ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
في ذكرى نبيّ الرحمة(ص):
يبقى رسول الله النور الذي يضيء عقولنا بالرسالة وحياتنا بالشريعة
الرسول لا يُخلَّد
يقول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144). وقال سبحانه وتعالى مخاطباً النبي(ص):{إنك ميّت وإنهم ميتون} (الزمر:30). {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون} (الأنبياء:34).
نلتقي في الثامن والعشرين من هذا الشهر، شهر صفر، بذكرى وفاة النبي محمد(ص)، الذي عاش كل حياته بشيراً ونذيراً ورسولاً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعانى في كل حياته من أجل الرسالة، حتى قال(ص):"ما أوذي نبي مثلما أوذيت".
وقد نزلت الآية الأولى{وما محمد إلا رسول} في واقعة أحد، عندما أصيب النبي(ص) وصاح صائح: لقد قُتل محمد، فهلموا بنا إلى أبي سفيان نلتحق به ونحصل على رضاه، وقال قائل آخر: إن كان محمد قد مات فإن ربّ محمد لم يمت، فتعالوا نعيش على ما عاش عليه ونموت على ما مات عليه.
فهذه الآية تؤكد أن النبي(ص) لم يجعل الله له الخلود، لأنّه كباقي البشر، يحيا مدةً من الزمن ثم يأتي أجله؛ فهو يمرض كما يمرض الناس، ويحزن كما يحزن الناس، ولكنه رسول الله يوحى إليه، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي} (الكهف:110)، إنّه النور الذي يضيء عقول الناس بالرسالة، وحياتهم بالشريعة، ويفتح قلوبهم على الله سبحانه وتعالى.
وقد عانى ما عاناه في مكة قبل الهجرة وبعدها، عندما فرضت عليه قريش الحرب في أكثر من موقع، وحاولت أن تُجهز على الإسلام، فتحالفت مع اليهود في ذلك، وهذا ما نقرأه في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} (الأحزاب:10-12)، ولكن الله سبحانه كتب النصر لرسوله وللمؤمنين معه.
{وكفى الله المؤمنين القتال} (الأحزاب:25)، وقد فسَّرت هذه الآية بعلي(ع)، عندما برز إلى عمرو بن عبد ود، الذي استطاع أن يخترق الخندق ويقف مستعرضاً عضلاته أمام المسلمين، قائلاً لهم: من أراد منكم أن يدخل إلى الجنة فليأتِ إليّ لأقتله ويذهب إلى الجنة، وكان النبي(ص) يقول: "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة؟"، فلم يقم إلا علي، وقالها رسول الله ثلاث مرات، ولم يقم إلا علي(ع)، وهو يقول: "أنا له يا رسول الله". وانطلق علي(ع)، والرسول يقول: "رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، وكان(ص) يقول: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، واستطاع علي(ع) أن يصرع عمراً الذي كان يُعد بألف فارس، وكان النبي(ص) يقول فيما يروى عنه: "ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين".
وهكذا أراد تعالى في هذه الآية أن يؤكِّد أن الرسول(ص) يموت ولكن تبقى الرسالة، وعلى المسلمين أن يتحملوا مسؤوليتها، فيؤمنوا بها ويعملوا لها.
العمل الصالح
وكان من خبر النبي(ص) أنه مرض مرضاً شديداً في آخر أيامه، وخرج إلى المسجد معصوب الرأس من وعكةٍ ألمّت به، معتمداً من جهة ضعف بدنه على أمير المؤمنين(ع) بيده اليمنى، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم ـ لقد اقترب الأجل الذي أنتقل فيه إلى رحاب الله سبحانه ـفمن كان له عندي عدةٌ ـ أي وعدته بأن أعطيه شيئاً ـ فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به... معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحدٍ شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه به شراً إلا العمل"، بمعنى أنّ الذي يقرب الناس من الله إنما هو العمل. وقد ورد في الآية الكريمة:{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} (النساء:123).
"أيها الناس، لا يدع مدعٍ ولا يتمنَّ متمنٍ، والذي بعثني بالحق نبياً، لا ينجي إلا عملٌ مع رحمة، ولو عصيت لهويت". اللهم هل بلَّغت؟".
والدرس الذي أراد النبي(ص) أن يعطيه للمسلمين في ذلك، هو أن على الإنسان أن لا يعتمد في علاقته بالله على أحد، وأنه ما من شيء يتقرّب به الإنسان إلى الله إلا العمل الصالح. وقد ورد عن الإمام علي(ع) في هذا المعنى قوله: "إنّ وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته".
وهكذا صلى النبي(ص) بالناس صلاةً خفيفةً، ثم نزل ودخل بيته، وقد قال لبعض أصحابه، وهو أبو مويهبة، قبل أن ينتقل إلى رحاب الله: "انطلق فإني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع"، فخرج معه حتى جاء البقيع، فاستغفر لأهله طويلاً، ثم قال(ص): "ليهنئكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس منه، أقبلت الفتن ـ وقد كان النبي(ص) يستشرف المستقبل، فيما يختلف فيه المسلمون وما سيحدث بينهم من القتال وغيره ـ كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شرٌ من الأولى!".
وصايا لسلامة الحياة
وكان(ص) قد قال في حجة الوداع في منى: "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها، فكم من حامل فقه إلى من هو أفقه منه: ثلاث لا يغل عليهنّ: قلب عبد مسلم أخلص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".
ومما أوصى به في يوم العيد في منى، في حجة الوداع: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فمن كان عنده أمانة فيلؤدِّها إلى ائتمنه عليها... أيها الناس، إنما المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفسه، اللهم هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد، أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
وكان يحيط به في مرضه الذي توفي فيه، عمّه العباس، وعمته صفية، وابنته فاطمة، فخاطبهم(ص) وقال: "يا عباس بن عبد المطلب، يا عم رسول الله، اعمل لله خيراً، فإني لا أغني عنك يوم القيامة من الله شيئاً. يا صفية بنت عبد المطلب، يا عمة رسول الله، اعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، اعملي لما عند الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً".
وبذلك يكون النبي(ص) قد أكّد الخط القرآني الإسلامي الأصيل، وهو أنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، وإنما الذي يقرب الناس من الله هو العمل الصالح، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم} (التوبة:105).
وكان النبي(ص) قد أراد في الحجة الأخيرة؛ حجّة الوداع، أن يعرّف الناس من هو الولي الشرعي من بعده، الذي يجب عليهم أن يوالوه ويتبعوه وينصروه ولا يخذلوه، فأوقف الناس في غدير خم، في ظهيرة اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، ونُصب له منبر من أقتاب الإبل، وأخذ علياً ورفع يديه حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال(ص): "أيها الناس، ألست أولى بالمسلمين من أنفسهم؟" قالوا: اللهم بلى، قال: "اللهم اشهد"، ثم قال لهم: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار"، وأراد للمسلمين أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويُقال إن عمر بن الخطاب قال له: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ولكن الإمام علياً(ع) أُبعِد عن حقه بعد وفاة رسول الله(ص)، ولأنّه كان معنيّاً بالإسلام والمسلمين، لم يسعَ إلى المطالبة بحقّه بما يمكن أن يخلق مشكلة تؤثّر على مستقبل الإسلام والمسلمين، وقال(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين...".
وقام علي(ع) بتغسيل الرسول(ص)، ثم انطلق مع المسلمين للصلاة عليه. ومما يذكر، أن الزهراء(ع) جاءت إلى رسول الله(ص) قبل وفاته، فضمها إلى صدره فبكت، ثم ضمّها إلى صدره فضحكت، فقيل لها كيف بكيت بالأولى وضحكت بالثانية، فقالت: "ما كنت لأفشي سر رسول الله"، ولما توفي النبي(ص) قالت: في المرة الأولى أخبرني أنه سوف ينتقل إلى رحاب الله فبكيت، ثم أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقاً به، فضحكت. وهذا ما يدل على عمق العلاقة الروحية بين الزهراء وأبيها.
وهكذا ودّع المسلمون رسول الله(ص)، وسرعان ما اختلفوا من بعده.
أيها الأحبة، لا بد لنا من أن نعيش ذكرى رسول الله(ص) التزاماً بالإسلام كله، فالإسلام هو رسالة الله وأمانة رسول الله عندنا، وعلينا أن ننطلق به لنكون الأقوياء كما أرادنا الله أن نكون {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60)، بحيث لا نخاف من كل الجموع التي تتجمع ضدنا، {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:173-175).
والصلاة والسلام على رسول الله، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يبعثه الله حياً، ونسأل الله أن يوفّقنا للسير على نهجه، والأخذ بكلامه، وأن نحصل على شفاعته،{يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم} (الشعراء:88-89).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
أمريكا: هيمنة عالمية وسباق تسلّح
لا تزال الولايات المتّحدة الأمريكية تعمل لفرض هيمنتها على العالم كلّه، ضاربةً بعرض الجدار كلّ القوانين والأعراف التي ينبغي أن تحكم حركة الدول، غير عابئة بالأخطار التي يُمكن أن تدمّر البشريّة كلّها.
فمنذ الحرب العالميّة الثانية، والولايات المتّحدة لم تتوقّف عن صناعة الأسلحة النووية والمتطوّرة، وقد دخل العالم منذ ذلك الحين في سباقٍ للتسلّح، ولاسيّما النووي، بدءاً بالاتّحاد السوفياتي وبعض الدول الأوروبّية، كفرنسا وبريطانيا وغيرهما، من أجل إبقاء الهيمنة على مواقع النفوذ السياسي والاقتصادي في العالم. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية أوّل دولةٍ تستخدم هذا السلاح في اليابان، في ناكازاكي وهيروشيما، حيث سقط عشرات الآلاف من المدنيّين، ولا تزال تتحرّك بآلتها العسكريّة المتطوّرة لتهدّد المعارضين لسياساتها، وهي في الوقت نفسه تؤكد أنها تسعى لتطوير السلاح النووي، كما جاء على لسان أحد المسؤولين الأمريكيين قبل أيام، فيما تواصل ضغطها على إيران في ملفها النووي السلمي، في الوقت الذي احتضنت بعض الدول، كبريطانيا وفرنسا، إسرائيل في صنع السلاح الذرّي، بحجّة أنّها تتعرّض للخطر من قِبَلِ جيرانها الذين لا يملكون ما يمنحه الغرب، ولا سيّما أمريكا، لهذه الدولة الغاصبة للأرض والمضطهدة للشعب، والطامحة للتوسّع والهيمنة.
وفي مقابل ذلك، فرض الغرب كلّه حظراً دوليّاً ـ حتّى على مستوى الأمم المتّحدة ـ على أيّ دولةٍ تحاول الحصول على الخبرة العلميّة التقنية النوويّة للاستخدام في الأغراض السلميّة، وذلك باتّهامها بأنّها تخطّط لإنتاج السلاح النووي من دون أيّ دلائل واقعيّة، كما نشهده بالنسبة إلى الملفّ النووي السلمي في إيران التي تتعاون مع وكالة الطاقة الذرّية.
وأمام ذلك، يُطلق مدير وكالة الطاقة الذرّية صرخته للدول الكبرى، ولا سيّما أمريكا وروسيا، للتخفيف من المخزون النووي للسلاح، حذراً من الأخطار المستقبليّة على البشريّة كلّها، ولكنّ هذه الصرخة لم تلقَ بالاً؛ لأنّ القضيّة عند الدول الكبرى هي إبقاء الهيمنة على دول العالم الثالث لمصلحة أوضاعها الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية.
وبالرغم من أنّ وكالة الطاقة الذرية أكّدت أنْ لا دليل على أنّ إيران تخطّط لصنع السلاح النووي، فإنّ هذه الدول المستكبرة تستخدم مجلس الأمن الدولي لفرض القرارات بالعقوبات الاقتصاديّة ضدّ إيران، للضغط عليها في إيقاف تخصيب اليورانيوم، ويتحدّثون في ذلك عن أنّ إيران تمثّل خطراً على العالم كلّه، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ إيران لا تمثّل خطراً على جيرانها، بل إنّها تسعى للسلام والتعاون معهم، وأنّ الخطر إنّما هو من الكيان الغاصب، ومن الولايات المتّحدة الأمريكية التي تحاول أن تنشر قواعدها العسكريّة في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من الدول، بما فيها الدول الأوروبّية، كما تتحرّك بأساطيلها البحرية الحاملة للطائرات في الخليج والمتوسّط والبحر الأحمر، لإظهار قوّتها العالميّة، لتهدّد من يُراد تهديده، وتُخضع من يُراد إخضاعه، وتخوّف من يُراد تخويفه، وتضغط من الناحية السياسية والأمنيّة في حركتها الاحتلاليّة على أكثر من دولةٍ معارضة، وتدعم عملاءها والخاضعين لسياستها في المنطقة من أجل إرباك الأوضاع الاقتصاديّة وإيجاد حالات من الاهتزاز الأمني وإثارة الفوضى المتنوّعة، من أجل إيجاد الظروف الملائمة لمشاريعها في المنطقة العربيّة والإسلاميّة.
وهذا ما رأيناه في البوارج الحربيّة التي تقف قبالة الساحل اللبناني، في محاولةٍ للالتفاف على فشلها السياسي والأمني في الضغط على المقاومة في لبنان وفي فلسطين، ولتأكيد الدعم المطلق للعدوّ الصهيوني في ارتكاب المجازر الوحشيّة ضدّ المدنيّين في غزّة والضفّة، حتّى ضجّت الأرض من دماء الأطفال الرضّع والفتيان اليافعين في الأيّام الأخيرة؛ كلّ ذلك تحت مقولة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وأنّ المقاومة الفلسطينية تمثّل الإرهاب، في الوقت الذي يؤكّد المنطق الحضاري، أنّ من حقّ أيّ شعب محتلّة أرضه أن يدافع عن نفسه؛ ولكنّ الإدارة الأمريكية لا ترى أيّ اعتبار للمنطق الحضاري الإنساني عندما يتّصل الأمر بإسرائيل، ولذلك فهي تضغط على مجلس الأمن ليُساوي في قراراته بين المجرم والضحيّة، وتحارب كلّ قرار إدانة للمجازر الإسرائيليّة الوحشيّة، لأنّها تشبه ما تقوم به من مجازر ضدّ الشعوب، ولاسيّما في العراق وأفغانستان، وتحاكي تاريخها في الإبادة الجماعيّة التي تحرّكت ضدّ شعوب أمريكا الأصليّين.
بطولات فلسطين تربك المعادلة الدولية
وفي هذه المناسبة، فإنّ العمليّة البطوليّة في القدس أثبتت أن المجاهدين في فلسطين قادرون على إنزال الضربات القاسية بالصهاينة، على الرغم من الإجراءات الأمنية المعقّدة، وهي ردّ فعل طبيعي على العنف الوحشي الإسرائيلي في غزة، وكذلك في الضفة، وتؤكد أن أيّ تصعيد إسرائيلي سوف يجتذب ردّ فعل موازياً له.
ومن المؤسف أن تسارع الأصوات الدولية، وحتى السلطة الفلسطينية، إلى إدانة هذه العملية، ولاسيما الرئيس الأمريكي الذي وصفها بـ"العمل البربري"، في الوقت الذي يعتبر كل هذا العالم المستكبر المجازر الصهيونية ضد الأطفال والرضّع والنساء والشيوخ دفاعاً عن النفس!!
محاصرة المبادرة العربية
إنّ الولايات المتّحدة التي تعتبر نفسها الإمبراطورية الكونيّة والدولة الأقوى في العالم، أصبحت خطراً على العالم كلّه، حتّى على حلفائها وأصدقائها في الغرب، ولذلك فإنّ على الشعوب أن تقف بقوّة من أجل الدفاع عن حرّيتها ضدّ هذه الدولة الوحشيّة التي لا تؤمن بالمبادئ الإنسانيّة، ولا تحترم القوانين الدوليّة، ولا تحسب حساباً للشعوب، لأنّها تحوّلت إلى دولة عنصريّة لا تفكّر إدارتها إلا في البحث عن فرصة لحرب هنا أو هناك، الأمر الذي جعل كثيراً من الضعفاء يخضعون لقوّتها خوفاً على مواقعهم الرسميّة، ويتحرّكون ضدّ إرادات شعوبهم وتطلّعاتها، ويعملون على تحويل بلدانهم إلى سجونٍ للأحرار.
ومن المؤسف أنّ المشهد العربي في أكثر مواقعه لا يزال يركّز على المبادرة العربيّة للسلام التي سحقتها إسرائيل تحت أقدامها، بل لم تحترم أيّ بندٍ من بنودها، وتركت للإدارة الأمريكية أن تشغل العرب بالحديث عمّا أسمته دول الاعتدال والتطرّف، والحديث الاستهلاكي عن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مجرّد إضاعة للوقت، يمكّن إسرائيل من الاستفادة في استكمال استراتيجيتها في تهويد القدس، وفي بناء المستوطنات، وفي إذلال الشعب الفلسطيني على المعابر، واللعب على وتر الخلاف الفلسطيني الداخلي لتقوية الحصار الخانق، ولضرب الأمن في غزّة بشكل وحشي، وفي الضفّة بشكل ضاغط.
وقد اعتدنا أن لا نتوقّع أن تخرج القمم العربيّة، فضلاً عن اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، بأيّ مواقف أو قرارات فاعلة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من وحشية حليفة بعض الدول العربيّة، إسرائيل، في الوقت الذي نسمع بعض التصريحات العربيّة من وراء الكواليس، توحي بعدم حضور القمّة انطلاقاً من بعض التعقيدات العربيّة تجاه مكان انعقادها.
البوارج الأمريكية: المزيد من التهويل
أمّا المبادرة العربيّة لحلّ الأزمة اللبنانية، فقد دخل بعض المسؤولين العرب في السجال الداخلي اللبناني، في تأييد فريق على حساب فريق آخر، إضافةً إلى ما يتناقله الإعلام الأمريكي من المشاورات الأمريكية ـ العربيّة في إرسال البوارج إلى الشاطئ اللبناني، في استعادة للطريقة التاريخية في تهديد العرب بعضهم لبعض بإسرائيل وأمريكا وفرنسا، ما يوحي بأنّ هناك عرباً متفرّقين مختلفين لا تجمعهم أيّة جامعة، وأنّه ليس هناك عالم عربيّ، فقد سقط هذا العالم من الاعتبار منذ مؤتمر مدريد الذي رفضت فيه إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ أن تفاوض العرب مجتمعين، لأنّها كانت ـ وما زالت ـ تريد أن تلعب على التناقضات العربيّة الثنائيّة، لتربح الموقف في امتداد الضعف العربي، وفي عجز المواقف عن الانتصار.
وفي الختام، فإنّنا ندعو الشعب اللبناني إلى أن لا يسقط أمام تهاويل الخوف التي أُريد له أن يواجه من خلالها التطوّرات الأمنيّة في حركة البوارج الأمريكية، وأن يبقى صامداً قويّاً مؤمناً بالله وبقدرته على نُصرة عباده على كلّ الذين يُريدون له أن يبقى في حال اهتزاز سياسي أو أمني، وأن يغرق في دوّامة المذهبيّة والطائفيّة والحزبيّة، وأن يبقى مشدوداً إلى الذين يبحثون عن امتيازاتهم الشخصيّة ولا يبحثون عن امتيازات الشعب والوطن.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:
في ذكرى نبيّ الرحمة(ص):
يبقى رسول الله النور الذي يضيء عقولنا بالرسالة وحياتنا بالشريعة
الرسول لا يُخلَّد
يقول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران:144). وقال سبحانه وتعالى مخاطباً النبي(ص):{إنك ميّت وإنهم ميتون} (الزمر:30). {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون} (الأنبياء:34).
نلتقي في الثامن والعشرين من هذا الشهر، شهر صفر، بذكرى وفاة النبي محمد(ص)، الذي عاش كل حياته بشيراً ونذيراً ورسولاً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعانى في كل حياته من أجل الرسالة، حتى قال(ص):"ما أوذي نبي مثلما أوذيت".
وقد نزلت الآية الأولى{وما محمد إلا رسول} في واقعة أحد، عندما أصيب النبي(ص) وصاح صائح: لقد قُتل محمد، فهلموا بنا إلى أبي سفيان نلتحق به ونحصل على رضاه، وقال قائل آخر: إن كان محمد قد مات فإن ربّ محمد لم يمت، فتعالوا نعيش على ما عاش عليه ونموت على ما مات عليه.
فهذه الآية تؤكد أن النبي(ص) لم يجعل الله له الخلود، لأنّه كباقي البشر، يحيا مدةً من الزمن ثم يأتي أجله؛ فهو يمرض كما يمرض الناس، ويحزن كما يحزن الناس، ولكنه رسول الله يوحى إليه، {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي} (الكهف:110)، إنّه النور الذي يضيء عقول الناس بالرسالة، وحياتهم بالشريعة، ويفتح قلوبهم على الله سبحانه وتعالى.
وقد عانى ما عاناه في مكة قبل الهجرة وبعدها، عندما فرضت عليه قريش الحرب في أكثر من موقع، وحاولت أن تُجهز على الإسلام، فتحالفت مع اليهود في ذلك، وهذا ما نقرأه في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} (الأحزاب:10-12)، ولكن الله سبحانه كتب النصر لرسوله وللمؤمنين معه.
{وكفى الله المؤمنين القتال} (الأحزاب:25)، وقد فسَّرت هذه الآية بعلي(ع)، عندما برز إلى عمرو بن عبد ود، الذي استطاع أن يخترق الخندق ويقف مستعرضاً عضلاته أمام المسلمين، قائلاً لهم: من أراد منكم أن يدخل إلى الجنة فليأتِ إليّ لأقتله ويذهب إلى الجنة، وكان النبي(ص) يقول: "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة؟"، فلم يقم إلا علي، وقالها رسول الله ثلاث مرات، ولم يقم إلا علي(ع)، وهو يقول: "أنا له يا رسول الله". وانطلق علي(ع)، والرسول يقول: "رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، وكان(ص) يقول: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، واستطاع علي(ع) أن يصرع عمراً الذي كان يُعد بألف فارس، وكان النبي(ص) يقول فيما يروى عنه: "ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين".
وهكذا أراد تعالى في هذه الآية أن يؤكِّد أن الرسول(ص) يموت ولكن تبقى الرسالة، وعلى المسلمين أن يتحملوا مسؤوليتها، فيؤمنوا بها ويعملوا لها.
العمل الصالح
وكان من خبر النبي(ص) أنه مرض مرضاً شديداً في آخر أيامه، وخرج إلى المسجد معصوب الرأس من وعكةٍ ألمّت به، معتمداً من جهة ضعف بدنه على أمير المؤمنين(ع) بيده اليمنى، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر الناس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم ـ لقد اقترب الأجل الذي أنتقل فيه إلى رحاب الله سبحانه ـفمن كان له عندي عدةٌ ـ أي وعدته بأن أعطيه شيئاً ـ فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به... معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحدٍ شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه به شراً إلا العمل"، بمعنى أنّ الذي يقرب الناس من الله إنما هو العمل. وقد ورد في الآية الكريمة:{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} (النساء:123).
"أيها الناس، لا يدع مدعٍ ولا يتمنَّ متمنٍ، والذي بعثني بالحق نبياً، لا ينجي إلا عملٌ مع رحمة، ولو عصيت لهويت". اللهم هل بلَّغت؟".
والدرس الذي أراد النبي(ص) أن يعطيه للمسلمين في ذلك، هو أن على الإنسان أن لا يعتمد في علاقته بالله على أحد، وأنه ما من شيء يتقرّب به الإنسان إلى الله إلا العمل الصالح. وقد ورد عن الإمام علي(ع) في هذا المعنى قوله: "إنّ وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته".
وهكذا صلى النبي(ص) بالناس صلاةً خفيفةً، ثم نزل ودخل بيته، وقد قال لبعض أصحابه، وهو أبو مويهبة، قبل أن ينتقل إلى رحاب الله: "انطلق فإني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع"، فخرج معه حتى جاء البقيع، فاستغفر لأهله طويلاً، ثم قال(ص): "ليهنئكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس منه، أقبلت الفتن ـ وقد كان النبي(ص) يستشرف المستقبل، فيما يختلف فيه المسلمون وما سيحدث بينهم من القتال وغيره ـ كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شرٌ من الأولى!".
وصايا لسلامة الحياة
وكان(ص) قد قال في حجة الوداع في منى: "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها، فكم من حامل فقه إلى من هو أفقه منه: ثلاث لا يغل عليهنّ: قلب عبد مسلم أخلص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".
ومما أوصى به في يوم العيد في منى، في حجة الوداع: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فمن كان عنده أمانة فيلؤدِّها إلى ائتمنه عليها... أيها الناس، إنما المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفسه، اللهم هل بلّغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت، اللهم اشهد، أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
وكان يحيط به في مرضه الذي توفي فيه، عمّه العباس، وعمته صفية، وابنته فاطمة، فخاطبهم(ص) وقال: "يا عباس بن عبد المطلب، يا عم رسول الله، اعمل لله خيراً، فإني لا أغني عنك يوم القيامة من الله شيئاً. يا صفية بنت عبد المطلب، يا عمة رسول الله، اعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، اعملي لما عند الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً".
وبذلك يكون النبي(ص) قد أكّد الخط القرآني الإسلامي الأصيل، وهو أنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، وإنما الذي يقرب الناس من الله هو العمل الصالح، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم} (التوبة:105).
وكان النبي(ص) قد أراد في الحجة الأخيرة؛ حجّة الوداع، أن يعرّف الناس من هو الولي الشرعي من بعده، الذي يجب عليهم أن يوالوه ويتبعوه وينصروه ولا يخذلوه، فأوقف الناس في غدير خم، في ظهيرة اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، ونُصب له منبر من أقتاب الإبل، وأخذ علياً ورفع يديه حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال(ص): "أيها الناس، ألست أولى بالمسلمين من أنفسهم؟" قالوا: اللهم بلى، قال: "اللهم اشهد"، ثم قال لهم: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار"، وأراد للمسلمين أن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويُقال إن عمر بن الخطاب قال له: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ولكن الإمام علياً(ع) أُبعِد عن حقه بعد وفاة رسول الله(ص)، ولأنّه كان معنيّاً بالإسلام والمسلمين، لم يسعَ إلى المطالبة بحقّه بما يمكن أن يخلق مشكلة تؤثّر على مستقبل الإسلام والمسلمين، وقال(ع): "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين...".
وقام علي(ع) بتغسيل الرسول(ص)، ثم انطلق مع المسلمين للصلاة عليه. ومما يذكر، أن الزهراء(ع) جاءت إلى رسول الله(ص) قبل وفاته، فضمها إلى صدره فبكت، ثم ضمّها إلى صدره فضحكت، فقيل لها كيف بكيت بالأولى وضحكت بالثانية، فقالت: "ما كنت لأفشي سر رسول الله"، ولما توفي النبي(ص) قالت: في المرة الأولى أخبرني أنه سوف ينتقل إلى رحاب الله فبكيت، ثم أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقاً به، فضحكت. وهذا ما يدل على عمق العلاقة الروحية بين الزهراء وأبيها.
وهكذا ودّع المسلمون رسول الله(ص)، وسرعان ما اختلفوا من بعده.
أيها الأحبة، لا بد لنا من أن نعيش ذكرى رسول الله(ص) التزاماً بالإسلام كله، فالإسلام هو رسالة الله وأمانة رسول الله عندنا، وعلينا أن ننطلق به لنكون الأقوياء كما أرادنا الله أن نكون {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60)، بحيث لا نخاف من كل الجموع التي تتجمع ضدنا، {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:173-175).
والصلاة والسلام على رسول الله، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يبعثه الله حياً، ونسأل الله أن يوفّقنا للسير على نهجه، والأخذ بكلامه، وأن نحصل على شفاعته،{يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم} (الشعراء:88-89).
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
أمريكا: هيمنة عالمية وسباق تسلّح
لا تزال الولايات المتّحدة الأمريكية تعمل لفرض هيمنتها على العالم كلّه، ضاربةً بعرض الجدار كلّ القوانين والأعراف التي ينبغي أن تحكم حركة الدول، غير عابئة بالأخطار التي يُمكن أن تدمّر البشريّة كلّها.
فمنذ الحرب العالميّة الثانية، والولايات المتّحدة لم تتوقّف عن صناعة الأسلحة النووية والمتطوّرة، وقد دخل العالم منذ ذلك الحين في سباقٍ للتسلّح، ولاسيّما النووي، بدءاً بالاتّحاد السوفياتي وبعض الدول الأوروبّية، كفرنسا وبريطانيا وغيرهما، من أجل إبقاء الهيمنة على مواقع النفوذ السياسي والاقتصادي في العالم. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية أوّل دولةٍ تستخدم هذا السلاح في اليابان، في ناكازاكي وهيروشيما، حيث سقط عشرات الآلاف من المدنيّين، ولا تزال تتحرّك بآلتها العسكريّة المتطوّرة لتهدّد المعارضين لسياساتها، وهي في الوقت نفسه تؤكد أنها تسعى لتطوير السلاح النووي، كما جاء على لسان أحد المسؤولين الأمريكيين قبل أيام، فيما تواصل ضغطها على إيران في ملفها النووي السلمي، في الوقت الذي احتضنت بعض الدول، كبريطانيا وفرنسا، إسرائيل في صنع السلاح الذرّي، بحجّة أنّها تتعرّض للخطر من قِبَلِ جيرانها الذين لا يملكون ما يمنحه الغرب، ولا سيّما أمريكا، لهذه الدولة الغاصبة للأرض والمضطهدة للشعب، والطامحة للتوسّع والهيمنة.
وفي مقابل ذلك، فرض الغرب كلّه حظراً دوليّاً ـ حتّى على مستوى الأمم المتّحدة ـ على أيّ دولةٍ تحاول الحصول على الخبرة العلميّة التقنية النوويّة للاستخدام في الأغراض السلميّة، وذلك باتّهامها بأنّها تخطّط لإنتاج السلاح النووي من دون أيّ دلائل واقعيّة، كما نشهده بالنسبة إلى الملفّ النووي السلمي في إيران التي تتعاون مع وكالة الطاقة الذرّية.
وأمام ذلك، يُطلق مدير وكالة الطاقة الذرّية صرخته للدول الكبرى، ولا سيّما أمريكا وروسيا، للتخفيف من المخزون النووي للسلاح، حذراً من الأخطار المستقبليّة على البشريّة كلّها، ولكنّ هذه الصرخة لم تلقَ بالاً؛ لأنّ القضيّة عند الدول الكبرى هي إبقاء الهيمنة على دول العالم الثالث لمصلحة أوضاعها الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية.
وبالرغم من أنّ وكالة الطاقة الذرية أكّدت أنْ لا دليل على أنّ إيران تخطّط لصنع السلاح النووي، فإنّ هذه الدول المستكبرة تستخدم مجلس الأمن الدولي لفرض القرارات بالعقوبات الاقتصاديّة ضدّ إيران، للضغط عليها في إيقاف تخصيب اليورانيوم، ويتحدّثون في ذلك عن أنّ إيران تمثّل خطراً على العالم كلّه، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ إيران لا تمثّل خطراً على جيرانها، بل إنّها تسعى للسلام والتعاون معهم، وأنّ الخطر إنّما هو من الكيان الغاصب، ومن الولايات المتّحدة الأمريكية التي تحاول أن تنشر قواعدها العسكريّة في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من الدول، بما فيها الدول الأوروبّية، كما تتحرّك بأساطيلها البحرية الحاملة للطائرات في الخليج والمتوسّط والبحر الأحمر، لإظهار قوّتها العالميّة، لتهدّد من يُراد تهديده، وتُخضع من يُراد إخضاعه، وتخوّف من يُراد تخويفه، وتضغط من الناحية السياسية والأمنيّة في حركتها الاحتلاليّة على أكثر من دولةٍ معارضة، وتدعم عملاءها والخاضعين لسياستها في المنطقة من أجل إرباك الأوضاع الاقتصاديّة وإيجاد حالات من الاهتزاز الأمني وإثارة الفوضى المتنوّعة، من أجل إيجاد الظروف الملائمة لمشاريعها في المنطقة العربيّة والإسلاميّة.
وهذا ما رأيناه في البوارج الحربيّة التي تقف قبالة الساحل اللبناني، في محاولةٍ للالتفاف على فشلها السياسي والأمني في الضغط على المقاومة في لبنان وفي فلسطين، ولتأكيد الدعم المطلق للعدوّ الصهيوني في ارتكاب المجازر الوحشيّة ضدّ المدنيّين في غزّة والضفّة، حتّى ضجّت الأرض من دماء الأطفال الرضّع والفتيان اليافعين في الأيّام الأخيرة؛ كلّ ذلك تحت مقولة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وأنّ المقاومة الفلسطينية تمثّل الإرهاب، في الوقت الذي يؤكّد المنطق الحضاري، أنّ من حقّ أيّ شعب محتلّة أرضه أن يدافع عن نفسه؛ ولكنّ الإدارة الأمريكية لا ترى أيّ اعتبار للمنطق الحضاري الإنساني عندما يتّصل الأمر بإسرائيل، ولذلك فهي تضغط على مجلس الأمن ليُساوي في قراراته بين المجرم والضحيّة، وتحارب كلّ قرار إدانة للمجازر الإسرائيليّة الوحشيّة، لأنّها تشبه ما تقوم به من مجازر ضدّ الشعوب، ولاسيّما في العراق وأفغانستان، وتحاكي تاريخها في الإبادة الجماعيّة التي تحرّكت ضدّ شعوب أمريكا الأصليّين.
بطولات فلسطين تربك المعادلة الدولية
وفي هذه المناسبة، فإنّ العمليّة البطوليّة في القدس أثبتت أن المجاهدين في فلسطين قادرون على إنزال الضربات القاسية بالصهاينة، على الرغم من الإجراءات الأمنية المعقّدة، وهي ردّ فعل طبيعي على العنف الوحشي الإسرائيلي في غزة، وكذلك في الضفة، وتؤكد أن أيّ تصعيد إسرائيلي سوف يجتذب ردّ فعل موازياً له.
ومن المؤسف أن تسارع الأصوات الدولية، وحتى السلطة الفلسطينية، إلى إدانة هذه العملية، ولاسيما الرئيس الأمريكي الذي وصفها بـ"العمل البربري"، في الوقت الذي يعتبر كل هذا العالم المستكبر المجازر الصهيونية ضد الأطفال والرضّع والنساء والشيوخ دفاعاً عن النفس!!
محاصرة المبادرة العربية
إنّ الولايات المتّحدة التي تعتبر نفسها الإمبراطورية الكونيّة والدولة الأقوى في العالم، أصبحت خطراً على العالم كلّه، حتّى على حلفائها وأصدقائها في الغرب، ولذلك فإنّ على الشعوب أن تقف بقوّة من أجل الدفاع عن حرّيتها ضدّ هذه الدولة الوحشيّة التي لا تؤمن بالمبادئ الإنسانيّة، ولا تحترم القوانين الدوليّة، ولا تحسب حساباً للشعوب، لأنّها تحوّلت إلى دولة عنصريّة لا تفكّر إدارتها إلا في البحث عن فرصة لحرب هنا أو هناك، الأمر الذي جعل كثيراً من الضعفاء يخضعون لقوّتها خوفاً على مواقعهم الرسميّة، ويتحرّكون ضدّ إرادات شعوبهم وتطلّعاتها، ويعملون على تحويل بلدانهم إلى سجونٍ للأحرار.
ومن المؤسف أنّ المشهد العربي في أكثر مواقعه لا يزال يركّز على المبادرة العربيّة للسلام التي سحقتها إسرائيل تحت أقدامها، بل لم تحترم أيّ بندٍ من بنودها، وتركت للإدارة الأمريكية أن تشغل العرب بالحديث عمّا أسمته دول الاعتدال والتطرّف، والحديث الاستهلاكي عن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مجرّد إضاعة للوقت، يمكّن إسرائيل من الاستفادة في استكمال استراتيجيتها في تهويد القدس، وفي بناء المستوطنات، وفي إذلال الشعب الفلسطيني على المعابر، واللعب على وتر الخلاف الفلسطيني الداخلي لتقوية الحصار الخانق، ولضرب الأمن في غزّة بشكل وحشي، وفي الضفّة بشكل ضاغط.
وقد اعتدنا أن لا نتوقّع أن تخرج القمم العربيّة، فضلاً عن اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، بأيّ مواقف أو قرارات فاعلة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من وحشية حليفة بعض الدول العربيّة، إسرائيل، في الوقت الذي نسمع بعض التصريحات العربيّة من وراء الكواليس، توحي بعدم حضور القمّة انطلاقاً من بعض التعقيدات العربيّة تجاه مكان انعقادها.
البوارج الأمريكية: المزيد من التهويل
أمّا المبادرة العربيّة لحلّ الأزمة اللبنانية، فقد دخل بعض المسؤولين العرب في السجال الداخلي اللبناني، في تأييد فريق على حساب فريق آخر، إضافةً إلى ما يتناقله الإعلام الأمريكي من المشاورات الأمريكية ـ العربيّة في إرسال البوارج إلى الشاطئ اللبناني، في استعادة للطريقة التاريخية في تهديد العرب بعضهم لبعض بإسرائيل وأمريكا وفرنسا، ما يوحي بأنّ هناك عرباً متفرّقين مختلفين لا تجمعهم أيّة جامعة، وأنّه ليس هناك عالم عربيّ، فقد سقط هذا العالم من الاعتبار منذ مؤتمر مدريد الذي رفضت فيه إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ أن تفاوض العرب مجتمعين، لأنّها كانت ـ وما زالت ـ تريد أن تلعب على التناقضات العربيّة الثنائيّة، لتربح الموقف في امتداد الضعف العربي، وفي عجز المواقف عن الانتصار.
وفي الختام، فإنّنا ندعو الشعب اللبناني إلى أن لا يسقط أمام تهاويل الخوف التي أُريد له أن يواجه من خلالها التطوّرات الأمنيّة في حركة البوارج الأمريكية، وأن يبقى صامداً قويّاً مؤمناً بالله وبقدرته على نُصرة عباده على كلّ الذين يُريدون له أن يبقى في حال اهتزاز سياسي أو أمني، وأن يغرق في دوّامة المذهبيّة والطائفيّة والحزبيّة، وأن يبقى مشدوداً إلى الذين يبحثون عن امتيازاتهم الشخصيّة ولا يبحثون عن امتيازات الشعب والوطن.