حفاظاً على استقرار المجتمع الإسلامي وسلامته: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

حفاظاً على استقرار المجتمع الإسلامي وسلامته: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

حفاظاً على استقرار المجتمع الإسلامي وسلامته: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

نتيجة الفرقة :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأنفال/1)، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات/10)، ويقول أيضاً: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(النساء/114).

إن عنوان الإصلاح هو عنوان كبير، أراد الله للناس أن يحققوه في حياتهم من أجل استقرار الواقع الاجتماعي وقوة الموقع الإسلامي، لأن لقاء الإنسان بالإنسان الآخر، ولقاء المجتمع بالمجتمع الآخر، يمثِّل قوةً تنعكس نتائجها الإيجابية على كل القضايا الكبرى، وهذا ما أكَّده الله تعالى في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران/103)، وقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال/46)، لأن الريح عندما تتفرّق، فلن يكون لها أيّ تأثير في مواجهة الأشياء، بينما إذا كانت الريح متحركة من موقع واحد، فإنها تؤدي إلى الكثير من نتائج القوة.

المبادرة إلى جمع الشمل:

لذلك، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يلتزموا هذا العنوان الكبير، ليبادر كل إنسان، إذا رأى فريقين من المؤمنين متنازعين سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو على المستوى الاجتماعي، إلى الإصلاح بين هذين الأخوين أو الفريقين، ولا سيما عندما يتحرك الخلاف والنـزاع، وتنطلق المشاكل في العائلة الواحدة، سواء كانت في العائلة الأبوية أو الزوجية، فإن الخلاف بين الزوجين أو بين الإخوة، أو بين الأب والأولاد، يؤدي إلى الكثير من المشاكل على صعيد واقع الأولاد، ويخلق الكثير من العقد، ويُسقط الكثير من المواقع، ويؤدي إلى الكثير من التعقيدات النفسية التي قد تحوّل الأولاد إلى حالة من السقوط أو الإجرام.

ولهذا، لا بدَّ للناس من أن يبادروا إلى جمع الشمل في داخل العائلة الواحدة، بدلاً ممّا يفعله البعض، ممّن لا يتحمّلون المسؤوليّة، من محاولات التفرقة بين الزوجين، وهذا ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}(البقرة/102)، وهكذا عندما نواجه الأوضاع الاجتماعية بين قبيلة وأخرى، وبين حزب وآخر، أو جماعة وأخرى، ما يؤدي إلى التنازع والتحاقد والتقاتل بحيث يهدّد سلامة المجتمع كله، وهذا ما لاحظناه في الكثير من الأوضاع في الحقلين السياسي والاجتماعي.

أن ينطلق المجتمع كله في تهيئة مجموعات للإصلاح بين الناس، لحفظ استقرار المجتمع وسلامته، من خلال الدراسة العميقة للأسس التي انطلقت منها هذه المشاكل أو تلك هنا وهناك. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) في إعطاء القيمة الكبرى لمسألة إصلاح ذات البين: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، لأن فساد ذات البين يمكن أن يؤدي إلى أن يقتل الأخ أخاه، وأن يدمّره ويتعرّض لكل مصالحه وقضاياه بالسوء. ولذلك، فإن الله تعالى يريد للمؤمن فرداً، وللمؤمنين جماعات، أن يبادروا إذا أرادوا أن يتقرّبوا إلى الله تعالى، إلى إصلاح ذات البين، فإنه أفضل من الصلاة المستحبة والصيام المستحب والصدقة المستحبة.

وقد ورد عن رسول الله(ص) وهو يخاطب أحد أصحابه: «يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله؟ تُصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»، أن تقرّب فيما بينهم إذا ابتعد أحدهم عن الآخر، وأن تصلح بينهم إذا فسدت العلاقات فيما بينهم. وقد قال الإمام الصادق(ع): «صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا». ويقول الإمام عليّ(ع): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين"، ويقول(ع): «من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور»، ففي الإصلاح السعادة التي يحصل عليها الإنسان في نتائجه على مستوى الدنيا والآخرة.

الحفاظ على استقرار المجتمع:

ويحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذي ربما كان قد دخل في صلح وعانى من ذلك بعض المعاناة، فيحلف يميناً أن لا يدخل في صلح بعد ذلك، فيقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة224). ويقول الإمام الصادق(ع) في التعليق على هذه الآية: «إذا دعيت إلى صلح بين اثنين فلا تقل: عليّ يمين أن لا أفعل». وقد رخّص الله تعالى للمصلح أن يكذب، فإذا توقف إصلاحك بين اثنين على أن تنقل إلى أحدهما ما لم يقله الآخر، فإنك لست بكاذب، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس». وورد عن رسول الله(ص): «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً».

لا بد لنا أن نحافظ على استقرار المجتمع وسلامته، بالسير في هذا الخط الأخلاقي الإسلامي الاجتماعي، ولا سيّما عندما نواجه التحديات الكبرى التي تنفذ إلى واقع المسلمين لتفرّق بينهم، ولتمزّق أوضاعهم، كما نلاحظه الآن في خطوات المستكبرين الذين يعملون على إثارة العصبيات بين المسلمين، سواء كانت مذهبية أو قومية أو إقليمية وما إلى ذلك ممّا يأخذ به الناس هنا وهناك. إن علينا أن نعمل على أساس الاعتصام بحبل الله جميعاً.

وعلى ضوء هذا، فإننا في الواقع الإسلامي الذي يهتزُّ الآن في أكثر من موقع، يجب أن نبادر إلى الإصلاح بين المسلمين في المسائل المذهبية، وأن نقف ضد كل من يريد أن يثير الخلافات المذهبية بين المسلمين، كما قد يحدث في سبّ بعض مقدّسات المسلمين، والله تعالى يرفض ذلك منا جميعاً، لأن ذلك يؤدي إلى ضعف الإسلام والمسلمين، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ـ والمراد من المؤمنين كل مسلم ومسلمة اعتقد الإسلام في قلبه وعقله ـ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات/10).

هذا ما ينبغي أن يوصي به بعضنا بعضاً، لأنه الحق، حتى نصون مجتمعنا من كل خطط الكافرين والمستكبرين في كل مجالات الحياة، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة/105).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وواجهوا كل المواقف التي تثير التحديات في كل قضايانا وفي كل أوضاعنا من قِبَل المستكبرين الذين يريدون إسقاط الإسلام والمسلمين في كلِّ قضاياهم السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما نواجهه في كل مكان في العالم ولا سيما من خلال الاستكبار الأمريكي والصهيوني، وما يتحرك في داخل مواقعنا الإسلامية من خطط التمزيق والتفريق وما إلى ذلك، ولا نزال في عالمنا الإسلامي نواجه أكثر من مشكلة، ولا سيّما المشكلة المزمنة، وهي المشكلة الفلسطينية التي انطلق اليهود بواسطة المستكبرين للسيطرة عليها وعلى ما حولها، فماذا هناك:

إدخال الشعب الفلسطيني في متاهات:

شارون يخطط للانسحاب من مستوطناته في غزَّة، ليستقر في مستوطناته الكبرى في الضفة الغربية "بما فيها القدس"، مروراً بالجدار العنصري الفاصل الذي يصادر آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية. وأمريكا وأوروبا تتحركان بطريقة ترحيبية احتفالية بهذا الحدث الذي اعتبرتاه "تقدّماً تاريخياً" في مسألة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، بفعل الإيحاءات الشارونية بذلك للتغطية على مشروع الاستيطان في الضفة والقدس. يُضاف إلى ذلك الخطة الصهيونية في ممارسة القوة الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، بالعمليات الاستفزازية، اعتقالاً واغتيالاً وتدميراً، لتخريب أية عملية للتهدئة، ما يفرض على المجاهدين الردّ الدفاعي لحماية شعبهم، وتحميلهم مسؤولية ذلك، لإيجاد مشكلة مع السلطة الخاضعة لأكثر من ضغط إسرائيلي وأمريكي لمواجهة الفصائل المجاهدة، ولا سيّما حركة حماس، للدخول في صراع فلسطيني ـ فلسطيني تستعرض السلطة من خلاله عضلاتها في قتال المجاهدين، لإثبات قدرتها على التحرك لمواجهة "الإرهاب" ـ كما يسمّونه ـ الأمر الذي يؤدي إلى سقوط القضية الفلسطينية، وإلى دخول الفلسطينيين في حالة الإحباط.

وبذلك، فإن السلطة الفلسطينية لن تجد أية قوة لتحقيق الأهداف الكبرى للدولة الفلسطينية، بل ستواجه الاستعلاء الشاروني الصهيوني عليها، كما حدث في الاجتماع المشترك مع شارون، الذي لم يجد منه رئيس السلطة إلا الاحتقار، ولم يحصل من وزيرة الخارجية الأمريكية إلا على الوعود الكاذبة، لأن التحالف الأمريكي الاستراتيجي مع اليهود، يخطِّط لإدخال الشعب الفلسطيني في متاهات الضياع في مستقبل ضبابي، وهذا ما يفرض على الفلسطينيين الأخذ بأسباب الحوار والتفاهم في ما يختلفون فيه، ليتحركوا في خط الوحدة، فلا يجوز أن تتوجه البندقية الفلسطينية إلى مجاهد فلسطيني، ولا يجوز إهراق الدم الفلسطيني بيد فلسطينية، بل لتنطلق كل البنادق في مواجهة العدو، وكل المواقف لهزيمته في احتلاله من أجل مستقبل التحرير.

العراق: مجازر الحقد الأعمى

أما العراق، فإنه يغرق في بحار من الدماء التي يغذيها الحقد الأعمى المتعصّب المتخلّف الجاهل لدى بعض الفئات التكفيرية التي تستبيح المساجد والأسواق والشوارع المكتظّة بالمدنيين الأبرياء، من الأطفال والنساء والشيوخ، فتقتل العشرات والمئات بعناوين لا يمكن لأيّ مؤمن أن يجد لها أيّ مبرر أو أيّ مسوّغ ديني أو إنساني.

وها نحن نشهد بعد تطاير أشلاء الطفولة في الأسبوع الفائت، قتلاً من نوع جديد، واقتحاماً مفخَّخاً وانتحارياً للمساجد في مجزرة المسيّب، التي حصدت العشرات من الشهداء والجرحى، في عمليات تنم عن حقد أعمى لا يمكن أن يأخذ عنوان القداسة أو المقاومة، وإن جرى إلباسها لبوساً دينياً أو وطنياً، ولا يمكن أن يبررها بعض الناس من خارج العراق بأنها تمثّل ضرورات الحرب ضد الاحتلال، لأن هذه المجازر تنطلق بعقل بارد حاقد ضد الأبرياء بقصد هادف للقتل من أجل القتل.

كما أنَّ اغتيال أعضاء لجنة صياغة الدستور من المسلمين السنّة، يؤكد أنّ ثمة أيدٍ خفيّة تعمل بكلِّ طاقتها لإشعال نيران الفتنة المذهبية في الساحة العراقية، خصوصاً أن هذا الأمر حصل في الوقت الذي تحركت قوات الاحتلال ـ بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ـ لإثارة الفتنة الطائفية المذهبية، من خلال إرسالها بعض الدوريات إلى مناطق معينة، ثم دخولها إلى هذه المناطق والاستفسار عن طبيعة المعاملة، لإثارة الجانب المذهبي، بالسعي إلى تحميل جهات عراقية داخلية المسؤوليّة، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها هي المحرّكة لبعض هذه الجماعات هنا أو هناك.

إننا، أمام هذا الواقع، نطلب من المرجعيات الدينية والسياسية من السنّة والشيعة، أن يرتفعوا إلى مستوى الخطورة التي يواجهها الواقع الإسلامي في العراق، والذي نخشى معه أن تتحرك أصابع الفتنة ـ لا سمح الله ـ لتعبث بكل المواقع في العالم الإسلامي، بفعل العصبيات العمياء التي يثيرها الإعلام والسياسة في أكثر من جانب.

قصف مكة !!!

وفي جانب آخر، فإنَّ حركة التفجيرات لا تزال تفرض نفسها على الواقع في الغرب، كما حدث مؤخراً في لندن، ما يترك تأثيره السلبي على واقع المسلمين ونظرة الناس إليهم وإلى الإسلام بالذات، ولا سيما أن بعض الزعماء الجمهوريين في أمريكا، يهدد بأن الإرهابيين إذا قصفوا الولايات المتحدة فسوف يقوم الأمريكيون بقصف مكة، إضافةً إلى مقدّسات المسلمين.

إنَّ المسألة تستدعي موقفاً إسلامياً وحدويَّاً على مستوى العالم الإسلامي، من أجل تحصين الواقع كلّه من الحملات التكفيرية الإرهابية، والممارسات الوحشية هنا وهناك، انطلاقاً من خطة مدروسة نابعة من إرادة المسلمين جميعاً، بعيداً عن تدخّلات الأنظمة التابعة لأمريكا.

نتطلع إلى لبنان العدالة:

أما في لبنان، فقد انطلقت الحكومة الجديدة التي نريد لها أن تتحرك في خطة حكيمة مدروسة على أساس المسؤولية الكبرى التي تنتظر الجميع، في التصدي للهموم المعيشية والاقتصادية الضاغطة، ولفرض حالة معقولة من الاستقرار السياسي، ومواجهة الفراغ الأمني الذي يضاعف من اهتزاز حالة الثقة بين الناس، وخصوصاً في ظل الفلتان الذي تتحرك فيه مجموعات غير منضبطة، كما حدث في بعض المناطق، ما يوحي بأنَّ شعارات المصالحة الوطنية لم تنـزل إلى الأرض، وأن الاتفاقات من فوق لم تستطع أن تترك تأثيرها على الواقع الميداني، ولا سيما أن الخلفيات الدولية كانت تختفي وراء أكثر من حركة للتدخّل في ولادة هذه الحكومة.

إننا نتطلّع إلى لبنان العدالة الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون في المساءلة والمحاسبة والمحاكمة، وكذلك في العفو الذي نريده مرتكزاً على قاعدة ثابتة، ليكون شاملاً إذا كان ثمة من يتحدث عن مرحلة جديدة لبناء البلد. إن لبنان المستقبل يتطلّع إلى خطة سياسية تبني دولة المؤسسات لا مزرعة الأشخاص، ومرجعية الوطن لا مرجعية الطوائف، فهل تتحقق أحلام اللبنانيين بعيداً عن كل الكوابيس المخيفة؟

حفاظاً على استقرار المجتمع الإسلامي وسلامته: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

نتيجة الفرقة :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأنفال/1)، ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات/10)، ويقول أيضاً: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(النساء/114).

إن عنوان الإصلاح هو عنوان كبير، أراد الله للناس أن يحققوه في حياتهم من أجل استقرار الواقع الاجتماعي وقوة الموقع الإسلامي، لأن لقاء الإنسان بالإنسان الآخر، ولقاء المجتمع بالمجتمع الآخر، يمثِّل قوةً تنعكس نتائجها الإيجابية على كل القضايا الكبرى، وهذا ما أكَّده الله تعالى في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران/103)، وقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال/46)، لأن الريح عندما تتفرّق، فلن يكون لها أيّ تأثير في مواجهة الأشياء، بينما إذا كانت الريح متحركة من موقع واحد، فإنها تؤدي إلى الكثير من نتائج القوة.

المبادرة إلى جمع الشمل:

لذلك، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يلتزموا هذا العنوان الكبير، ليبادر كل إنسان، إذا رأى فريقين من المؤمنين متنازعين سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو على المستوى الاجتماعي، إلى الإصلاح بين هذين الأخوين أو الفريقين، ولا سيما عندما يتحرك الخلاف والنـزاع، وتنطلق المشاكل في العائلة الواحدة، سواء كانت في العائلة الأبوية أو الزوجية، فإن الخلاف بين الزوجين أو بين الإخوة، أو بين الأب والأولاد، يؤدي إلى الكثير من المشاكل على صعيد واقع الأولاد، ويخلق الكثير من العقد، ويُسقط الكثير من المواقع، ويؤدي إلى الكثير من التعقيدات النفسية التي قد تحوّل الأولاد إلى حالة من السقوط أو الإجرام.

ولهذا، لا بدَّ للناس من أن يبادروا إلى جمع الشمل في داخل العائلة الواحدة، بدلاً ممّا يفعله البعض، ممّن لا يتحمّلون المسؤوليّة، من محاولات التفرقة بين الزوجين، وهذا ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}(البقرة/102)، وهكذا عندما نواجه الأوضاع الاجتماعية بين قبيلة وأخرى، وبين حزب وآخر، أو جماعة وأخرى، ما يؤدي إلى التنازع والتحاقد والتقاتل بحيث يهدّد سلامة المجتمع كله، وهذا ما لاحظناه في الكثير من الأوضاع في الحقلين السياسي والاجتماعي.

أن ينطلق المجتمع كله في تهيئة مجموعات للإصلاح بين الناس، لحفظ استقرار المجتمع وسلامته، من خلال الدراسة العميقة للأسس التي انطلقت منها هذه المشاكل أو تلك هنا وهناك. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) في إعطاء القيمة الكبرى لمسألة إصلاح ذات البين: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»، لأن فساد ذات البين يمكن أن يؤدي إلى أن يقتل الأخ أخاه، وأن يدمّره ويتعرّض لكل مصالحه وقضاياه بالسوء. ولذلك، فإن الله تعالى يريد للمؤمن فرداً، وللمؤمنين جماعات، أن يبادروا إذا أرادوا أن يتقرّبوا إلى الله تعالى، إلى إصلاح ذات البين، فإنه أفضل من الصلاة المستحبة والصيام المستحب والصدقة المستحبة.

وقد ورد عن رسول الله(ص) وهو يخاطب أحد أصحابه: «يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله؟ تُصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا»، أن تقرّب فيما بينهم إذا ابتعد أحدهم عن الآخر، وأن تصلح بينهم إذا فسدت العلاقات فيما بينهم. وقد قال الإمام الصادق(ع): «صدقة يحبها الله: إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا». ويقول الإمام عليّ(ع): «ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين"، ويقول(ع): «من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور»، ففي الإصلاح السعادة التي يحصل عليها الإنسان في نتائجه على مستوى الدنيا والآخرة.

الحفاظ على استقرار المجتمع:

ويحدّثنا الله تعالى عن بعض الناس الذي ربما كان قد دخل في صلح وعانى من ذلك بعض المعاناة، فيحلف يميناً أن لا يدخل في صلح بعد ذلك، فيقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة224). ويقول الإمام الصادق(ع) في التعليق على هذه الآية: «إذا دعيت إلى صلح بين اثنين فلا تقل: عليّ يمين أن لا أفعل». وقد رخّص الله تعالى للمصلح أن يكذب، فإذا توقف إصلاحك بين اثنين على أن تنقل إلى أحدهما ما لم يقله الآخر، فإنك لست بكاذب، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس». وورد عن رسول الله(ص): «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً».

لا بد لنا أن نحافظ على استقرار المجتمع وسلامته، بالسير في هذا الخط الأخلاقي الإسلامي الاجتماعي، ولا سيّما عندما نواجه التحديات الكبرى التي تنفذ إلى واقع المسلمين لتفرّق بينهم، ولتمزّق أوضاعهم، كما نلاحظه الآن في خطوات المستكبرين الذين يعملون على إثارة العصبيات بين المسلمين، سواء كانت مذهبية أو قومية أو إقليمية وما إلى ذلك ممّا يأخذ به الناس هنا وهناك. إن علينا أن نعمل على أساس الاعتصام بحبل الله جميعاً.

وعلى ضوء هذا، فإننا في الواقع الإسلامي الذي يهتزُّ الآن في أكثر من موقع، يجب أن نبادر إلى الإصلاح بين المسلمين في المسائل المذهبية، وأن نقف ضد كل من يريد أن يثير الخلافات المذهبية بين المسلمين، كما قد يحدث في سبّ بعض مقدّسات المسلمين، والله تعالى يرفض ذلك منا جميعاً، لأن ذلك يؤدي إلى ضعف الإسلام والمسلمين، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ـ والمراد من المؤمنين كل مسلم ومسلمة اعتقد الإسلام في قلبه وعقله ـ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات/10).

هذا ما ينبغي أن يوصي به بعضنا بعضاً، لأنه الحق، حتى نصون مجتمعنا من كل خطط الكافرين والمستكبرين في كل مجالات الحياة، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة/105).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وواجهوا كل المواقف التي تثير التحديات في كل قضايانا وفي كل أوضاعنا من قِبَل المستكبرين الذين يريدون إسقاط الإسلام والمسلمين في كلِّ قضاياهم السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما نواجهه في كل مكان في العالم ولا سيما من خلال الاستكبار الأمريكي والصهيوني، وما يتحرك في داخل مواقعنا الإسلامية من خطط التمزيق والتفريق وما إلى ذلك، ولا نزال في عالمنا الإسلامي نواجه أكثر من مشكلة، ولا سيّما المشكلة المزمنة، وهي المشكلة الفلسطينية التي انطلق اليهود بواسطة المستكبرين للسيطرة عليها وعلى ما حولها، فماذا هناك:

إدخال الشعب الفلسطيني في متاهات:

شارون يخطط للانسحاب من مستوطناته في غزَّة، ليستقر في مستوطناته الكبرى في الضفة الغربية "بما فيها القدس"، مروراً بالجدار العنصري الفاصل الذي يصادر آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية. وأمريكا وأوروبا تتحركان بطريقة ترحيبية احتفالية بهذا الحدث الذي اعتبرتاه "تقدّماً تاريخياً" في مسألة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، بفعل الإيحاءات الشارونية بذلك للتغطية على مشروع الاستيطان في الضفة والقدس. يُضاف إلى ذلك الخطة الصهيونية في ممارسة القوة الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، بالعمليات الاستفزازية، اعتقالاً واغتيالاً وتدميراً، لتخريب أية عملية للتهدئة، ما يفرض على المجاهدين الردّ الدفاعي لحماية شعبهم، وتحميلهم مسؤولية ذلك، لإيجاد مشكلة مع السلطة الخاضعة لأكثر من ضغط إسرائيلي وأمريكي لمواجهة الفصائل المجاهدة، ولا سيّما حركة حماس، للدخول في صراع فلسطيني ـ فلسطيني تستعرض السلطة من خلاله عضلاتها في قتال المجاهدين، لإثبات قدرتها على التحرك لمواجهة "الإرهاب" ـ كما يسمّونه ـ الأمر الذي يؤدي إلى سقوط القضية الفلسطينية، وإلى دخول الفلسطينيين في حالة الإحباط.

وبذلك، فإن السلطة الفلسطينية لن تجد أية قوة لتحقيق الأهداف الكبرى للدولة الفلسطينية، بل ستواجه الاستعلاء الشاروني الصهيوني عليها، كما حدث في الاجتماع المشترك مع شارون، الذي لم يجد منه رئيس السلطة إلا الاحتقار، ولم يحصل من وزيرة الخارجية الأمريكية إلا على الوعود الكاذبة، لأن التحالف الأمريكي الاستراتيجي مع اليهود، يخطِّط لإدخال الشعب الفلسطيني في متاهات الضياع في مستقبل ضبابي، وهذا ما يفرض على الفلسطينيين الأخذ بأسباب الحوار والتفاهم في ما يختلفون فيه، ليتحركوا في خط الوحدة، فلا يجوز أن تتوجه البندقية الفلسطينية إلى مجاهد فلسطيني، ولا يجوز إهراق الدم الفلسطيني بيد فلسطينية، بل لتنطلق كل البنادق في مواجهة العدو، وكل المواقف لهزيمته في احتلاله من أجل مستقبل التحرير.

العراق: مجازر الحقد الأعمى

أما العراق، فإنه يغرق في بحار من الدماء التي يغذيها الحقد الأعمى المتعصّب المتخلّف الجاهل لدى بعض الفئات التكفيرية التي تستبيح المساجد والأسواق والشوارع المكتظّة بالمدنيين الأبرياء، من الأطفال والنساء والشيوخ، فتقتل العشرات والمئات بعناوين لا يمكن لأيّ مؤمن أن يجد لها أيّ مبرر أو أيّ مسوّغ ديني أو إنساني.

وها نحن نشهد بعد تطاير أشلاء الطفولة في الأسبوع الفائت، قتلاً من نوع جديد، واقتحاماً مفخَّخاً وانتحارياً للمساجد في مجزرة المسيّب، التي حصدت العشرات من الشهداء والجرحى، في عمليات تنم عن حقد أعمى لا يمكن أن يأخذ عنوان القداسة أو المقاومة، وإن جرى إلباسها لبوساً دينياً أو وطنياً، ولا يمكن أن يبررها بعض الناس من خارج العراق بأنها تمثّل ضرورات الحرب ضد الاحتلال، لأن هذه المجازر تنطلق بعقل بارد حاقد ضد الأبرياء بقصد هادف للقتل من أجل القتل.

كما أنَّ اغتيال أعضاء لجنة صياغة الدستور من المسلمين السنّة، يؤكد أنّ ثمة أيدٍ خفيّة تعمل بكلِّ طاقتها لإشعال نيران الفتنة المذهبية في الساحة العراقية، خصوصاً أن هذا الأمر حصل في الوقت الذي تحركت قوات الاحتلال ـ بحسب المعلومات المتوافرة لدينا ـ لإثارة الفتنة الطائفية المذهبية، من خلال إرسالها بعض الدوريات إلى مناطق معينة، ثم دخولها إلى هذه المناطق والاستفسار عن طبيعة المعاملة، لإثارة الجانب المذهبي، بالسعي إلى تحميل جهات عراقية داخلية المسؤوليّة، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها هي المحرّكة لبعض هذه الجماعات هنا أو هناك.

إننا، أمام هذا الواقع، نطلب من المرجعيات الدينية والسياسية من السنّة والشيعة، أن يرتفعوا إلى مستوى الخطورة التي يواجهها الواقع الإسلامي في العراق، والذي نخشى معه أن تتحرك أصابع الفتنة ـ لا سمح الله ـ لتعبث بكل المواقع في العالم الإسلامي، بفعل العصبيات العمياء التي يثيرها الإعلام والسياسة في أكثر من جانب.

قصف مكة !!!

وفي جانب آخر، فإنَّ حركة التفجيرات لا تزال تفرض نفسها على الواقع في الغرب، كما حدث مؤخراً في لندن، ما يترك تأثيره السلبي على واقع المسلمين ونظرة الناس إليهم وإلى الإسلام بالذات، ولا سيما أن بعض الزعماء الجمهوريين في أمريكا، يهدد بأن الإرهابيين إذا قصفوا الولايات المتحدة فسوف يقوم الأمريكيون بقصف مكة، إضافةً إلى مقدّسات المسلمين.

إنَّ المسألة تستدعي موقفاً إسلامياً وحدويَّاً على مستوى العالم الإسلامي، من أجل تحصين الواقع كلّه من الحملات التكفيرية الإرهابية، والممارسات الوحشية هنا وهناك، انطلاقاً من خطة مدروسة نابعة من إرادة المسلمين جميعاً، بعيداً عن تدخّلات الأنظمة التابعة لأمريكا.

نتطلع إلى لبنان العدالة:

أما في لبنان، فقد انطلقت الحكومة الجديدة التي نريد لها أن تتحرك في خطة حكيمة مدروسة على أساس المسؤولية الكبرى التي تنتظر الجميع، في التصدي للهموم المعيشية والاقتصادية الضاغطة، ولفرض حالة معقولة من الاستقرار السياسي، ومواجهة الفراغ الأمني الذي يضاعف من اهتزاز حالة الثقة بين الناس، وخصوصاً في ظل الفلتان الذي تتحرك فيه مجموعات غير منضبطة، كما حدث في بعض المناطق، ما يوحي بأنَّ شعارات المصالحة الوطنية لم تنـزل إلى الأرض، وأن الاتفاقات من فوق لم تستطع أن تترك تأثيرها على الواقع الميداني، ولا سيما أن الخلفيات الدولية كانت تختفي وراء أكثر من حركة للتدخّل في ولادة هذه الحكومة.

إننا نتطلّع إلى لبنان العدالة الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون في المساءلة والمحاسبة والمحاكمة، وكذلك في العفو الذي نريده مرتكزاً على قاعدة ثابتة، ليكون شاملاً إذا كان ثمة من يتحدث عن مرحلة جديدة لبناء البلد. إن لبنان المستقبل يتطلّع إلى خطة سياسية تبني دولة المؤسسات لا مزرعة الأشخاص، ومرجعية الوطن لا مرجعية الطوائف، فهل تتحقق أحلام اللبنانيين بعيداً عن كل الكوابيس المخيفة؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية