ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
شهر رمضان:
شهر الثّقافة والتربية الروحيّة
الاختلاف في بداية الشّهر
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]. ولا نزال على رأينا بأنّ هذا اليوم هو أوّل أيام شهر رمضان المبارك، والاختلاف بين رأينا ورأي العلماء من السنّة والشّيعة، إنما هو في المنهج، فهم يعتمدون على الرؤية، ونحن نعتمد على الحسابات الفلكيّة الدّقيقة التي لا تخطئ أبداً؛ ولكلٍّ رأيه وتكليفه.
شهر البركة والمغفرة
عندما يُقبل علينا شهر رمضان، فإنّنا نستوحي من كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه(ص)، أنّ هذا الشهر يُراد من خلاله إيجاد منهجٍ تربويّ ثقافيّ روحيّ يمتدّ إلى السنة كلّها، وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام عليّ(ع) في يوم العيد: "وكلّ يومٍ لا يُعصَى الله فيه فهو عيد".
وعن عليّ(ع) قال: إنّ رسول الله(ص) خطَبنا ذات يوم (لم يحدّد اليوم الذي كانت فيه هذه الخطبة)، فقال: "أيّها النّاس، إنَّه قد أقبل إليكم شهر الله ـ وكلّ الشّهور لله، لأنّ الله هو خالق الزّمن، ولكنّ هناك شهراً أراد الله للنّاس أن يرجعوا فيه إليه، بحيث تكون عقولهم وقلوبهم وحياتهم لله، فلا يكون للإنسان فيه شيء لغير الله ـ بالبركة والرّحمة والمغفرة ـ فالله الرّحمن الرّحيم يبارك عباده في هذا الشّهر ويمنحهم بركته. وبركة الله إذا فاضت على الإنسان، فإنها تمثّل السعادة كلّ السّعادة، والله يُفيض من رحمته في هذا الشّهر ما لا يفيضه في أيّ شهر آخر. ورحمته هي أن يرحم كلّ حركة الإنسان في الحياة، ليلطف به، ويسهّل له أموره، ويجعل له من أمره يسراً. والله تعالى يغفر في هذا الشّهر في كلّ ليلة لمن يستغفره، ويمتدّ غفران الله للخاطئين المذنبين.
ولذلك، فإنّ هذا الشّهر جاء محمَّلاً بالبركة والرّحمة والمغفرة، وعلينا أن نستفيد من ذلك، لأنّه يقرّبنا إلى الله أكثر، ويجعلنا في محبّة الله أكثر، لنحبّ الله أكثر ـ شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضل السّاعات ـ فهو يتميّز في أيّامه ولياليه وساعاته عن كلّ الشّهور الأخرى في أيّامها ولياليها وساعاتها.
ضيافة الله
ـ هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله ـ فالله بسط لنا في هذا الشّهر مائدته الواسعة الفسيحة اللّذيذة، وهذه المائدة ليست مائدةً يملأ فيها الإنسان معدته، ولكنّها مائدة يعيش الإنسان فيها ليغذّي عقله بالحقّ، وقلبه بالخير، وحياته بالتّقوى ـ وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله ـ فالله جعل الكرامة لعباده في هذا الشّهر، فهو يمنحهم الكرامة التي ترتفع بإنسانيّة الإنسان، وهذا ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:70]، وتكريم الله لبني آدم في هذا الشّهر هو أفضل تكريم.
فضل الصّيام في شهر رمضان
ـ أنفاسكم فيه تسبيح ـ فالله يسجّل أنفاسنا تسابيح، وإن لم ننطق بأيّ تسبيحات ـ ونومكم فيه عبادة ـ فعندما ينام الصّائم من أجل أن يستقوي بنومه على عبادته، فإنّ الله يعتبره في حال عبادة ـ وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب ـ فالله يقبل كلَّ أعمالنا الصّالحة، ويستمع إلى أدعيتنا في حاجاتنا وآلامنا وهمومنا، ويستجيب لنا، فإذا دخلتم هذا الشّهر فانفتحوا على الله.
ـ فاسألوا الله ربَّكم بِنِيّاتٍ صادقة ـ ليكنْ دعاؤكم دعاء الصّدق، ونيّتكم نيّة الصّدق ـ وقلوبٍ طاهرة ـ ليس فيها حقدٌ أو شركٌ أو عداوةٌ أو بغضاء، بل فيها الخير كلّه والمحبّة كلّها ـ أن يوفّقكم لصيامه ـ لأنّ الصّيام لمن استطاع جُنّةٌ من النّار ـ وتلاوة كتابه ـ لأنّ الله أراد للقرآن أن يكون منهجاً يغذّي فيه الإنسان ثقافته الرّوحيّة والأخلاقيّة وحركته العمليّة. ولذلك، فإنّ علينا أن نقرأ القرآن قراءة تدبّر ـ فإنّ الشقيّ مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم"، لأنّ هذا الشّهر هو شهر الموسم، فلو خسر الإنسان في الموسم، فكيف يربح في خارجه؟!
واجبات الصّائم الأخلاقيّة
ثم إنّ النبيّ(ص) يريد لنا في صيامنا هذا الّذي نعيش فيه الجوع والعطش، أن نذكر موقفنا أمام الله يوم القيامة، في لحظات الحساب، حيث قد يمتدّ جوع الإنسان وعطشه. فتذكّرْ في جوعك في الدّنيا، في أثناء الصّيام، جوع يوم القيامة، حتى تختصر ذلك الجوع إذا أخلصت لله. يقول(ص):
"واذكروا بجوعكم وعطشكم، فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم ـ فإذا أحسستم بالجوع، عرفتم كيف يمكن أن يكون هناك أناس يشعرون بالجوع ـ ووقِّروا كباركم ـ لأنّ الكبير عاش إسلامه قبلكم، وعاش التّجربة قبل تجربتكم. وليس المقصود أن تطيعوا الكبير في كلّ شيء، بل أن تحترموه ـ وارحموا صغاركم ـ ارحموا قلّة تجربتهم وضيق آفاقهم إذا أخطؤوا ـ وصِلوا أرحامكم ـ فإنّ صلة الرّحم تطيل العمر وتقرّب إلى الله ـ واحفظوا ألسنتكم ـ احفظوها من الغيبة والنّميمة والفحش وما إلى ذلك.
ـ وغُضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم ـ فهناك أشياء لا يريد الله للإنسان أن يسمعها، كما في الأغاني التي تثير الشّهوات والغرائز وتشجّع الباطل ـ وتحنّنوا على أيتام الناس ـ هناك أيتام في المجتمع، وعليكم أن تشعروا بالمسؤوليّة لرعايتهم وتربيتهم والعناية بهم، حتى تكونوا بمنـزلة آبائهم، وقد كان من وصيّة عليّ(ع) في آخر حياته: "الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم".
ـ يُتحنَّنْ على أيتامكم. وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ـ فليستحضر كلّ واحد منكم ذنوبه، ويطلب من الله أن يغفرها له، وأن يعفو عنه، وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلاتكم، فإنها أفضل السّاعات ـ فالإنسان يعرج من خلال الصّلاة بروحه إلى الله، وإذا كان الإنسان قريباً إلى الله، فعليه أن يطلب منه ما يحتاجه، وأن يدعوه ويبتهل إليه ـ ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجَوْه ـ المناجاة الخالصة التي تنطلق من القلب ـ ويُلبّيهم إذا نادَوْه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعَوْه.
أيّها النّاس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ وهذا ما قاله الله في القرآن: }كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{[المدّثر:38] ـ ففكّوها باستغفاركم ـ كما تدفع مالاً من أجل أن تفكّ رهنك عند النّاس، كذلك أنتم مديونون ومرهونون عند الله، وعليكم أن تستغفروا الله لكي تفكّوا رهنكم ـ وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والسّاجدين، وأن لا يروِّعَهم بالنّار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
أيّها الناس، من فَطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهرـ والمقصود أن تدعوه إلى بيتك أو تقدّم إليه إفطاراً كاملاً، ولا سيّما إذا كان من الفقراء ـ كان له بذلك عند الله عتقُ نسمة، ومغفرةٌ لما مضى من ذنوبه.
أيّها النّاس، من حَسَّن منكم في هذا الشّهر خلقه ـ بعض النّاس لا يحتمل أن يتكلّم معه أحد بحجّة أنه صائم، فأنت كما تصوم عن الأكل والشرب، عليك أن تصوم عن الغضب وعن ظلم الآخرين ـ كان له جوازاً على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومَنْ خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينه ـ إذا كان عندنا موظّفون، فإنّ علينا أن نخفّف عن موظّفينا وعمّالنا إذا كانوا صائمين ـ خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة ـ صلاة مستحبّة ـ كتب الله له براءة من النّار، ومن أدّى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدّى سبعين فريضةً فيما سواه من الشّهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عَليَّ، ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور.
أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة، فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عنكم ـ بذنوبكم ومعاصيكم ـ وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم".
أفضل الأعمال في هذا الشهر
قال أمير المؤمنين(ع): "فقمْتُ فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشّهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشّهر الورع عن محارم الله"، أن تضبط نفسك فتتورّع، ولا تأتي بأيّ حرامٍ من محارم الله.
هذا الشّهر الفضيل هو شهرٌ تربويّ روحيّ نحاول أن نحصل من خلاله على مواقع أقرب إلى الله، ونعمل على أساس الخير كلّه للنّاس، وعلينا أن نجتهد لنحصل على كلّ فيوضاته ومكاسبه وكلّ ما يقرّبنا إلى الله تعالى، لننتفع بذلك في يوم العرض
على الله والوقوف بين يديه،{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء:88ـ89].
الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
فلسطين مظهر الصّراع مع الغرب
يطلّ شهر رمضان المبارك على الأمّة، والعالم الإسلاميّ يظهر كساحةٍ للحروب، وكمسرحٍ للعمليّات القتاليّة، إضافةً إلى أنّ العالم كلّه أصبح في منأى من الاحتلال، بينما بقي الاحتلال جاثماً على أرض العرب والمسلمين في أكثر من موقعٍ من مواقعها.
وهكذا، تبرز صورة العالم الإسلاميّ من فلسطين المحتلة التي ينهش الاستيطان البقيّة الباقية من جسدها، وحيث يُقسم وزراء حكومة العدوّ على الولاء للاستيطان، فيما يُقسم المسؤولون العرب من قلب العاصمة الأمريكيّة على الوفاء بالتزاماتهم بالسّير في خطّ التّطبيع قدماً، ولا يتورّع أحدهم عن الثّناء على رئيس حكومة العدوّ، ومن ثمّ تقديم النّصائح إلى العدوّ بعدم مهاجمة إيران في هذه المرحلة، بحجّة أنّ "الهجوم العسكريّ سيوحّد الإيرانيين خلف قيادتهم"، كما نُقل عنه.
الإدارة الأمريكيّة: الدّعم المطلق لإسرائيل
أمّا الإدارة الأمريكيّة التي أوهمت البعض بأنها ستقترب قليلاً من ملامسة الحقوق العربيّة والفلسطينيّة، فقد واصلت ملاحقة كلّ من يرسل أموال الزّكاة والتبرعات إلى الفلسطينيين وأودعتهم السّجون، في الوقت الذي منحت الهيئات الأمريكيّة الداعمة للإسرائيليين والعاملة على تشجيع الاستيطان في القدس الشرقيّة تحديداً، تسهيلات ضريبية بحجة تسهيل عمل الهيئات التربوية والمشاريع الاجتماعية.
وهكذا، تقف القضيّة الفلسطينيّة أمام مشهدٍ جديدٍ عنوانه تقديم منطق الاستيطان اليهودي على منطق حقّ العودة، ومنطق التفاوض الذي لا طريق غيره ـ كما صرّح بذلك رئيس السلطة الفلسطينية نفسه ـ على منطق الرفض والمواجهة والمقاومة.
لقد ابتُليت الأمّة بعدوّ حاقد، وبمحاور دولية متآمرة، كما ابتُليت بهذه النوعيّة من القيادات التي تعبت من قضيّة فلسطين من دون أن تبذل جهداً يُذكَر حيالها، وتريد للشعوب أن تسلّم بأنّ عليها التحرّر من هذه القضيّة، وأن تقبل بما يقدّمه الاحتلال إليها، حتى في الوقت الذي أثبتت هذه الشعوب أنها قادرة على هزيمة المحتلّ عند أوّل فرصة أُتيحت لها، وفي أوّل سانحة برزت أمامها.
العراق: نزيف الفتنة الداخليّة
أمّا العراق الذي تُلاحِق فيه التّفجيرات الإجراميّة الناس في الشوارع وأماكن العمل وفي التجمّعات الشعبية، فقد بشّره الرئيس الأمريكي بمزيدٍ من العنف العبثيّ كما قال، لتستمر طاحونة القتل والدمار في القيام بدورها لحساب المحتلّ، ولحساب بعض المحاور التي تريد للعراقيّين أن يكتووا بنيران الفتنة الداخلية، وتُفضّل أن ينقسموا على أنفسهم وفي مواقعهم الشعبية والسياسية، على أن يتوحّدوا تحت لافتة الدولة الموحَّدة، لأنها لا ترتاح لهذه الدولة ولا لقياداتها وشخصيّاتها.
وفي هذا الجوّ، نريد للعراقيين أن يعملوا كفريق وطنيّ وكفريق إسلاميّ، لقطع الطريق على دعاة الانقسام ومثيري الفتنة، فيكونوا يداً واحدةً تستمدّ قوّتها من وحدة الصف، وتنطلق في رحاب هذا الشّهر المبارك ومعانيه ومفاهيمه، لتعمل لقيام العراق الحرّ السيّد المستقلّ النابذ للاحتلال والطّارد للفتنة، والملاحِق للقتلة والمجرمين.
أفغانستان: فوضى الاحتلال
أمّا أفغانستان الداخلة إلى الانتخابات من أتون الاحتلال الذي يواصل قصفه لبيوت الفقراء، فيقتل عائلات بكاملها كلّما أُصيب بنكسة ميدانيّة، فقد دخلت في متاهات الفوضى الأمنية والسياسية التي لا سبيل للشعب الأفغاني إلى الخروج منها، لا من خلال محطّة الانتخابات ولا من خلال غيرها، ولا قرار للمحتلّ بالخروج من مستنقعها الدامي، حيث لا يريد للأفغانيين أن ينعموا بالحرية، لأنّ أطماعه ومصالحه تقتضي السير قدماً في طريق الهيمنة والاحتلال.
اليمن: الدخول في متاهة الانقسام
ونصل إلى اليمن الذي دخل في دوّامة الحرب الداخليّة التي تهدّد بتصاعد دعوات الانفصال، وتفسح في المجال لمزيد من الانقسامات التي يتداخل فيها العنوان السياسي بعناوين أخرى معقّدة تجعل البلد يطلّ على مرحلة صعبة وخطيرة، تسقط معها الوساطات الداخلية والخارجية، بينما تواصل الطائرات والدبابات والمدافع عملها، وتفرض منطقها الدامي على منطق الحوار الذي نريد للسلطة اليمنية أن تنطلق فيه دونما كلل أو ملل، كما نريد للآخرين الاستجابة له، فقد سبق لليمن أن طرح مبادرته في مسألة الحوار الفلسطيني الداخلي، ونحن لا نفهم كيف تنطلق مبادرة من هذا النّوع وتسقط كلّ الدعوات لمبادرات داخليّة حقيقيّة تُنهي الصراع الدامي في صعدة، وتعيد اليمن إلى أجواء الوحدة والأمن والاستقرار؟!
العالم الإسلامي: المشهد الدامي
إنّ هذا المشهد الدامي مع إطلالة شهر رمضان المبارك، والذي تتداخل فيه صُوَر التقاتل في الشّوارع الصومالية مع ما حدث في غزّة قبل أيام، مع كلّ تلك الدعوات التي يسلك أصحابها خطّ الانتقام من المسلمين والمصلّين والصّائمين في هذا الشّهر، يستدعي وقفةً إسلاميّةً وصدمةً ميدانيّةً تدعو إلى التّساؤل حول الخطوط الطّارئة على الأمّة أمام هذا الواقع الذي كان نتيجةً طبيعيةً للاحتلال الخارجي والظّلم الداخلي الذي تعيشه شعوبنا إلى جانب الجهل أحياناً والأحقاد العصبيّة أحياناً أخرى.
استمرار الأزمة المعيشيّة في لبنان
فإذا وصلنا إلى لبنان، الذي تبشّر آخر الدراسات فيه بأنّ الكهرباء تحتاج إلى ما يزيد على الثلاثة مليارات وثلاث سنوات كي يتحسّن وضعها فحسب، والدّولة تحتاج إلى مليارات أخرى لتحسين أوضاع الوزارات والإدارات والمؤسّسات، إنّنا أمام ذلك نسأل عن السّبب في كلّ هذه الاستماتة على هذه الوزارة أو تلك، وعن تمسّك هذا الفريق أو ذاك بمطالبه أمام دولة مفلسة، من دون أن يعمل الكثيرون ممّن تعاقبوا على الحكم فيها بأدنى مستوى من الجدّية لرفع كابوس الظّلام عن كاهلها، أو أن يعملوا جديّاً لجعل عجلتها الاقتصادية تدور فعلياً بما قد يفسح في المجال لدوران عجلتها السياسيّة بشكل أفضل.
أيّها المسؤولون في لبنان، يا من يهتف لهم النّاس بكرةً وأصيلاً، إذا كانت العداوة فيما بينكم متأصّلة إلى هذا الحدّ، وإذا كانت الدولة بعيدةً عن حركتكم على مستوى الذهنيّة والمنهج، وإذا لم يكن لكم من طاقة لمواجهة المشاكل التي استولدتها شخصانيّتكم وحركتكم؛ فاستريحوا أو استقيلوا، أو مارسوا شيئاً من الصوم الحقيقي الذي يجعلكم تتطهّرون من الرذيلة السياسيّة التي أفسدت الواقع، ووحّلت الذّهنيّات، وأنهكت البلد.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
شهر رمضان:
شهر الثّقافة والتربية الروحيّة
الاختلاف في بداية الشّهر
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]. ولا نزال على رأينا بأنّ هذا اليوم هو أوّل أيام شهر رمضان المبارك، والاختلاف بين رأينا ورأي العلماء من السنّة والشّيعة، إنما هو في المنهج، فهم يعتمدون على الرؤية، ونحن نعتمد على الحسابات الفلكيّة الدّقيقة التي لا تخطئ أبداً؛ ولكلٍّ رأيه وتكليفه.
شهر البركة والمغفرة
عندما يُقبل علينا شهر رمضان، فإنّنا نستوحي من كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه(ص)، أنّ هذا الشهر يُراد من خلاله إيجاد منهجٍ تربويّ ثقافيّ روحيّ يمتدّ إلى السنة كلّها، وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام عليّ(ع) في يوم العيد: "وكلّ يومٍ لا يُعصَى الله فيه فهو عيد".
وعن عليّ(ع) قال: إنّ رسول الله(ص) خطَبنا ذات يوم (لم يحدّد اليوم الذي كانت فيه هذه الخطبة)، فقال: "أيّها النّاس، إنَّه قد أقبل إليكم شهر الله ـ وكلّ الشّهور لله، لأنّ الله هو خالق الزّمن، ولكنّ هناك شهراً أراد الله للنّاس أن يرجعوا فيه إليه، بحيث تكون عقولهم وقلوبهم وحياتهم لله، فلا يكون للإنسان فيه شيء لغير الله ـ بالبركة والرّحمة والمغفرة ـ فالله الرّحمن الرّحيم يبارك عباده في هذا الشّهر ويمنحهم بركته. وبركة الله إذا فاضت على الإنسان، فإنها تمثّل السعادة كلّ السّعادة، والله يُفيض من رحمته في هذا الشّهر ما لا يفيضه في أيّ شهر آخر. ورحمته هي أن يرحم كلّ حركة الإنسان في الحياة، ليلطف به، ويسهّل له أموره، ويجعل له من أمره يسراً. والله تعالى يغفر في هذا الشّهر في كلّ ليلة لمن يستغفره، ويمتدّ غفران الله للخاطئين المذنبين.
ولذلك، فإنّ هذا الشّهر جاء محمَّلاً بالبركة والرّحمة والمغفرة، وعلينا أن نستفيد من ذلك، لأنّه يقرّبنا إلى الله أكثر، ويجعلنا في محبّة الله أكثر، لنحبّ الله أكثر ـ شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضل السّاعات ـ فهو يتميّز في أيّامه ولياليه وساعاته عن كلّ الشّهور الأخرى في أيّامها ولياليها وساعاتها.
ضيافة الله
ـ هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله ـ فالله بسط لنا في هذا الشّهر مائدته الواسعة الفسيحة اللّذيذة، وهذه المائدة ليست مائدةً يملأ فيها الإنسان معدته، ولكنّها مائدة يعيش الإنسان فيها ليغذّي عقله بالحقّ، وقلبه بالخير، وحياته بالتّقوى ـ وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله ـ فالله جعل الكرامة لعباده في هذا الشّهر، فهو يمنحهم الكرامة التي ترتفع بإنسانيّة الإنسان، وهذا ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:70]، وتكريم الله لبني آدم في هذا الشّهر هو أفضل تكريم.
فضل الصّيام في شهر رمضان
ـ أنفاسكم فيه تسبيح ـ فالله يسجّل أنفاسنا تسابيح، وإن لم ننطق بأيّ تسبيحات ـ ونومكم فيه عبادة ـ فعندما ينام الصّائم من أجل أن يستقوي بنومه على عبادته، فإنّ الله يعتبره في حال عبادة ـ وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب ـ فالله يقبل كلَّ أعمالنا الصّالحة، ويستمع إلى أدعيتنا في حاجاتنا وآلامنا وهمومنا، ويستجيب لنا، فإذا دخلتم هذا الشّهر فانفتحوا على الله.
ـ فاسألوا الله ربَّكم بِنِيّاتٍ صادقة ـ ليكنْ دعاؤكم دعاء الصّدق، ونيّتكم نيّة الصّدق ـ وقلوبٍ طاهرة ـ ليس فيها حقدٌ أو شركٌ أو عداوةٌ أو بغضاء، بل فيها الخير كلّه والمحبّة كلّها ـ أن يوفّقكم لصيامه ـ لأنّ الصّيام لمن استطاع جُنّةٌ من النّار ـ وتلاوة كتابه ـ لأنّ الله أراد للقرآن أن يكون منهجاً يغذّي فيه الإنسان ثقافته الرّوحيّة والأخلاقيّة وحركته العمليّة. ولذلك، فإنّ علينا أن نقرأ القرآن قراءة تدبّر ـ فإنّ الشقيّ مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم"، لأنّ هذا الشّهر هو شهر الموسم، فلو خسر الإنسان في الموسم، فكيف يربح في خارجه؟!
واجبات الصّائم الأخلاقيّة
ثم إنّ النبيّ(ص) يريد لنا في صيامنا هذا الّذي نعيش فيه الجوع والعطش، أن نذكر موقفنا أمام الله يوم القيامة، في لحظات الحساب، حيث قد يمتدّ جوع الإنسان وعطشه. فتذكّرْ في جوعك في الدّنيا، في أثناء الصّيام، جوع يوم القيامة، حتى تختصر ذلك الجوع إذا أخلصت لله. يقول(ص):
"واذكروا بجوعكم وعطشكم، فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم ـ فإذا أحسستم بالجوع، عرفتم كيف يمكن أن يكون هناك أناس يشعرون بالجوع ـ ووقِّروا كباركم ـ لأنّ الكبير عاش إسلامه قبلكم، وعاش التّجربة قبل تجربتكم. وليس المقصود أن تطيعوا الكبير في كلّ شيء، بل أن تحترموه ـ وارحموا صغاركم ـ ارحموا قلّة تجربتهم وضيق آفاقهم إذا أخطؤوا ـ وصِلوا أرحامكم ـ فإنّ صلة الرّحم تطيل العمر وتقرّب إلى الله ـ واحفظوا ألسنتكم ـ احفظوها من الغيبة والنّميمة والفحش وما إلى ذلك.
ـ وغُضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم ـ فهناك أشياء لا يريد الله للإنسان أن يسمعها، كما في الأغاني التي تثير الشّهوات والغرائز وتشجّع الباطل ـ وتحنّنوا على أيتام الناس ـ هناك أيتام في المجتمع، وعليكم أن تشعروا بالمسؤوليّة لرعايتهم وتربيتهم والعناية بهم، حتى تكونوا بمنـزلة آبائهم، وقد كان من وصيّة عليّ(ع) في آخر حياته: "الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم".
ـ يُتحنَّنْ على أيتامكم. وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ـ فليستحضر كلّ واحد منكم ذنوبه، ويطلب من الله أن يغفرها له، وأن يعفو عنه، وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلاتكم، فإنها أفضل السّاعات ـ فالإنسان يعرج من خلال الصّلاة بروحه إلى الله، وإذا كان الإنسان قريباً إلى الله، فعليه أن يطلب منه ما يحتاجه، وأن يدعوه ويبتهل إليه ـ ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجَوْه ـ المناجاة الخالصة التي تنطلق من القلب ـ ويُلبّيهم إذا نادَوْه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعَوْه.
أيّها النّاس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ وهذا ما قاله الله في القرآن: }كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{[المدّثر:38] ـ ففكّوها باستغفاركم ـ كما تدفع مالاً من أجل أن تفكّ رهنك عند النّاس، كذلك أنتم مديونون ومرهونون عند الله، وعليكم أن تستغفروا الله لكي تفكّوا رهنكم ـ وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والسّاجدين، وأن لا يروِّعَهم بالنّار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
أيّها الناس، من فَطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهرـ والمقصود أن تدعوه إلى بيتك أو تقدّم إليه إفطاراً كاملاً، ولا سيّما إذا كان من الفقراء ـ كان له بذلك عند الله عتقُ نسمة، ومغفرةٌ لما مضى من ذنوبه.
أيّها النّاس، من حَسَّن منكم في هذا الشّهر خلقه ـ بعض النّاس لا يحتمل أن يتكلّم معه أحد بحجّة أنه صائم، فأنت كما تصوم عن الأكل والشرب، عليك أن تصوم عن الغضب وعن ظلم الآخرين ـ كان له جوازاً على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومَنْ خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينه ـ إذا كان عندنا موظّفون، فإنّ علينا أن نخفّف عن موظّفينا وعمّالنا إذا كانوا صائمين ـ خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة ـ صلاة مستحبّة ـ كتب الله له براءة من النّار، ومن أدّى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدّى سبعين فريضةً فيما سواه من الشّهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عَليَّ، ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور.
أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة، فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عنكم ـ بذنوبكم ومعاصيكم ـ وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم".
أفضل الأعمال في هذا الشهر
قال أمير المؤمنين(ع): "فقمْتُ فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشّهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشّهر الورع عن محارم الله"، أن تضبط نفسك فتتورّع، ولا تأتي بأيّ حرامٍ من محارم الله.
هذا الشّهر الفضيل هو شهرٌ تربويّ روحيّ نحاول أن نحصل من خلاله على مواقع أقرب إلى الله، ونعمل على أساس الخير كلّه للنّاس، وعلينا أن نجتهد لنحصل على كلّ فيوضاته ومكاسبه وكلّ ما يقرّبنا إلى الله تعالى، لننتفع بذلك في يوم العرض
على الله والوقوف بين يديه،{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء:88ـ89].
الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
فلسطين مظهر الصّراع مع الغرب
يطلّ شهر رمضان المبارك على الأمّة، والعالم الإسلاميّ يظهر كساحةٍ للحروب، وكمسرحٍ للعمليّات القتاليّة، إضافةً إلى أنّ العالم كلّه أصبح في منأى من الاحتلال، بينما بقي الاحتلال جاثماً على أرض العرب والمسلمين في أكثر من موقعٍ من مواقعها.
وهكذا، تبرز صورة العالم الإسلاميّ من فلسطين المحتلة التي ينهش الاستيطان البقيّة الباقية من جسدها، وحيث يُقسم وزراء حكومة العدوّ على الولاء للاستيطان، فيما يُقسم المسؤولون العرب من قلب العاصمة الأمريكيّة على الوفاء بالتزاماتهم بالسّير في خطّ التّطبيع قدماً، ولا يتورّع أحدهم عن الثّناء على رئيس حكومة العدوّ، ومن ثمّ تقديم النّصائح إلى العدوّ بعدم مهاجمة إيران في هذه المرحلة، بحجّة أنّ "الهجوم العسكريّ سيوحّد الإيرانيين خلف قيادتهم"، كما نُقل عنه.
الإدارة الأمريكيّة: الدّعم المطلق لإسرائيل
أمّا الإدارة الأمريكيّة التي أوهمت البعض بأنها ستقترب قليلاً من ملامسة الحقوق العربيّة والفلسطينيّة، فقد واصلت ملاحقة كلّ من يرسل أموال الزّكاة والتبرعات إلى الفلسطينيين وأودعتهم السّجون، في الوقت الذي منحت الهيئات الأمريكيّة الداعمة للإسرائيليين والعاملة على تشجيع الاستيطان في القدس الشرقيّة تحديداً، تسهيلات ضريبية بحجة تسهيل عمل الهيئات التربوية والمشاريع الاجتماعية.
وهكذا، تقف القضيّة الفلسطينيّة أمام مشهدٍ جديدٍ عنوانه تقديم منطق الاستيطان اليهودي على منطق حقّ العودة، ومنطق التفاوض الذي لا طريق غيره ـ كما صرّح بذلك رئيس السلطة الفلسطينية نفسه ـ على منطق الرفض والمواجهة والمقاومة.
لقد ابتُليت الأمّة بعدوّ حاقد، وبمحاور دولية متآمرة، كما ابتُليت بهذه النوعيّة من القيادات التي تعبت من قضيّة فلسطين من دون أن تبذل جهداً يُذكَر حيالها، وتريد للشعوب أن تسلّم بأنّ عليها التحرّر من هذه القضيّة، وأن تقبل بما يقدّمه الاحتلال إليها، حتى في الوقت الذي أثبتت هذه الشعوب أنها قادرة على هزيمة المحتلّ عند أوّل فرصة أُتيحت لها، وفي أوّل سانحة برزت أمامها.
العراق: نزيف الفتنة الداخليّة
أمّا العراق الذي تُلاحِق فيه التّفجيرات الإجراميّة الناس في الشوارع وأماكن العمل وفي التجمّعات الشعبية، فقد بشّره الرئيس الأمريكي بمزيدٍ من العنف العبثيّ كما قال، لتستمر طاحونة القتل والدمار في القيام بدورها لحساب المحتلّ، ولحساب بعض المحاور التي تريد للعراقيّين أن يكتووا بنيران الفتنة الداخلية، وتُفضّل أن ينقسموا على أنفسهم وفي مواقعهم الشعبية والسياسية، على أن يتوحّدوا تحت لافتة الدولة الموحَّدة، لأنها لا ترتاح لهذه الدولة ولا لقياداتها وشخصيّاتها.
وفي هذا الجوّ، نريد للعراقيين أن يعملوا كفريق وطنيّ وكفريق إسلاميّ، لقطع الطريق على دعاة الانقسام ومثيري الفتنة، فيكونوا يداً واحدةً تستمدّ قوّتها من وحدة الصف، وتنطلق في رحاب هذا الشّهر المبارك ومعانيه ومفاهيمه، لتعمل لقيام العراق الحرّ السيّد المستقلّ النابذ للاحتلال والطّارد للفتنة، والملاحِق للقتلة والمجرمين.
أفغانستان: فوضى الاحتلال
أمّا أفغانستان الداخلة إلى الانتخابات من أتون الاحتلال الذي يواصل قصفه لبيوت الفقراء، فيقتل عائلات بكاملها كلّما أُصيب بنكسة ميدانيّة، فقد دخلت في متاهات الفوضى الأمنية والسياسية التي لا سبيل للشعب الأفغاني إلى الخروج منها، لا من خلال محطّة الانتخابات ولا من خلال غيرها، ولا قرار للمحتلّ بالخروج من مستنقعها الدامي، حيث لا يريد للأفغانيين أن ينعموا بالحرية، لأنّ أطماعه ومصالحه تقتضي السير قدماً في طريق الهيمنة والاحتلال.
اليمن: الدخول في متاهة الانقسام
ونصل إلى اليمن الذي دخل في دوّامة الحرب الداخليّة التي تهدّد بتصاعد دعوات الانفصال، وتفسح في المجال لمزيد من الانقسامات التي يتداخل فيها العنوان السياسي بعناوين أخرى معقّدة تجعل البلد يطلّ على مرحلة صعبة وخطيرة، تسقط معها الوساطات الداخلية والخارجية، بينما تواصل الطائرات والدبابات والمدافع عملها، وتفرض منطقها الدامي على منطق الحوار الذي نريد للسلطة اليمنية أن تنطلق فيه دونما كلل أو ملل، كما نريد للآخرين الاستجابة له، فقد سبق لليمن أن طرح مبادرته في مسألة الحوار الفلسطيني الداخلي، ونحن لا نفهم كيف تنطلق مبادرة من هذا النّوع وتسقط كلّ الدعوات لمبادرات داخليّة حقيقيّة تُنهي الصراع الدامي في صعدة، وتعيد اليمن إلى أجواء الوحدة والأمن والاستقرار؟!
العالم الإسلامي: المشهد الدامي
إنّ هذا المشهد الدامي مع إطلالة شهر رمضان المبارك، والذي تتداخل فيه صُوَر التقاتل في الشّوارع الصومالية مع ما حدث في غزّة قبل أيام، مع كلّ تلك الدعوات التي يسلك أصحابها خطّ الانتقام من المسلمين والمصلّين والصّائمين في هذا الشّهر، يستدعي وقفةً إسلاميّةً وصدمةً ميدانيّةً تدعو إلى التّساؤل حول الخطوط الطّارئة على الأمّة أمام هذا الواقع الذي كان نتيجةً طبيعيةً للاحتلال الخارجي والظّلم الداخلي الذي تعيشه شعوبنا إلى جانب الجهل أحياناً والأحقاد العصبيّة أحياناً أخرى.
استمرار الأزمة المعيشيّة في لبنان
فإذا وصلنا إلى لبنان، الذي تبشّر آخر الدراسات فيه بأنّ الكهرباء تحتاج إلى ما يزيد على الثلاثة مليارات وثلاث سنوات كي يتحسّن وضعها فحسب، والدّولة تحتاج إلى مليارات أخرى لتحسين أوضاع الوزارات والإدارات والمؤسّسات، إنّنا أمام ذلك نسأل عن السّبب في كلّ هذه الاستماتة على هذه الوزارة أو تلك، وعن تمسّك هذا الفريق أو ذاك بمطالبه أمام دولة مفلسة، من دون أن يعمل الكثيرون ممّن تعاقبوا على الحكم فيها بأدنى مستوى من الجدّية لرفع كابوس الظّلام عن كاهلها، أو أن يعملوا جديّاً لجعل عجلتها الاقتصادية تدور فعلياً بما قد يفسح في المجال لدوران عجلتها السياسيّة بشكل أفضل.
أيّها المسؤولون في لبنان، يا من يهتف لهم النّاس بكرةً وأصيلاً، إذا كانت العداوة فيما بينكم متأصّلة إلى هذا الحدّ، وإذا كانت الدولة بعيدةً عن حركتكم على مستوى الذهنيّة والمنهج، وإذا لم يكن لكم من طاقة لمواجهة المشاكل التي استولدتها شخصانيّتكم وحركتكم؛ فاستريحوا أو استقيلوا، أو مارسوا شيئاً من الصوم الحقيقي الذي يجعلكم تتطهّرون من الرذيلة السياسيّة التي أفسدت الواقع، ووحّلت الذّهنيّات، وأنهكت البلد.