التّقوى زاد الآخرة

التّقوى زاد الآخرة
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيّد محمّد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشّخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

التّقوى زاد الآخرة

محاسبة النّفس
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 ـ20].
في هذه الآيات الكريمة، يريد الله تعالى للإنسان أن يجلس مع نفسه في عمليّة حسابٍ دقيقٍ لكلّ تاريخه، في كلّ ما فعله، وفي كلّ ما قاله، وفي كلّ ما أقامه من علاقات، وفي كلّ ما خطّط له من مشاريع، وفي كلّ ما دخل فيه من تحدّيات، أو واجهه من تحدّيات؛ حتى يدرس طبيعة ذلك كلّه، وحتى يعرف نقاط الضّعف ونقاط القوّة، لأنّ الإنسان قد يخطئ من خلال استسلامه لنقاط ضعفه الذاتيّ، وقد يصيب فيما فعله، وقد يواجه السلبيات في قضاياه، وقد يواجه الإيجابيّات.

ويختصر الله تعالى هذه المسألة، بأنّ هذا التّاريخ الذي عاشه الإنسان في عمره الّذي مضى، أيّاً كان عمره، هو ما يقدّمه بين يديه أمام الله لغد، وهو يوم القيامة، لأنّ الإنسان عندما يُحشر يومها، فإنّه يقدّم أمامه كلّ عمله، خيراً كان أو شراً.

 وأنت عندما تتحرّك في الدّنيا، فإنّك تقدّم نفسك من خلال جهدك ونشاطك ليوم القيامة. ثم بعد أن تدرس ذلك كلّه، وتعرف الخير والشرّ من نفسك، يأمرك الله بأن تتّقيه فيما تستقبل من عمرك، وأن تنظر ما قدّمت لغد في العمر الباقي.

ثم يؤكّد الله أنّه خبير بما تعملون، فهو سبحانه لا يغيب عنه شيء مما تفكر فيه من حقّ أو باطل، أو مما تحركت به من خير أو شر، أو فيما مارسته من طاعة أو معصية. فعليك أن تشعر بأنّك مكشوفٌ أمام الله، وأنّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، فتحسب حساب حضور الله في كلّ أمورك وأوضاعك، لتشعر بأنّ الله مشرفٌ عليك في الداخل وفي الخارج، بحيث تخاف الله في نفسك لأنّ الله مطّلع عليك، ولذلك ورد عندنا: "خف الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ولا يكن الله أهون النّاظرين إليك، لأنّ بعض النّاس يخجل من المعصية حتى أمام الطّفل، ولكنّه لا يخجل من المعصية أمام ربّ العالمين.

فالمطلوب، أوّلاً، أن يقوم الإنسان بعمليّة حساب، وقد ورد في الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا"، لأنك تعرف نفسك ماذا عملت وماذا قدّمت وماذا أخّرت. وقيمة هذه المسألة، أنّ الإنسان إذا درس تاريخه الماضي في كلّ أعماله، فإنّ ذلك سوف يدفعه إلى أن يصحّح نفسه عندما يخطئ أو ينحرف في هذا المجال أو ذاك.

نسيان الله أساس المعصية
والنّقطة الثانية التي تعالجها الآية الكريمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[الحشر:19]. عليك أن تذكر الله دائماً، لأنّك إذا نسيت الله نسيت مسؤوليّتك ونسيت إصلاح نفسك وتربيتها ومصيرها، وإذا كنت في غفلة عن هذا، فمعنى ذلك أنك سوف تتخبّط في الأوحال، أوحال الشّهوات والانحرافات، وبعدها سوف تسقط سقوطاً فظيعاً.

فالإنسان إذا نسي ربه، فإنه ينسى نفسه، وبذلك يعيش حياته من دون ضوابط، ومن دون قاعدة، ومن دون انفتاحٍ على قضايا المصير، ويؤدّي به ذلك إلى الفسق.

وقد عالج الله تعالى في أكثر من آيةٍ جزاء نسيان الإنسان لربّه، أو نسيان يوم الحساب، لأنّك عندما تتذكّر يوم الحساب، فإنك تتذكّر مسؤوليتك. يقول الله تعالى عن بعض الناس: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ـ لم يلتزموا دينهم بقواعده وفرائضه، بل أخذوا بأسباب اللّهو واللّعب، وبعضهم يتحرّك في دينه بأن يلعب بدينه ويلهو عنه ـ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ـ استسلموا لشهواتها وملذّاتها ـ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ـ أي نهملهم، نعتبرهم فئةً مهملةً لا نعتني بها ـ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51].
ثم يحدّثنا الله عن المنافقين والمنافقات كمظهرٍ من مظاهر النّاس الذين يهملهم الله، يقول تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ـ يمثّلون مجتمعاً واحداً ـ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ـ يشجّعون الناس على ارتكاب المحرّمات والانحراف عن الخطّ المستقيم ـوَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ـ ينهون الإنسان عن الصّلاة، وينهون المرأة عن الالتزام بما فرضه الله عليها من العفّة والحجاب ـوَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التّوبة:67].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ـ فإذا كنت تتحرّك في حياتك وتذكُر الله، وصارت لديك حالة نسيان بفعل أشغالك وأعمالك وشهواتك، فتذكّر الله لتنطلق في طريقه المستقيم ـوَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}[الكهف:24]، اطلبْ من الله أن يهديك لتقترب من الرّشاد.

ذكر الله أساس الطّاعة
وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "الذكْر ذِكْران ـ ذكر الله ـذكرٌ عند المصيبة ـ أن تذكر الله عند المصيبة فتصبر ـ حَسَنٌ جميل، وأفضلُ من ذلك ذكرُ الله عند ما حرّم عليك، فيكون ذلك حاجزاً"، يحجزك عن معاصي الله. وورد عن الإمام الصّادق(ع): "أشدّ ما افترض الله عزّ وجلّ على خلقه: إنصاف النّاس من نفسك ـ إذا كان للنّاس حقّ عليك، فإنّ عليك أن لا تنتظر القاضي ليحكم لهم بحقوقهم، بل اعترف لهم بحقوقهم ـ ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كلّ موطن. أمّا إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعته ـ اذكر الله حتى تأتي بالطّاعة ـ أو معصيته"، اذكر الله حتى تجتنب معصيته.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28]، لأنّك عندما تذكر الله الرّحمن الرّحيم الودود، تشعر بالسّكينة ولا تشعر بالقلق، والله فرض علينا الصّلوات الخمس في اللّيل والنّهار من أجل أن نذكر الله في كلّ أوقاتنا، ولنعيش الإحساس بحضور الله، وقد ورد أنّ الصّلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذّاكرين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية

الكذب الصهيونيّ
في فلسطين المحتلة، دخلت لعبة أمريكيّة ـ إسرائيليّة جديدة على الخطّ، بعنوان التفاهم على تجميد الاستيطان لفترةٍ زمنيّة لا تزيد على بضعة أشهر، مع حديثٍ للإعلام الصهيونيّ عن أنّ الحّل الذي تمّ التوافق عليه في هذا المجال ليس إلا محاولات للّفّ والدوران يستمر معها الاستيطان، في الوقت الذي اعتبر رئيس حكومة العدوّ أنّ القدس هي عاصمة كيانه السياديّة، وأنّه لا يقبل أيّة قيود على هذه السيادة، قائلاً: "القدس ليست مستوطنةً، نحن نبني في القدس منذ ثلاثة آلاف عام".

التفاوض على حساب فلسطين
ومع الإعلان من داخل كيان العدوّ أنّ الصهاينة قاموا ببناء أكثر من ستمائة وحدة استيطانيّة جديدة منذ بدء التفاوض مع إدارة "أوباما"، والكشف عن خطط لبناء أكبر مستوطنة في القدس الشرقيّة، تصبح اللّعبة أكثر انكشافاً، والتي يراد لها أن تنتهي بخاتمة مسرحيّة يلتقي فيها رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حكومة العدوّ مع الرئيس الأمريكي، في قمّة ثلاثيّة تعلن بدء عمليّة التفاوض، ولكن التّفاوض على أيّ شيء؟!

إنّ الذي يجري هو عمليّة ابتلاعٍ وضمّ متواصلةٍ بشكل يوميّ، حتى إذا دقّت ساعة الحقيقة، وجد المفاوض الفلسطينيّ أنّ الأرض أصبحت في متناول العدوّ، وأنّ التفاوض يجري على واقعٍ لا تتّصل فيه الأراضي بعضها ببعض، فكيف بدولة؟! وأَدرَك ذلك المفاوِض الفلسطينيّ حينها، أنّ مَن لا يملك من الأوراق شيئاً، ويرفض أن يلوّح حتى بلافتة المقاومة، لا يمكن أن يحصل على شيء، اللّهمّ إلا تسهيله حركة اللّعبة، وتحسين شروط العدوّ في دفع العرب زرافاتٍ ووحداناً إلى فخّ التّطبيع الذي تُعلن فيه وفاة القضيّة الفلسطينيّة، ويبدأ عندها الزّحف الإسرائيليّ إلى قلب العالم العربيّ والإسلاميّ.

الاجتياح السياسيّ للمنطقة العربيّة
إنّنا نريد للعرب وللمسلمين الذي مرّت عليهم الذكرى الأربعين لإحراق المسجد الأقصى مرور الكرام، أن ينهضوا من سباتهم؛ لأنّ الذي يجري لا يمثّل إنهاءً للقضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل هو المقدّمة لاجتياحٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ وإعلاميٍّ لبقيّة معاقلهم ومواقعهم، وعندما تسقط فلسطين، سيجد الجميع أنّ الحصون الأخرى ستهوي تباعاً، وسط هذه المعمعة التي يتقاتل فيها أخوة الدّين والعروبة والسلاح تحت عناوين زائفة، مذهبيّة وسياسيّة وحزبيّة وطائفيّة، فيما وحش الاحتلال المكشوف والمستتر يزحف إليهم من كلّ حدبٍ وصوبٍ.

إنّنا أمام هذا الواقع الذي تؤجَّل فيه المشاريع الحوارية الحقيقية داخل الأمّة، نرى أنّ العدوّ لا يؤجِّل مشاريعه الاستيطانيّة، وكذلك عمليّاته العدوانيّة في قطاع غزّة، فيقتل ويجرح المزيد في غاراته التي يشنّها على القطاع بين وقتٍ وآخر، ولا يتوانى عن استخدام وبيع أعضاء الشّهداء الفلسطينيين، في عمليّة انتهاك وحشيّ لأجساد الشهداء تشير إلى ذهنيّةٍ حاقدةٍ ومستهينةٍ بكلّ ما يتّصل بحقوق الإنسان العربي وكرامته.

المأساة العراقيّة المستمرّة
وإلى جانب المأساة الفلسطينيّة، تبرز المأساة العراقيّة من خلال مجموعاتٍ امتهنت عمليّة القتل الجماعيّ، والجريمة المنظَّمة، فعملت على ملاحقة الأبرياء في الشّوارع بأطنان المتفّجرات التي جعلت السّاحة العراقيّة تلتهب ناراً في دماء الفقراء والعمّال والموظّفين، كما جعلت السّاحة السياسيّة تلتهب في كلّ هذا الاهتزاز في العلاقات السياسيّة بين هذه الدّولة وتلك، وسط حديثٍ عن لعبة تشترك فيها جهات استخباريّة ومحاور متعدّدة، تعمل ليل نهار حتى يبقى العراق في دائرة الاهتزاز الأمنيّ الذي يطلّ على مراحل من الاهتزاز السياسيّ، ما يفسح في المجال أكثر للمحتلّ ليواصل احتلاله وجرائمه، ويتطلّع إلى مراحل أخرى يحقّق فيها أطماعه في أرض الرافدين وجوارها.

إعادة صوغ العلاقات العراقيّة ـ السوريّة
إنّنا أمام التطوّرات الأخيرة، وما رافقها من تعقيدٍ في العلاقات بين العراق وبعض الدول العربية، ندعو إلى إعادة صوغ هذه العلاقات على أسسٍ من الصراحة التامّة، والانفتاح المتبادل، وبروحٍ أخويّة تعيد الدّفء إلى هذه العلاقات، بما يضمن احترام أمن الشّعب العراقيّ ومصلحة الأمّة ومستقبلها.

