يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة/155-157). ويقول سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان/17). ويقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر/10). وقد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) أن: «الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان».
الصدق ركيزة الإيمان:
وورد عندنا في بعض الأحاديث أن الإنسان إذا كان في قبره وبدأ حسابه، كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره، والصبر فوق رأسه، فيقول الصبر لهذه العبادات: «دونكم صاحبكم، فإذا لم تستطيعوا ذلك فأنا أتكفّل به»، باعتبار أن الصبر يمثل القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان. ولو درسنا المسألة في الواقع الإنساني، لرأينا أنّه لا يمكن للإنسان أن يحقق أي انضباط أو التزام إلاّ من خلال الصبر، فقد ترفض النفس الأمّارة بالسوء الصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة أو الخمس أو الجهاد أو المسؤولية في قضايا الحياة، لأن التزامها بهذه الأمور قد يكلّفها حرماناً جسدياً أو حرماناً معنوياً أو مالياً، يصعب عليها الصمود أمامه، فتسقط أمام هذا الحرمان، فالإنسان الذي يشتهي الأكلة المحرّمة أو الشراب المحرّم أو الجنس المحرّم أو المال المحرّم، فإن النفس الأمّارة تقوده إلى أن يحقق شهوته، لأنه إذا لم يحققها فإن ذلك يجعله يتألم. وهكذا في الأعمال التي تقتضي بذل الجهد الذي يُتعب الإنسان حيث النفس تتطلب الراحة، وتريد له أن لا يأخذ بما يتعبه، حتى في المسؤوليات التي فرضها الله عليه.
الصبر مفتاح الحرية:
ولعل المسألة لا تتصل فقط بالجوانب الذاتية للإنسان في رغباته وشهواته، بل تمتد حتى إلى المواقف التي تؤكد للإنسان إنسانيته، مثل مسألة الحرية، فالإنسان قد يتحداه الآخرون ليسقطوا إرادته الحرة، وليجعلوه فيما يقدّمون إليه من أطماع يعيش العبودية لمن يملك الأطماع، أو لمن يملك القوة، سواء على صعيد السلاح أو المال أو الشهوات وما إلى ذلك، ولذلك فإن مسألة أن يكون الإنسان حراً هي مسألة أن تكون له الإرادة التي يرفض من خلالها كل ما يسقط حريته، وكل ما يؤدي به إلى أن يكون عبداً للآخرين، عبداً في السياسة والاقتصاد وفي الواقع العام في الحياة الإنسانية العامة.
وقد حاول الإمام جعفر الصادق(ع) أن يؤكد الربط بين الحرية والصبر، فاعتبر(ع) أن قيمة الحرية التي يمارسها الإنسان الحر هي أن يملك الصبر الذي يمنعه من السقوط تحت تأثير الحرمان أو الأوضاع الصعبة التي تنال من إنسانيته، فنقرأ فيما روي عن الإمام الصادق ممّا سمعه أحد أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: «إن الحر حرّ في جميع أحواله ـ ليست هناك حالة للحر يقبل فيها بالعبودية حتى في أصعب الأوقات، لأن إرادته تبقى حرة حتى لو أطبقت عليه الدنيا، ويرفض أن يستعبد نفسه للآخرين أو أن يستعبده الآخرون ـ إن نابته نائبة ـ إذا أصابته المصائب في نفسه أو ماله أو أهله ـ صبر لها ـ لم يسقط أمامها ـ وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسِر وقُهر ولو استبدل باليسر عسراً» فإنّه لم يسقط حتى لو أطبقت عليه المصائب وتعرّض لأقساها كالأسر والتعذيب وما إلى ذلك.
ثم يكمل الإمام الصادق(ع) حديثه، فيعطي النموذج الأرقى للإنسان الحر الصابر الذي انطلقت حريته من خلال صبره لتعطيه النتائج الكبرى، على مستوى ما يحققه الصبر له في مواقعه الكبرى، فيقول: «كما كان يوسف الصدّيق الأمين (صلوات الله عليه)، لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر ـ لقد أسر النبي يوسف(ع) واستعبده الآخرون وحوّلوه إلى عبد كبقية العبيد، ولكنّه بقي في داخله حراً، لأنّ عقله وقلبه وإرادته كانت حرة ـ ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله ـ حيث رماه إخوته في البئر، فلم تنل منه الوحشة التي عاشها في البئر العميق المظلم ـ إلى أن منّ الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبداً ـ بعد أن كان عبداً لعزيز مصر جسدياً ولكن روحه الحرّة رفضت له الانجرار وراء شهواته عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه ملتجأً إلى الله، وانتهى به الأمر إلى أن احتاجه حاكم مصر ليفسّر له المنام الذي أرعبه، وعندما استخلصه لنفسه جعله حاكماً على مصر ـ بعد أن كان له مالكاً، فأرسله ورحم به أمه، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ـ في كل قضاياكم وعندما يتحداكم الجبابرة وتتحداكم نقاط ضعفكم ـ ووطّنوا أنفسكم على الصبر ـ بأن تتحملوا كل الحرمان الذي يمكن أن تعانوا منه عندما تصبرون ـ تؤجروا».
وعلى ضوء هذا، فإن مسألة الصبر تنفتح على قضية الحرية، وخصوصاً عندما تنطلق الشعوب لتواجه الكثير من الحصار الأمني والسياسي والاقتصادي، فإذا صبرت الشعوب على هذا الحرمان فسوف تتمكن من تحقيق الانتصار، وتفشل الخطط التي يريد من خلالها المستكبرون أن يسقطوا هذه الشعوب.
ونقرأ في حديث أمير المؤمنين(ع): «الصبر صبران، صبر عند المصيبة وهو حسنٌ جميل، وأحسن من ذلك الصبر عمّا حرّم الله عليك، والذِكْر ذكران، ذكر الله عزّ وجلّ عند المصيبة، وأفضل من ذلك ذكر الله عمّا حرّم الله عليك». وقال الإمام الباقر(ع): «لما حضرت أبي عليّ بن الحسين(ع) الوفاة وقال لي: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به: يا بني اصبر على الحق ـ عندما تكون مع الحق في الشريعة والعقيدة والسياسة فاصبر عندما يريد لك الآخرون أن تنحرف عنه من خلال الضغوط التي يمارسونها ضدك ـ حتى ولو كان مرّاً»، لأن نتائج هذه المرارة سوف تكون حلاوة على مستوى النتائج. وقال(ع) لبعض أصحابه: «كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله».
لذلك فإننا عندما نريد أن نطيع الله ونحقق حريتنا ونؤكد إنسانيتنا، علينا أن نربي أنفسنا على أن نصبر أمام كل حركة المسؤولية، لأن الصبر ليس ضعفاً وإنما هو قوة، وهو ما قاله الله عزّ وجلّ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان/17)، وقال تعالى أمام التحديات التي نواجهها أمام الكافرين والمستكبرين، ولا سيما التحديات الإعلامية: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ـ سوف يؤذونكم بكلماتهم وإعلامهم ـ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ـ أن تصبروا وتتماسكوا ولا تسقطوا أمام إعلامهم السيء، ولا تفقدوا حريتكم ولا تكونوا أذلاء أمام ذلك، بل تبقى لكم العزة ـ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(آل عمران/186).
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله وواجهوا الموقف من موقع واحد في مواجهة المستكبرين الذين يريدون أن يكيدوا للمؤمنين والمستضعفين من خلال ما يملكونه من قوة في السياسة والسلاح والمال. كونوا الأقوياء لأن الله تعالى يريد للمؤمن أن يكون قوياً ولا يريد له أن يستضعف نفسه في أي مجال من المجالات، لا سيما وأننا نواجه الكثير من صراع القوة بيننا وبين المستكبرين الذين يريدون من خلال مخططاتهم وفرقائهم أن يسقطوا روحنا وإرادتنا وقوتنا، وعلينا أن نقف وقفة الإنسان القوي الذي يرفض أن يستعبده الآخرون، فماذا هناك:
محاولات أمريكية ـ صهيونية لإسقاط الحكومة الفلسطينية:
إسرائيل تتحرّك في هجوم تدريجي واسع على غزّة بالطائرات والدبابات والصواريخ والاغتيالات، في اجتياح وحشي لا يستثني طفلاً ولا امرأةً ولا عجوزاً، ويستهدف المدنيين من العمال والمواطنين العاديين، ليحصد في كل يوم مزيداً من الشهداء والجرحى والمنازل المدمرة والمزارع المجروفة. وإلى جانب ذلك، تزداد المستوطنات ويمتد الجدار العنصري الفاصل الذي يصادر الأراضي الفلسطينية السكنية والزراعية، في خطة وحشية تخنق الشعب الفلسطيني، بتخطيط أمريكي إسرائيلي ودعم عربي، لإسقاط الحكومة الفلسطينية المنتخبة، وذلك في نطاق سياسة أمريكية بعيدة المدى، تضع فلسطين في داخل مشروع واسع للمنطقة كلها، وخصوصاً أن المبرّر للهجوم الإسرائيلي هو الخشية من تحول الفصائل الفلسطينية، وفي مقدّمها حماس، إلى ما يشبه وضع حزب الله في لبنان، مع إثارات إعلامية وسياسية إسرائيلية تتحدث عن وضع تتمكن فيه حماس من إنشاء وحدات كوماندوس وأخرى لإطلاق قذائف مضادة للدبابات، والتزوّد بمنظومة أسلحة متطورة، من ضمنها أجهزة للرؤية الليلية، وذلك من خلال زعمهم بوجود عمليات تهريب أسلحة بين مصر وغزة.
إنهم يثيرون ذلك كله لتبرير هذا الهجوم الشامل الذي حصل على ضوء أخضر أمريكي لهذه الحرب الاستباقية على طريقة حروب أمريكا في المنطقة بعنوان الدفاع عن النفس. ومن اللافت، أن أمريكا لا تجد دفاع الفلسطينيين عن أرضهم وعن شعبهم ضد الاحتلال الإسرائيلي دفاعاً عن النفس، لأنّ الإدارة الأمريكية لا ترى أي حقّ للشعب الفلسطيني في الحياة الحرة الكريمة، بضغط من اليهود الأمريكيين الموالين لإسرائيل والمحافظين الجدد، الذين يزداد تأثيرهم على الإدارة الأمريكية، ولاسيما في هذه الأيام التي تفصلنا عن الانتخابات الأمريكية النصفية.
صمت عربي ذليل تجاه الممارسات الصهيونية:
ومن الغريب أن الدول العربية مع ما تملك من ضغوط سياسية واقتصادية ما تقف أمام هذه الحرب الجديدة مع الشعب الفلسطيني، لأن العرب لا يريدون لأية مقاومة ضد إسرائيل أن تؤكد قدرتها على المواجهة، ولأن ذلك لا يتوافق مع الالتزامات العربية الرسمية للإدارة الأمريكية التي وظّفتهم ليكونوا حراساً لتعطيل أية حركة للقوة في العالم العربي، ما قد يربك سياسة الاستكبار الأمريكي.
إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى رفع الصوت عالياً ضد العدوان الإسرائيلي الجديد على الشعب الفلسطيني، وإلى التظاهر الشامل الصارخ على الطريقة التي خرجت بها الشعوب الرافضة للاحتلال في أثناء العدوان على لبنان، ونريد للشعب الفلسطيني أن ينطلق من قاعدة مواجهة هذا العدوان إلى وحدة شاملة في حكومة وحدة وطنية، لأن إسرائيل ليست مع فريق ضد آخر، بل هي ضد الجميع، ولأن أمريكا لا تزال تعمل على إضاعة الوقت عبر دعوة اللجنة الرباعية الدولية إلى الاجتماع من دون نتيجة إيجابية، وإعطاء الفلسطينيين ـ ولاسيما السلطة ـ أحلاماً خيالية ووعوداً كاذبة في الخطة المرسومة لتحقيق إسرائيل استراتيجيتها في السيطرة على فلسطين كلها، ولاسيما في ظل الأوضاع الجديدة للحكومة الصهيونية التي عملت على إدخال بعض المتطرفين الذين يخططون لتدمير الشعب الفلسطيني، بما فيه الفلسطينيون الذين يسكنون في أراضي الـ48. وعلى السلطات في الدول العربية أن تعرف أنها إذا استمرت في هذا الصمت الذليل واللامبالاة السياسية، فسوف ينقلب الهيكل على رأسها ورؤوس الجميع...
الإدارة الأمريكية: السقوط في العراق وأفغانستان:
وتبقى الإدارة الأمريكية التي سقطت داخلياً وخارجياً، في مأزقها السياسي والأمني في العراق وأفغانستان، وفي أكثر من منطقة، على الرغم من قوتها الضاربة في احتلالها لبلاد الرافدين، وكذلك في سيطرتها على أفغانستان إلى جانب قوات الحلف الأطلسي، من دون أن تحقق نصراً هنا وهناك، الأمر الذي سوف يضطرها تحت تأثير الهزيمة، إلى العودة إلى إيران وسوريا، في خطة لإيجاد حال من التوازن في سياستها في المنطقة، أملاً في أن تحصل على نوع من الاستقرار في مناطق احتلالها.
لقد عاش الشعب العراقي المجازر اليومية الوحشية ضد المدنيين، ولاسيما العمال، بغطاء من قوات الاحتلال التي لم تمنح الناس الأمن ولم تتمكن من الدفاع عنهم في مواجهة عدوان التكفيريين الحاقدين على الإنسان والحياة، والذين شوّهوا وجه المقاومة الشريفة التي تبلي بلاءً حسناً في مواجهة قوات الاحتلال، والتي سوف تضطره عاجلاً أو آجلاً إلى الانسحاب من العراق. إن الشعوب بدأت تمقت أمريكا من خلال إدارتها الحالية، وسوف تسقط السياسة الأمريكية تحت تأثير الرفض القوي لكل ما تمثله أمريكا في استراتيجيتها الاستكبارية على صعيد مصالحها في المنطقة.
لبنان في المأزق بين النخب السياسية وضغوط الخارج:
أما لبنان، فإنه يعيش في داخل المأزق الذي تتحرك فيه النخب السياسية بعيون مغلقة، وبذهنيات طائفية عمياء تمنح خطوطها إسم الوطنية، وبخطط ضائعة بين ضغوط الخارج وتعقيدات الداخل، وبهروب إلى الساحات الدولية التي تستقبل البعض لتوجههم إلى المزيد من الإرباك السياسي الذي يمنع أية واقعية للحوار، وأيّ روحية للتشاور، لأن المطلوب هو بقاء لبنان في هذه الحال من الانقسام الداخلي على عناوين معقدة في مسألة حكومة الوحدة الوطنية أو المحكمة الدولية وغيرها، في إطار التجاذب الذي يراد له أن يحوّل الحوار إلى ما يشبه حوار الطرشان.
إن خروج لبنان من الحرب الإسرائيلية العدوانية، يفترض أن يقود إلى حلّ لا إلى مأزق، فالأولويات الوطنية في مثل هذه الحالة واضحة لجهة تطبيق القرار 1701 بما يوقف الخروق الجوية الإسرائيلية، ويعيد مزارع شبعا والأسرى، وينهي دور الساحة المفتوحة على كل الصراعات في لبنان، ويفسح في المجال لإطلاق البرنامج الإصلاحي المالي والاقتصادي والسياسي الذي يضمن النجاح لمؤتمر باريس3، وبالتالي، الالتفات إلى إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد والحوار للتفاهم لإيجاد حلول لما بقي من بنوده، أي أزمة الحكم والاستراتيجية الدفاعية والعمل على تطبيق ما جرى الاتفاق عليه بالإجماع...
لكن ما يحدث في الواقع شيء آخر، ولاسيما بالنسبة إلى الاتجاه العام من خلال موقع لبنان في الصراع الإقليمي والدولي.