ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
دور السّلطة في إصلاح المجتمع
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104].
لقد رسّخ الإسلام منهجاً اجتماعيّاً اعتبره فريضةً على النّاس، وهو أن يكون المجتمع كلّه مسؤولاً عن الانحرافات الّتي تحدث في داخله، سواء تمثّلت هذه الانحرافات في ترك الواجبات، أو في فعل المحرّمات؛ لأنّ ذلك هو السّبيل الأمثل لضبط الواقع الإنسانيّ الاجتماعيّ، وتوجيهه نحو الالتزام بما شرّعه الله سبحانه وتعالى، وبما أحبّه لعباده.
ولذلك، فإنّ الدّور الأكبر لفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقع على عاتق السّلطة القانونيّة، في تطبيقها للحدود والتّعزيرات بحقّ من يرتكب المعاصي التي يبغضها الله تعالى، من دون فرقٍ بين كبيرٍ وصغيرٍ، ووجيهٍ وحقيرٍ، وهذا ما عبّر عنه النبيّ(ص) عندما قال: "إنما أُهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. فأيمُ اللهِ، لو سرقتْ فاطمة بنت محمّد لقطعْتُ يدها". فالإسلام ليس فيه امتيازاتٌ لأحد، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى على لسان نبيّه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15].
مسؤوليّة المجتمع
والله تعالى حمّل المسؤولية ـ أيضاً ـ للمجتمع كلّه، سواء كان ذلك في النّطاق العائليّ، أو في النّطاق الاجتماعيّ الواسع. فعلى الإنسان أن يأمر عائلته بالقيام بالمسؤوليّات التي فرضها الله تعالى، وهذا ما جاء في قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشّعراء:214]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم:6].
وهذا ما أرادت الآية الكريمة أن تؤكّده:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وبذلك يتكامل الالتزام بالشّريعة الإسلاميّة في كلّ مجالاته، فهو سبب الفلاح في الدّنيا والآخرة، وقد ورد في الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فالمطلوب من كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، ومسلمٍ ومسلمةٍ، أن يبعد المنكر عن المجتمع، سواء بالوسائل العمليّة أو الكلاميّة أو المشاعر النّفسيّة.
أهميّة القوّة في ردع المنكر
وقد ورد في الحديث عن النبيّ(ص): "إنّ الله ليُبغضُ المؤمنَ الضّعيفَ الّذي لا دينَ له". فقيل: وما المؤمن الضّعيف الذي لا دين له؟ قال: "الّذي لا ينهى عن المنكر"، فالإنسان يُحاسَب على تركه النّهي عن المنكر كما يحاسب على فعله المنكر. وقد أراد النّبي(ص) من خلال هذا الحديث أن يؤكّد أنّ على المجتمع أن يملك القوّة التي يستطيع من خلالها أن يتصدّى للمنكر، ولا سيّما إذا كان المنكر كبيراً وخطيراً ومدمِّراً للمجتمع، كما نراه في ظلم المستكبرين، أو في بعض الآفات التي تدمِّر المجتمع، كأولئك الّذين يأكلون أموال النّاس بالباطل، أو الّذين يتعاملون ببيع الخمور والمخدّرات والأعراض، والاعتداء على النّاس وما إلى ذلك...
فضل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
وورد عن أمير المؤمنين(ع): "ما أعمال البرّ كلّها والجهادُ في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إلا كنفثةٍ في بحرٍ لجيّ". فكأنّه يعتبر أنّ قضيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هي التي تصون المجتمع من السّقوط، والاهتزاز والانحراف عن الخطّ المستقيم، حتى إنّ الإمام(ع) فضّلها على كلّ أعمال الخير، وحتى على الجهاد الّذي يحفظ المجتمع ويجعله قادراً على مواجهة المستكبرين الّذين يعتدون على النّاس كلّهم.
وفي الحديث عن الإمام الحسين(ع) أنّه قال: "اعتبروا أيّها النّاس بما وعظ الله به أولياءه... وقال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر}[التّوبة:71] ـ فالله جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من صفات المؤمنين الّذين لا بدّ لهم من التّضافر والتعاضد في سبيل تحقيقه ـ فبدأ اللهُ بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضةً منه ـ فهو واجبٌ وليس مستحبّاً ـ لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت استقامت الفرائضُ كلُّها، هيِّنها وصعبها ـ لأنّ النّاس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فإنّ الفرائض الأخرى سوف تهتزّ وتسقط، بينما إذا أمر النّاسُ بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإنّ الفرائض تستقيم، والأمّة، حينها، ستستقيم وتعيش في عزّةٍ وحرّيةٍ وكرامة ـ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم ومخالفة الظّالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذِ الصّدقات من مواضعها ووضعها في حقّه".
نتائج ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
وقد حدّثنا الله تعالى في آيةٍ أخرى عن نتائج ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعن كيفيّة استحقاق بني إسرائيل اللّعن على ذلك: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78-79].
وجاء في الحديث عن عليّ(ع): "إنّ الله لم يلعن القرنَ الماضي بين أيديهم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ فلعن الله السّفهاء لركوب المعاصي، والحكماء لترك المناهي".
وعن رسول الله(ص) وهو يخاطب أمّته: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر" ـ بل واجهتم المسألة بطريقة اللامبالاة ـ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: "نعم، وشرّ من ذلك؛ كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف" ـ لأنّنا إذا تركنا الأمر بالمعروف، أصبح المعروف بعيداً عن المجتمع، وأصبح المنكر منتشراًَ فيه، فقد يرى النّاس عند ذلك المنكر شيئاً عادياً أو صحيحاً، فيسيرون فيه، كما نرى بعض النّاس الذين يأمرون بناتهم أو زوجاتهم بترك الحجاب مثلاً ـ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: "نعم، وشرّ من ذلك؛ كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ـ بحيث تبدّلت الذهنيّة والمفاهيم ـ والمنكر معروفاً". وهذا ما نلاحظه في الواقع الّذي نعيشه في مجتمعاتنا الإسلاميّة، فنرى أنّ الذين يمارسون الجريمة، سواء سرقة السيارات أو الاتجار بالمخدّرات أو التجارة بالأعراض، أو جريمة الارتباط بالظّالمين، يعتبرونها أمراً فيه ذكاء وحنكة، بل ومدعاة للفخر أحياناً. إنّنا عندما نرى المجتمع يتحرّك من أجل الحصول على المال ولو بطريق الباطل، نشعر بهذه الخطورة في الواقع الذي تحدّث عنه النبي(ص).
المسؤوليّة الشّاملة لإصلاح المجتمع
أيّها النّاس: إنّ معنى أن نكون مسلمين، هو أن نعمل على أن يطاع الله فلا يُعصى، وأن نتحرّك من أجل أن تكون الحياة رضى لله تعالى، وهذا ما يجب علينا أن نخطّط له؛ لأنّ مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليست مسؤوليّة العلماء فحسب، ولكنّها مسؤوليّة المجتمع كلّه، وذلك في كلّ موقعٍ من المواقع الصّغيرة والكبيرة، حتى نستطيع أن نجعل مجتمعنا مجتمعاً مسلماً منفتحاً على الإسلام وعلى طاعة الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة:105].
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
بين جدار برلين وجدار الفصل العنصريّ
احتفل العالم قبل أيّام بالذّكرى العشرين لسقوط جدار برلين، وهي الذّكرى التي جمعت زعماء الغرب الذين اعتبروا المناسبة عيداً لأوروبّا كلّها، في الوقت الّذي كان العدوّ الصهيونيّ يواصل الزّحف عبر الجدار العنصريّ الممتدّ لمسافة 770 كيلومتراً داخل الضفّة الغربيّة، من دون أن ينطق هذا العالم، الّذي يطلقون عليه اسم العالم الحرّ، والّذي يريدون للبشريّة كلّها أن تحمل قيمه ومبادئه، بكلمةٍ واحدةٍ فاعلةٍ حول هذا الجدار الّذي حوّل حياة الفلسطينيّين جحيماً، وحبسهم في سجنٍ كبيرٍ، في الوقت الّذي تحكّم الاحتلال بمصادر المياه، وأطبق على الأرض والسّماء، وواصل عمليّات القمع والاعتقال والاغتيال بما لا مثيل له في العالم كلّه.
إنّ هذا الجدار الّذي قضت محكمة العدل الدّوليّة بأنّه غير شرعيّ، وطالبت بإزالته، لا يزال ماثلاً أمام العالم الّذي يُسمع العرب كلمات المديح، ويمدّ الكيان الصهيونيّ بكلّ عناصر القوّة والبطش وآلة القتل الأكثر فتكاً في العالم. وقد شهدنا في هذا الأسبوع مسرحيّةً جديدةً من مسرحيّات الضّحك على الذّقون العربيّة، حيث أثارت وسائل الإعلام العربية الحديث عن لقاء رئيس حكومة العدوّ بالرّئيس الأمريكيّ، وأنّه كان لقاءً فاتراً، في الوقت الّذي كانت المناورات الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة الأضخم تسدل السّتار على التّقنيّات العسكريّة الصّاروخيّة التي يُراد لها أن تكون نموذجاً يُحتَذَى في الحرب القادمة على لبنان، وعلى المنطقة العربيّة والإسلاميّة عموماً.
الحرب الأوروبيّة على العالم الإسلاميّ
أمّا المستشارة الألمانيّة الّتي وقفت أمام الكونغرس الأمريكيّ لتعلن الحرب على العالم العربي والإسلاميّ بطريقة غير مباشرة، ولتتحدّث ـ مُشيرةً إلى إيران ـ عن أنّ "من يهدّد إسرائيل يهدّدنا"، لتحظى بالتّصفيق المتواصل من النوّاب الأمريكيّين، فقد ذكّرتنا بتصريحها الّذي واكب مجيء اليونيفيل إلى الجنوب، حيث اعتبرت أنّ رسالة اليونيفيل هي حماية إسرائيل لا حماية اللّبنانيّين من الإرهاب الإسرائيليّ.
إن ذلك يؤكد بأن بعض القادة في أوروبا لا يحترمون إرادة الشعوب، ولا يريدون لمن يتعرّض للاحتلال والاضطهاد أن يتخلّص من الاحتلال، وبالتالي فهم يقبعون داخل الجدران السياسية المعقّدة والمظلمة، فيما يحتفلون شكليّاً بإسقاط الجدران التي تفصل بين الشّعوب، وتمنعها من تحقيق أهدافها في الحريّة وتقرير المصير.
السّيادة العربيّة المجزّأة
إنّه لمن المعيب حقّاً أن تتحدّث التّقارير الدّقيقة عن أنّ الاحتلال الصهيونيّ هدّم في القدس ما يزيد عن 25 ألف منزل إلى الآن، في الوقت الّذي يُجري جيش العدوّ مناورةً مشتركةً مع الجيش الأردني، وبعد يوم واحد من انتهاء المناورة الصهيونية مع الجيش الأمريكي، وهذا كلّه في الوقت الذي نسمع حديثاً متواصلاً من الجامعة العربيّة وغيرها عن وقوفها إلى جانب هذا البلد العربيّ أو ذاك، ودعمها لكلّ ما يحمي سيادته. ونحن نريد للعرب جميعاً أن يحافظوا على وحدة بلدانهم وعلى سيادتهم، ولكن ماذا عن السّيادة في مواجهة الاحتلال الأمريكيّ، وماذا عن السّيادة في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ؟!
الخيار الوحيد: المقاومة
إننا نقول للفلسطينيّين الذين تصدر بحقهم وبحقّ العرب عموماً مزيد من الفتاوى اليهوديّة التلموديّة التي تبيح قتل أطفالهم، وحتى الرضّع منهم، إنّنا نقول لهم، وخصوصاً أولئك الّذين سلّموا قيادهم لأمريكا، ورفعوا أغصان الزّيتون ونادوا بالسّلام وبالمفاوضات كخيار وحيد: لقد اكتشفتم ما هي أمريكا التي تريد أن تقودكم إلى طاولة الاستسلام من دون شروطٍ مسبقة، وعرفتم خداع الإدارة الجديدة وسياستها النّفاقيّة إلى المستوى الذي أسقطت فيه حتى ورقة التّوت عن القيادات الرسميّة عندكم؛ ولذلك، فلا مجال أمامكم إلا العودة إلى خيار التّحرير الفعليّ عبر المقاومة، كخيارٍ وحيدٍ ضاغطٍ قد يدفع بالاحتلال إلى رفع قبضته الإرهابيّة عن صدوركم وأعناقكم.
لبنان في مهبّ التّهديدات الإسرائيليّة
أمّا لبنان، الّذي حظي بتوافقٍ جديدٍ ساهم في ولادة الحكومة الجديدة الّتي أبصرت النّور بعد مرور خمسة أشهر على الانتخابات النيابيّة، فقد خرج من سكرة الانفعالات والسّجالات إلى فكرة الدّولة التي تواجه التحدّيات على كافّة المستويات، وليس أقلّها التحدّي الإسرائيليّ القادم من الجنوب، ومن الاختراقات اليوميّة، والتّهديدات المتواصلة بضرب البنى التحتيّة وتدمير البلد كلّه، وآخرها من رئيس أركان جيش العدوّ، الأمر الّذي يفرض على الحكومة أن تولي مسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة اهتمامها الكبير، وتعمل على تركيز وتطوير عناصر القوّة اللّبنانية الذاتيّة الكامنة في الجيش اللّبنانيّ والمقاومة، لمواجهة أيّ طارئ، ولردع أيّ عدوان إسرائيليّ محتمل.
مواجهة المخاطر الاجتماعيّة
كما نريد للجميع أن ينطلقوا في نطاق حركةٍ متكاملةٍ لمواجهة المخاطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة الكبرى الّتي تتهدّد البلد، لأنّنا نعتقد أنّ الآفات الاجتماعيّة الكبرى بدأت تضرب مجتمعاتنا من دون أن تفرّق بين مذهبٍ ومذهب، وطائفةٍ وأخرى، وأنّ نارها يُمكن أن تمتدّ حتى تدخل إلى بيوت المسؤولين وعوائلهم؛ ومنها آفة المخدّرات التي بلغت حدّاً خطيراً، والتجسّس لصالح العدوّ، والاعتداء على أموال النّاس وأرواحهم وممتلكاتهم، كما التسيّب في مراعاة النظام العامّ في الحياة العامّة، إضافةً إلى الظلام الدّامس الذي يعاني منه البلد في ظلّ تصاعد أزمة الكهرباء، وما يرافقه من عمليّات التعدّي على شبكتي الكهرباء والمياه، ناهيك عن المسائل المتعلّقة بغذاء النّاس ومائهم ودوائهم واستشفائهم، ممّا بات تحت رحمة الفاسدين والمحتكرين الكبار والصّغار، حتّى صار النّاس غير واثقين من الطّعام الذي يأكلون، والماء الذي يشربون، والدّواء الذي يتناولون.
لقد صار واضحاً للجميع، أنّ أيّ مجالٍ من مجالات حركة المجتمع والبلد لا يُمكن أن يُهمَل لصالح أيّ مجالٍ؛ لأنّ السّاحة لا تحتمل الفراغ، فإذا لم يملأه المخلصون، فسيملأه كلّ العابثين بأوضاع النّاس ومصائرهم، وكلُّ الفاسدين والمنحرفين الّذين يُريدون تدمير مجتمعاتنا من الدّاخل كما يحاولون العمل على ضربها من الخارج.
وإنّنا نعتقد أنّ الحكومة، على تواضعها، وعلى خطورة الأوضاع المحيطة بها، أمام تحدّيات كبيرة، ونريد للجميع أن يتعاونوا لضمان نجاح مسيرتها الجديدة، فقد تعب اللّبنانيّون من الكلام الكثير، والصّخب الخطير، وباتوا يتطلّعون إلى العمل الجادّ لإصلاح أوضاعهم، وتقويم حياتهم. إنّنا نريدها حكومة الوحدة الوطنيّة التي توحِّد اللّبنانيّين على قضاياهم الحيويّة الاستراتيجيّة، لا حكومة التّناقضات السياسيّة.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
دور السّلطة في إصلاح المجتمع
يقول الله تعالى في كتابه المجيد:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104].
لقد رسّخ الإسلام منهجاً اجتماعيّاً اعتبره فريضةً على النّاس، وهو أن يكون المجتمع كلّه مسؤولاً عن الانحرافات الّتي تحدث في داخله، سواء تمثّلت هذه الانحرافات في ترك الواجبات، أو في فعل المحرّمات؛ لأنّ ذلك هو السّبيل الأمثل لضبط الواقع الإنسانيّ الاجتماعيّ، وتوجيهه نحو الالتزام بما شرّعه الله سبحانه وتعالى، وبما أحبّه لعباده.
ولذلك، فإنّ الدّور الأكبر لفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يقع على عاتق السّلطة القانونيّة، في تطبيقها للحدود والتّعزيرات بحقّ من يرتكب المعاصي التي يبغضها الله تعالى، من دون فرقٍ بين كبيرٍ وصغيرٍ، ووجيهٍ وحقيرٍ، وهذا ما عبّر عنه النبيّ(ص) عندما قال: "إنما أُهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. فأيمُ اللهِ، لو سرقتْ فاطمة بنت محمّد لقطعْتُ يدها". فالإسلام ليس فيه امتيازاتٌ لأحد، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى على لسان نبيّه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام:15].
مسؤوليّة المجتمع
والله تعالى حمّل المسؤولية ـ أيضاً ـ للمجتمع كلّه، سواء كان ذلك في النّطاق العائليّ، أو في النّطاق الاجتماعيّ الواسع. فعلى الإنسان أن يأمر عائلته بالقيام بالمسؤوليّات التي فرضها الله تعالى، وهذا ما جاء في قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشّعراء:214]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم:6].
وهذا ما أرادت الآية الكريمة أن تؤكّده:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وبذلك يتكامل الالتزام بالشّريعة الإسلاميّة في كلّ مجالاته، فهو سبب الفلاح في الدّنيا والآخرة، وقد ورد في الحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فالمطلوب من كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، ومسلمٍ ومسلمةٍ، أن يبعد المنكر عن المجتمع، سواء بالوسائل العمليّة أو الكلاميّة أو المشاعر النّفسيّة.
أهميّة القوّة في ردع المنكر
وقد ورد في الحديث عن النبيّ(ص): "إنّ الله ليُبغضُ المؤمنَ الضّعيفَ الّذي لا دينَ له". فقيل: وما المؤمن الضّعيف الذي لا دين له؟ قال: "الّذي لا ينهى عن المنكر"، فالإنسان يُحاسَب على تركه النّهي عن المنكر كما يحاسب على فعله المنكر. وقد أراد النّبي(ص) من خلال هذا الحديث أن يؤكّد أنّ على المجتمع أن يملك القوّة التي يستطيع من خلالها أن يتصدّى للمنكر، ولا سيّما إذا كان المنكر كبيراً وخطيراً ومدمِّراً للمجتمع، كما نراه في ظلم المستكبرين، أو في بعض الآفات التي تدمِّر المجتمع، كأولئك الّذين يأكلون أموال النّاس بالباطل، أو الّذين يتعاملون ببيع الخمور والمخدّرات والأعراض، والاعتداء على النّاس وما إلى ذلك...
فضل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
وورد عن أمير المؤمنين(ع): "ما أعمال البرّ كلّها والجهادُ في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إلا كنفثةٍ في بحرٍ لجيّ". فكأنّه يعتبر أنّ قضيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هي التي تصون المجتمع من السّقوط، والاهتزاز والانحراف عن الخطّ المستقيم، حتى إنّ الإمام(ع) فضّلها على كلّ أعمال الخير، وحتى على الجهاد الّذي يحفظ المجتمع ويجعله قادراً على مواجهة المستكبرين الّذين يعتدون على النّاس كلّهم.
وفي الحديث عن الإمام الحسين(ع) أنّه قال: "اعتبروا أيّها النّاس بما وعظ الله به أولياءه... وقال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر}[التّوبة:71] ـ فالله جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من صفات المؤمنين الّذين لا بدّ لهم من التّضافر والتعاضد في سبيل تحقيقه ـ فبدأ اللهُ بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضةً منه ـ فهو واجبٌ وليس مستحبّاً ـ لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت استقامت الفرائضُ كلُّها، هيِّنها وصعبها ـ لأنّ النّاس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فإنّ الفرائض الأخرى سوف تهتزّ وتسقط، بينما إذا أمر النّاسُ بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإنّ الفرائض تستقيم، والأمّة، حينها، ستستقيم وتعيش في عزّةٍ وحرّيةٍ وكرامة ـ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم ومخالفة الظّالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذِ الصّدقات من مواضعها ووضعها في حقّه".
نتائج ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
وقد حدّثنا الله تعالى في آيةٍ أخرى عن نتائج ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعن كيفيّة استحقاق بني إسرائيل اللّعن على ذلك: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78-79].
وجاء في الحديث عن عليّ(ع): "إنّ الله لم يلعن القرنَ الماضي بين أيديهم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ فلعن الله السّفهاء لركوب المعاصي، والحكماء لترك المناهي".
وعن رسول الله(ص) وهو يخاطب أمّته: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر" ـ بل واجهتم المسألة بطريقة اللامبالاة ـ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: "نعم، وشرّ من ذلك؛ كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف" ـ لأنّنا إذا تركنا الأمر بالمعروف، أصبح المعروف بعيداً عن المجتمع، وأصبح المنكر منتشراًَ فيه، فقد يرى النّاس عند ذلك المنكر شيئاً عادياً أو صحيحاً، فيسيرون فيه، كما نرى بعض النّاس الذين يأمرون بناتهم أو زوجاتهم بترك الحجاب مثلاً ـ فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: "نعم، وشرّ من ذلك؛ كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ـ بحيث تبدّلت الذهنيّة والمفاهيم ـ والمنكر معروفاً". وهذا ما نلاحظه في الواقع الّذي نعيشه في مجتمعاتنا الإسلاميّة، فنرى أنّ الذين يمارسون الجريمة، سواء سرقة السيارات أو الاتجار بالمخدّرات أو التجارة بالأعراض، أو جريمة الارتباط بالظّالمين، يعتبرونها أمراً فيه ذكاء وحنكة، بل ومدعاة للفخر أحياناً. إنّنا عندما نرى المجتمع يتحرّك من أجل الحصول على المال ولو بطريق الباطل، نشعر بهذه الخطورة في الواقع الذي تحدّث عنه النبي(ص).
المسؤوليّة الشّاملة لإصلاح المجتمع
أيّها النّاس: إنّ معنى أن نكون مسلمين، هو أن نعمل على أن يطاع الله فلا يُعصى، وأن نتحرّك من أجل أن تكون الحياة رضى لله تعالى، وهذا ما يجب علينا أن نخطّط له؛ لأنّ مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليست مسؤوليّة العلماء فحسب، ولكنّها مسؤوليّة المجتمع كلّه، وذلك في كلّ موقعٍ من المواقع الصّغيرة والكبيرة، حتى نستطيع أن نجعل مجتمعنا مجتمعاً مسلماً منفتحاً على الإسلام وعلى طاعة الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة:105].
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
بين جدار برلين وجدار الفصل العنصريّ
احتفل العالم قبل أيّام بالذّكرى العشرين لسقوط جدار برلين، وهي الذّكرى التي جمعت زعماء الغرب الذين اعتبروا المناسبة عيداً لأوروبّا كلّها، في الوقت الّذي كان العدوّ الصهيونيّ يواصل الزّحف عبر الجدار العنصريّ الممتدّ لمسافة 770 كيلومتراً داخل الضفّة الغربيّة، من دون أن ينطق هذا العالم، الّذي يطلقون عليه اسم العالم الحرّ، والّذي يريدون للبشريّة كلّها أن تحمل قيمه ومبادئه، بكلمةٍ واحدةٍ فاعلةٍ حول هذا الجدار الّذي حوّل حياة الفلسطينيّين جحيماً، وحبسهم في سجنٍ كبيرٍ، في الوقت الّذي تحكّم الاحتلال بمصادر المياه، وأطبق على الأرض والسّماء، وواصل عمليّات القمع والاعتقال والاغتيال بما لا مثيل له في العالم كلّه.
إنّ هذا الجدار الّذي قضت محكمة العدل الدّوليّة بأنّه غير شرعيّ، وطالبت بإزالته، لا يزال ماثلاً أمام العالم الّذي يُسمع العرب كلمات المديح، ويمدّ الكيان الصهيونيّ بكلّ عناصر القوّة والبطش وآلة القتل الأكثر فتكاً في العالم. وقد شهدنا في هذا الأسبوع مسرحيّةً جديدةً من مسرحيّات الضّحك على الذّقون العربيّة، حيث أثارت وسائل الإعلام العربية الحديث عن لقاء رئيس حكومة العدوّ بالرّئيس الأمريكيّ، وأنّه كان لقاءً فاتراً، في الوقت الّذي كانت المناورات الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة الأضخم تسدل السّتار على التّقنيّات العسكريّة الصّاروخيّة التي يُراد لها أن تكون نموذجاً يُحتَذَى في الحرب القادمة على لبنان، وعلى المنطقة العربيّة والإسلاميّة عموماً.
الحرب الأوروبيّة على العالم الإسلاميّ
أمّا المستشارة الألمانيّة الّتي وقفت أمام الكونغرس الأمريكيّ لتعلن الحرب على العالم العربي والإسلاميّ بطريقة غير مباشرة، ولتتحدّث ـ مُشيرةً إلى إيران ـ عن أنّ "من يهدّد إسرائيل يهدّدنا"، لتحظى بالتّصفيق المتواصل من النوّاب الأمريكيّين، فقد ذكّرتنا بتصريحها الّذي واكب مجيء اليونيفيل إلى الجنوب، حيث اعتبرت أنّ رسالة اليونيفيل هي حماية إسرائيل لا حماية اللّبنانيّين من الإرهاب الإسرائيليّ.
إن ذلك يؤكد بأن بعض القادة في أوروبا لا يحترمون إرادة الشعوب، ولا يريدون لمن يتعرّض للاحتلال والاضطهاد أن يتخلّص من الاحتلال، وبالتالي فهم يقبعون داخل الجدران السياسية المعقّدة والمظلمة، فيما يحتفلون شكليّاً بإسقاط الجدران التي تفصل بين الشّعوب، وتمنعها من تحقيق أهدافها في الحريّة وتقرير المصير.
السّيادة العربيّة المجزّأة
إنّه لمن المعيب حقّاً أن تتحدّث التّقارير الدّقيقة عن أنّ الاحتلال الصهيونيّ هدّم في القدس ما يزيد عن 25 ألف منزل إلى الآن، في الوقت الّذي يُجري جيش العدوّ مناورةً مشتركةً مع الجيش الأردني، وبعد يوم واحد من انتهاء المناورة الصهيونية مع الجيش الأمريكي، وهذا كلّه في الوقت الذي نسمع حديثاً متواصلاً من الجامعة العربيّة وغيرها عن وقوفها إلى جانب هذا البلد العربيّ أو ذاك، ودعمها لكلّ ما يحمي سيادته. ونحن نريد للعرب جميعاً أن يحافظوا على وحدة بلدانهم وعلى سيادتهم، ولكن ماذا عن السّيادة في مواجهة الاحتلال الأمريكيّ، وماذا عن السّيادة في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ؟!
الخيار الوحيد: المقاومة
إننا نقول للفلسطينيّين الذين تصدر بحقهم وبحقّ العرب عموماً مزيد من الفتاوى اليهوديّة التلموديّة التي تبيح قتل أطفالهم، وحتى الرضّع منهم، إنّنا نقول لهم، وخصوصاً أولئك الّذين سلّموا قيادهم لأمريكا، ورفعوا أغصان الزّيتون ونادوا بالسّلام وبالمفاوضات كخيار وحيد: لقد اكتشفتم ما هي أمريكا التي تريد أن تقودكم إلى طاولة الاستسلام من دون شروطٍ مسبقة، وعرفتم خداع الإدارة الجديدة وسياستها النّفاقيّة إلى المستوى الذي أسقطت فيه حتى ورقة التّوت عن القيادات الرسميّة عندكم؛ ولذلك، فلا مجال أمامكم إلا العودة إلى خيار التّحرير الفعليّ عبر المقاومة، كخيارٍ وحيدٍ ضاغطٍ قد يدفع بالاحتلال إلى رفع قبضته الإرهابيّة عن صدوركم وأعناقكم.
لبنان في مهبّ التّهديدات الإسرائيليّة
أمّا لبنان، الّذي حظي بتوافقٍ جديدٍ ساهم في ولادة الحكومة الجديدة الّتي أبصرت النّور بعد مرور خمسة أشهر على الانتخابات النيابيّة، فقد خرج من سكرة الانفعالات والسّجالات إلى فكرة الدّولة التي تواجه التحدّيات على كافّة المستويات، وليس أقلّها التحدّي الإسرائيليّ القادم من الجنوب، ومن الاختراقات اليوميّة، والتّهديدات المتواصلة بضرب البنى التحتيّة وتدمير البلد كلّه، وآخرها من رئيس أركان جيش العدوّ، الأمر الّذي يفرض على الحكومة أن تولي مسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة اهتمامها الكبير، وتعمل على تركيز وتطوير عناصر القوّة اللّبنانية الذاتيّة الكامنة في الجيش اللّبنانيّ والمقاومة، لمواجهة أيّ طارئ، ولردع أيّ عدوان إسرائيليّ محتمل.
مواجهة المخاطر الاجتماعيّة
كما نريد للجميع أن ينطلقوا في نطاق حركةٍ متكاملةٍ لمواجهة المخاطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة الكبرى الّتي تتهدّد البلد، لأنّنا نعتقد أنّ الآفات الاجتماعيّة الكبرى بدأت تضرب مجتمعاتنا من دون أن تفرّق بين مذهبٍ ومذهب، وطائفةٍ وأخرى، وأنّ نارها يُمكن أن تمتدّ حتى تدخل إلى بيوت المسؤولين وعوائلهم؛ ومنها آفة المخدّرات التي بلغت حدّاً خطيراً، والتجسّس لصالح العدوّ، والاعتداء على أموال النّاس وأرواحهم وممتلكاتهم، كما التسيّب في مراعاة النظام العامّ في الحياة العامّة، إضافةً إلى الظلام الدّامس الذي يعاني منه البلد في ظلّ تصاعد أزمة الكهرباء، وما يرافقه من عمليّات التعدّي على شبكتي الكهرباء والمياه، ناهيك عن المسائل المتعلّقة بغذاء النّاس ومائهم ودوائهم واستشفائهم، ممّا بات تحت رحمة الفاسدين والمحتكرين الكبار والصّغار، حتّى صار النّاس غير واثقين من الطّعام الذي يأكلون، والماء الذي يشربون، والدّواء الذي يتناولون.
لقد صار واضحاً للجميع، أنّ أيّ مجالٍ من مجالات حركة المجتمع والبلد لا يُمكن أن يُهمَل لصالح أيّ مجالٍ؛ لأنّ السّاحة لا تحتمل الفراغ، فإذا لم يملأه المخلصون، فسيملأه كلّ العابثين بأوضاع النّاس ومصائرهم، وكلُّ الفاسدين والمنحرفين الّذين يُريدون تدمير مجتمعاتنا من الدّاخل كما يحاولون العمل على ضربها من الخارج.
وإنّنا نعتقد أنّ الحكومة، على تواضعها، وعلى خطورة الأوضاع المحيطة بها، أمام تحدّيات كبيرة، ونريد للجميع أن يتعاونوا لضمان نجاح مسيرتها الجديدة، فقد تعب اللّبنانيّون من الكلام الكثير، والصّخب الخطير، وباتوا يتطلّعون إلى العمل الجادّ لإصلاح أوضاعهم، وتقويم حياتهم. إنّنا نريدها حكومة الوحدة الوطنيّة التي توحِّد اللّبنانيّين على قضاياهم الحيويّة الاستراتيجيّة، لا حكومة التّناقضات السياسيّة.