من وصية علي(ع):
عمودان أقيموهما ومصباحان أوقدوهما
كتاب الله وسنّة رسوله(ص)
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
شهيد المحراب
في فجر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، كانت شهادة أمير المؤمنين(ع) اغتيالاً في مسجد في الكوفة على يد خارجيّ شقي، هو عبد الرحمن بن ملجم، وقد فقد العالم الإسلامي بهذه الفاجعة الكبرى إنساناً لم يلتقِ الناس بعد رسول الله(ص) بمثله في صفاته الإنسانية والروحية، فنحن نعرف أن علياً(ع) عاش منذ طفولته كل روحانية رسول الله(ص) الذي كان يربّيه بكلماته، ويعطيه عقلاً من عقله، ويمنحه روحيةً من روحيته، وحكمةً من حكمته، وإخلاصاً لله من كل إخلاصه، حتى كان نفس رسول الله في عقله وقلبه وروحه وحركته.
ثم عندما انطلق الإسلام، كان علي(ع) في العاشرة من عمره، فالتزم به، لأنه كان يعيش معناه في معنى رسول الله قبل أن يبعثه الله بالرسالة، لأن الله ربى رسوله على الإسلام قبل أن يبعثه به، كما حدّث علي(ع) بذلك: "ولقد قرن الله به ـ برسول الله ـ من لدن أن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم،ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه". فلقد أعد الله رسوله ليعيش معنى الرسالة في وعيه قبل أن يبعثه بالرسالة وينزل عليه الوحي.
علي(ع) فارس الإسلام
وكان علي(ع) في أول شبابه في مكة، يرافق رسول الله ويدافع عنه، وعندما انطلقت التحديات العسكرية ضد الإسلام والمسلمين من قِبل قريش، كان(ع) فارس الإسلام الأول، وهو الذي قيل فيه: "لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ"، وكان انتصار المسلمين في بدر يعود في نصفه إلى علي(ع) لأنه قتل نصف المشركين، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر.
وهكذا انطلق علي من بدر، إلى أُحد، إلى الأحزاب، إلى حنين، إلى كل معركة من معارك الإسلام، فكان لا يغيب عن معركة، وكان سيفه سيف الإسلام، وكانت مسؤوليته الدفاع عن الإسلام في وجه كل الذين يريدون أن يسقطوه، حتى إنه عندما انطلق النبي في غزوة تبوك، التي لم تحدث فيها حرب، وترك علياً(ع) في المدينة واستغرب(ع) ذلك، فقال له(ص): "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". لذلك كان علي(ع) في مرتبة النبوّة، ولكنه لم يكن نبياً، وكان يسمع الوحي، وقال له النبي(ص) في وقتها: "إنك ترى ما أرى، وتسمع ما أسمع، ولكنك لست بنبي". وقد تلمذ على رسول الله(ص)، وهو القائل: "علمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كل باب ألف باب".
وقد عرّف رسول الله علياً بأنه إنسان الحق، فقال فيه كلمته الخالدة: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار". لذلك كانت مشكلة علي في حربه وسلمه وخلافته، الحق، وهو القائل: "ما ترك لي الحق من صديق".
وأراد رسول الله(ص) أن يعرّف الناس أن من يؤمن به لا بد من أن يؤمن بعلي(ع)، فقال: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار".
تفضيل الإسلام على الخلافة
وكان(ع) همه الإسلام حتى بعد أن أُبعد عن حقه في الخلافة، ولم تكن الخلافة بمعنى الولاية الرسمية همه، وإن كانت حقه، وكان يقول في كلمته المعروفة: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدّين وتنهنه". وكان(ع) يقول: "لأسالمن ـ أو لأسلمنّ ـ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا علي خاصة".
هكذا كانت روحية علي(ع)، حتى عندما بُويع بالخلافة، وبدأ الكثيرون بتعقيد حركته من أجل منعه من تنفيذ خطته الإصلاحية، وهو الذي يملك أسس نجاح الدولة الإسلامية، قال(ع): "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً}.
وكان(ع) يقول عن نفسه: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
لقد كان علي(ع) الإنسان الذي عاش مع الله في كل أموره، وباع نفسه لله، وورد في تفسير آية: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد} أنها نزلت في علي(ع).
وهكذا انطلق الذين لم يرتفعوا إلى مستوى المسؤولية الإسلامية، وخصوصاً الخوارج، الذين أغلقوا عقولهم عن معرفة الحق ومعرفة الإسلام ومعرفة ما معنى علي، وتآمروا على أن يقتلوه، وعندما حدث ما حدث، كان علي(ع) يتحدث عن هذا الواقع الجديد بعد إصابته، وممّا ورد في بعض حديثه: "أيها الناس، كل امرىء لاق ما يفر منه في فراره، والأجل مساق النفس ـ النفس تمشي والأجل يمشي وراءها حتى تصل إلى مقرّها ـ والهرب منه موافاته. كم اطَّردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات! علم مخزون...".
الموت الواعظ
أما الوصية التي كانت تشغله وهو في حال الاحتضار: "أما وصيتي فالله، لا تشركوا به شيئاً، ومحمد(ص) فلا تضيِّعوا سنّته ـ وصيّتي الإسلام وهو التوحيد، والعمل بسنّة رسول الله(ص) {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ـ أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين ـ كتاب الله وسنّة رسول الله ـ وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا ـ ما لم تنفروا وتميلوا عن الحق ـ حمل كل امرىء منكم مجهوده، وخفّف عن الجهلة، رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. أنا بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم. غفر الله لي ولكم... إنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً، وستعقبون مني جثة خلاءً ـ جثة خالية من الروح ـ ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق، ليعظكم هدوّي، وخفوت أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من النطق البليغ، والقول المسموع ـ لأن الإنسان عندما يرى الميت الذي كان يتحدث ويتحرك ويشارك في كل المسؤوليات وكل القضايا، فإنه يستحضر حاله عندما يصل إلى هذا المستوى ـ وداعيكم وداع امرىء مرصد للتلاقي. غداً ترون أيامي، ويُكشف لكم عن سرائري ـ وتعرفون الأسرار التي كنت أختزنها في إخلاصي لله ولرسوله وللمؤمنين ـ وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي"، عندما يأتي معاوية ويزيد وغيرهما.
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه، وقبل خروجه إلى المسجد، مما يرويه عنه ابنه الحسن(ع) قال: "ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول الله، فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيت من أمتك من الأود (الاعوجاج) واللدد (الخصام)؟ فقال: ادعُ عليهم، فقلت: أبدلني الله بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني".
وفي حديث له(ع) بعد ضربته: "أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم، إن أبقَ فأنا وليُّ دمي، وإن أفْنَ، فالفناء ميعادي، وإن أعفُ، فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم". وقال(ع) أيضاً: "والله ما فاجأني من الموت واردٌ كرهته، ولا طالعٌ أنكرته، وما كنت إلا كقاربٍ ورَدَ، أو طالب وجد، وما عند الله خيرٌ للأبرار". هذه كانت وصية علي(ع) وحديثه حال احتضاره.
حدود الشريعة وتطبيقها
ثم إنّ عظمة علي(ع) التي يجب أن نقتدي بها، أنه كان يريد تطبيق الشريعة الإسلامية على نفسه قبل غيره، ولذلك جمع أقرباءه، وهم أولياء الدم، وقال(ع) لهم: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلا قاتلي. انظروا إن أنا مت من ضربتي هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور".
وهكذا أيها الأحبة، نلتقي بذكرى علي(ع) الذي غاب عنا، ولكنه حيٌ في عقولنا وفي قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، وإننا لا نملك إلا أن ننحني أمام عظمة علي، وأن نحبّه من كل عقولنا وقلوبنا، لأن النظر إلى علي(ع) ودراسته تجعلنا نمحضه الحب كله. ونحن إذا كنا نوالي علياً(ع)، فولايته تعني السير على نهجه والانفتاح على فكره، لأنّ علياً(ع) أعطى الإنسانية فكراً لا يشعر أحد بأنه فكر الماضي.
وقد قال أحد الغربيين: لو كان علي موجوداً الآن، لرأيت مسجد الكوفة مملوءاً بالقبعات الغربية، ولن تجد فيه موطىء قدم لعربي واحد.
لذلك علينا أن نعيش علياً فكراً وعلماً وحكمةً، لأنه كان(ع) النور الذي يضيء لنا الطريق.
وأخيراً، نقرأ كلمة ذلك الشاعر المسيحي:
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشـعي إنـي ذكـرت علياً
والسلام على علي أمير المؤمنين، ووصي رسول رب العالمين، يوم ولد ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
ماذا هناك؟
11أيلول: إحياء الذكرى بالحروب التدميرية
في المشهد الأمريكي، يعترف الرئيس الأمريكي جورج بوش صراحةً بأنه كان متعطشاً لدماء العراقيين، وكان يوبّخ قادته العسكريين في العراق الذين يحرصون على الإعلان عن عدد الضحايا الأمريكيين من دون أن يكون لديهم سجلٌّ معلن لعدد القتلى والأسرى من الأعداء على تلك الجبهة التي فتحها قبل خمس سنوات، ما قد يوحي، وفي الذكرى السابعة لهجوم 11أيلول، بالرغبة الأمريكية في الثأر، وهي رغبة لم تسقط يوماً من حسابات أمريكا ولا من جدول أعمالها في العالمين العربي والإسلامي، وعلى وجه الخصوص الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري الذي يمثله جورج بوش، ونائبه وإدارته الذين ينادون دائماً: "اقتلوا الأنذال لكي تنتصروا"، لأنهم يتطلّعون إلى جمهور أمريكي يطمح إلى تدمير المواقع العربية والإسلامية بعصبية انفعالية تصنعها وسائل الإعلام السائرة في ركاب اللوبي الصهيوني.
إن أمريكا ـ كما تشير بعض المواقع الإعلامية ـ تحارب أمةً كاملةً وشعوباً متعددةً، بحيث أصبحت الحرب جزءًا من طقوسها لإحياء تلك الذكرى المشؤومة، وهذا ما يجب أن تعيه شعوبنا العربية والإسلامية، وان يتحمّل مسؤوليته القائمون على شؤون بلداننا الذين اندفعوا، بوعي أو من دون وعيٍ أو تفكير، إلى الخضوع للاستراتيجية الأمريكية في الحرب ضد ما تسمّيه الإرهاب، من خلال ملاحقة كل الأحرار الباحثين عن تحرير أوطانهم، وخلاص إنسانهم، والمحافظة على توازن أوضاعهم في حماية ثرواتهم لمصلحة اقتصادهم، لأن النخبة السياسية الأمريكية لا تفكر إلا في إيجاد المواقع الداعمة لمصالحها الاقتصادية وسيطرتها السياسية، لتبقى أمريكا في موقع الإمبراطوية الكونية القائدة للعالم، ما يجعلها تثير المشاكل في أكثر من منطقة في العالم، وربما كانت حركتها في جورجيا ومشروعها في نشر الدرع الصاروخي حول الاتحاد الروسي، قد جاءت بفعل الخوف من تعاظم قوته في المستقبل.
الإدارة الأمريكية: الانتصار الموهوم في العراق
أما على صعيد علاقتها بأوروبا، فإن الإدارة الأمريكية تعمل للاستفادة من نقاط الضعف في الاتحاد الأوروبي أمنياً واقتصادياً، حيث تترك هذه النقاط أكثر من تأثير سلبي في قراراته السياسية، في الوقت الذي تزيد من صفقات التسلّح، ولاسيما في العالم العربي، لدعم اقتصادها، على الرغم من أنه ليس للعالم العربي أي ضرورة للتسلح في ذلك، إلا إذا كانت تعمل على إثارة أكثر من حرب في منطقته، ولاسيما في إثارة التعقيدات الأمنية بينه وبين إيران في مقابل السلام مع إسرائيل.
ومن اللافت أن المعاهدة الاستراتيجية التي يُفرض على العراق ـ بحسب تعبير وزير الخارجية العراقي ـ عقدها مع الولايات المتحدة، ربما تُوقَّع قريباً بفعل الضغط الأمريكي، وتحت سقف الوعود المعلنة بأنها قد تفتح الباب أمام انسحابٍ كبير للقوات الأمريكية بحلول العالم 2011، ولكن الوزير العراقي أشار في تصريحه إلى أن المعاهدة لا تنص على موعدٍ لانسحاب المحتل، ما يوحي بأن الرئيس الأمريكي يريد أن يقدّم للرأي العام الأمريكي إعلاناً بالانتصار في حربه الظالمة على العراق، في الوقت الذي يخطط للبقاء طويلاً في هذا البلد من خلال استراتيجيته في المنطقة.
إننا نريد للشعب العراقي أن يفهم اللعبة جيداً، ليواصل ضغطه على المحتل ليرحل في أسرع وقت ممكن ومن دون شروط مسبقة، وعلى المسؤولين في العراق أن يرفدوا حركة الشعب لطرد المحتل، فلا شرعية لأية سلطة تعمل على فرض قيود على الشعب بما يوفّر الغطاء للاحتلال للاستمرار والبقاء، ولا بد من أن تتوحّد كل أطياف الشعب العراقي حول الهدف الأساس المتمثل بإخراج الاحتلال دون قيد أو شرط.
فلسطين: خيار المقاومة والانتفاضة
وفي المشهد الإسرائيلي، يطل رئيس وزراء العدو، الذي يتحضّر للرحيل قريباً، كواعظ سياسي للصهاينة في فلسطين المحتلة، لينصحهم بضرورة التوصل إلى اتفاق سريع مع الفلسطينيين، لأن الثمن الذي سيدفعه اليهود في المستقبل سيكون باهظاً، وليتحدث عن تلاشي فكرة إسرائيل الكبرى، وهو الأمر الذي يشير بطريقة وأخرى إلى التأثيرات الكبرى التي أحدثتها المقاومة في لبنان، والانتفاضة في فلسطين، على العدو على مستوى ذهنية التفكير، وعلى المستوى البنيوي داخل هذا الكيان ونخبته السياسية.
إن هذه الحقيقة ينبغي أن تفتح عيون الكثيرين على تبنّي خيار المقاومة باعتباره الخيار الأنجع والأفضل في مسألة التحرير، وتبني خيار الانتفاضة في حركتها الشعبية والجهادية كونه الخيار الأسلم في التعاطي مع عدو حاقد ومتغطرس. وفي هذه المناسبة، ندعو السلطة الفلسطينية، التي تشجعها وزيرة الخارجية الأمريكية على الاستمرار في خط المفاوضات العقيمة والمضي في طريق اللهاث وراء مشروع الإدارة الأمريكية في خطب ودّ الكيان الصهيوني وقياداته المتساقطة، ندعوها إلى العودة إلى شعبها وسلوك خط المواجهة المدروسة مع العدو، بدلاً من السقوط في الحفرة التي حفرتها إدارة الرئيس الأمريكي بالتعاون مع مسؤولي العدو، والتي قد يسقط فيها الهيكل الفلسطيني بالتدريج، بعد تضييع قضية القدس واللاجئين وتثبيت الجدار العنصري وإبقاء المستوطنات، وصولاً إلى اغتيال حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولعلّ من المفجع في هذا المشهد، أن تتابع الجامعة العربية اجتماعاتها ولا يصدر عنها إلا المزيد من القرارات التنازلية، ولا تعالج الخلافات الفلسطينية الداخلية بالجدية المطلوبة، ولا تقوم بخطوة عملية لفكّ الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني من قِبَل العدو أو حتى من قبل من هم أعضاء في الجامعة، وذلك فضلاً عن التعقيدات العربية في الخلافات المتحركة بين هذه الدولة وتلك، والتي جعلت من الجامعة العربية جامعة التناقضات العربية.
لبنان: إعداد الجيش والحوار أولويات وطنية
أما لبنان، فإنه يواجه العدوان الإسرائيلي الضاغط على شعبه، بين تهديد بالاجتياح للقضاء على المقاومة، أو اختراق لأجوائه بشكل يومي، أو طمع في مياهه، أو إبقاء الاحتلال لبعض أرضه، أو رفض التسليح لجيشه من قِبَل الإدارة الأمريكية الحليفة لإسرائيل، ويبقى هناك البعض من اللبنانيين الذين لم يتعقّدوا من العدو الإسرائيلي الذي جربوا عدوانه المتكرر منذ احتلاله لفلسطين، ولكنهم يتعقّدون من المقاومة ويدعون إلى نزع سلاحها لأنه يسيء إلى كيان الدولة ـ حسب تعبيرهم ـ لأنّهم لا يدرسون المسألة دراسةً واقعية في قدرات الدولة فيما تملكه من إمكانات رادعة للعدوان عند حصوله، ومن صداقات دولية ضاغطة على العدو في انسحابه من الأرض المحتلة، الأمر الذي يفرض إدارة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية التي تمنح الدولة القوة القادرة على المواجهة عند حصولها.
وهذا ما قد يتطلب ـ في الحد الأدنى ـ رفع مستوى سلاح الجيش اللبناني، وتأمين حاجاته من الأسلحة الحديثة والمتطورة، وخصوصاً تزويده بمنظومة دفاعية جوية قادرة على ردع الغطرسة الإسرائيلية الجوية، إضافةً إلى القوة العددية لجنوده ورفع مستوى تدريبه وتأهيله ليواكب أحدث التطورات التقنية، وذلك بتخصيص موارد مادية هائلة وبشكل مستمر، لا بل متزايد، نظراً إلى استمرار ظهور أجيال جديدة من الأسلحة المتطورة التي تجعل ما سبقها متقادمة العهد قليلة النفع، مقابلةً بالأسلحة الحديثة التي تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة.
ومن جانب آخر، فإن من الطبيعي أن تكون المقاومة ظهيراً ومسانداً للجيش، وذلك من أجل توزيع الأدوار؛ في الدفاع في طريقة الجيش بالحرب النظامية، وفي طريقة المقاومة بحرب العصابات... وإذا كنا نعي طبيعة العدو الصهيوني المتغطرس والاستكانة الدولية لمخططاته، فلا بد لنا من أن نعيد النظر في كامل سياساتنا الاقتصادية والأمنية، وفي كل أوضاع حياتنا الوطنية إذا كنا نريد فعلاً التصدي دفاعياً للأطماع الإسرائيلية، وعلى الدول العربية الغنية التي لا تزال تتدخل في الوضع الأمني والسياسي في لبنان لحساباتها الصراعية العربية الخاصة، أن تمنح لبنان بعضاً من مليارات السلاح التي تدفعها لأمريكا من أجل أن يكون لبنان قوةً عسكريةً دفاعيةً ضاربة في مواجهة العدوان الذي لا يواجهون مثله، بما يجعل سلاحهم غير ضروري من جهة الحاجة الملحة.
وختاماً، إننا نأمل أن تكون مسألة الحوار منطلقةً من ذهنية وطنية تدرك خطورة الواقع الذي يعصف بالوطن في أزماته الداخلية المربوطة بالتدخلات الخارجية، وأن لا تكون المسألة مسألة حسابات طائفية أو انتخابية أو أطماع مالية تدفعها بعض المحاور العربية التي قد تخطط لانتصارات سياسية في لبنان تنقذها من الفشل الذي تعانيه في أكثر من قضية.
إن على المتحاورين التفكير في أنهم لا يمثلون أنفسهم في مواقع الحوار، بل يمثلون اللبنانيين ـ وإن كانوا لا يمثلونهم في شكل مطلق ـ ولذا فإن عليهم أن يتجاوزوا ذاتياتهم إلى ذاتية الوطن كله، وأن يجمّدوا مصالحهم من أجل مصالح الشعب كله، لأن لبنان إذا اهتزّ بفعل طموحاتهم الشخصية أو الطائفية أو المذهبية، فسوف يسقط كل الذين يحسبون أنفسهم في قمة الهرم، لأن الهيكل سوف يسقط على رؤوس الجميع. وعليهم أن يعرفوا أنهم إذا لم يقلّعوا أشواكهم بأيديهم، فلن يقلّع أي محور عربي أو دولي تلك الأشواك، بل إنها ستضيف إلى لبنان أشواكاً جديدة لحساب استراتيجية المصالح العربية والدولية. |