالك الإسلاميّة، وتأثر المجتمع في بغداد بذلك، وهو ما أدى إلى نشوب خصومات ووقوع فتنٍ وفوضى بين شطري البيئة البغدادية الشيعة والسنة. هذه الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة المأزومة، رمت بثقلها على الحياة العامة، إذ نشطت الحياة العلمية، حيث قام كل فريق برسم الحدود وتوضيح المسائل حمايةً لمذهبه من الخرق أو الوقوع في الشبهات.. وهذا الوضع العلمي النشط في زمن ابن الجنيد، أدى إلى تنشيط حركة التأليف والتصنيف والبحث، والذي كان ابن الجنيد من أبرز رجالاتها، فلم تنحصر شهرته ومرجعيته العلمية في حدود بغداد فحسب، بل امتدت لتشمل بلاد المشرق ومصر.

ولما كان ابن الجنيد من أبرز فقهاء الإمامية في عصره، ومع كثرة مؤلفاته وتنوّع موضوعاتها، فقد تبوّأ مكانة علمية كبيرة، وشكّل مع ابن أبي عقيل العماني الشخصيتين اللامعتيْن، اللّتين شقّتا طريق الاجتهاد بحقّ، بعد أن كان الفقه قبلهما مبنياً بشكل أساس على ألفاظ الروايات عن أئمة أهل البيت(ع).

هذا وبالرّغم من اتهام البعض من العلماء له بالعمل بقاعدة القياس الأصولية المعمول بها عند أهل السنة والجماعة، واتّخاذ موقف سلبي من آرائه نتيجة لذلك، فقد تعرّضوا لآراء له في حالات معيّنة وذكروها في مصنفاتهم الفقهية، والبعض من العلماء يرى أن أصحاب الموقف السلبي من ابن الجنيد، ربما يكونون قد وقعوا في اشتباه لجهة أخذ ابن الجنيد الإسكافي بدليل القياس، والعمل به، فقد كتب الشّيخ المفيد كتاباً في الردّ عليه أسماه (الردّ على ابن الجنيد في اجتهاد الرّأي)..

وكتب في (المسائل السرورية) ـ إن تمّت نسبة الكتاب إليه ـ ما نصّه: ".. فأما كتاب أبي علي بن الجنيد، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظنّ، واستعمل فيها مذهب المخالفين من القياس الرذل، فخلط بين المنقول عن الأئمة (عليهم السلام)، وبين من قاله برأيه"...[المسائل السرورية، الشيخ المفيد، ص 73].

وتبع المفيد تلميذه المرتضى، الذي وهّن من أهمية آراء ابن الجنيد العلمية، ففي سياق ردّه على رأي الشيخ ابن الجنيد، بعدم جواز أن يشرط الواقف لنفسه بيع الوقف، قال: "لا اعتبار بابن الجنيد..".[السيد المرتضى، الانتصار، ص 47/264].

ورغم وصف الشيخ الطوسي لابن الجنيد بأنه جيّد التصنيف، إلا أنه ترك ذكر كتبه في كتاب (الفهرست)، وتجاهل آراءه الفقهية، بالرغم من كثرة مؤلفات الطوسي الفقهية.

ونذكر هنا ما كان سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) قد قاله: "وضوح قضيّة بطلان القياس عند الشيعة، يمنع من أن ننسب إلى أيّ شخص من علماء الشيعة، حتى ابن الجنيد، من أنه يقول بالقياس.. ومن الممكن جدّاً أن يكون ذهاب ابن الجنيد إلى رأي يلتقي مع القياس لا على أساس الاعتماد على القياس، بل على أساس إحراز الملاك، أو أنّه يعمل بالظنّ المطلق، ويرى حجيّته"... [في حديث لسماحته في مجلس الاستفتاء، 8/1996م].

ومع ذلك، فقد هيّأ الله تعالى من العلماء من يكشف عن مكانة ابن الجنيد، ويعيد إليه شيئاً من حقّه، ونشر فضله، ومن هؤلاء، الشّيخ ابن إدريس الحلي، الذي اهتم بكتابه (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي) وبآرائه، بل وصفه بالقول: "جليل القدر، كبير المنزلة، صنّف فأكثر"، ووصفه في موضع آخر "بأنّه من كبار فقهاء أصحابنا".. [السّرائر، ج 1، ص 428، ص 255].

كما أنّ المحقّق الحلّي نقل عن ابن الجنيد، وأشار في كتابه (المعتبر في شرح المختصر) إلى ذلك، كما اعتنى الشهيد الأوّل والثاني بآراء ابن الجنيد الفقهيّة والعلميّة.

وإذا ما جئنا إلى تحديد منهجه الفقهي، فالصّعوبة تكمن في ضياع كتبه الفقهيّة، ولا سيما كتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، المؤلف من عشرين مجلداً في الفقه الاستدلالي، لذا، بقي ما نقلته المصادر التي ذكرت آراءه الفقهية أو أشارت إليها. وما حاول به بعض العلماء من رميه بالعمل بالقياس، دفعه علماء كبار آخرون، مشيرين إلى اشتباه البعض بأنه عمل بالقياس، ومن هؤلاء، إلى جانب سماحة المرجع السيد فضل الله(رض)، السيد بحر العلوم في كتابه (الفوائد الرجالية)، والسيد الخوانساري في كتاب (روضات الجنات)، والسيد السيستاني في كتابه (الرافد في علم الأصول).

ومن الملاحظات على ابن الجنيد، التزامه الشديد بالقواعد العامة للفقه وأصوله، بغية الوصول إلى الرأي الفقهي. والمتتبِّع أيضاً لسيرته وآرائه، يعتبره بحقّ وإنصاف صاحب شخصيّةٍ علميّةٍ مستقلةٍّ، بعيدة كلّ البعد عن التأثّر بالمشهور وما يتوجّه إليه جمهور الفقهاء، وفي ذلك كلّ الجرأة والشّجاعة، فما يُرجّح لديه من الأدلّة يأخذ بها، ولا يأبه إن كانت مخالفةً لما هو مشهور بين فقهاء الإماميّة، وما يلاحظه البعض على منهج ابن الجنيد الفقهيّ، أنّ عدم عمل فقهاء الإماميّة برواية، لا يمثّل، بحسب رأي الشيخ ابن الجنيد، قرينةً على ضعفها، إذا ما قامت عنده قرائن على صحّتها.

وما يُسجّل له هو القدرة الفقهيّة الفائقة على تفريع بعض المسائل الفقهية، وتفصيل أحكامها بطريقة غير معروفة عند غيره من الفقهاء التقليديين.

يذكر أنّه كان لهذا الفقيه المبدع الكثير من التلامذة والمشايخ الّذين رووا عنه، ومن هؤلاء:

1 ـ الشيخ المفيد، محمد بن النعمان (المتوفى العام 413هـ).

2 ـ الحسين بن عبدالله الغضائري (المتوفى العام 411هـ).

3 ـ أحمد بن عبد الواحد بن عبدون.

4 ـ الرجالي الكبير أبو العباس أحمد بن علي النجاشي (المتوفى العام 450هـ)، حيث روى عن شيوخه الحسين بن عبيدالله الغضائري، والشيخ المفيد، وسائر مشايخه الثقات المجاز عنهم رواية كتب ابن الجنيد ومصنفاته، كما صرّح به النجاشي.

5 ـ جميع مشايخ النجاشي الذين أجازهم ابن الجنيد، وأجازوا النجاشي رواية مصنفاته.

6 ـ الشيخ الطوسي محمد بن الحسن (المتوفى العام 460هـ).

7 ـ الشيخ الأجلّ هارون بن موسى التلعكبري.

وله عشرات المؤلفات في الفقه والأصول والكلام وغيرها من العلوم:

ـ كتاب تهذيب الأحكام (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، وهو كتاب واسع جداً، قلّ نظيره في كتب القدماء، وعدد مجلداته عشرون مجلداً، حاوٍ لأبواب الفقه من الطهارة إلى الديّات، ويعدّ هذا الكتاب من التراث المفقود لابن الجنيد، وهو كتاب يتناول كلّ موضوعات الفقه بطريقة استدلالية مميزة.

ـ كتاب "الأحمدي للفقه المحمدي"، كتاب "تبصرة العارف ونقد الزائف"، وغير ذلك من الكتب الفقهيّة التي ضمّت آلاف المسائل والعناوين.

وله مؤلفات في أصول الفقه، منها: "المسائل المصرية"، "كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس"، "الفسخ على من أجاز الفسخ لما تم نفعه وجَمُل شرعه".. وله العديد من المؤلفات في الكلام، منها: كتاب "التحرير والتقرير"، كتاب "الألفة"، كتاب "خلاص المبتدئين من حيرة المجادلين"، "تنبيه الساهي بالعلم الإلهي"، وغيرها.. وله كتب في علم الكتابة واللغة والفهارس وغير ذلك.

ومن أقوال العلماء بحقّه، والتي اتفقت كلماتهم على وثاقته وجلالة قدره، ما قاله الشيخ النجاشي في ترجمته: "وجه أصحابنا، ثقة جليل القدر، صنّف فأكثر..."، وقال العلامة الحلّي في (خلاصة الأقوال): "كان شيخ الإماميّة، جيّد التصنيف حسنه، وجه في أصحابنا، ثقة جليل القدر، صنّف فأكثر...".

ووصفه النديم البغدادي في (الفهرست)، بأنّه "من أكابر الإماميّة، قريب العهد".

هذا بعض من سيرة عالم فذٍّ وجليل، قدّم في مسيرته الكثير من المساهمات الفكرية والعلمية التي أغنت مرحلته والمراحل التي تلتها إلى يومنا هذا، وشكّل حالة علمية ومدرسة فكرية واجتهادية فريدة ومميزة.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية