ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
الهجرة النبوية:
تأسيس لمرحلة جديدة
استقبال العام الهجري الجديد
في هذا اليوم نستقبل عاماً هجريّاً جديداً، هو العام الواحد والثلاثين بعد الأربعمائة والألف لهجرة النبيّ (ص) من مكّة إلى المدينة، بعد أن وصلت حالة الضغط الذي مارسه المشركون ضدّ المسلمين إلى مرحلة أصبح من غير الممكن للنبيّ (ص) والمسلمين معه البقاء في مكّة.
معنى الزمن في الإسلام
ونحن، أيها الأحبة، في أول السنة الهجرية، لا بد لنا من أن نعمل على أساس أن نعطي للزمن معناه في حركتنا وفي تقدمنا لأن الزمن ليس شيئاً مملوءاً؛ بل إن الإنسان هو الذي يصنع الزمن وهو الذي يملؤه، ولا سيما إذا كان يتصل بمناسبةٍ من المناسبات التي تمثل القاعدة التي انطلق الإسلام منها، واستطاع أن يؤسس دولة امتدت إلى أنحاء العالم حتى وصلت إلينا. وعلى هذا الأساس فإنّ أول السنة الهجرية هي بداية تأسيسٍ للحظة زمنية متفردة وهامة؛ لذلك اتفق المسلمون على أن يؤرخوا كل أوضاعاهم وكل قضاياهم في بدايتها.
تاريخ الهجرة النبوية
... وهكذا، وبعد أن اضطرّ المسلمون للهجرة إلى الحبشة، على دفعتين، اجتمعت خطّة المشركين على اغتيال النبيّ (ص)، وذلك بأن يعهدوا إلى عشرة رجال من عدّة قبائلَ أو جهاتٍ، يقتلونه على فراشه وبذلك يضيع دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يُطالبوا بدمه. وبات عليّ (ع) في ليلة الهجرة على فراش النبيّ ليغطّي انسحابه، فأنزل الله تعالى فيه قوله: }وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ{ [البقرة : 207].
وخرج رسول الله (ص) وهو يتلو قوله تعالى: }وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ{ [يس : 9]. وانتهى مسيره إلى غار ثور، وتبعه المشركون بعدما اكتشفوا واقع الأمر، واختلفوا على باب الغار؛ لأنّ العنكبوت كانت قد نسجت خيوطها على الباب، وباضت حمامتان على فم الغار، ما جعلهم يستبعدون فكرة دخوله إلى الغار، فقفلوا راجعين. والنبيّ (ص) في داخل الغار يعيش السكينة الروحيّة المنطلقة من الإيمان بالله، كما قال تعالى: (...ِإذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : 40]
الهجرة النبوية انتقال من الضعف إلى القوة
وتمثّل الهجرة قاعدةً إسلاميّة في كلّ حالة يضغط فيها الأمر الواقع ليفرض على الإنسان أن يتنازل عن دينه، في عقيدتِه وشريعته وحركيّته. وقد قال تعالى ـ وهو يتحدّث عن أولئك الذين ظلموا أنفسهم بحجّة أنّهم كانوا مستضعفين في الأرض ـ:} إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {
] النساء 97-98 [، فالضعف في الإسلام ليس عذراً، فعلى الإنسان أن يحوّل حالة الضعف عنده إلى حالة قوة، فينطلق من مواقع الضعف إلى مواقع القوة ليحصل على حريته ويعمل على تثبيت إيمانه والتزامه فيما يدعو الآخرين إليه.
ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: }وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً{[النساء : 100]، ليؤكّد الحقيقة التي تقول: إنّ قضيّة القوّة والضعف لا يُمكن أن تخضع للحدود الجغرافيّة التي تحيط بالإنسان وتضغط على حركته، بل يُمكن للإنسان أن يمتدّ إلى أماكن أخرى من الأرض، ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه، والفرص التي يستطيع، من خلالها، أن يرغم أنف القوى الطاغية. ونحن نعرف أن أغلب حالات انتشار الإسلام في العالم كانت من خلال هجرة التجار المسلمين ، والعلماء المسلمين الذي كانوا يهاجرون إلى أصقاع الأرض ليعرّفوا الناس الإسلام، ويقنعوهم به. فالإسلام لم يدخل كثيراً من البلدان بفعل القوة ، وإنما من خلال الإقناع والحكمة والموظة الحسنة.
إنّ الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أنّ اضطهاد الدعوة في أحد مواقع العمل، لا يعني استحالة الحركة؛ لأنّ هناك مواقع أخرى للحرّية يُمكن الانتقال إليها من أجل التحرّك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة، وربّما للعودة من جديد إلى الموقع الأساس بقوّة أكبر وقدرة أكبر على صناعة التغيير.
وهكذا صنع رسولُ الله (ص) والصحابةُ معه، فقامت في المدينة الدولة الإسلاميّة الأولى، لتصنع للإسلام قوّته، وتؤكّد عزّته، ولتواجه كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وكان المسلمون في كلّ ذلك الوقت يعيشون التجربة تلو التجربة، حتّى أذن الله ـ في نهاية المطاف ـ بأن يرجعوا إلى مكّة ليفتحوها سلماً بلا قتال، وكان ذلك هو وعد الله عزّ وجلّ: }لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً{ [الفتح : 27].
مسؤولية الإنسان في السنة الجديدة
أيّها الأحبّة
في العام الجديد لا بدّ لنا ـ أيضاً ـ أن نقف موقف حساب؛ نحاسب فيه أنفسنا على ما قدّمناه في السنة الماضية؛ ليخاطب كلٌّ منّا نفسه، فيقول لها: يا نفسُ، هذه سنة قد مضت لا تعود إليك أبداً، والله سائلك عنها. فماذا صنعتِ فيها؟
هل أدّيتِ حقوقَ الله عليكِ؟ هل عبدتِ الله حقّ عبادته؟ هل أقمتِ الصلاة التي هي عمود الدين؟ هل آتيتِ الزكاة التي فرضها الله عليك؟
كيف كان طلبُك للعلم؟ هل أكّدتِ التقوى في حياتك تجاه مواقف الحقّ فلم تتنازلي عنها؟ وتجاه مواقف العدل فلم تنحرفي عنها؟
هل أمرتِ بالمعروف في كلّ ما يرفع من مستوى الإنسان؟ وهل أنكرتِ المنكر؟ وهل رفضتِ الظلم من نفسك للناس ومن الآخرين؟ هل جاهدتِ في الله حق جهاده ؟
هل عاملتِ الناس بالحُسنى أم بالسوء؟ هل أصلحتِ بين الناس أم أفسدتِ؟ هل أكلتِ المال بالباطل؟ هل ركنتِ إلى الظالمين؟ هل أيّدتِ المفسدين؟ هل أذلَلْتِ نفسَك أم أعززتِها كما أمر الله؟
وهكذا... حتّى نحصي كلّ الخير في كل ما قدّمنا ونحصي كلّ الشرّ فيه؛ فنحمد الله تعالى على توفيقه للخير، ونستغفره على شرور أفعالنا التي جنينا بها على أنفسنا. }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{[الحشر : 18]
جردة حساب أخلاقية
أيّها الأحبّة..
كما نقوم بجردة حساب ماليّ في رأس السنة، علينا أن نقوم بجردة حساب تقوائيّة في رأس السنة بأشدّ من ذلك؛ لأنّ هذا هو الذي يبقى للإنسان وللآخرة: }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً {[الكهف : 46]. والحمد لله ربّ العالمين
الخطبة الثّانية
فلسطين:
الزحف الاستيطاني المستمر
في فلسطين المحتلة، يهرول العدوّ إلى الأمام، فارضاً جدول أعماله على الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، عبر الإسراع في زحفه الاستيطاني، وتقييد التسوية بقرارات حكومية أو من الكنيست تُخضع مسألة الاستيطان أو الانسحاب لاستفتاء مسبق من اليهود المحتلين، والنتيجة معروفة سلفاً في أن هؤلاء الذين يقتحمون بيوت الفلسطينيين يومياً بقرارات قضائية أو غير قضائية صادرة عن سلطات الاحتلال، لن يعطوا أصواتهم إلا لمزيد من الاحتلال والاستيطان.
وهكذا، يتحوّل العدوّ لتهديم مائتي منزل جديد في القدس المحتلة، وتقرّ الحكومة الصهيونية خطة أسمتها "خريطة الأولويات القومية"، القاضية بضمّ عشرات المستوطنات المسمّاة "معزولة" إلى بقية المستوطنات خلف الجدار العازل، وتأمين الاعتمادات المالية الكبرى لها، مع ما يعنيه ذلك من تمهيد لضم الضفة الغربية بشكل تدريجي، ومن خلال عجلة الاستيطان التي لا تتوقف على الرغم من السيناريوهات الأمريكية والأوروبية التي تثير الحديث بين وقت وآخر عن المفاوضات وخارطة الطريق.
خارطة طريق للمقاومة
إننا نقول للفلسطينيين والعرب والمسلمين: إن خريطة الطريق الوحيدة التي يفهمها هذا العدوّ هي البرنامج المقاوم الذي من شأنه أن يضع حداً للزحف الاستيطاني إنْ لم يستطع إخراج المحتل، والمطلوب من الجميع أن يتحركوا على كافة المستويات لجعل الوجود الصهيوني في فلسطين وجوداً قلقاً حائراً، تتنازعه هواجس الاهتزاز ومشاعر القلق والإحباط.
إخضاع إيران مطلب دائم
إلى جانب ذلك، تتصاعد الضغوط الأمريكية والغربية ضد إيران، لحملها على الخضوع لشروط تستهدف سيادتها واستقلالها بما يتصل بملفها النووي السلمي، وتتحدث وزيرة الخارجية الأمريكية عمّا أسمته "الحاجة إلى عقوبات جديدة ضد إيران"، بحجة "توفير مزيد من المعلومات عن برنامجها النووي المشتبه فيه"، كما تقول. مع أن تقرير الاستخبارات الأمريكية أفاد قبل سنتين بأن إيران أوقفت نشاطها في مجال الأسلحة النووية عام 2003، وأن الوكالة واثقة تماماً من أن هذا النشاط لم يتجدد؛ الأمر الذي يؤكد بأن أمريكا والدول الغربية تسعى لابتزاز إيران بهدف إخضاعها، ودفعها للتخلي عن استراتيجيتها في التصنيع العلمي والتكنولوجي، الذي من شأنه أن يحمي استقلالها السياسي، ويعزز اكتفاءها الذاتي اقتصادياً وصناعياً، وخصوصاً في مجالات الطاقة.
ماذا بعد مطالبة إيران؟
إننا نعتقد أن هذا الملف لا يتصل بالجمهورية الإسلامية وحدها، بل يخص كل دول العالم العربي والإسلامي، لأن الاستكبار العالمي ـ وبالتعاون مع الكيان الصهيوني ـ يعمل بكل طاقته لمنع تشكّل قوى إسلامية وعربية لها توجهاتها الاستقلالية سياسياً واقتصادياً، ولذلك فإن المطلوب أن يكون الرد من كل الدول العربية والإسلامية بأنها لن تستجيب لكل دعوات الحصار والمقاطعة ضد إيران، لأن ذلك سيترك آثاراً مدمِّرة على المنطقة، ويجعلها أكثر اهتزازاً، ويمهّد لجولات عنف جديدة فيها.
مفهوم السيادة العربية
ونحن في الوقت الذي نريد فيه لكل التجمّعات والقمم العربية الاقتصادية والسياسية أن تنجح في تأمين رفاهية أكثر لشعوبها، وحماية أوسع لسيادتها، كما في قمة دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أننا ندعو لفهم عميق للسيادة العربية التي تنتهكها الطائرات الصهيونية جيئة وذهاباً، والتي يطاولها العدوان الإسرائيلي اليومي في فلسطين ولبنان وغيرهما، من دون أن ترتفع الأصوات لحماية هذه السيادة والدفاع عنها بالغالي والنفيس، فضلاً عن أن المسؤولين الصهاينة يحطّون رحالهم في هذه الدولة العربية أو تلك، وتصدر البيانات السياسية الرسمية المرحِّبة بهم، خلافاً لقوانين المقاطعة الصادرة عن جامعة الدول العربية والقمم العربية.
أيها الأمريكيون دعوا اللبنانيين وشأنهم
أما لبنان الذي اكتوى بنيران الأسلحة الأمريكية الذكية وغير الذكية، والذي لا يزال يدفع فاتورة القنابل العنقودية الأمريكية الصنع، فقد استمع لنصيحة أمريكية متجددة بضرورة منع تهريب السلاح، لأن الأمريكيين ـ مهما اختلفت إداراتهم ـ يريدون للبنان أن يبقى عارياً وأعزل أمام إسرائيل النووية، حتى تسرح وتمرح في سمائه، وتستبيح أمنه وتحتل أرضه ساعة تشاء.
إننا نقول للأمريكيين الذي أخرجوا لبنان من دائرة الاهتمام القصوى، ووضعوه على لائحة الابتزاز والمساومة: اتركوا اللبنانيين وحدهم، ولا تتدخّلوا مع هذا الفريق أو ذلك لتفرضوا عليه مواقف وخطوات لا تنسجم مع سيادة البلد وحركة الحكومة الجديدة، وسيكون بمقدور اللبنانيين التفاهم على هذا السلاح الذي لن تكون له إلا وظيفة دفاعية لحماية لبنان، ومنع المغامرين الدوليين والإقليميين من تسهيل حركة المرور لمشاريعهم العدوانية عبر أرضه ومياهه وسمائه؛ لأننا نتطلّع للبنان النموذج للحرية والعدالة والسيادة والاستقلال على مستوى المنطقة كلها، وعلى امتداد الشرق الأوسط كلّه.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
الهجرة النبوية:
تأسيس لمرحلة جديدة
استقبال العام الهجري الجديد
في هذا اليوم نستقبل عاماً هجريّاً جديداً، هو العام الواحد والثلاثين بعد الأربعمائة والألف لهجرة النبيّ (ص) من مكّة إلى المدينة، بعد أن وصلت حالة الضغط الذي مارسه المشركون ضدّ المسلمين إلى مرحلة أصبح من غير الممكن للنبيّ (ص) والمسلمين معه البقاء في مكّة.
معنى الزمن في الإسلام
ونحن، أيها الأحبة، في أول السنة الهجرية، لا بد لنا من أن نعمل على أساس أن نعطي للزمن معناه في حركتنا وفي تقدمنا لأن الزمن ليس شيئاً مملوءاً؛ بل إن الإنسان هو الذي يصنع الزمن وهو الذي يملؤه، ولا سيما إذا كان يتصل بمناسبةٍ من المناسبات التي تمثل القاعدة التي انطلق الإسلام منها، واستطاع أن يؤسس دولة امتدت إلى أنحاء العالم حتى وصلت إلينا. وعلى هذا الأساس فإنّ أول السنة الهجرية هي بداية تأسيسٍ للحظة زمنية متفردة وهامة؛ لذلك اتفق المسلمون على أن يؤرخوا كل أوضاعاهم وكل قضاياهم في بدايتها.
تاريخ الهجرة النبوية
... وهكذا، وبعد أن اضطرّ المسلمون للهجرة إلى الحبشة، على دفعتين، اجتمعت خطّة المشركين على اغتيال النبيّ (ص)، وذلك بأن يعهدوا إلى عشرة رجال من عدّة قبائلَ أو جهاتٍ، يقتلونه على فراشه وبذلك يضيع دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يُطالبوا بدمه. وبات عليّ (ع) في ليلة الهجرة على فراش النبيّ ليغطّي انسحابه، فأنزل الله تعالى فيه قوله: }وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ{ [البقرة : 207].
وخرج رسول الله (ص) وهو يتلو قوله تعالى: }وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ{ [يس : 9]. وانتهى مسيره إلى غار ثور، وتبعه المشركون بعدما اكتشفوا واقع الأمر، واختلفوا على باب الغار؛ لأنّ العنكبوت كانت قد نسجت خيوطها على الباب، وباضت حمامتان على فم الغار، ما جعلهم يستبعدون فكرة دخوله إلى الغار، فقفلوا راجعين. والنبيّ (ص) في داخل الغار يعيش السكينة الروحيّة المنطلقة من الإيمان بالله، كما قال تعالى: (...ِإذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : 40]
الهجرة النبوية انتقال من الضعف إلى القوة
وتمثّل الهجرة قاعدةً إسلاميّة في كلّ حالة يضغط فيها الأمر الواقع ليفرض على الإنسان أن يتنازل عن دينه، في عقيدتِه وشريعته وحركيّته. وقد قال تعالى ـ وهو يتحدّث عن أولئك الذين ظلموا أنفسهم بحجّة أنّهم كانوا مستضعفين في الأرض ـ:} إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {
] النساء 97-98 [، فالضعف في الإسلام ليس عذراً، فعلى الإنسان أن يحوّل حالة الضعف عنده إلى حالة قوة، فينطلق من مواقع الضعف إلى مواقع القوة ليحصل على حريته ويعمل على تثبيت إيمانه والتزامه فيما يدعو الآخرين إليه.
ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: }وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً{[النساء : 100]، ليؤكّد الحقيقة التي تقول: إنّ قضيّة القوّة والضعف لا يُمكن أن تخضع للحدود الجغرافيّة التي تحيط بالإنسان وتضغط على حركته، بل يُمكن للإنسان أن يمتدّ إلى أماكن أخرى من الأرض، ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه، والفرص التي يستطيع، من خلالها، أن يرغم أنف القوى الطاغية. ونحن نعرف أن أغلب حالات انتشار الإسلام في العالم كانت من خلال هجرة التجار المسلمين ، والعلماء المسلمين الذي كانوا يهاجرون إلى أصقاع الأرض ليعرّفوا الناس الإسلام، ويقنعوهم به. فالإسلام لم يدخل كثيراً من البلدان بفعل القوة ، وإنما من خلال الإقناع والحكمة والموظة الحسنة.
إنّ الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أنّ اضطهاد الدعوة في أحد مواقع العمل، لا يعني استحالة الحركة؛ لأنّ هناك مواقع أخرى للحرّية يُمكن الانتقال إليها من أجل التحرّك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة، وربّما للعودة من جديد إلى الموقع الأساس بقوّة أكبر وقدرة أكبر على صناعة التغيير.
وهكذا صنع رسولُ الله (ص) والصحابةُ معه، فقامت في المدينة الدولة الإسلاميّة الأولى، لتصنع للإسلام قوّته، وتؤكّد عزّته، ولتواجه كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وكان المسلمون في كلّ ذلك الوقت يعيشون التجربة تلو التجربة، حتّى أذن الله ـ في نهاية المطاف ـ بأن يرجعوا إلى مكّة ليفتحوها سلماً بلا قتال، وكان ذلك هو وعد الله عزّ وجلّ: }لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً{ [الفتح : 27].
مسؤولية الإنسان في السنة الجديدة
أيّها الأحبّة
في العام الجديد لا بدّ لنا ـ أيضاً ـ أن نقف موقف حساب؛ نحاسب فيه أنفسنا على ما قدّمناه في السنة الماضية؛ ليخاطب كلٌّ منّا نفسه، فيقول لها: يا نفسُ، هذه سنة قد مضت لا تعود إليك أبداً، والله سائلك عنها. فماذا صنعتِ فيها؟
هل أدّيتِ حقوقَ الله عليكِ؟ هل عبدتِ الله حقّ عبادته؟ هل أقمتِ الصلاة التي هي عمود الدين؟ هل آتيتِ الزكاة التي فرضها الله عليك؟
كيف كان طلبُك للعلم؟ هل أكّدتِ التقوى في حياتك تجاه مواقف الحقّ فلم تتنازلي عنها؟ وتجاه مواقف العدل فلم تنحرفي عنها؟
هل أمرتِ بالمعروف في كلّ ما يرفع من مستوى الإنسان؟ وهل أنكرتِ المنكر؟ وهل رفضتِ الظلم من نفسك للناس ومن الآخرين؟ هل جاهدتِ في الله حق جهاده ؟
هل عاملتِ الناس بالحُسنى أم بالسوء؟ هل أصلحتِ بين الناس أم أفسدتِ؟ هل أكلتِ المال بالباطل؟ هل ركنتِ إلى الظالمين؟ هل أيّدتِ المفسدين؟ هل أذلَلْتِ نفسَك أم أعززتِها كما أمر الله؟
وهكذا... حتّى نحصي كلّ الخير في كل ما قدّمنا ونحصي كلّ الشرّ فيه؛ فنحمد الله تعالى على توفيقه للخير، ونستغفره على شرور أفعالنا التي جنينا بها على أنفسنا. }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{[الحشر : 18]
جردة حساب أخلاقية
أيّها الأحبّة..
كما نقوم بجردة حساب ماليّ في رأس السنة، علينا أن نقوم بجردة حساب تقوائيّة في رأس السنة بأشدّ من ذلك؛ لأنّ هذا هو الذي يبقى للإنسان وللآخرة: }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً {[الكهف : 46]. والحمد لله ربّ العالمين
الخطبة الثّانية
فلسطين:
الزحف الاستيطاني المستمر
في فلسطين المحتلة، يهرول العدوّ إلى الأمام، فارضاً جدول أعماله على الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، عبر الإسراع في زحفه الاستيطاني، وتقييد التسوية بقرارات حكومية أو من الكنيست تُخضع مسألة الاستيطان أو الانسحاب لاستفتاء مسبق من اليهود المحتلين، والنتيجة معروفة سلفاً في أن هؤلاء الذين يقتحمون بيوت الفلسطينيين يومياً بقرارات قضائية أو غير قضائية صادرة عن سلطات الاحتلال، لن يعطوا أصواتهم إلا لمزيد من الاحتلال والاستيطان.
وهكذا، يتحوّل العدوّ لتهديم مائتي منزل جديد في القدس المحتلة، وتقرّ الحكومة الصهيونية خطة أسمتها "خريطة الأولويات القومية"، القاضية بضمّ عشرات المستوطنات المسمّاة "معزولة" إلى بقية المستوطنات خلف الجدار العازل، وتأمين الاعتمادات المالية الكبرى لها، مع ما يعنيه ذلك من تمهيد لضم الضفة الغربية بشكل تدريجي، ومن خلال عجلة الاستيطان التي لا تتوقف على الرغم من السيناريوهات الأمريكية والأوروبية التي تثير الحديث بين وقت وآخر عن المفاوضات وخارطة الطريق.
خارطة طريق للمقاومة
إننا نقول للفلسطينيين والعرب والمسلمين: إن خريطة الطريق الوحيدة التي يفهمها هذا العدوّ هي البرنامج المقاوم الذي من شأنه أن يضع حداً للزحف الاستيطاني إنْ لم يستطع إخراج المحتل، والمطلوب من الجميع أن يتحركوا على كافة المستويات لجعل الوجود الصهيوني في فلسطين وجوداً قلقاً حائراً، تتنازعه هواجس الاهتزاز ومشاعر القلق والإحباط.
إخضاع إيران مطلب دائم
إلى جانب ذلك، تتصاعد الضغوط الأمريكية والغربية ضد إيران، لحملها على الخضوع لشروط تستهدف سيادتها واستقلالها بما يتصل بملفها النووي السلمي، وتتحدث وزيرة الخارجية الأمريكية عمّا أسمته "الحاجة إلى عقوبات جديدة ضد إيران"، بحجة "توفير مزيد من المعلومات عن برنامجها النووي المشتبه فيه"، كما تقول. مع أن تقرير الاستخبارات الأمريكية أفاد قبل سنتين بأن إيران أوقفت نشاطها في مجال الأسلحة النووية عام 2003، وأن الوكالة واثقة تماماً من أن هذا النشاط لم يتجدد؛ الأمر الذي يؤكد بأن أمريكا والدول الغربية تسعى لابتزاز إيران بهدف إخضاعها، ودفعها للتخلي عن استراتيجيتها في التصنيع العلمي والتكنولوجي، الذي من شأنه أن يحمي استقلالها السياسي، ويعزز اكتفاءها الذاتي اقتصادياً وصناعياً، وخصوصاً في مجالات الطاقة.
ماذا بعد مطالبة إيران؟
إننا نعتقد أن هذا الملف لا يتصل بالجمهورية الإسلامية وحدها، بل يخص كل دول العالم العربي والإسلامي، لأن الاستكبار العالمي ـ وبالتعاون مع الكيان الصهيوني ـ يعمل بكل طاقته لمنع تشكّل قوى إسلامية وعربية لها توجهاتها الاستقلالية سياسياً واقتصادياً، ولذلك فإن المطلوب أن يكون الرد من كل الدول العربية والإسلامية بأنها لن تستجيب لكل دعوات الحصار والمقاطعة ضد إيران، لأن ذلك سيترك آثاراً مدمِّرة على المنطقة، ويجعلها أكثر اهتزازاً، ويمهّد لجولات عنف جديدة فيها.
مفهوم السيادة العربية
ونحن في الوقت الذي نريد فيه لكل التجمّعات والقمم العربية الاقتصادية والسياسية أن تنجح في تأمين رفاهية أكثر لشعوبها، وحماية أوسع لسيادتها، كما في قمة دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أننا ندعو لفهم عميق للسيادة العربية التي تنتهكها الطائرات الصهيونية جيئة وذهاباً، والتي يطاولها العدوان الإسرائيلي اليومي في فلسطين ولبنان وغيرهما، من دون أن ترتفع الأصوات لحماية هذه السيادة والدفاع عنها بالغالي والنفيس، فضلاً عن أن المسؤولين الصهاينة يحطّون رحالهم في هذه الدولة العربية أو تلك، وتصدر البيانات السياسية الرسمية المرحِّبة بهم، خلافاً لقوانين المقاطعة الصادرة عن جامعة الدول العربية والقمم العربية.
أيها الأمريكيون دعوا اللبنانيين وشأنهم
أما لبنان الذي اكتوى بنيران الأسلحة الأمريكية الذكية وغير الذكية، والذي لا يزال يدفع فاتورة القنابل العنقودية الأمريكية الصنع، فقد استمع لنصيحة أمريكية متجددة بضرورة منع تهريب السلاح، لأن الأمريكيين ـ مهما اختلفت إداراتهم ـ يريدون للبنان أن يبقى عارياً وأعزل أمام إسرائيل النووية، حتى تسرح وتمرح في سمائه، وتستبيح أمنه وتحتل أرضه ساعة تشاء.
إننا نقول للأمريكيين الذي أخرجوا لبنان من دائرة الاهتمام القصوى، ووضعوه على لائحة الابتزاز والمساومة: اتركوا اللبنانيين وحدهم، ولا تتدخّلوا مع هذا الفريق أو ذلك لتفرضوا عليه مواقف وخطوات لا تنسجم مع سيادة البلد وحركة الحكومة الجديدة، وسيكون بمقدور اللبنانيين التفاهم على هذا السلاح الذي لن تكون له إلا وظيفة دفاعية لحماية لبنان، ومنع المغامرين الدوليين والإقليميين من تسهيل حركة المرور لمشاريعهم العدوانية عبر أرضه ومياهه وسمائه؛ لأننا نتطلّع للبنان النموذج للحرية والعدالة والسيادة والاستقلال على مستوى المنطقة كلها، وعلى امتداد الشرق الأوسط كلّه.