لبنان: تفاقم الأزمة
أمّا لبنان، فلا يزال يعيش في إطار مراوحةٍ سياسيّةٍ تتبادل فيها الأطراف المعنيّة الاتّهامات في مسألة تشكيل الحكومة، حتّى إذا حصلت عمليّة التّأليف، هلّل الجميع وكبّروا لهذا الإنجاز، حيثُ من المضحك المبكي أن أصبحت مسألة تأليف الحكومات من الإنجازات التي تُرصد لدى النّادي السياسيّ اللّبنانيّ، وكأنّها ليست جزءاً من حركة المسؤوليّة العالية التي ينبغي أن يعيشها المسؤولون.

إنّنا نخشى من أن يكون الهدف من وراء كلّ هذه التّجاذبات السياسيّة، وهذه التوتيرات المقصودة، تمديد الوضع الحاليّ، وإضافة شيءٍ من الاهتزاز في السّاحة الداخليّة، لإيجاد نوعٍ من الصّلة بين الأوضاع الداخليّة ومواعيد سياسيّة خارجيّة، بما يدفع المسألة نحو مزيدٍ من التأزّم والتعقيد.

إنّنا أمام هذا الواقع، ندعو جميع المسؤولين إلى تحمّل مسؤوليّاتهم، وعدم وضع العصيّ في دواليب الحلّ لحسابات ذاتيّة أو حزبيّة أو خارجيّة، لأنّ الناس لا يُمكن أن تصبر على آلامها المعيشيّة ومشاكلها الحياتيّة إلى ما لا نهاية. وأصبح الكثيرون يخشون أن يكون التّأجيل المستمرّ يمثّل ترحيلاً للحلّ، وتحضيراً لفتنةٍ يراد للّبنانيين أن يكونوا وقوداً لها لحساب جهاتٍ دوليّةٍ وإقليميّةٍ لا تضمر الخير للبلد، ولا تتطلّع إليه إلا بعيون الحقد والضّغينة والفرقة.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيّد محمّد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشّخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

التّقوى زاد الآخرة

محاسبة النّفس
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18 ـ20].
في هذه الآيات الكريمة، يريد الله تعالى للإنسان أن يجلس مع نفسه في عمليّة حسابٍ دقيقٍ لكلّ تاريخه، في كلّ ما فعله، وفي كلّ ما قاله، وفي كلّ ما أقامه من علاقات، وفي كلّ ما خطّط له من مشاريع، وفي كلّ ما دخل فيه من تحدّيات، أو واجهه من تحدّيات؛ حتى يدرس طبيعة ذلك كلّه، وحتى يعرف نقاط الضّعف ونقاط القوّة، لأنّ الإنسان قد يخطئ من خلال استسلامه لنقاط ضعفه الذاتيّ، وقد يصيب فيما فعله، وقد يواجه السلبيات في قضاياه، وقد يواجه الإيجابيّات.

ويختصر الله تعالى هذه المسألة، بأنّ هذا التّاريخ الذي عاشه الإنسان في عمره الّذي مضى، أيّاً كان عمره، هو ما يقدّمه بين يديه أمام الله لغد، وهو يوم القيامة، لأنّ الإنسان عندما يُحشر يومها، فإنّه يقدّم أمامه كلّ عمله، خيراً كان أو شراً.

 وأنت عندما تتحرّك في الدّنيا، فإنّك تقدّم نفسك من خلال جهدك ونشاطك ليوم القيامة. ثم بعد أن تدرس ذلك كلّه، وتعرف الخير والشرّ من نفسك، يأمرك الله بأن تتّقيه فيما تستقبل من عمرك، وأن تنظر ما قدّمت لغد في العمر الباقي.

ثم يؤكّد الله أنّه خبير بما تعملون، فهو سبحانه لا يغيب عنه شيء مما تفكر فيه من حقّ أو باطل، أو مما تحركت به من خير أو شر، أو فيما مارسته من طاعة أو معصية. فعليك أن تشعر بأنّك مكشوفٌ أمام الله، وأنّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، فتحسب حساب حضور الله في كلّ أمورك وأوضاعك، لتشعر بأنّ الله مشرفٌ عليك في الداخل وفي الخارج، بحيث تخاف الله في نفسك لأنّ الله مطّلع عليك، ولذلك ورد عندنا: "خف الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ولا يكن الله أهون النّاظرين إليك، لأنّ بعض النّاس يخجل من المعصية حتى أمام الطّفل، ولكنّه لا يخجل من المعصية أمام ربّ العالمين.

فالمطلوب، أوّلاً، أن يقوم الإنسان بعمليّة حساب، وقد ورد في الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا"، لأنك تعرف نفسك ماذا عملت وماذا قدّمت وماذا أخّرت. وقيمة هذه المسألة، أنّ الإنسان إذا درس تاريخه الماضي في كلّ أعماله، فإنّ ذلك سوف يدفعه إلى أن يصحّح نفسه عندما يخطئ أو ينحرف في هذا المجال أو ذاك.

نسيان الله أساس المعصية
والنّقطة الثانية التي تعالجها الآية الكريمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[الحشر:19]. عليك أن تذكر الله دائماً، لأنّك إذا نسيت الله نسيت مسؤوليّتك ونسيت إصلاح نفسك وتربيتها ومصيرها، وإذا كنت في غفلة عن هذا، فمعنى ذلك أنك سوف تتخبّط في الأوحال، أوحال الشّهوات والانحرافات، وبعدها سوف تسقط سقوطاً فظيعاً.

فالإنسان إذا نسي ربه، فإنه ينسى نفسه، وبذلك يعيش حياته من دون ضوابط، ومن دون قاعدة، ومن دون انفتاحٍ على قضايا المصير، ويؤدّي به ذلك إلى الفسق.

وقد عالج الله تعالى في أكثر من آيةٍ جزاء نسيان الإنسان لربّه، أو نسيان يوم الحساب، لأنّك عندما تتذكّر يوم الحساب، فإنك تتذكّر مسؤوليتك. يقول الله تعالى عن بعض الناس: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ـ لم يلتزموا دينهم بقواعده وفرائضه، بل أخذوا بأسباب اللّهو واللّعب، وبعضهم يتحرّك في دينه بأن يلعب بدينه ويلهو عنه ـ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ـ استسلموا لشهواتها وملذّاتها ـ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ ـ أي نهملهم، نعتبرهم فئةً مهملةً لا نعتني بها ـ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51].
ثم يحدّثنا الله عن المنافقين والمنافقات كمظهرٍ من مظاهر النّاس الذين يهملهم الله، يقول تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ـ يمثّلون مجتمعاً واحداً ـ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ـ يشجّعون الناس على ارتكاب المحرّمات والانحراف عن الخطّ المستقيم ـوَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ـ ينهون الإنسان عن الصّلاة، وينهون المرأة عن الالتزام بما فرضه الله عليها من العفّة والحجاب ـوَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التّوبة:67].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ـ فإذا كنت تتحرّك في حياتك وتذكُر الله، وصارت لديك حالة نسيان بفعل أشغالك وأعمالك وشهواتك، فتذكّر الله لتنطلق في طريقه المستقيم ـوَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}[الكهف:24]، اطلبْ من الله أن يهديك لتقترب من الرّشاد.

ذكر الله أساس الطّاعة
وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "الذكْر ذِكْران ـ ذكر الله ـذكرٌ عند المصيبة ـ أن تذكر الله عند المصيبة فتصبر ـ حَسَنٌ جميل، وأفضلُ من ذلك ذكرُ الله عند ما حرّم عليك، فيكون ذلك حاجزاً"، يحجزك عن معاصي الله. وورد عن الإمام الصّادق(ع): "أشدّ ما افترض الله عزّ وجلّ على خلقه: إنصاف النّاس من نفسك ـ إذا كان للنّاس حقّ عليك، فإنّ عليك أن لا تنتظر القاضي ليحكم لهم بحقوقهم، بل اعترف لهم بحقوقهم ـ ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كلّ موطن. أمّا إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعته ـ اذكر الله حتى تأتي بالطّاعة ـ أو معصيته"، اذكر الله حتى تجتنب معصيته.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28]، لأنّك عندما تذكر الله الرّحمن الرّحيم الودود، تشعر بالسّكينة ولا تشعر بالقلق، والله فرض علينا الصّلوات الخمس في اللّيل والنّهار من أجل أن نذكر الله في كلّ أوقاتنا، ولنعيش الإحساس بحضور الله، وقد ورد أنّ الصّلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذّاكرين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية

الكذب الصهيونيّ
في فلسطين المحتلة، دخلت لعبة أمريكيّة ـ إسرائيليّة جديدة على الخطّ، بعنوان التفاهم على تجميد الاستيطان لفترةٍ زمنيّة لا تزيد على بضعة أشهر، مع حديثٍ للإعلام الصهيونيّ عن أنّ الحّل الذي تمّ التوافق عليه في هذا المجال ليس إلا محاولات للّفّ والدوران يستمر معها الاستيطان، في الوقت الذي اعتبر رئيس حكومة العدوّ أنّ القدس هي عاصمة كيانه السياديّة، وأنّه لا يقبل أيّة قيود على هذه السيادة، قائلاً: "القدس ليست مستوطنةً، نحن نبني في القدس منذ ثلاثة آلاف عام".

التفاوض على حساب فلسطين
ومع الإعلان من داخل كيان العدوّ أنّ الصهاينة قاموا ببناء أكثر من ستمائة وحدة استيطانيّة جديدة منذ بدء التفاوض مع إدارة "أوباما"، والكشف عن خطط لبناء أكبر مستوطنة في القدس الشرقيّة، تصبح اللّعبة أكثر انكشافاً، والتي يراد لها أن تنتهي بخاتمة مسرحيّة يلتقي فيها رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حكومة العدوّ مع الرئيس الأمريكي، في قمّة ثلاثيّة تعلن بدء عمليّة التفاوض، ولكن التّفاوض على أيّ شيء؟!

إنّ الذي يجري هو عمليّة ابتلاعٍ وضمّ متواصلةٍ بشكل يوميّ، حتى إذا دقّت ساعة الحقيقة، وجد المفاوض الفلسطينيّ أنّ الأرض أصبحت في متناول العدوّ، وأنّ التفاوض يجري على واقعٍ لا تتّصل فيه الأراضي بعضها ببعض، فكيف بدولة؟! وأَدرَك ذلك المفاوِض الفلسطينيّ حينها، أنّ مَن لا يملك من الأوراق شيئاً، ويرفض أن يلوّح حتى بلافتة المقاومة، لا يمكن أن يحصل على شيء، اللّهمّ إلا تسهيله حركة اللّعبة، وتحسين شروط العدوّ في دفع العرب زرافاتٍ ووحداناً إلى فخّ التّطبيع الذي تُعلن فيه وفاة القضيّة الفلسطينيّة، ويبدأ عندها الزّحف الإسرائيليّ إلى قلب العالم العربيّ والإسلاميّ.

الاجتياح السياسيّ للمنطقة العربيّة
إنّنا نريد للعرب وللمسلمين الذي مرّت عليهم الذكرى الأربعين لإحراق المسجد الأقصى مرور الكرام، أن ينهضوا من سباتهم؛ لأنّ الذي يجري لا يمثّل إنهاءً للقضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل هو المقدّمة لاجتياحٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ وإعلاميٍّ لبقيّة معاقلهم ومواقعهم، وعندما تسقط فلسطين، سيجد الجميع أنّ الحصون الأخرى ستهوي تباعاً، وسط هذه المعمعة التي يتقاتل فيها أخوة الدّين والعروبة والسلاح تحت عناوين زائفة، مذهبيّة وسياسيّة وحزبيّة وطائفيّة، فيما وحش الاحتلال المكشوف والمستتر يزحف إليهم من كلّ حدبٍ وصوبٍ.

إنّنا أمام هذا الواقع الذي تؤجَّل فيه المشاريع الحوارية الحقيقية داخل الأمّة، نرى أنّ العدوّ لا يؤجِّل مشاريعه الاستيطانيّة، وكذلك عمليّاته العدوانيّة في قطاع غزّة، فيقتل ويجرح المزيد في غاراته التي يشنّها على القطاع بين وقتٍ وآخر، ولا يتوانى عن استخدام وبيع أعضاء الشّهداء الفلسطينيين، في عمليّة انتهاك وحشيّ لأجساد الشهداء تشير إلى ذهنيّةٍ حاقدةٍ ومستهينةٍ بكلّ ما يتّصل بحقوق الإنسان العربي وكرامته.

المأساة العراقيّة المستمرّة
وإلى جانب المأساة الفلسطينيّة، تبرز المأساة العراقيّة من خلال مجموعاتٍ امتهنت عمليّة القتل الجماعيّ، والجريمة المنظَّمة، فعملت على ملاحقة الأبرياء في الشّوارع بأطنان المتفّجرات التي جعلت السّاحة العراقيّة تلتهب ناراً في دماء الفقراء والعمّال والموظّفين، كما جعلت السّاحة السياسيّة تلتهب في كلّ هذا الاهتزاز في العلاقات السياسيّة بين هذه الدّولة وتلك، وسط حديثٍ عن لعبة تشترك فيها جهات استخباريّة ومحاور متعدّدة، تعمل ليل نهار حتى يبقى العراق في دائرة الاهتزاز الأمنيّ الذي يطلّ على مراحل من الاهتزاز السياسيّ، ما يفسح في المجال أكثر للمحتلّ ليواصل احتلاله وجرائمه، ويتطلّع إلى مراحل أخرى يحقّق فيها أطماعه في أرض الرافدين وجوارها.

إعادة صوغ العلاقات العراقيّة ـ السوريّة
إنّنا أمام التطوّرات الأخيرة، وما رافقها من تعقيدٍ في العلاقات بين العراق وبعض الدول العربية، ندعو إلى إعادة صوغ هذه العلاقات على أسسٍ من الصراحة التامّة، والانفتاح المتبادل، وبروحٍ أخويّة تعيد الدّفء إلى هذه العلاقات، بما يضمن احترام أمن الشّعب العراقيّ ومصلحة الأمّة ومستقبلها.

لبنان: تفاقم الأزمة
أمّا لبنان، فلا يزال يعيش في إطار مراوحةٍ سياسيّةٍ تتبادل فيها الأطراف المعنيّة الاتّهامات في مسألة تشكيل الحكومة، حتّى إذا حصلت عمليّة التّأليف، هلّل الجميع وكبّروا لهذا الإنجاز، حيثُ من المضحك المبكي أن أصبحت مسألة تأليف الحكومات من الإنجازات التي تُرصد لدى النّادي السياسيّ اللّبنانيّ، وكأنّها ليست جزءاً من حركة المسؤوليّة العالية التي ينبغي أن يعيشها المسؤولون.

إنّنا نخشى من أن يكون الهدف من وراء كلّ هذه التّجاذبات السياسيّة، وهذه التوتيرات المقصودة، تمديد الوضع الحاليّ، وإضافة شيءٍ من الاهتزاز في السّاحة الداخليّة، لإيجاد نوعٍ من الصّلة بين الأوضاع الداخليّة ومواعيد سياسيّة خارجيّة، بما يدفع المسألة نحو مزيدٍ من التأزّم والتعقيد.

إنّنا أمام هذا الواقع، ندعو جميع المسؤولين إلى تحمّل مسؤوليّاتهم، وعدم وضع العصيّ في دواليب الحلّ لحسابات ذاتيّة أو حزبيّة أو خارجيّة، لأنّ الناس لا يُمكن أن تصبر على آلامها المعيشيّة ومشاكلها الحياتيّة إلى ما لا نهاية. وأصبح الكثيرون يخشون أن يكون التّأجيل المستمرّ يمثّل ترحيلاً للحلّ، وتحضيراً لفتنةٍ يراد للّبنانيين أن يكونوا وقوداً لها لحساب جهاتٍ دوليّةٍ وإقليميّةٍ لا تضمر الخير للبلد، ولا تتطلّع إليه إلا بعيون الحقد والضّغينة والفرقة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية