الإمام الحسن (ع) قدوة في الحكمة والرسالية

الإمام الحسن (ع) قدوة في الحكمة والرسالية
في ذكرى ولادته المباركة(ع) :
الإمام الحسن (ع) قدوة في الحكمة والرسالية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الحسن(ع) في بيت النبوّة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليذهب الرجس عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33)، من أهل هذا البيت ومن أئمته الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)؛ الإمام الزكي النقي، الذي عاش مع رسول الله(ص) طفولةً منفتحةً على كل أخلاق رسول الله(ص) وروحانيته وعلى كل كلماته. وكان رسول الله(ص) يحبه ويحب أخاه ويدعو الله لهما: "اللهم إني أحبّهما فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما". وهكذا كان محل رعاية رسول الله(ص)، وقد عاش في أحضان أمه الطاهرة المطهرة المعصومة، التي كانت على الرغم من حداثة سنها، تختزن علم رسول الله، والتي انطلقت في الإسلام لتكون المعلّمة لمن حولها من النساء، ولتكون المدافعة عن الحقّ والقويّة في الموقف.

وقد انطبعت شخصية الإمام الحسن(ع) بشخصية أبيه علي(ع)، الذي عاش معه شبابه، فأعطاه من عقله عقلاً، ومن علمه علماً، ومن شجاعته شجاعة، ومن صلابته في الحق صلابةً، ومن صبره صبراً، حتى إنه انطلق ليكون الإنسان الذي تمثل شخصيته شخصية أبيه، كما كان يشبه جده خَلقاً وخُلقاً.

وكذلك عاش(ع) المشاكل التي عانى منها أبوه الذي ضحى بكل ما عنده في سبيل الإسلام، وعمل بكل جهده للمسلمين، ولاقى الكثير من التحديات، وعانى الكثير من الآلام، وزُرعت في طريقه الإصلاحي كل الأشواك. وهكذا كان الإمام الحسن(ع) شبيه أبيه في ذلك، فقد واجه في خلافته الأولى الكثير من الخطر من بعض الذين كانوا في جيشه، ولاقى الكثير من معاوية، ولم يكن ضعيفاً أمامه، بل إننا عندما ندرس رسائل الإمام الحسن(ع) إلى معاوية، نجد أنّه(ع) يفرغ عن لسان أبيه، فكما كان أسلوب أبيه هو أسلوب القوة والبرهان والتحدي لمعاوية، كان أسلوب الحسن كذلك. ومن المؤسف أن الكثيرين الذين يتحدثون عن الإمام الحسن(ع)، لا يتحدثون عن رسائله إلى معاوية التي تدلّ على شخصيته القوية الصلبة صلابة الحق، لأن بعض الناس يعطونه صورة الإنسان المسالم من موقع السلام الضعيف، لا من موقع قوة الإمامة والمسؤولية والتحدي للباطل والظلم.

صبر الإمامـة

وهكذا عاش الإمام الحسن(ع) آلام أبيه، فواجه الكثير من نكران الجميل ونكران الفضل، وكأن الناس ـ ومنهم بعض صحابة رسول الله(ص) ـ لم يسمعوا رسول الله(ص) الذي كان يقول عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، ولكنه(ع) صبر كصبر أبيه وصبر أمه وصبر جده، وواجه المواقف بكل عقلانيّة، فلم يكن صبره صبر الضعفاء، بل صبر الحكماء، وكان يفكر كما كان أبوه يفكر، في أن يحفظ للمسلمين سلامهم وتوازنهم، وأن يجمع كلمتهم حتى لو كان ذلك على حساب قضاياه الخاصة.

نحن نعرف أن علياً(ع) هو الوصي، وهو الولي، وهو الخليفة، وهو الذي أمر الله رسوله بأن يبلِّغ ما أنزل إليه من ربه في ولايته(ع)، ومع ذلك، فإن علياً(ع) جمّد المطالبة بحقّه، ولم يلغها ولم يتنازل عنه، لأنه كان يقول: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين". وكذلك فعل الإمام الحسن(ع)، فقد جمّد المطالبة بحقّه، ورأى أنّ مصلحة المسلمين تقتضي أن يعقد هدنةً مع معاوية، ولا أقول صلحاً أو تنازلاً. فالحسن(ع) لا يملك أن يتنازل عن إمامته، ولكنه عقد مع معاوية صلح الحرب وهدنة الحرب، لا صلح الخلافة وهدنة الخلافة؛ تماماً كما فعل أبوه(ع) من قبل.

وكان بعض أصحاب الحسن(ع) يخاطبونه بعتاب المحبة ويقولون له: "السلام عليك يا مذل المؤمنين"، فيقول لهم: لقد أعززت المؤمنين، لأني أردت بقاء هذا الخط الأصيل الذي يلتزم حق علي(ع)، حتى لا يفنى هذا الحق ولا يسقط هذا الخط. وبذلك، كان الحسن(ع) يؤسس لحركة أخيه الحسين(ع)، فكانت حركة الإمام الحسين(ع) صدى لحركة الإمام الحسن(ع).

ونحن عندما نريد أن نتفهّم الإمام الحسن(ع)، فليس أفضل من أن نقرأ ما قاله عنه ابن أخيه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في ما روي عنه. قال: "كان أعبد الناس في زمانه ـ لم يكن هناك عابد في مستواه ـ وأزهدهم ـ على الرغم من وفرة الأموال لديه التي كان يعطي منها الفقراء والمساكين ـ وأفضلهم. وكان إذا حج حج ماشياً ـ مع أنه كان لديه ما يركبه، تواضعاً لله ـ وربما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذ ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله، تعالى ذكره، شهق شهقة يخشى عليه منها".

ويتابع الإمام زين العابدين(ع) حديثه عن عمه فيقول: "وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عز وجل، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السّليم، وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار، وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} إلا قال: لبيك اللهم لبيك ـ كأنه يتصور أن الخطاب موجه إليه، وأن الله يناديه فيستجيب للنداء ـ ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه"، سواء كان وحده أو مع الناس، سواء كان راكباً أو ماشياً، لأن الله توجه إلى الناس بأن يذكروه: {اذكروا الله ذكراً كثيراً* وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب:41-42).

الحكمة الرسالية

وكان(ع) يمثل الدرجة العليا في الأخلاق، وفي سعة الصدر، وفي الصبر على الأذى، حتى قيل في سيرته، إنه كان في يوم من الأيام في المدينة راكباً على فرسه، وكان يحيط به أولاده وأولاد أخيه وأخوته، وجاء شخص من الشام كان معاوية قد ثقّفه بثقافة العداوة لأهل البيت ولعلي(ع)، وكان يستغل جهل أهل الشام وبعدهم عن موقع علي(ع) في الكوفة، فيقول لهم: إن علياً لا يصلي، فجاء هذا الشامي ورأى موكب الإمام الحسن(ع) وسأل: من هذا؟ قالوا له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فبدأ بفعل حقده الذي امتلأ به قلبه، يشتم علياً والإمام الحسن بدون مناسبة، فتركه الإمام يكمل كلامه، وتوثب أهل بيت الإمام للشر، فأشار عليهم الإمام بأن يهدأوا، والتفت إلى هذا الرجل الشامي بكل حنان ومحبة وقال له: "أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا ـ جئت إلينا ضيفاً مكرّماً ـ وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً". ففوجىء هذا الشيخ بهذا الانفتاح والحنان والمحبة والرعاية، مع أنه كان قد شتم الإمام(ع)، عند ذلك نادى الإمام غلمانه بأن يذهبوا به إلى المنزل ويحسنوا ضيافته ومقامه، وعندما ذهب الرجل إلى المنزل بدأ بالتفكير، ورأى أنّ ما وجده في بيت الإمام من الأخلاق والعبادة شيء، وما حدّثه به الأمويون شيء آخر، وبدأ يقارن بين ما رآه وما أخبروه به، وبدأت الغشاوة تذهب عن عينيه، فلم يستطع الرجل إلا أن يهتف: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

وينقل عنه(ع)، أنه والإمام الحسين(ع)، التقيا بشيخ كان يتوضأ ولا يحسن الوضوء فأرادا تعليمه، ولكنهما كانا في قمة الشباب وهو شيخ كبير، وعادةً، لا يقبل الكبير من الصغير أن يعلّمه، ولكن الإمامين(ع) اختارا أسلوباً آخر، إذ تعمّدا إظهار تنازع بينهما بشأن الوضوء، ثم قالا: "أيها الشيخ، كُن حكماً بيننا، سيتوضّأ كل واحد منّا. فتوضآ، ثم قالا: أينا أحسن؟ قال: كِلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل يعني نفسه هو الذي لم يكن يحسن...". وبهذا الأسلوب الإنساني الحكيم، أراد الإمامان أن يحفظا لهذا الرجل كرامته، فقد علّماه ما يجب عليه بكل محبة، من دون أن يسيئا إلى كرامته، وهذا هو خلق أهل البيت(ع).

الأئمة صورة الإسلام وتجسيده

وعلى ضوء هذا، فإننا عندما نلتزم ولاية أهل البيت(ع) ونعتقد بإمامتهم، فليس ذلك من باب العصبية، ولكن لأنّنا نرى منهم(ع) تجسيداً للإسلام، وصورة رسول الله(ص)، فنتبعهم كأننا نتبع رسول الله(ص) الذي قال عنهم: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى".

ويروى أنه عندما كان الإمام الحسن(ع) مريضاً بمرضه الذي توفي فيه، جاءه شخص من أصحابه وهو (جنادة بن أبي أمية) وقال: "عظني يابن رسول الله، قال: نعم، ـ لم يقل له أنا مريض، لأنه كان يرى، كأبيه، أنه مسؤول عن موعظة الناس حتى في أشد حالاته ـ استعد لسفرك ـ للآخرة ـ وحصّل زادك قبل حلول أجلك ـ {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب} (البقرة:197) ـ واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ـ فكر بيومك كيف تطيع ربك وتؤمِّن رزقك، وغداً له همٌ آخر ورزق آخرـ واعلم أنك لا تكسب من المال فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك ـ فالزائد عن الحاجة ليس لك بل هو للورّاث.

واعلم أن الدنيا في حلالها حساب ـ لأن الإنسان يسأل عن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، من معاملة حرام أو حلال ـ وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، وأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر ـ لأنك حينها تكون مضطراً ـ فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب، فالعتاب يسير. واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ـ فاعمل فيما يتعلّق بأمورك ومشاريعك وقضاياك كما لو أنّك ستعيش أبداً – واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ـ فعندما تفكر في الآخرة، فكر في أنك قد تموت غداً وأن الله سيحاسبك، واستعدّ للجواب بين يديه ـ وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل".

ويروى أنّه جاءه(ع) رجل قال له: أريد أن أُجالسك، قال له(ع) بشروط ثلاثة: "إياك أن تمدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنَّه لا رأي لمكذوب، أو تغتاب عندي أحداً"، عندها استدرك الرجل، وقال له: أتأذن لي بالانصراف؟ قال: نعم إذا شئت".

وفي ختام الكلام، يقول الحسن(ع): "يابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارضَ بما قسم الله تكن غنياً ـ فالطاعة كنز لا يفنى ومال لا ينفذ ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ لأن الإسلام يريد منا حسن الجوار ـ وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً، إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً ـ من المال ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً ـ آمالهم بعيدة جداً ـ أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ـ فأكبر ما يكون الإنسان عندما ينزل من بطن أمه ـ فخذ مما في يديك ـ من المال ـ لما بين يديك ـ من الآخرة ـ فإن المؤمن يتزود ـ مما عنده لآخرته ـ والكافر يتمتع".

أيها الأحبة، هذا هو الإمام الحسن بن علي(ع)، فلننفتح على سيرته وعلى مواعظه ونصائحه، ولنولد ولادةً إسلاميةً في ذكرى ولادته. والسلام عليه يوم ولد ويوم انتقل إلى رحاب الله ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله... ماذا هناك؟

فلسطين: عقاب جماعي

في الساحة الفلسطينيّة، يتحرّك العدوّ لتضييق الحصار على الفلسطينيّين في قطاع غزّة، في حاجاتهم الضروريّة الحيويّة، إلاّ أنّه من المستبعد أن ينتقد المجتمع الدولي إسرائيل على هذا العقاب الجماعي الذي قد يؤدّي إلى كارثة إنسانيّة كبيرة في القطاع، إضافةً إلى صمت هذا المجتمع أمام تهديد وزير حرب العدوّ باجتياح غزّة.

وإذا كان المبرّر المطروح لذلك هو إفهام حماس أنّ هناك ثمناً لكلّ صاروخ يُطلق على مناطق مأهولة، فإنّ هذا العقاب الجماعي موجّه إلى كلّ المواطنين المدنيّين من الفلسطينيّين، حتّى الذين لا علاقة لهم بإطلاق الصواريخ، مع العلم أنّ المقاومة تتحرّك في هجومها على المستوطنات المحتلّة وعلى مراكز الجيش الصهيوني، دفاعاً عن حرّية الوطن كلّه، وردّاً على الاحتلال من جهة عدوانه، اغتيالاً وتفجيراً واجتياحاً واعتقالاً وتعذيباً للمدنيّين على المعابر، بوحشيّة تعرّض الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل للموت أو للإجهاض، ما يجعل صواريخ المقاومة الفلسطينيّة دفاعاً عن الشعب والوطن، وليست عدواناً ابتدائيّاً.

وفي هذا المجال، لا بدّ لمنظّمات حقوق الإنسان، والأنظمة العربيّة والإسلاميّة، إضافةً إلى السلطة الفلسطينيّة، من أن تتحمّل مسؤوليّاتها في الوقوف ضدّ هذا العقاب الجماعي، ورفع الصوت عالياً أمام الانتهاكات الإسرائيليّة الفاضحة للقوانين الدوليّة، وشرعة حقوق الإنسان وكلّ القيم الأخلاقيّة.

وعلى الفلسطينيّين، سلطةً وشعباً، أن يدركوا أنّ ما يتحدّث عنه الأميركيّون من مؤتمر للسلام في الخريف المقبل، لن يكون إلا لعبةً سياسيّةً جديدةً للمناورة، التي تترك الفلسطينيّين بعدها للمجهول، ولاسيّما مع إعلان رئيس حكومة العدوّ، أنّه لا يتوقّع أن يصل كيانه إلى وضع اتّفاق نهائي قبل مدّة تراوح بين 20 و30 سنة، وتأكيده أن المؤتمر المزمع عقده في الخريف لن يكون إلا بمثابة غطاء دوليّ لتأييد العمليّة السياسيّة بين كيانه والفلسطينيّين.

إسرائيل: تهديدات مباشرة لسوريا

وفي خطّ آخر، أطلق وزير الحرب الصهيوني الدعوة إلى الاستعداد للحرب مع سوريا؛ ما يوحي بأنّ كيان العدوّ لا يزال يخطّط لرفع مستوى التوتّر الأمني في المنطقة، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتّحدة الأمريكية التي تستخدم الدولة العبريّة لتحريك مخطّطاتها الاستراتيجية العدوانيّة التي تطاول كل قوى المنطقة ودولها؛ الأمر الذي يفرض على المقاومة في لبنان، أن ترفع درجة استعدادها الدفاعي لمواجهة أي عمل عدوانيّ على لبنان، كما حصل في العام الماضي.

وهذا ما يجب أن يفهمه اللبنانيّون، حكومةً وشعباً، لينطلق الحوار الجادّ لتحديد استراتيجيّة الدفاع عن الوطن، ولاسيّما مع الرفض الأمريكي لتسليح الجيش اللبناني، بما يشكّل حالةً دفاعيّةً واقعيّةً ضدّ عدوان العدوّ؛ باعتبار أنّ الخطّة الأمريكية هي بقاء العدوّ الإسرائيلي في الدرجة العليا من القوّة في المنطقة كلّها؛ وليؤكّد هذا الحوار أيضاً فشل مقولة أنّ السياسة هي التي تحمي لبنان لا السلاح، وذلك بعد أن أثبتت هذه المقولة فشلها في أكثر من محطّة من تاريخ لبنان، وفي أكثر من نموذجٍ في المنطقة.

أمريكا: اللعب بالوسائل الديمقراطية

وفي مشهدٍ آخر، لا تزال الولايات المتّحدة الأمريكية، في استعراض القوّة العسكريّة والسياسيّة في المنطقة، وفي التدخّل في أوضاع العالم كلّه، تنشر الفوضى في أكثر من منطقة، على مستوى الاهتزاز السياسي كما في لبنان، أو التوتّرات الأمنيّة كما في الصومال، أو الاضطرابات السياسية والأمنية كما في باكستان، أو الاحتلال الإجرامي كما في العراق وأفغانستان، أو عندما تدفع عملاءها في كلّ بلدٍ رافضٍ للاستسلام لسياستها الاستكباريّة العدوانيّة، للسيطرة على البلد كلّه، واعتقال المعارضة الرافضة لهم، واللعب بالوسائل الديمقراطيّة، بحيث تكون لحساب الحاكمين، لا لحساب الشعب...

وقد حذّر رئيس وزراء بريطانيا ـ في حديثه عن التحالف الوثيق مع الولايات المتّحدة الأمريكية ـ من أنّ القوّة وحدها لن تكون كافيةً، مشيراً ـ بشكل خفيّ ـ إلى أنّ العنف الاستكباري لأمريكا وحلفائها في دول العالم الثالث، ودعمها المطلق للكيان الإسرائيلي، كل ذلك أصبح يزيد في الانفلات الأمني، ويحرّك المعارضة الشعبيّة في أكثر من بلدٍ ضدّ إرهاب الدولة.

ونحن نرى هذه السياسة الاستكباريّة في استغلال الهيمنة على مجلس الأمن الدولي، من قبل أمريكا وفرنسا وبريطانيا، لاستصدار القرارات الضاغطة على إرادة أكثر من شعبٍ، كما في لبنان أو في إيران، تحت عناوين وشعارات لا تنطلق إلا من خلفيّة استكباريّة استعماريّة، وتعمل على أن لا تمتلك الشعوب أيّ خبرة علميّة في المجالات الحسّاسة، ولاسيّما النووية، حتّى تبقى الشعوب أسيرة ما تقدّمه تلك الدول في ظلّ تكريس مبدأ الاستهلاك لشعوبنا بعيداً عن عمليّة تحقيق الاكتفاء الذاتي.

العالم العربي والإسلامي: لمواجهة الخطر الأمريكيّ

إنّنا نحاول أن نثير في وجدان العالم المستضعف، ولاسيّما العالم العربي والإسلامي، الشعور بالخطر الأمريكي حيث يتمّ التخطيط لبناء إمبراطورية كونيّة عاصمتها واشنطن، من خلال القوة الذاتيّة، أو التحالفات الدوليّة، أو الاجتياحات الاقتصاديّة؛ وذلك بالرفض الكلّي لهذا الأخطبوط الاستكباري، بما يؤدّي إلى تحريك موازين القوّة لدى الشعوب، والعمل على تطويرها، لتتحوّل إلى موقع كبير من مواقع الحرّية والاستقلال، وأن ينطلق العالم الإسلامي للتخفيف من حدّة الصراعات الداخليّة، سواء كانت مذهبيّةً أو قوميّةً أو عرقيّةً أو ما إلى ذلك، والتي قد تتحرّك فيها مواقع رسميّة، حتّى إن بعضهم بات يمارس عمليّة التمييز العنصري أو المذهبيّ الذي تديره أجهزة الاستخبارات الدوليّة وتشجّعه الأموال الضخمة؛ كلّ ذلك ليبقى هذا الرئيس أو ذاك المسؤول في موقعه السياسي، ضاغطاً على حرّية شعبه، ليرثه أولاده من بعده، ما يدلّ على التخلّف الفكري والسقوط الروحي والانهيار السياسي.

إنّنا نناشد شعوب العالم الإسلامي، أن تعي مواقع القوّة عندها، سواء في القدرة الاقتصاديّة، أو في الخبرات العلميّة، أو في الكثرة العدديّة، وأن تأخذ بأسباب الوحدة الإسلاميّة، في عمليّة حوار فاعل بين المذاهب، أو تعاونٍ بين الأعراق، أو تواصل بين القوميّات...

ولا بدّ ـ في هذا الإطار ـ من أن تتحوّل منظّمة المؤتمر الإسلامي إلى منظّمة إسلاميّة فاعلة، بدلاً من أن تكون منظّمةً خاضعةً للضغوط الأمريكية والاستكباريّة، وأن تنطلق الجامعة العربيّة إلى مستوى الجدّية في تمثّل قضايا العرب، وفي تأكيد قيم العروبة والإسلام، وتحريك مواقع القوّة الاقتصاديّة، ولاسيّما النفط، وفي تأكيد العنفوان السياسي، بدلاً من أن تكون مجرّد شبحٍ عربيّ لا يملك لأمّته نفعاً ولا ضرّاً، بل يخضع للمخطّطات الإسرائيلية، ويلهث وراء السلام معها وهي تبتعد عنه.

لبنان: هل تشرق شمس الحلّ؟

أمّا في لبنان، فإنّ هناك بعض نقاط الضّوء في إيجاد حلّ للأزمة الخانقة في مسألة الاستحقاق الرئاسي، ولكنّ الظلام الذي تنتجه الدول الكبرى، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأمريكية، لا يزال يخنق أيّ نقطةٍ للنور في الأفق، ولا يزال اللبنانيّون يعيشون أكثر من هاجسٍ واقعيّ، بفعل المخاوف التي يثيرها الصراع الداخلي الذي تحكمه الكلمات الحادّة، والاتّهامات القاسية، والخلفيّات السياسية الخاضعة لهذه الدولة أو تلك، وللمواقع التي يخشى بعض أصحابها، من زعماء الطوائف، على زعاماتهم أو التزاماتهم، من أيّ مبادرة إنقاذيّة واقعيّة، ولاسيّما أنّ بعض هؤلاء مكلّفون بأن يلعبوا أدواراً في خدمة المشاريع الدوليّة لمصلحة أزمة المنطقة، لإبقاء لبنان ساحةً للنفوذ الخارجي، في عمليّة استغلال للوضع الطائفي الذي يسود واقع البلد، واليأس الوطني، والعبث السياسي، والهواجس النفسيّة، من جريمة هنا وتفجير هناك، ممّا يبشّر به بعض السياسيين الذين لا يعرف الناس مصادر تنبّؤاتهم التي يديرون من خلالها الخوف لدى الناس من الخطر القادم، كوسيلةٍ من وسائل اللعبة السياسية التي تحفظ لهم مواقعهم الطائفيّة.

إنّنا نقول للبنانيّين: إنّ الأوضاع الدوليّة والإقليمية والمحلّية تتحرّك من أجل زرع الأشواك في طريق المستقبل، حتّى لا يأتينا مزروعاً بالورود، تماماً كما زرعت إسرائيل، ومن خلفها أمريكا، ملايين القنابل العنقوديّة والألغام التي تنفجر في أجساد المدنيّين.

والسؤال: هل ينتظر اللبنانيّون شروق الشمس، أو يتحرّكون نحو المزيد من الظلام الدامس في كلّ هذا الليل الطويل؟!

في ذكرى ولادته المباركة(ع) :
الإمام الحسن (ع) قدوة في الحكمة والرسالية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الحسن(ع) في بيت النبوّة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليذهب الرجس عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:33)، من أهل هذا البيت ومن أئمته الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)؛ الإمام الزكي النقي، الذي عاش مع رسول الله(ص) طفولةً منفتحةً على كل أخلاق رسول الله(ص) وروحانيته وعلى كل كلماته. وكان رسول الله(ص) يحبه ويحب أخاه ويدعو الله لهما: "اللهم إني أحبّهما فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما". وهكذا كان محل رعاية رسول الله(ص)، وقد عاش في أحضان أمه الطاهرة المطهرة المعصومة، التي كانت على الرغم من حداثة سنها، تختزن علم رسول الله، والتي انطلقت في الإسلام لتكون المعلّمة لمن حولها من النساء، ولتكون المدافعة عن الحقّ والقويّة في الموقف.

وقد انطبعت شخصية الإمام الحسن(ع) بشخصية أبيه علي(ع)، الذي عاش معه شبابه، فأعطاه من عقله عقلاً، ومن علمه علماً، ومن شجاعته شجاعة، ومن صلابته في الحق صلابةً، ومن صبره صبراً، حتى إنه انطلق ليكون الإنسان الذي تمثل شخصيته شخصية أبيه، كما كان يشبه جده خَلقاً وخُلقاً.

وكذلك عاش(ع) المشاكل التي عانى منها أبوه الذي ضحى بكل ما عنده في سبيل الإسلام، وعمل بكل جهده للمسلمين، ولاقى الكثير من التحديات، وعانى الكثير من الآلام، وزُرعت في طريقه الإصلاحي كل الأشواك. وهكذا كان الإمام الحسن(ع) شبيه أبيه في ذلك، فقد واجه في خلافته الأولى الكثير من الخطر من بعض الذين كانوا في جيشه، ولاقى الكثير من معاوية، ولم يكن ضعيفاً أمامه، بل إننا عندما ندرس رسائل الإمام الحسن(ع) إلى معاوية، نجد أنّه(ع) يفرغ عن لسان أبيه، فكما كان أسلوب أبيه هو أسلوب القوة والبرهان والتحدي لمعاوية، كان أسلوب الحسن كذلك. ومن المؤسف أن الكثيرين الذين يتحدثون عن الإمام الحسن(ع)، لا يتحدثون عن رسائله إلى معاوية التي تدلّ على شخصيته القوية الصلبة صلابة الحق، لأن بعض الناس يعطونه صورة الإنسان المسالم من موقع السلام الضعيف، لا من موقع قوة الإمامة والمسؤولية والتحدي للباطل والظلم.

صبر الإمامـة

وهكذا عاش الإمام الحسن(ع) آلام أبيه، فواجه الكثير من نكران الجميل ونكران الفضل، وكأن الناس ـ ومنهم بعض صحابة رسول الله(ص) ـ لم يسمعوا رسول الله(ص) الذي كان يقول عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، ولكنه(ع) صبر كصبر أبيه وصبر أمه وصبر جده، وواجه المواقف بكل عقلانيّة، فلم يكن صبره صبر الضعفاء، بل صبر الحكماء، وكان يفكر كما كان أبوه يفكر، في أن يحفظ للمسلمين سلامهم وتوازنهم، وأن يجمع كلمتهم حتى لو كان ذلك على حساب قضاياه الخاصة.

نحن نعرف أن علياً(ع) هو الوصي، وهو الولي، وهو الخليفة، وهو الذي أمر الله رسوله بأن يبلِّغ ما أنزل إليه من ربه في ولايته(ع)، ومع ذلك، فإن علياً(ع) جمّد المطالبة بحقّه، ولم يلغها ولم يتنازل عنه، لأنه كان يقول: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين". وكذلك فعل الإمام الحسن(ع)، فقد جمّد المطالبة بحقّه، ورأى أنّ مصلحة المسلمين تقتضي أن يعقد هدنةً مع معاوية، ولا أقول صلحاً أو تنازلاً. فالحسن(ع) لا يملك أن يتنازل عن إمامته، ولكنه عقد مع معاوية صلح الحرب وهدنة الحرب، لا صلح الخلافة وهدنة الخلافة؛ تماماً كما فعل أبوه(ع) من قبل.

وكان بعض أصحاب الحسن(ع) يخاطبونه بعتاب المحبة ويقولون له: "السلام عليك يا مذل المؤمنين"، فيقول لهم: لقد أعززت المؤمنين، لأني أردت بقاء هذا الخط الأصيل الذي يلتزم حق علي(ع)، حتى لا يفنى هذا الحق ولا يسقط هذا الخط. وبذلك، كان الحسن(ع) يؤسس لحركة أخيه الحسين(ع)، فكانت حركة الإمام الحسين(ع) صدى لحركة الإمام الحسن(ع).

ونحن عندما نريد أن نتفهّم الإمام الحسن(ع)، فليس أفضل من أن نقرأ ما قاله عنه ابن أخيه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في ما روي عنه. قال: "كان أعبد الناس في زمانه ـ لم يكن هناك عابد في مستواه ـ وأزهدهم ـ على الرغم من وفرة الأموال لديه التي كان يعطي منها الفقراء والمساكين ـ وأفضلهم. وكان إذا حج حج ماشياً ـ مع أنه كان لديه ما يركبه، تواضعاً لله ـ وربما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذ ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله، تعالى ذكره، شهق شهقة يخشى عليه منها".

ويتابع الإمام زين العابدين(ع) حديثه عن عمه فيقول: "وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عز وجل، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السّليم، وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار، وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} إلا قال: لبيك اللهم لبيك ـ كأنه يتصور أن الخطاب موجه إليه، وأن الله يناديه فيستجيب للنداء ـ ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه"، سواء كان وحده أو مع الناس، سواء كان راكباً أو ماشياً، لأن الله توجه إلى الناس بأن يذكروه: {اذكروا الله ذكراً كثيراً* وسبحوه بكرة وأصيلاً} (الأحزاب:41-42).

الحكمة الرسالية

وكان(ع) يمثل الدرجة العليا في الأخلاق، وفي سعة الصدر، وفي الصبر على الأذى، حتى قيل في سيرته، إنه كان في يوم من الأيام في المدينة راكباً على فرسه، وكان يحيط به أولاده وأولاد أخيه وأخوته، وجاء شخص من الشام كان معاوية قد ثقّفه بثقافة العداوة لأهل البيت ولعلي(ع)، وكان يستغل جهل أهل الشام وبعدهم عن موقع علي(ع) في الكوفة، فيقول لهم: إن علياً لا يصلي، فجاء هذا الشامي ورأى موكب الإمام الحسن(ع) وسأل: من هذا؟ قالوا له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فبدأ بفعل حقده الذي امتلأ به قلبه، يشتم علياً والإمام الحسن بدون مناسبة، فتركه الإمام يكمل كلامه، وتوثب أهل بيت الإمام للشر، فأشار عليهم الإمام بأن يهدأوا، والتفت إلى هذا الرجل الشامي بكل حنان ومحبة وقال له: "أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا ـ جئت إلينا ضيفاً مكرّماً ـ وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً". ففوجىء هذا الشيخ بهذا الانفتاح والحنان والمحبة والرعاية، مع أنه كان قد شتم الإمام(ع)، عند ذلك نادى الإمام غلمانه بأن يذهبوا به إلى المنزل ويحسنوا ضيافته ومقامه، وعندما ذهب الرجل إلى المنزل بدأ بالتفكير، ورأى أنّ ما وجده في بيت الإمام من الأخلاق والعبادة شيء، وما حدّثه به الأمويون شيء آخر، وبدأ يقارن بين ما رآه وما أخبروه به، وبدأت الغشاوة تذهب عن عينيه، فلم يستطع الرجل إلا أن يهتف: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

وينقل عنه(ع)، أنه والإمام الحسين(ع)، التقيا بشيخ كان يتوضأ ولا يحسن الوضوء فأرادا تعليمه، ولكنهما كانا في قمة الشباب وهو شيخ كبير، وعادةً، لا يقبل الكبير من الصغير أن يعلّمه، ولكن الإمامين(ع) اختارا أسلوباً آخر، إذ تعمّدا إظهار تنازع بينهما بشأن الوضوء، ثم قالا: "أيها الشيخ، كُن حكماً بيننا، سيتوضّأ كل واحد منّا. فتوضآ، ثم قالا: أينا أحسن؟ قال: كِلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل يعني نفسه هو الذي لم يكن يحسن...". وبهذا الأسلوب الإنساني الحكيم، أراد الإمامان أن يحفظا لهذا الرجل كرامته، فقد علّماه ما يجب عليه بكل محبة، من دون أن يسيئا إلى كرامته، وهذا هو خلق أهل البيت(ع).

الأئمة صورة الإسلام وتجسيده

وعلى ضوء هذا، فإننا عندما نلتزم ولاية أهل البيت(ع) ونعتقد بإمامتهم، فليس ذلك من باب العصبية، ولكن لأنّنا نرى منهم(ع) تجسيداً للإسلام، وصورة رسول الله(ص)، فنتبعهم كأننا نتبع رسول الله(ص) الذي قال عنهم: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى".

ويروى أنه عندما كان الإمام الحسن(ع) مريضاً بمرضه الذي توفي فيه، جاءه شخص من أصحابه وهو (جنادة بن أبي أمية) وقال: "عظني يابن رسول الله، قال: نعم، ـ لم يقل له أنا مريض، لأنه كان يرى، كأبيه، أنه مسؤول عن موعظة الناس حتى في أشد حالاته ـ استعد لسفرك ـ للآخرة ـ وحصّل زادك قبل حلول أجلك ـ {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب} (البقرة:197) ـ واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ـ فكر بيومك كيف تطيع ربك وتؤمِّن رزقك، وغداً له همٌ آخر ورزق آخرـ واعلم أنك لا تكسب من المال فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك ـ فالزائد عن الحاجة ليس لك بل هو للورّاث.

واعلم أن الدنيا في حلالها حساب ـ لأن الإنسان يسأل عن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، من معاملة حرام أو حلال ـ وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، وأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر ـ لأنك حينها تكون مضطراً ـ فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب، فالعتاب يسير. واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ـ فاعمل فيما يتعلّق بأمورك ومشاريعك وقضاياك كما لو أنّك ستعيش أبداً – واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ـ فعندما تفكر في الآخرة، فكر في أنك قد تموت غداً وأن الله سيحاسبك، واستعدّ للجواب بين يديه ـ وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل".

ويروى أنّه جاءه(ع) رجل قال له: أريد أن أُجالسك، قال له(ع) بشروط ثلاثة: "إياك أن تمدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني، فإنَّه لا رأي لمكذوب، أو تغتاب عندي أحداً"، عندها استدرك الرجل، وقال له: أتأذن لي بالانصراف؟ قال: نعم إذا شئت".

وفي ختام الكلام، يقول الحسن(ع): "يابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارضَ بما قسم الله تكن غنياً ـ فالطاعة كنز لا يفنى ومال لا ينفذ ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ لأن الإسلام يريد منا حسن الجوار ـ وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً، إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً ـ من المال ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً ـ آمالهم بعيدة جداً ـ أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ـ فأكبر ما يكون الإنسان عندما ينزل من بطن أمه ـ فخذ مما في يديك ـ من المال ـ لما بين يديك ـ من الآخرة ـ فإن المؤمن يتزود ـ مما عنده لآخرته ـ والكافر يتمتع".

أيها الأحبة، هذا هو الإمام الحسن بن علي(ع)، فلننفتح على سيرته وعلى مواعظه ونصائحه، ولنولد ولادةً إسلاميةً في ذكرى ولادته. والسلام عليه يوم ولد ويوم انتقل إلى رحاب الله ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله... ماذا هناك؟

فلسطين: عقاب جماعي

في الساحة الفلسطينيّة، يتحرّك العدوّ لتضييق الحصار على الفلسطينيّين في قطاع غزّة، في حاجاتهم الضروريّة الحيويّة، إلاّ أنّه من المستبعد أن ينتقد المجتمع الدولي إسرائيل على هذا العقاب الجماعي الذي قد يؤدّي إلى كارثة إنسانيّة كبيرة في القطاع، إضافةً إلى صمت هذا المجتمع أمام تهديد وزير حرب العدوّ باجتياح غزّة.

وإذا كان المبرّر المطروح لذلك هو إفهام حماس أنّ هناك ثمناً لكلّ صاروخ يُطلق على مناطق مأهولة، فإنّ هذا العقاب الجماعي موجّه إلى كلّ المواطنين المدنيّين من الفلسطينيّين، حتّى الذين لا علاقة لهم بإطلاق الصواريخ، مع العلم أنّ المقاومة تتحرّك في هجومها على المستوطنات المحتلّة وعلى مراكز الجيش الصهيوني، دفاعاً عن حرّية الوطن كلّه، وردّاً على الاحتلال من جهة عدوانه، اغتيالاً وتفجيراً واجتياحاً واعتقالاً وتعذيباً للمدنيّين على المعابر، بوحشيّة تعرّض الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل للموت أو للإجهاض، ما يجعل صواريخ المقاومة الفلسطينيّة دفاعاً عن الشعب والوطن، وليست عدواناً ابتدائيّاً.

وفي هذا المجال، لا بدّ لمنظّمات حقوق الإنسان، والأنظمة العربيّة والإسلاميّة، إضافةً إلى السلطة الفلسطينيّة، من أن تتحمّل مسؤوليّاتها في الوقوف ضدّ هذا العقاب الجماعي، ورفع الصوت عالياً أمام الانتهاكات الإسرائيليّة الفاضحة للقوانين الدوليّة، وشرعة حقوق الإنسان وكلّ القيم الأخلاقيّة.

وعلى الفلسطينيّين، سلطةً وشعباً، أن يدركوا أنّ ما يتحدّث عنه الأميركيّون من مؤتمر للسلام في الخريف المقبل، لن يكون إلا لعبةً سياسيّةً جديدةً للمناورة، التي تترك الفلسطينيّين بعدها للمجهول، ولاسيّما مع إعلان رئيس حكومة العدوّ، أنّه لا يتوقّع أن يصل كيانه إلى وضع اتّفاق نهائي قبل مدّة تراوح بين 20 و30 سنة، وتأكيده أن المؤتمر المزمع عقده في الخريف لن يكون إلا بمثابة غطاء دوليّ لتأييد العمليّة السياسيّة بين كيانه والفلسطينيّين.

إسرائيل: تهديدات مباشرة لسوريا

وفي خطّ آخر، أطلق وزير الحرب الصهيوني الدعوة إلى الاستعداد للحرب مع سوريا؛ ما يوحي بأنّ كيان العدوّ لا يزال يخطّط لرفع مستوى التوتّر الأمني في المنطقة، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتّحدة الأمريكية التي تستخدم الدولة العبريّة لتحريك مخطّطاتها الاستراتيجية العدوانيّة التي تطاول كل قوى المنطقة ودولها؛ الأمر الذي يفرض على المقاومة في لبنان، أن ترفع درجة استعدادها الدفاعي لمواجهة أي عمل عدوانيّ على لبنان، كما حصل في العام الماضي.

وهذا ما يجب أن يفهمه اللبنانيّون، حكومةً وشعباً، لينطلق الحوار الجادّ لتحديد استراتيجيّة الدفاع عن الوطن، ولاسيّما مع الرفض الأمريكي لتسليح الجيش اللبناني، بما يشكّل حالةً دفاعيّةً واقعيّةً ضدّ عدوان العدوّ؛ باعتبار أنّ الخطّة الأمريكية هي بقاء العدوّ الإسرائيلي في الدرجة العليا من القوّة في المنطقة كلّها؛ وليؤكّد هذا الحوار أيضاً فشل مقولة أنّ السياسة هي التي تحمي لبنان لا السلاح، وذلك بعد أن أثبتت هذه المقولة فشلها في أكثر من محطّة من تاريخ لبنان، وفي أكثر من نموذجٍ في المنطقة.

أمريكا: اللعب بالوسائل الديمقراطية

وفي مشهدٍ آخر، لا تزال الولايات المتّحدة الأمريكية، في استعراض القوّة العسكريّة والسياسيّة في المنطقة، وفي التدخّل في أوضاع العالم كلّه، تنشر الفوضى في أكثر من منطقة، على مستوى الاهتزاز السياسي كما في لبنان، أو التوتّرات الأمنيّة كما في الصومال، أو الاضطرابات السياسية والأمنية كما في باكستان، أو الاحتلال الإجرامي كما في العراق وأفغانستان، أو عندما تدفع عملاءها في كلّ بلدٍ رافضٍ للاستسلام لسياستها الاستكباريّة العدوانيّة، للسيطرة على البلد كلّه، واعتقال المعارضة الرافضة لهم، واللعب بالوسائل الديمقراطيّة، بحيث تكون لحساب الحاكمين، لا لحساب الشعب...

وقد حذّر رئيس وزراء بريطانيا ـ في حديثه عن التحالف الوثيق مع الولايات المتّحدة الأمريكية ـ من أنّ القوّة وحدها لن تكون كافيةً، مشيراً ـ بشكل خفيّ ـ إلى أنّ العنف الاستكباري لأمريكا وحلفائها في دول العالم الثالث، ودعمها المطلق للكيان الإسرائيلي، كل ذلك أصبح يزيد في الانفلات الأمني، ويحرّك المعارضة الشعبيّة في أكثر من بلدٍ ضدّ إرهاب الدولة.

ونحن نرى هذه السياسة الاستكباريّة في استغلال الهيمنة على مجلس الأمن الدولي، من قبل أمريكا وفرنسا وبريطانيا، لاستصدار القرارات الضاغطة على إرادة أكثر من شعبٍ، كما في لبنان أو في إيران، تحت عناوين وشعارات لا تنطلق إلا من خلفيّة استكباريّة استعماريّة، وتعمل على أن لا تمتلك الشعوب أيّ خبرة علميّة في المجالات الحسّاسة، ولاسيّما النووية، حتّى تبقى الشعوب أسيرة ما تقدّمه تلك الدول في ظلّ تكريس مبدأ الاستهلاك لشعوبنا بعيداً عن عمليّة تحقيق الاكتفاء الذاتي.

العالم العربي والإسلامي: لمواجهة الخطر الأمريكيّ

إنّنا نحاول أن نثير في وجدان العالم المستضعف، ولاسيّما العالم العربي والإسلامي، الشعور بالخطر الأمريكي حيث يتمّ التخطيط لبناء إمبراطورية كونيّة عاصمتها واشنطن، من خلال القوة الذاتيّة، أو التحالفات الدوليّة، أو الاجتياحات الاقتصاديّة؛ وذلك بالرفض الكلّي لهذا الأخطبوط الاستكباري، بما يؤدّي إلى تحريك موازين القوّة لدى الشعوب، والعمل على تطويرها، لتتحوّل إلى موقع كبير من مواقع الحرّية والاستقلال، وأن ينطلق العالم الإسلامي للتخفيف من حدّة الصراعات الداخليّة، سواء كانت مذهبيّةً أو قوميّةً أو عرقيّةً أو ما إلى ذلك، والتي قد تتحرّك فيها مواقع رسميّة، حتّى إن بعضهم بات يمارس عمليّة التمييز العنصري أو المذهبيّ الذي تديره أجهزة الاستخبارات الدوليّة وتشجّعه الأموال الضخمة؛ كلّ ذلك ليبقى هذا الرئيس أو ذاك المسؤول في موقعه السياسي، ضاغطاً على حرّية شعبه، ليرثه أولاده من بعده، ما يدلّ على التخلّف الفكري والسقوط الروحي والانهيار السياسي.

إنّنا نناشد شعوب العالم الإسلامي، أن تعي مواقع القوّة عندها، سواء في القدرة الاقتصاديّة، أو في الخبرات العلميّة، أو في الكثرة العدديّة، وأن تأخذ بأسباب الوحدة الإسلاميّة، في عمليّة حوار فاعل بين المذاهب، أو تعاونٍ بين الأعراق، أو تواصل بين القوميّات...

ولا بدّ ـ في هذا الإطار ـ من أن تتحوّل منظّمة المؤتمر الإسلامي إلى منظّمة إسلاميّة فاعلة، بدلاً من أن تكون منظّمةً خاضعةً للضغوط الأمريكية والاستكباريّة، وأن تنطلق الجامعة العربيّة إلى مستوى الجدّية في تمثّل قضايا العرب، وفي تأكيد قيم العروبة والإسلام، وتحريك مواقع القوّة الاقتصاديّة، ولاسيّما النفط، وفي تأكيد العنفوان السياسي، بدلاً من أن تكون مجرّد شبحٍ عربيّ لا يملك لأمّته نفعاً ولا ضرّاً، بل يخضع للمخطّطات الإسرائيلية، ويلهث وراء السلام معها وهي تبتعد عنه.

لبنان: هل تشرق شمس الحلّ؟

أمّا في لبنان، فإنّ هناك بعض نقاط الضّوء في إيجاد حلّ للأزمة الخانقة في مسألة الاستحقاق الرئاسي، ولكنّ الظلام الذي تنتجه الدول الكبرى، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأمريكية، لا يزال يخنق أيّ نقطةٍ للنور في الأفق، ولا يزال اللبنانيّون يعيشون أكثر من هاجسٍ واقعيّ، بفعل المخاوف التي يثيرها الصراع الداخلي الذي تحكمه الكلمات الحادّة، والاتّهامات القاسية، والخلفيّات السياسية الخاضعة لهذه الدولة أو تلك، وللمواقع التي يخشى بعض أصحابها، من زعماء الطوائف، على زعاماتهم أو التزاماتهم، من أيّ مبادرة إنقاذيّة واقعيّة، ولاسيّما أنّ بعض هؤلاء مكلّفون بأن يلعبوا أدواراً في خدمة المشاريع الدوليّة لمصلحة أزمة المنطقة، لإبقاء لبنان ساحةً للنفوذ الخارجي، في عمليّة استغلال للوضع الطائفي الذي يسود واقع البلد، واليأس الوطني، والعبث السياسي، والهواجس النفسيّة، من جريمة هنا وتفجير هناك، ممّا يبشّر به بعض السياسيين الذين لا يعرف الناس مصادر تنبّؤاتهم التي يديرون من خلالها الخوف لدى الناس من الخطر القادم، كوسيلةٍ من وسائل اللعبة السياسية التي تحفظ لهم مواقعهم الطائفيّة.

إنّنا نقول للبنانيّين: إنّ الأوضاع الدوليّة والإقليمية والمحلّية تتحرّك من أجل زرع الأشواك في طريق المستقبل، حتّى لا يأتينا مزروعاً بالورود، تماماً كما زرعت إسرائيل، ومن خلفها أمريكا، ملايين القنابل العنقوديّة والألغام التي تنفجر في أجساد المدنيّين.

والسؤال: هل ينتظر اللبنانيّون شروق الشمس، أو يتحرّكون نحو المزيد من الظلام الدامس في كلّ هذا الليل الطويل؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية