ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت، الإمام العاشر عليّ بن محمد الهادي (ع)، الذي تصادف ذكرى مولده في هذا الشهر.
إفاضة علمية وروحية
وإننا ـ كما تحدثنا أكثر من مرة ـ بحاجة إلى أن نستعيد حياة وكلمات ووصايا الأئمة من أهل البيت (ع)، لأنهم يتحدثون عن رسول الله (ص) حديثاً لا ريب فيه. وفي هذه الأحاديث الكثير مما يبقى للحياة، ومما يحتاج أن يتعرف إليه الناس من أجل تقويم أيِّ انحراف في المسيرة الإسلامية.
هذا الإمام لم يبلغ به العمر مدةً طويلةً، فقد كان محلّ ثقة في مجتمعه، حتى من قِبَل أولئك الذين كانوا في موقع الحكم من الخلفاء العباسيين، فكان إذا حلّ في أيّ مجتمع، قام الجميع كباراً وصغاراً، وقدّموه على الشيوخ الكبار من بني هاشم، لأنه (ع) كان يفيض بعلمه على الناس كلهم في كل ما احتاجوه مما لا بدّ لهم أن يتعلموه من ثقافة الإسلام والحياة.
وكان (ع) يفيض على الناس بروحانيته، لأنه كان ـ كآبائه (ع) ـ يعيش مع الله روحاً تنسكب في عقله وقلبه وكل حياته، حتى كان روحاً تتجسّد، وكان يمثل الاستقامة في سلوكه وكل القيم التي تتمثل في سيرته، لأنه (ع) كان يمثل الإسلام كله.
بين الإيمان والإسلام
ونحن في هذا الموقف، لا بد أن نعيش مع هذا الإمام في بعض كلماته التي يمكن لها أن تكون خطاً مستقيماً نعالج به كل ما عشناه وما قد نعيشه من فراغ فكري أو انحراف في المفاهيم. فمن بين كلماته التي كان يحدّث الناس بها عن أمير المؤمنين، يقول الإمام الهادي(ع): "عن علي (ع): قال لي رسول الله(ص): يا علي اكتب، فقلت: ما أكتب؟ قال (ص): اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة".
وهذه الكلمة يمكن أن تكون استيحاءً لآية قرآنية في سورة الحجرات: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. هذه الآية كانت تشير إلى نوعين من الذين دخلوا في الإسلام، فهناك أناس دخلوا في الإسلام رغبةً، خاصة بعد أن امتدّ الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وأصبح المسلمون يملكون الكثير من الفرص التي تجتذب إليهم الأموال وتيسّر لهم الأعمال، فدخلوا في الإسلام رغبةً في الحصول على مغانمه، كالكثيرين من الناس الذي يدخلون مع المنتصرين للحصول على المغانم، وهناك من دخل الإسلام رهبةً لأنه أصبح قوة تُخاف وتُرهب كأية قوة مسيطرة. صحيح أن الإسلام لا يضطهد الناس الذين هم خارج سلطته والتزاماته الدينية، ولكن القوة ترهب ولو من ناحية واقعية، فدخلوا في الإسلام رهبةً، وكان النبي(ص) يقبل هؤلاء من أجل تحييدهم عن مجتمع الشرك وإضعافه، ومن أجل أن يعيشوا في الجو الإسلامي ليقتنعوا من خلال ذلك بالإسلام، لأن النبي (ص) كان حتى قبل الانتصار الكبير، إذا استجار به شخص من المشركين هارباً من قومه أجاره، حتى يسمع كلام الله، فلعله يقتنع بذلك.
وهناك فريق من الذين دخلوا في الإسلام عاشوه فكراً وعقلاً وقلباً وحياة، حتى إنهم كانوا يضحّون بحياتهم في سبيله. وهذا ما حدّثنا به التاريخ الإسلامي عن بعض المسلمين الذين سقطوا شهداء، لأنهم رفضوا أن يتنازلوا عن إسلامهم وإيمانهم، وفي مقدَّم هؤلاء ياسر وسمية والدا عمّار. هؤلاء الذين عاشوا الإسلام عن عقيدة. هنا أراد الإمام في هذا الحديث المختصر عن رسول الله(ص)، أن يحدد الفرق بين الإيمان وبين الإسلام، فالإيمان ما استقر في القلب، وهو منطقة الحس الداخلي، وما صدّقته الأعمال، وهو ليس مجرد موقف فكري، بل هو حالة تهز كل إنسانيتك، بحيث يشترك عقلك وشعورك وعملك في الخط الذي يفرضه هذا الإيمان. أن تكون مؤمناً، يعني أن تعيش الإيمان في عقلك عقيدة، وفي قلبك عاطفة، وأن تعيش الإيمان حياة، فتنطبع حياتك بكل التزاماته، سواء في ما أوجبه الله أو في ما حرّمه أو أحبه.
فقضية العمل هي جزء من الإيمان، والمؤمن الذي لا يلتزم ولا يعمل كالشجرة التي لا تثمر، فقيمة العقيدة هي أن تهزّ كل حياتك وتوجّهها. وقد ربط القرآن بين الإيمان والعمل الصالح في كثير من الآيات... أما الإسلام، فهو إقرار باللسان، وهو ما يمثل حالة التعامل، فإذا نطق الإنسان بالشهادتين وانتمى إلى المجتمع الإسلامي، بحيث أصبح جزءاً منه وإن لم يلتزم، فهذا الإسلام يحل به الزواج. وكان الإمام الهادي (ع) يحدث الناس بهذه الكلمة ليربطهم بالخط الذي انطلق به النبي (ص) في تأكيد مفهوم الإيمان ومفهوم الإسلام.
العقل هو الحجة
وعن أحد أصحاب الإمام الهادي(ع)، وهو "ابن السكّيت"، قال: سألت أبا الحسن الهادي(ع): لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمداً بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن الهادي (ع): "إن الله لما بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل سحرهم وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث عيسى(ع) في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ الأمراض المزمنة ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث محمداً (ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وفي رواية: والشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم"، فقلت: تالله ما رأيت مثلك قطّ، فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال(ع): "العقل، يعرف به الصادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه"، فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب.
والإمام الهادي (ع) كان ينطلق من خلال القرآن وسنّة رسول الله (ص) الذي اعتبر أن الحجة بين الله وبين عباده هو العقل، لأن الحديث الذي ورد عند السنّة والشيعة يقول "أنّ الله عندما خلق العقل قال له: "أقبل"، فأقبل، ثم قال له : "أدبر"، فأدبر، ثم قال: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب". فالعقل هو الحجة من الله على الناس، حتى على أولئك الذين لم تصلهم الرسالات وكانوا يعيشون في المجاهل... وهذا هو الشعار الذي ينبغي للناس كافةً أن يأخذوا به، ولا سيما المسلمون. أن يعالجوا كل مشاكلهم الفكرية والحركية والعلمية والسياسية من خلال العقل، فلا يحركوا حياتهم في خطِّ غرائزهم وعواطفهم ومشاعرهم، بل أن يتحرّكوا في الحياة في كل تعقيداتها ومفاصلها من خلال عقولهم، لأن العقل لا يغش من استنصحه.
مقام الأئمة(ع)
كان عصر الإمام الهادي (ع) يحفل بالغلاة الذين يعيشون الغلو في الأئمة(ع)، بحيث يعطونهم المقام الذي يقتربون به من الله، وربما ساوى بعضهم بينهم وبين الله، إما من جهة الاختلال في ميزان الفكر عندهم، أو من خلال العاطفة التي لا ضوابط لها. وكان بعض الناس يسألون الإمام الهادي(ع) عن هذا الموضوع، ولنقرأ هذه الرواية عن إبراهيم بن شيبة، قال: كتبت إلى الإمام الهادي فقلت: "جُعلت فداك، إن عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئز منها القلوب وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث التي لا يجوز لنا الإقرار بها، لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردها والجحود لها، إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأوّلون معنى قوله عزّ وجل: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله عزّ وجل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، فإنّ الصلاة معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة، معناها ذلك الرجل، لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمن على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم، فما تقول في القبول منهم جميعاً؟ فكتب(ع): "ليس هذا ديننا فاعتزله". وفي رواية أخرى كان (ع) يقول: "نحن الأوصياء من ولده عبيد الله، لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رحمنا وإن عصيناه عذبنا"، وهذا ما ذكره الله تعالى عن لسان النبي (ص): {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}.
لقد كان الإمام الهادي (ع) يحاول أن يصحِّح المفاهيم وأن ينهج نهج الاستقامة والاعتدال في مسألة الالتزام بالإسلام وبخط أهل البيت(ع)، بحيث لا يسير الناس إلى خطِّ الغلو والخط الذي يبتعدون به عن عمق الإسلام واستقامته، وعلينا أن يكون ارتباطنا بالأئمة من أهل البيت (ع) هو الارتباط الذي نصحح فيه مفاهيمنا، وقد وضع أهل البيت (ع) خطاً مستقيماً عندما قالوا لنا: إن كل الأحاديث التي تنقل إليكم، سواء من شخص برّ أم فاجر، ينبغي أن تعرضوها على كتاب الله، "فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار".
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف في كل أوضاعه وتحدياته ومفاصله بالمسؤولية، لأننا مسؤولون عن كل عالم المسلمين والمستضعفين، وعلينا أن نرد على كل هذه التحديات التي تواجه استقلالنا وسياستنا واقتصادنا وأمننا، لنكون كالجسد الواحد، ولنهتم بأمور المسلمين، فالواقع الذي نعيشه لا يزال واقعاً تهتز فيه الأرض السياسية والاقتصادية والأمنية من تحت أقدامنا، فماذا هناك؟
أمريكا: صناعة الأكاذيب الحربية
إن الرئيس الأمريكي يصف نفسه بأنه "رئيس حرب"، وبأنه يفكر بالحرب عندما يفكر سياسياً، ما يوحي بأنه يبحث عن بلد يحاربه، تحت شعار "الحرب الاستباقية" لحماية المصالح الأمريكية في العالم، ولو على مستوى الوهم...
ثم، يفسّر الرئيس الأمريكي حربه على العراق بأنها قرار ناتج من تقرير الاستخبارات المركزية، في الوقت الذي تدور المعركة السياسية في أمريكا الآن على خلفية أن ادّعاء وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق في وقت الحرب كانت كذبة استخباراتية كبرى... ولكن الجميع يعلم أن الإدارة الأمريكية ـ ومعها الإدارة البريطانية ـ قامتا بالحرب نتيجة صناعة الأكاذيب الحربية..
والسؤال: هل يبحث العالم عن رجل حرب أو رجل سلام؟ وهل الحرية والديمقراطية تتحققان بالحرب التي تجعل الشعوب في حال من رد الفعل ضد الاحتلال والفظائع الوحشية التي تثيرها؟ وهل الإرهاب مسألة تنطلق من ذهنية ثقافية أم من خلال تخطيط الاستكبار العالمي ـ وفي مقدمه أمريكا ـ للضغط على الشعوب في اقتصادها وسياستها وأمنها؟؟
نقل السلطة إلى العراقيين خدعة
وفي هذا الجو، تتحدث أمريكا عن نقل السلطة إلى العراقيين في آخر حزيران، ولكنها تقرر أن جيشها ـ مع جيوش التحالف كما تسمّيها ـ سوف يبقى حتى تحقيق مهمتها في العراق، باعتبار أن الخطة الأمريكية هي أن يكون الموقع العراقي جسراً للعبور للضغط على المنطقة عسكرياً ـ عند الحاجة ـ وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، من أجل تغيير المنطقة لجعلها على صورة المصلحة الأمريكية، ليكون العصر الجديد في الشرق الأوسط أمريكياً، لا عربياً ولا إسلامياً...
والسؤال: أيّ سلطة عراقية جديدة ستقوم في حماية الاحتلال؟ وأيّ معاهدة شرعية هي التي يتحدث عنها مجلس الحكم الانتقالي بينه، أو بين الحكومة الجديدة، وأمريكا، في ظل بقاء قواتها في العراق؟ وهل إن العراقيين لا يستطيعون حفظ أمنهم واستقلالهم بطريقة ذاتية؟
الاستثمار للشركات الأمريكية والإسرائيلية
إن البطالة في العراق وصلت، بحسب إحصاءات دقيقة، إلى أعلى درجة، فليست هناك أي فرص عمل يملك فيها العراقيون القدرة على العيش الكريم... والسؤال الذي يطرحه العراقيون: لماذا تُعطى كل الشركات الأمريكية الفرصة لإعمار العراق، ولا تُمنح الشركات العراقية المشهود لها بالخبرة الجيدة الطويلة هذه الفرصة، إلا بما يشبه فتات المائدة؟ وهل إن أمريكا تعمل على تقليص نسبة البطالة لدى الأمريكيين، والتي تضغط على الانتخابات الرئاسية القادمة؟ وهل هذه هي الصورة الديمقراطية لتحرير العراق، كما يقولون؟!
وإذا كان الحديث عن دخول الشركات الإسرائيلية مع الشركات الأمريكية في مشاريع إعمار العراق صحيحاً، فكيف نفسّر ذلك في الخطة الأمريكية التي تفرض إسرائيل على الواقع العربي اقتصادياً، ولا سيما أن البضاعة الإسرائيلية بدأت تدخل السوق العراقية خلف ألف غطاء وغطاء لمنافسة البضائع العراقية؟
إسرائيل مَنْ يهدِّد المنطقة
وليس بعيداً من ذلك، دفاع وزير الحرب الأمريكي عن امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية، إذ زعم أن إسرائيل "دولة ديمقراطية تعيش في محيط يتمنى أن لا تكون قائمة، ولا تريد أن ترمي نفسها في البحر"، كما قال... والسؤال: هل يريد هذا الوزير أن يضحك على عقول الناس الذين يعرفون أن العرب جميعاً ـ بما فيهم الفلسطينيون ـ يطالبون إسرائيل بالدخول في المفاوضات الجديّة للسلام على أساس الاعتراف بها من خلال حدود الـ67... ولكن إسرائيل ترفض ذلك إلا بشروطها التي تصادر فيها فلسطين كلها لحسابها بشكل غير مباشر، من خلال المستوطنات والجدار العنصري الفاصل والشروط السياسية والأمنية والاقتصادية، بحيث تتحوّل الدولة الفلسطينية إلى مجرد دولة مسخ لا تستطيع إدارة نفسها بشكل طبيعي؟؟؟
إننا نسأل: هل يعرف هذا الوزير أن إسرائيل هي التي تهدد المنطقة كلها بالأسلحة الأمريكية المتفوّقة كميّاً ونوعياً، وبالدعم السياسي الأمريكي المطلق؟ وأن العرب هم الذين يطالبون إسرائيل بنزع أسلحة الدمار الشامل، ولكن أمريكا ترفض ذلك؟ وأن إسرائيل هي التي تطلق تهديداتها لإيران في تدمير مصانعها النووية السلمية، وليست إيران هي التي تهددها بل كل ندائها هو الدفاع عن النفس؟
ومن الطريف أن رئيس الوزراء البريطاني استخدم المنطق نفسه أمام البرلمان البريطاني، في الوقت الذي يتحرك مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا ضد أيّ مشروع سلمي نووي للعالم العربي والإسلامي الذي دخل في معاهدة حظر الأسلحة النووية، وذلك على الرغم من أن إسرائيل لم تنتم إلى هذه المعاهدة.. والسؤال: هل هو منطق القوة الذي يدفع هؤلاء إلى الضحك على عقول الناس، حتى على مواطنيهم، وهم يعلمون أن إسرائيل تخطط لاجتياح العالم العربي انطلاقاً من شعارها التقليدي: "من الفرات إلى النيل"؟! ولكن المشكلة هي أن الأنظمة العربية أسقطت مواقعها ومواقفها أمامهم، ما جعلهم يتعاملون مع القضايا المصيرية العربية باحتقار، ويتحدثون مع القائمين عليها بنفاق سياسي؟
فلسطين والعراق: توالي المجازر
أما في فلسطين، فالمجازر تتوالى، كما حدث أخيراً في "غزة، من دون استنكار أمريكي أو أوروبي أو روسي ضاغط، بينما يتوجه الاستنكار للفلسطينيين إذا قاموا بأية عملية استشهادية للدفاع عن النفس، لأنهم يلتقون مع شارون في أسلوبه في مواجهة المستضعفين، ويتحدثون عن أنه "رجل سلام"، بحسب ما يفهمونه من كلمة السلام التي تعبّر عن سلامهم لا سلام الشعوب.
وتبقى المسألة السياسية في خطة شارون بين شدّ وجذب، وجدّ ولعب، في تفاهم مع أمريكا وتنسيق دقيق في تمييع القضايا ودعم المستوطنات والجدار العنصري، ولكن من وراء خطة نفاقية سياسية نرجو أن لا ينخدع بها الشعب الفلسطيني، لأن "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".
وفي العراق، تتوالى المجازر الوحشية التي تستهدف المدنيين العراقيين في منطقة وأخرى، وتبتعد الحلول الأمنية عن حياة المواطن، وينأى الاحتلال بنفسه عن الدفاع عن الشعب هناك منشغلاً بالدفاع عن نفسه... أما الانتخابات، فإنها تدور في حلقة مفرغة، في الحديث عن الآلية في نطاق الأمن والسياسة، الأمر الذي قد ينتهي بالأمم المتحدة إلى أن تخلص إلى أنها غير ممكنة، وهذا هو الذي يريده الاحتلال في تعيين حكومة عراقية على صورته.
خلفيّات منع الحجاب
وتبقى مسألة القانون الفرنسي في منع الحجاب والرموز الدينية في المدارس الرسمية، الذي يدل على العقدة من الالتزام الديني الشخصي الذي لا يسيء إلى النظام العام الفرنسي، القائم ـ بحسب قانونهم ـ على الحريات الشخصية... ونحن نخشى أن تكون السياسة الداخلية وراء ذلك، لأنه لا يحمل أيّ تفسير واقعي، وقد بدأت بعض الدول الأوروبية كألمانيا، تتحدث عن منع الحجاب في الدوائر، والسؤال: هل هي العقدة من الإسلام أو من حرية المسلمات في ممارسة التزاماتهن الدينية، أم أن هناك خلفيات عنصرية؟
لبنان: دولة المقاولات
أما في لبنان، فقد بدأ الحديث عنه بأنه دولة المقاولات التي يتنوّع فيها المقاولون على حساب المال العام والواقع القانوني القضائي والسياسي والجنائي، ما ينعكس سلباً على الواقع الاقتصادي الذي يقامر به المقامرون، ويلعب فيه اللاعبون، ويتحرك فيه الخاص لمصادرة العام... وتبقى الخديعة التقليدية في صناديق الاقتراع التي لم تنفتح على التجديد، لأن هناك إدماناً على الاستسلام للذين أدمنوا النفاق السياسي، والشعارات الفضفاضة، وإثارة الغرائز الطائفية في أكثر من حركة للحقد والبغضاء، ويصعد هذا وذاك إلى الهيكل، ويبقى المواطنون خارج الهيكل، بين تصفيق تارةً، وصراخ مستنكر تارةً أخرى... هل هذا هو لبنان الحرية والإشعاع؟ |