لأنه سيحاسَب على كل أعماله يوم القيامة:على الإنسان أن يكون مسؤولاً عن كل حركته في الحياة

لأنه سيحاسَب على كل أعماله يوم القيامة:على الإنسان أن يكون مسؤولاً عن كل حركته في الحياة

لأنه سيحاسَب على كل أعماله يوم القيامة:على الإنسان أن يكون مسؤولاً عن كل حركته في الحياة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

كلٌ يتحمل المسؤولية:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فلنسألنَّ الذين أُرسل إليهم ولنسألن المرسَلين}،. والسؤال الإلهي يشمل كل خلق الله تعالى، في ما حمّلهم سبحانه من مسؤوليات، فالله تعالى، كما يسأل الناس الذين أرسل إليهم الأنبياء ليبلّغوهم كلمة الله، فإنه يسأل المرسَلين عمّا بلّغوه، فكل رسول معرّض للسؤال كيف بلّغ رسالته، والأسلوب الذي اتّبعه، والمناخ الذي حرّكه في رسالته: {فلنسألن الذين أُرسل إليهم ـ وهم الناس، كيف تمثلوا دعوة الرسل، هل آمنوا بها أو كذّبوها ـ ولنسألن المرسَلين}.

ويحدثنا الله تعالى عن يوم القيامة، وعن الناس وهم يتبعون بعضهم بعضاً. وينطلق النداء الإلهي: {وقفوهم إنّهم مسؤولون ـ احبسوهم في موقعهم الذي هم فيه، أوقفوهم عن الحركة حتى يواجهوا السؤال، هؤلاء الذين عاشوا الحياة في خط الانحراف عن الله ـ ما لكم لا تناصَرون ـ لماذا لا تنصرون بعضكم بعضاً في الآخرة؟ لماذا لا ينصركم الذين كنتم تعبدون من دون الله ـ بل هم اليوم مستسلمون}، لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. ونقرأ في قوله تعالى: {فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون}، فكل عمل يقوم به الإنسان، سواء كان عملاً يتّصل بحياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية... سوف يُسأل عنه: على أي أساس قام به، وفي أي اتجاه؟؟

ونقرأ عن رسول الله(ص)، وهو سيد الخلق وحبيب الله: "إني مسؤول وإنكم مسؤولون". إن الله سوف يسأل رسوله عن كل ما قام به في حركة الرسالة، كيف بلّغها؟ وكيف واجه التحديات؟ وكيف حارب وكيف سالم، وكيف عاش مع أمته؟ وكيف سار في منهجه الأخلاقي وما الى ذلك، فكأن النبي(ص) يريد أن يقول لنا: إن كل واحد منكم يتحمّل أمام الله مسؤولية كل حركة في حياته، فعلى كلٍّ منكم أن يحسب حساب عمله وكلامه عندما يصدران منه، فإذا سألني الله عن هذا العمل فهل أملك جواباً؟ العمل في البيت، في السلوك مع الزوجة والأولاد والجيران، العمل في المجتمع وفي كل مواقع التحديات.

المسؤولية عن العباد والبلاد:

ويقول الإمام عليّ(ع): "أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون، وإليه تصيرون، فإن الله تعالى يقول: {كل نفس بما كسبت رهينة}"، فأنت مرهون بعملك، فإذا كان عملك مرضياً عند الله، فسوف يفك رهانك ولن تُحتبس، وأما إذا كان عملك غير مرضي، فسوف تبقى مرتهناً به، ولن تستطيع أن تتحرر منه. ويقول(ع): "اتقوا الله ـ خافوه وراقبوه واحسبوا حسابه ـ في عباده ـ كيف تتعاملون مع عباد الله، لا تظلموهم، لا تغشوهم، لا تؤذوهم، لا تأكلوا أموالهم بالباطل ـ وبلاده ـ لا تفسدوا البلاد على من فيها وتحوّلوها ساحة للفتنة ـ فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه".

وورد عن رسول الله(ص) أنه قال، وهو يوجّه كلامه إلى قرّاء القرآن، هؤلاء الذين تعلّموا القرآن ودرسوه وقرأوه على الناس: "يا معاشر قرّاء القرآن، اتقوا الله عزّ وجلّ في ما حمّلكم من كتابه ـ عليكم أن تعتبروا القرآن رسالة تعملون بها وتدعون الناس إليها ـ فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني ـ وأنا رسول الله ـ مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتُسألون عمّا حُمّلتم من كتاب الله وسنّتي". ويقول النبي(ص) وهو كلام موجّه لكل إنسان يتحمّل مسؤولية في دائرته الخاصة: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ـ فكل إنسان سيسأله الله عن رعيته التي تحمّل مسؤوليتها في الحياة ـ فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم". ولذلك فعلى الإنسان الذي يعيش المسؤولية عن رعيّته للناس في أية دائرة، سواء كانت محدودة أو كبيرة، أن يتحمّل مسؤولية كل شخص يقع تحت دائرته. وورد في الحديث عن رسول الله(ص): "ملعون ملعون من ضيّع من يعول".

ويقول الله تعالى: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم ـ لا تتبع كل ما لا تملك علمه ومعرفته، سواء في ما تعتقده أو تتحدث به، أو في ما تمارسه في حياتك ـ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}، ويقول الإمام الصادق(ع) في تفسير هذه الآية: "يُسأل السمع عمّا سمع، والبصر عمّا نظر إليه، والفؤاد عمّا عقد عليه".

المسؤولية في القضايا الفردية والعامة:

إننا نأخذ من كل هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدرس، أنّ على الإنسان أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل ما اعطاه الله؛ مسؤولاً عن عقله وعن كل طاقاته ليحركها في حاجات الناس من أجل أن يسدّها، وأن على الإنسان في كل المجالات، أن لا يتحرك في شيء يجهله، فإذا أردت أن تلتزم فكراً، فعليك أن تكون عالماً بكل خطوات فكرك، وعندما تريد أن تنتمي إلى جهة أو خط لا بد أن تكون عارفاً بسلامة هذه الجهة واستقامة هذا الخط، فلا تتحرك على أساس أن تنطلق لتكون أعمى القلب والحركة، بل كن مفتوح العينين؛ عيني قلبك قبل عيني جسدك.

وهذا ما يجب أن نواجهه في الحياة الفردية والاجتماعية، أما على المستوى الفردي، فهو أمر معروف بالنسبة إلى نفسك: "يُسأل الإنسان يوم القيامة عن أربع: عن عمره في ما أفناه ـ لقد رزقك الله عمراً، فهل أفنيته في الخير أم في الشر، في الطاعة أم في المعصية ـ وعن شبابه في ما أبلاه ـ لقد أعطاك الله شباباً يمثل كل القوة والحيوية والنضارة، فكيف مزّقت شبابك وكيف أبليته؟ هل أبليته بالشهوات أم بالمسؤوليات؟ ـ وعن ماله من أين اكتسبه ـ هل اكتسبه من حلال أم من حرام ـ وفي ما أنفقه..."، فعليك أن تعدّ لكل سؤال جواباً.

أما في القضايا العامة، فإن الإنسان قد يُدعى ليعطي رأيه في أمر يتصل بالحياة العامة، كما أن يعطي صوته مثلاً لهيئة إدارية في جمعية ما، ويتوقف على هذا الصوت، كما أصوات الآخرين، سلامة الجمعية في أهدافها، فعلى الإنسان أن يشعر بالمسؤولية في أن يعطي صوته لمن يحفظ الجمعية أو النقابة في أهدافها. وهكذا في الانتخابات العامة، فإذا عمل من انتخبه في صلاح الأمة، فمن أعطاه صوته فهو شريك معه، وإذا عمل في فسادها يكون شريكاً له أيضاً في ذلك...

ولهذا، فإن الانتخابات ـ أيّ انتخابات ـ ليست لعبة، إنّ الإنسان يختار من خلالها لأمّته حكّاماً يركزون خطواتهم من أجل ما يحتاجه البلد وما يُخطط له، ولذلك فإن كل من أعطى صوته، يتحمّل مسؤولية كل ما يقوم به هؤلاء من خير أو من شر. فالمشكلة الآن ليست هي مشكلة النائب أو الوزير، بل هي مشكلة الناخب الذي رفعهم إلى مواقعهم. صوتك مسؤوليتك، موقفك مسؤوليتك، حركتك مسوؤليتك، علاقاتك مسؤوليتك، التي سوف تدافع عنها أمام الله، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم في كل أموركم، فإن الله تعالى سوف يسألكم عن الصغير وعن الكبير، فاعملوا لتجيبوا الله عن ذلك كله، لتدافعوا عن مواقفكم أمامه سبحانه، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}. إن علينا أن نواجه مسؤولياتنا في كل قضايا الأمة، وأن نهتم بأمور المسلمين في قضايا الحرب والسلم، وقضايا الاقتصاد والسياسة، لأن الله تعالى أراد لنا أن نؤكد العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي واقعنا الذي نعيشه الكثير من المشاكل في حركة الأمة أمام أعدائها، ولا بد لنا أن نتفهّم أوضاعنا لكي نعرف كيف نحمي أمتنا من كل ما يخططه لها أعداؤها.

خداع إسرائيلي في تغطية الانسحاب من غزة

في فلسطين المحتلة، يستمر اليهود في تنفيذ خطة استفزاز أمني عدواني، في عملية عقاب جماعي في إغلاق المدن، وإقامة الحواجز، واغتيال الشباب، وقتل الأطفال، واعتقال المجاهدين، حتى إذا قام الفلسطينيون بالردّ على تلك الممارسات، كما حدث في العملية الاستشهادية في ناتانيا، تحرّكوا للمناداة بالثبور وعظائم الأمور في الشكوى من الإرهاب، كما يسمّونه.

وتحركت أمريكا وأوروبا والأمم المتحدة لإصدار بيانات الاستنكار، من دون أن تقدم أيّ موقف احتجاجي على العدوان الإسرائيلي الوحشي، وخصوصاً في عزل القدس من خلال جدار الفصل، ما يؤدي إلى عزل 55 ألف مقدسي بسبب ذلك، في الوقت الذي استطاع العدو إقناع العالم المستكبر، بأن الانسحاب من غزة هو التطوّر السياسي الذي لا بد أن يلاقي الدعم، بما فيه الدعم المالي، في مطالبته أمريكا بدفع ملياري دولار لتغطية مصاريف الانسحاب، وينال التأييد العالمي، في الوقت الذي يخطط للاستيلاء على الضفة الغربية والقدس من خلال المستوطنات الكبرى والجدار الفاصل، بما يعطّل مشروع أية دولة فلسطينية قابلة للحياة مما يبشّر به بوش الذي لم يتحرك خطوة واحدة في تحقيقها في الواقع من خلال الضغط على إسرائيل، بل إنه ـ على العكس من ذلك ـ أعطى الشرعية لضم المستوطنات الكبرى إلى الدولة العبرية، وألغى حق العودة للفلسطينيين، وأبقى المشروع الإسرائيلي المتحرك للجدار الفاصل، وتابع الضغط على الفلسطينيين باتهام الفصائل بالإرهاب، ولم يمنح السلطة الفلسطينية إلا الكلمات المعسولة التي لا معنى لها...

وتبقى الدول العربية ـ ومعها أكثر الدول الإسلامية ـ في خطة انسحاب من القضية الفلسطينية، بسبب الخضوع للضغط الأمريكي الذي يرتجف منه الحكّام من المحيط إلى الخليج، ولا حديث لهم إلا عن الإرهاب الذي صرّح رئيس وزراء بريطانيا بأن بقاء المشكلة الفلسطينية هي إحدى الأسباب في استمراره وخطورته...

إننا نحيي صمود الشعب الفلسطيني الذي لم يخضع للضغط الإسرائيلي والدولي، ولم يُخدع بالتحركات العربية لتطويقه، ونريد لـه أن يبقى في خط الوحدة الداخلية وأن يحافظ عليها، وأن لا يُستدرج إلى ما تريده أمريكا وإسرائيل من الوقوع في فخ المشاكل الداخلية، كما نريد لـه أن يبقى محافظاً على نهج المقاومة، لأنه الخط الوحيد الذي يحفظ للقضية امتدادها واستمرارها في نهاية المطاف، وإبقاء المأزق السياسي والأمني للعدو وحلفائه، من أجل تحقيق الانتصار النهائي في التحرير للشعب الفلسطيني.

ندين الإرهاب:

أما العراق، فلا يزال يعيش المأساة الدامية بأفظع صورها، بفعل التداعيات الوحشية التي صنعها مناخ الاحتلال، حيث ينتقل من مجزرة إلى مجزرة، وقد شهدت بغداد مجزرة جديدة مروّعة كان ضحاياها من الأطفال، إذ قُتل33 منهم وجُرح أكثر من 30 بسيارة مفخخة قادها انتحاري وحشي مجنون، إضافة إلى العشرات من القتلى والجرحى من المدنيين في أكثر من موقع في العراق، من خلال الفئات التكفيرية الحاقدة التي تستهدف المسلمين الشيعة في كثير من البلدان، مستغلةً شعار المقاومة من دون أيّ معنى، لأن المقاومة هي التي تواجه قوات الاحتلال لا المدنيين الأبرياء، وهي التي تهدف إلى تحرير البلد لا إلى قتل المواطنين تحت تأثير حقد طائفي مذهبي في ذهنية متخلّفة لا تفهم القيمة الإسلامية ولا الوطنية، بل إنها تساهم في إبقاء الفوضى الأمنية التي تحقق للعدو الفرصة لإبقاء احتلاله طويلاً، وتمنع بناء الجيش العراقي وقوات الأمن الداخلي ليكون البديل عن قوات المحتل.

إن هذا المشهد الوحشيّ، لا يدانيه مشهدٌ مماثل، إلا ذلك الذي تمثّل في قصف الطائرات الأمريكية للأعراس والتجمّعات المدنية الشعبية في القرى الأفغانية، وقتلهم الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وهذا ما يؤكد أن ثمة شراكة في الوحشية والقتل بين مدرسة الإرهاب الأمريكية ومدرسة الإرهاب التكفيرية.

إننا من موقعنا الإسلامي، ندين الإرهاب بكل أنواعه في البلاد الإسلامية وفي كل بلاد العالم، ولذلك أنكرنا ما حدث من تفجيرات في بريطانيا، لأن الإرهاب في الاعتداء على المدنيين، لا يمثل أية قيمة إسلامية، بل هو ضد الإسلام الذي يؤكد احترام الشعوب، لأن الإسلام يحترم الإنسان كله...

وبهذه المناسبة، فإننا نرحب بما ورد في خطاب رئيس الوزراء البريطاني لجهة تبرئة الإسلام كدين، والمسلمين كأمة، ودعوته البريطانيين وغيرهم أن لا يحمّلوا المسلمين المقيمين في الغرب مسؤولية ما قام به الإرهابيون من التفجيرات الوحشية، كما أن تحليله للإرهاب، ودعوته إلى معالجته بمعالجة جذوره، كالفقر والحرمان وأزمة الشرق الأوسط، يدل على وعي للمسألة بشكل جيد، ونأمل أن يتعلّم الرئيس بوش هذا الدرس من حليفه البريطاني.

نريد لبنان الحرية والقرار المستقل

ويبقى المشهد اللبناني الذي يخضع للتفجيرات المتنوّعة التي تخلط الأوراق، وتصادر الكثير من التحليلات السياسية والأمنية، في خلفياتها التي يتحرك بها السوق السياسي في عمليات التجاذب. وتتتابع ملامح الصورة في تعطيل الدولة المثقلة بالمشاكل الاقتصادية والمالية والأمنية، من خلال الصراع على الحصص لهذه الكتل أو تلك، من أجل مواقع الطوائف وامتيازات زعاماتها في طموحاتها المستقبلة، وفي لعبة النِسَب في حسابات الثلث هنا والثلثين هناك، بعيداً عن البرامج الإصلاحية التي يتمثّل فيها الوعد بالمستقبل القادم، إضافة إلى التدخلات الدولية ـ ولا سيما الأمريكية ـ التي تريد أن تحرك ضغوطها لأكثر من موقع في المنطقة من خلال لبنان، وفي جانب آخر، يُراد لعملاء إسرائيل أن يأخذوا البراءة من لبنان الجديد، في الوقت الذي كانوا جنوداً للدولة العبرية في احتلال وطنهم وفي قتل مواطنيهم.

إننا نريد للبنان الجديد أن يكون لبنان الحرية الذي يحتضن الأحرار، وأن يكون لبنان القرار المستقل الذي لا يخضع لأية وصاية دولية ولأية ضغوط أمريكية أو أوروبية، في إضعاف موقعه في عملية صناعة القوة في خط التحرير. وعلينا أن نتذكر شعار العهد الاستقلالي الأول، أن لا يكون لبنان ممراً ولا مقراً للاستعمار وللنفوذ الدولي، بل يبقى وطناً للحرية وواحة للإشعاع الروحي والفكري.

إنها رسالة الشعب اللبناني إلى كل الذين يتنازعون في الحصول على الجبنة، في عملية تقاسم على مائدة الأطماع الذاتية والحزبية والطائفية.

لأنه سيحاسَب على كل أعماله يوم القيامة:على الإنسان أن يكون مسؤولاً عن كل حركته في الحياة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

كلٌ يتحمل المسؤولية:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فلنسألنَّ الذين أُرسل إليهم ولنسألن المرسَلين}،. والسؤال الإلهي يشمل كل خلق الله تعالى، في ما حمّلهم سبحانه من مسؤوليات، فالله تعالى، كما يسأل الناس الذين أرسل إليهم الأنبياء ليبلّغوهم كلمة الله، فإنه يسأل المرسَلين عمّا بلّغوه، فكل رسول معرّض للسؤال كيف بلّغ رسالته، والأسلوب الذي اتّبعه، والمناخ الذي حرّكه في رسالته: {فلنسألن الذين أُرسل إليهم ـ وهم الناس، كيف تمثلوا دعوة الرسل، هل آمنوا بها أو كذّبوها ـ ولنسألن المرسَلين}.

ويحدثنا الله تعالى عن يوم القيامة، وعن الناس وهم يتبعون بعضهم بعضاً. وينطلق النداء الإلهي: {وقفوهم إنّهم مسؤولون ـ احبسوهم في موقعهم الذي هم فيه، أوقفوهم عن الحركة حتى يواجهوا السؤال، هؤلاء الذين عاشوا الحياة في خط الانحراف عن الله ـ ما لكم لا تناصَرون ـ لماذا لا تنصرون بعضكم بعضاً في الآخرة؟ لماذا لا ينصركم الذين كنتم تعبدون من دون الله ـ بل هم اليوم مستسلمون}، لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. ونقرأ في قوله تعالى: {فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون}، فكل عمل يقوم به الإنسان، سواء كان عملاً يتّصل بحياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية... سوف يُسأل عنه: على أي أساس قام به، وفي أي اتجاه؟؟

ونقرأ عن رسول الله(ص)، وهو سيد الخلق وحبيب الله: "إني مسؤول وإنكم مسؤولون". إن الله سوف يسأل رسوله عن كل ما قام به في حركة الرسالة، كيف بلّغها؟ وكيف واجه التحديات؟ وكيف حارب وكيف سالم، وكيف عاش مع أمته؟ وكيف سار في منهجه الأخلاقي وما الى ذلك، فكأن النبي(ص) يريد أن يقول لنا: إن كل واحد منكم يتحمّل أمام الله مسؤولية كل حركة في حياته، فعلى كلٍّ منكم أن يحسب حساب عمله وكلامه عندما يصدران منه، فإذا سألني الله عن هذا العمل فهل أملك جواباً؟ العمل في البيت، في السلوك مع الزوجة والأولاد والجيران، العمل في المجتمع وفي كل مواقع التحديات.

المسؤولية عن العباد والبلاد:

ويقول الإمام عليّ(ع): "أوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون، وإليه تصيرون، فإن الله تعالى يقول: {كل نفس بما كسبت رهينة}"، فأنت مرهون بعملك، فإذا كان عملك مرضياً عند الله، فسوف يفك رهانك ولن تُحتبس، وأما إذا كان عملك غير مرضي، فسوف تبقى مرتهناً به، ولن تستطيع أن تتحرر منه. ويقول(ع): "اتقوا الله ـ خافوه وراقبوه واحسبوا حسابه ـ في عباده ـ كيف تتعاملون مع عباد الله، لا تظلموهم، لا تغشوهم، لا تؤذوهم، لا تأكلوا أموالهم بالباطل ـ وبلاده ـ لا تفسدوا البلاد على من فيها وتحوّلوها ساحة للفتنة ـ فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه".

وورد عن رسول الله(ص) أنه قال، وهو يوجّه كلامه إلى قرّاء القرآن، هؤلاء الذين تعلّموا القرآن ودرسوه وقرأوه على الناس: "يا معاشر قرّاء القرآن، اتقوا الله عزّ وجلّ في ما حمّلكم من كتابه ـ عليكم أن تعتبروا القرآن رسالة تعملون بها وتدعون الناس إليها ـ فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني ـ وأنا رسول الله ـ مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتُسألون عمّا حُمّلتم من كتاب الله وسنّتي". ويقول النبي(ص) وهو كلام موجّه لكل إنسان يتحمّل مسؤولية في دائرته الخاصة: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ـ فكل إنسان سيسأله الله عن رعيته التي تحمّل مسؤوليتها في الحياة ـ فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم". ولذلك فعلى الإنسان الذي يعيش المسؤولية عن رعيّته للناس في أية دائرة، سواء كانت محدودة أو كبيرة، أن يتحمّل مسؤولية كل شخص يقع تحت دائرته. وورد في الحديث عن رسول الله(ص): "ملعون ملعون من ضيّع من يعول".

ويقول الله تعالى: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم ـ لا تتبع كل ما لا تملك علمه ومعرفته، سواء في ما تعتقده أو تتحدث به، أو في ما تمارسه في حياتك ـ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}، ويقول الإمام الصادق(ع) في تفسير هذه الآية: "يُسأل السمع عمّا سمع، والبصر عمّا نظر إليه، والفؤاد عمّا عقد عليه".

المسؤولية في القضايا الفردية والعامة:

إننا نأخذ من كل هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدرس، أنّ على الإنسان أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل ما اعطاه الله؛ مسؤولاً عن عقله وعن كل طاقاته ليحركها في حاجات الناس من أجل أن يسدّها، وأن على الإنسان في كل المجالات، أن لا يتحرك في شيء يجهله، فإذا أردت أن تلتزم فكراً، فعليك أن تكون عالماً بكل خطوات فكرك، وعندما تريد أن تنتمي إلى جهة أو خط لا بد أن تكون عارفاً بسلامة هذه الجهة واستقامة هذا الخط، فلا تتحرك على أساس أن تنطلق لتكون أعمى القلب والحركة، بل كن مفتوح العينين؛ عيني قلبك قبل عيني جسدك.

وهذا ما يجب أن نواجهه في الحياة الفردية والاجتماعية، أما على المستوى الفردي، فهو أمر معروف بالنسبة إلى نفسك: "يُسأل الإنسان يوم القيامة عن أربع: عن عمره في ما أفناه ـ لقد رزقك الله عمراً، فهل أفنيته في الخير أم في الشر، في الطاعة أم في المعصية ـ وعن شبابه في ما أبلاه ـ لقد أعطاك الله شباباً يمثل كل القوة والحيوية والنضارة، فكيف مزّقت شبابك وكيف أبليته؟ هل أبليته بالشهوات أم بالمسؤوليات؟ ـ وعن ماله من أين اكتسبه ـ هل اكتسبه من حلال أم من حرام ـ وفي ما أنفقه..."، فعليك أن تعدّ لكل سؤال جواباً.

أما في القضايا العامة، فإن الإنسان قد يُدعى ليعطي رأيه في أمر يتصل بالحياة العامة، كما أن يعطي صوته مثلاً لهيئة إدارية في جمعية ما، ويتوقف على هذا الصوت، كما أصوات الآخرين، سلامة الجمعية في أهدافها، فعلى الإنسان أن يشعر بالمسؤولية في أن يعطي صوته لمن يحفظ الجمعية أو النقابة في أهدافها. وهكذا في الانتخابات العامة، فإذا عمل من انتخبه في صلاح الأمة، فمن أعطاه صوته فهو شريك معه، وإذا عمل في فسادها يكون شريكاً له أيضاً في ذلك...

ولهذا، فإن الانتخابات ـ أيّ انتخابات ـ ليست لعبة، إنّ الإنسان يختار من خلالها لأمّته حكّاماً يركزون خطواتهم من أجل ما يحتاجه البلد وما يُخطط له، ولذلك فإن كل من أعطى صوته، يتحمّل مسؤولية كل ما يقوم به هؤلاء من خير أو من شر. فالمشكلة الآن ليست هي مشكلة النائب أو الوزير، بل هي مشكلة الناخب الذي رفعهم إلى مواقعهم. صوتك مسؤوليتك، موقفك مسؤوليتك، حركتك مسوؤليتك، علاقاتك مسؤوليتك، التي سوف تدافع عنها أمام الله، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم في كل أموركم، فإن الله تعالى سوف يسألكم عن الصغير وعن الكبير، فاعملوا لتجيبوا الله عن ذلك كله، لتدافعوا عن مواقفكم أمامه سبحانه، {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}. إن علينا أن نواجه مسؤولياتنا في كل قضايا الأمة، وأن نهتم بأمور المسلمين في قضايا الحرب والسلم، وقضايا الاقتصاد والسياسة، لأن الله تعالى أراد لنا أن نؤكد العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي واقعنا الذي نعيشه الكثير من المشاكل في حركة الأمة أمام أعدائها، ولا بد لنا أن نتفهّم أوضاعنا لكي نعرف كيف نحمي أمتنا من كل ما يخططه لها أعداؤها.

خداع إسرائيلي في تغطية الانسحاب من غزة

في فلسطين المحتلة، يستمر اليهود في تنفيذ خطة استفزاز أمني عدواني، في عملية عقاب جماعي في إغلاق المدن، وإقامة الحواجز، واغتيال الشباب، وقتل الأطفال، واعتقال المجاهدين، حتى إذا قام الفلسطينيون بالردّ على تلك الممارسات، كما حدث في العملية الاستشهادية في ناتانيا، تحرّكوا للمناداة بالثبور وعظائم الأمور في الشكوى من الإرهاب، كما يسمّونه.

وتحركت أمريكا وأوروبا والأمم المتحدة لإصدار بيانات الاستنكار، من دون أن تقدم أيّ موقف احتجاجي على العدوان الإسرائيلي الوحشي، وخصوصاً في عزل القدس من خلال جدار الفصل، ما يؤدي إلى عزل 55 ألف مقدسي بسبب ذلك، في الوقت الذي استطاع العدو إقناع العالم المستكبر، بأن الانسحاب من غزة هو التطوّر السياسي الذي لا بد أن يلاقي الدعم، بما فيه الدعم المالي، في مطالبته أمريكا بدفع ملياري دولار لتغطية مصاريف الانسحاب، وينال التأييد العالمي، في الوقت الذي يخطط للاستيلاء على الضفة الغربية والقدس من خلال المستوطنات الكبرى والجدار الفاصل، بما يعطّل مشروع أية دولة فلسطينية قابلة للحياة مما يبشّر به بوش الذي لم يتحرك خطوة واحدة في تحقيقها في الواقع من خلال الضغط على إسرائيل، بل إنه ـ على العكس من ذلك ـ أعطى الشرعية لضم المستوطنات الكبرى إلى الدولة العبرية، وألغى حق العودة للفلسطينيين، وأبقى المشروع الإسرائيلي المتحرك للجدار الفاصل، وتابع الضغط على الفلسطينيين باتهام الفصائل بالإرهاب، ولم يمنح السلطة الفلسطينية إلا الكلمات المعسولة التي لا معنى لها...

وتبقى الدول العربية ـ ومعها أكثر الدول الإسلامية ـ في خطة انسحاب من القضية الفلسطينية، بسبب الخضوع للضغط الأمريكي الذي يرتجف منه الحكّام من المحيط إلى الخليج، ولا حديث لهم إلا عن الإرهاب الذي صرّح رئيس وزراء بريطانيا بأن بقاء المشكلة الفلسطينية هي إحدى الأسباب في استمراره وخطورته...

إننا نحيي صمود الشعب الفلسطيني الذي لم يخضع للضغط الإسرائيلي والدولي، ولم يُخدع بالتحركات العربية لتطويقه، ونريد لـه أن يبقى في خط الوحدة الداخلية وأن يحافظ عليها، وأن لا يُستدرج إلى ما تريده أمريكا وإسرائيل من الوقوع في فخ المشاكل الداخلية، كما نريد لـه أن يبقى محافظاً على نهج المقاومة، لأنه الخط الوحيد الذي يحفظ للقضية امتدادها واستمرارها في نهاية المطاف، وإبقاء المأزق السياسي والأمني للعدو وحلفائه، من أجل تحقيق الانتصار النهائي في التحرير للشعب الفلسطيني.

ندين الإرهاب:

أما العراق، فلا يزال يعيش المأساة الدامية بأفظع صورها، بفعل التداعيات الوحشية التي صنعها مناخ الاحتلال، حيث ينتقل من مجزرة إلى مجزرة، وقد شهدت بغداد مجزرة جديدة مروّعة كان ضحاياها من الأطفال، إذ قُتل33 منهم وجُرح أكثر من 30 بسيارة مفخخة قادها انتحاري وحشي مجنون، إضافة إلى العشرات من القتلى والجرحى من المدنيين في أكثر من موقع في العراق، من خلال الفئات التكفيرية الحاقدة التي تستهدف المسلمين الشيعة في كثير من البلدان، مستغلةً شعار المقاومة من دون أيّ معنى، لأن المقاومة هي التي تواجه قوات الاحتلال لا المدنيين الأبرياء، وهي التي تهدف إلى تحرير البلد لا إلى قتل المواطنين تحت تأثير حقد طائفي مذهبي في ذهنية متخلّفة لا تفهم القيمة الإسلامية ولا الوطنية، بل إنها تساهم في إبقاء الفوضى الأمنية التي تحقق للعدو الفرصة لإبقاء احتلاله طويلاً، وتمنع بناء الجيش العراقي وقوات الأمن الداخلي ليكون البديل عن قوات المحتل.

إن هذا المشهد الوحشيّ، لا يدانيه مشهدٌ مماثل، إلا ذلك الذي تمثّل في قصف الطائرات الأمريكية للأعراس والتجمّعات المدنية الشعبية في القرى الأفغانية، وقتلهم الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وهذا ما يؤكد أن ثمة شراكة في الوحشية والقتل بين مدرسة الإرهاب الأمريكية ومدرسة الإرهاب التكفيرية.

إننا من موقعنا الإسلامي، ندين الإرهاب بكل أنواعه في البلاد الإسلامية وفي كل بلاد العالم، ولذلك أنكرنا ما حدث من تفجيرات في بريطانيا، لأن الإرهاب في الاعتداء على المدنيين، لا يمثل أية قيمة إسلامية، بل هو ضد الإسلام الذي يؤكد احترام الشعوب، لأن الإسلام يحترم الإنسان كله...

وبهذه المناسبة، فإننا نرحب بما ورد في خطاب رئيس الوزراء البريطاني لجهة تبرئة الإسلام كدين، والمسلمين كأمة، ودعوته البريطانيين وغيرهم أن لا يحمّلوا المسلمين المقيمين في الغرب مسؤولية ما قام به الإرهابيون من التفجيرات الوحشية، كما أن تحليله للإرهاب، ودعوته إلى معالجته بمعالجة جذوره، كالفقر والحرمان وأزمة الشرق الأوسط، يدل على وعي للمسألة بشكل جيد، ونأمل أن يتعلّم الرئيس بوش هذا الدرس من حليفه البريطاني.

نريد لبنان الحرية والقرار المستقل

ويبقى المشهد اللبناني الذي يخضع للتفجيرات المتنوّعة التي تخلط الأوراق، وتصادر الكثير من التحليلات السياسية والأمنية، في خلفياتها التي يتحرك بها السوق السياسي في عمليات التجاذب. وتتتابع ملامح الصورة في تعطيل الدولة المثقلة بالمشاكل الاقتصادية والمالية والأمنية، من خلال الصراع على الحصص لهذه الكتل أو تلك، من أجل مواقع الطوائف وامتيازات زعاماتها في طموحاتها المستقبلة، وفي لعبة النِسَب في حسابات الثلث هنا والثلثين هناك، بعيداً عن البرامج الإصلاحية التي يتمثّل فيها الوعد بالمستقبل القادم، إضافة إلى التدخلات الدولية ـ ولا سيما الأمريكية ـ التي تريد أن تحرك ضغوطها لأكثر من موقع في المنطقة من خلال لبنان، وفي جانب آخر، يُراد لعملاء إسرائيل أن يأخذوا البراءة من لبنان الجديد، في الوقت الذي كانوا جنوداً للدولة العبرية في احتلال وطنهم وفي قتل مواطنيهم.

إننا نريد للبنان الجديد أن يكون لبنان الحرية الذي يحتضن الأحرار، وأن يكون لبنان القرار المستقل الذي لا يخضع لأية وصاية دولية ولأية ضغوط أمريكية أو أوروبية، في إضعاف موقعه في عملية صناعة القوة في خط التحرير. وعلينا أن نتذكر شعار العهد الاستقلالي الأول، أن لا يكون لبنان ممراً ولا مقراً للاستعمار وللنفوذ الدولي، بل يبقى وطناً للحرية وواحة للإشعاع الروحي والفكري.

إنها رسالة الشعب اللبناني إلى كل الذين يتنازعون في الحصول على الجبنة، في عملية تقاسم على مائدة الأطماع الذاتية والحزبية والطائفية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية