ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
الدين عند الله الإسلام
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
عندما ترد كلمة الإسلام في القرآن الكريم، فإن الله تعالى لا يجعلها تمثل ديناً دون دين، بل يؤكد أن الأديان كلها مما أنزله الله تعالى على رسله تمثل معنى الإسلام، فكلمة الإسلام هي كلمة جامعة لكلّ دين تعبّد الله به عباده، لأن كل الأديان التي جاء بها الرسل، من نوح (ع) إلى نبيّنا محمد (ص)، ترفع شعاراً واحداً: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، استسلموا لله. ومعنى العبودية أمام الألوهية، هو أن تسلم كل وجودك لله تعالى، بحيث تقف لتستمع إلى وحي الله الذي أنزله على نوح(ع)، وهكذا على إبراهيم(ع)، أو على موسى (ع) وعيسى (ع) ومحمد (ص)، أن تلتزم بما أوحى الله تعالى به، لأن الأساس واحد، وهو وحيّ الله ودينه، أما اختلاف الأديان في تفاصيلها، فإنه ليس اختلافاً في الأساس الذي ترتكز عليه، وهو إسلام العقل والقلب والوجه واليد واللسان لله، أما التفاصيل فإنها تفرضها حاجات الإنسان التي تتطوّر بحسب تطوره في حركته في الحياة بحسب تتابع الأزمان والأمكنة والظروف.
ولذلك، فإن هذه الرسالة أو تلك قد تأتي لتحلّ ما حرّم في رسالة سابقة، لأن المصلحة أصبحت تقتضي التحليل بعد أن كانت المفسدة التي اقتضت التحريم محدودة بزمان معيّن، ولهذا نقرأ في القرآن الكريم في خطاب النبي عيسى (ع) لقومه: {ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم}، ونعرف، حسب ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت (ع)، وفي ما ورد من إيحاءات القرآن الكريم، أن زواج الإخوة بالأخوات كان حلالاً في زمن آدم (ع)، لأنه لم يكن هناك إلا أخوة وأخوات، ولكن الله تعالى بعد ذلك حرّمه، كان حلالاً لأن الله تعالى أحلّه بفعل الحاجة إلى ذلك، ولكن الله حرّمه بفعل الحاجة إلى تحريمه، والله هو الذي يحلل وهو الذي يحرّم.
الاستسلام للّـه
من خلال ما تقدم، نعرف أن الله تعالى عندما يقول: {إن الدين عند الله الإسلام}، فالمقصود من كلمة الإسلام هو الاستسلام لله والإسلام له في كل ما أمر به ونهى عنه، ولهذا سُمّي الدين الإسلامي بالإسلام، لأنه رسالة الله الأخيرة إلى العالم، فالإنسان الذي يسلم أمره إلى الله، لا بد له أن يلتزم بكل ما جاء به النبي(ص) عن الله، وقد ورد في الآية الكريمة: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}..
ولذلك، نلاحظ أن الله تعالى خاطب رسله بالإسلام، فنقرأ عن إبراهيم (ع): {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لربِّ العالمين}، ولم يكتفِ بذلك، بل شعر بأن عليه أن يجعل هذا الإسلام لله خطاً يتداوله الأولاد والأحفاد: {ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}، لتكن حياتكم استسلاماً لله وطاعة له. ويقول تعالى: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ـ وذلك عندما اجتمع بنوه لوداعه الوداع الأخير، وكانت الفكرة التي يحمل همّها هي كيف يكون أولاده موحّدين ـ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}.
وعندما فرّج الله تعالى عن يوسف (ع) وجمعه مع أهله بعد غياب طويل، كان دعاؤه: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}. وفي آية أخرى، يقول الله تعالى لنبيّه أن يقول للناس: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين* لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوّل المسلمين}، فلقد أراد الله تعالى للنبي (ص) أن يتحدث عن نفسه ليجسّد معنى الالتزام بالإسلام. أن تشعر أن كل شيء تنطلق به هو لله، وليس هناك شيء للناس إلا من خلال ما يأمرك الله به في تعاملك مع الناس، أن يكون الله هو المقصد، أن تكون حياتك وعبادتك وصلاتك في خط الله وحده لا شريك له.
ونرى أن الله تعالى أراد للناس أن يؤكِّدوا إسلامهم حتى للآخرين: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، حتى في الحوار مع أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.
حدود الإسلام وميزاته
وقد ورد في حديث الإمام عليّ (ع) وهو يصف الإسلام: "إن الله تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له، وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة ـ فالإسلام يوحي لك بأن تكون في سلامة مع الناس ليكون الناس معك في سلامة، وأن تكون في كرامة من خلال عناصر الإسلام ـ اصطفى الله تعالى منهجه وبيّن حججه، لا تُفتح الخيرات إلا بمفاتيحه ـ من خلال القواعد التي جعلها للخير ـ ولا تُكشف الظلمات إلا بمصابيحه"، التي تشرق في عقل الإنسان فكراً، وفي قلبه روحانيةً وحباً، وفي حياته عدالةً وحركةً في سبيل الله.
وفي أحاديث عن رسول الله (ص)، يحدد لنا فيها من هو المسلم، هل يكفي في المسلم أن يتشهد بالشهادتين أو أن يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، أم أن معنى المسلم في عمقه يتمثل بأخلاقيته بحيث يكون الناس معه في مأمن؟! يقول (ص): "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أن لا يعتدي عليهم بلسانه وبكلِّ ما تملكه اليد من العدوان. وفي حديث آخر عنه (ص): "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله"، "المسلم مرآة المسلم".
وعن الإمام الصادق (ع): "المسلم من سلم الناس ـ المسلمون وغير المسلمين ـ من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم". ونقرأ عن النبي (ص) وهو يصوّر لنا المجتمع الإسلامي: "المسلمون يدٌ على من سواهم ـ يتحدون ويتعاونون ويقفون صفاً واحداً إذا واجههم الآخرون بالعدوان ـ تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم". وفي حديث آخر عنه (ص): "المسلمون يدٌ على من سواهم ويردّ أدناهم على أقصاهم، والمتسري على القاعد، والقوي على الضعيف"، "المسلمون أخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى".
هذه صورة المسلمين في ما يروى عن رسول الله (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، فهل إن مجتمعاتنا الإسلامية متمثلة بهذه الخطوط الأخلاقية التي يتحدث عنها النبي (ص) في وحدة المسلمين وتعاونهم وتكاملهم، والشعور الواحد بكل ما يتألمون فيه ويفرحون فيه.
وفي وصية الإمام عليّ (ع) إلى محمّد بن أبي بكر عندما أرسله إلى مصر: "أوصيك بسبع هنّ جوامع الإسلام: إخشَ الله ولا تخش الناس في الله، وخير القول ما صدّقه العمل ـ القول يعبّر عن عقلك وقلبك وموقفك، فإذا لم يصدّق العمل قولك، فإن معنى ذلك أنك تخون نفسك ـ ولا تقضِ في أمر واحد بقضاءين فيتناقض أمرك وتزيغ عن الحق، وأحبّ لعامة رعيتك ما تحبه لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك، وأصلح أحوال رعيتك، وخض الغمرات في الحق، ولا تخف لومة لائم، وانصح لمن استشارك، واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم".
وقد اختصر الإمام علي (ع) الإسلام بهذه الكلمة عندما قال: "لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل". إن الله تعالى أمر نبيه (ص) في أكثر من آية أن يُعلن أنه أول من أسلم، إن المسألة الآن هي أن ينطلق المسلمون جميعاً ليؤكدوا انتماءهم إلى الإسلام، وليؤكدوا هويتهم الإسلامية، ولا يلتفتوا إلى كثيرين من الناس الذين يريدون أن يعطوا الإسلام اسماً انطلقت فيه بعض الفلسفات ليخدعوا المسلمين عن إسلامهم.
علينا أن نكون المسلمين في موقف واحد، كما كان المسلمون مع رسول الله (ص) في موقف واحد: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، فهل نكون كذلك؟ هذه هي وصية الله في القرآن، ووصية الرسول (ص) في سنّته، ووصية الأئمة من أهل البيت (ع) في سيرتهم، لا سيما في هذه المرحلة التي يراد بها للمسلمين أن ينحرفوا عن إسلامهم ليتحركوا في خط المستكبرين الذين يريدون أن يجعلوا الإسلام في خدمتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية، وليكن الصوت واحداً: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في عباده وبلاده، وواجهوا المرحلة الخطيرة التي تحيط بالإسلام والمسلمين من خلال الكافرين والمستكبرين، في تحالف خبيث يحرك كل ما لديه من وسائل القوة العسكرية والثقافية والاقتصادية من أجل إضعاف المسلمين وإلغاء موقفهم ومستقبلهم، ليكونوا مجرد هامش من هوامشهم.
إن الإسلام ينادي المسلمين في العالم كله أن يقفوا الوقفة القوية ويتناسوا كلَّ خلافاتهم المذهبية والحزبية والعرقية، أن يتناسوا ذلك، ليكون الصوت واحداً، وهو نصرة الإسلام أمام الهجمة العالمية التي تحاول أن تتحرك من أجل القضاء على الإسلام في كل مواقعه، علينا أن نتذكّر كلمة النبي(ص) عندما كان يخاطب أصحابه وهو يقول: "سوف تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أومن قلّة يا رسول الله؟ فقال (ص): "إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل". ونحن نواجه أكثر من قضية في بلاد المسلمين، وفي تآمر المستكبرين عليهم، فلنعرف ماذا هناك مما حفلت به أحداث الأسبوع.
محاسبة سوريا: قرار صهيوني
لقد أقرّ مجلس النواب الأمريكي ـ بأكثريته ـ قانون محاسبة سوريا، الذي هو قرار إسرائيلي من خلال جماعات إسرائيل في المجلس، تدعمه الإدارة الأمريكية وتتهم فيه سوريا بـ "دعم الإرهاب" الذي يُقصد به تأييد المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال، لأن أيّ مقاومة للاحتلال الصهيوني لفلسطين، تمثل عند الإدارة الأمريكية حركة إرهاب، لأن أمريكا ـ بفعالياتها السياسية وإدارتها ـ تدعم الاحتلال وتقف ضد حقوق الشعوب بقدر ما يتعلّق الأمر بالشعوب العربية والإسلامية، لأنها لا تسمح بالحرية وتقرير المصير وصنع القوة، بل الحق كله ـ عندها ـ لليهود، وهو ما أكَّدته من خلال منح حكومة "شارون" الحرية في العدوان على مستوى إبادة الشعب الفلسطيني بشرياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، بعنوان "الدفاع عن النفس"!!
إن المطلوب من الشعوب العربية والإسلامية أن ترد على هذا القرار الصهيوني ـ الأمريكي بمقاطعة البضائع الأمريكية بقدر الإمكان، لأن العقوبات الاقتصادية المفروضة أمريكياً على سوريا وإيران وبقية دول المنطقة لا بد أن تقابلها الشعوب بعقوبات مماثلة، بالدرجة التي تسمح بها ظروفها الاقتصادية في حاجاتها الاستهلاكية، من خلال البدائل المتوفرة لدى الدول الأخرى، كالاتحاد الأوروبي الذي نقدّر له رفضه للعقوبات ضد سوريا، ونأمل أن يستمر في هذا الرفض..
كما إننا نريد من الأمين العام للأمم المتحدة أن لا يخضع للضغوط الأمريكية المقبلة على مجلس الأمن في هذا الاتجاه، لأن من المفترض لمجلس الأمن أن يمثل الموقع الدولي لحماية الشعوب المستضعفة، لا حماية الإمبراطورية الأمريكية في استكبارها واستعلائها ومصادرتها لحقوق الشعوب لحساب مصالحها الاستغلالية، ونريد لجامعة الدول العربية ولمنظمة المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز أن ترفع الصوت عالياً ضد هذا العدوان الأمريكي على سوريا في قانون المحاسبة لها.
دعم أميركي للاجتياح الصهيوني
وفي جانب آخر، قامت إسرائيل باجتياح مدينة "رفح" وتدمير بيوتها بما يزيد على مائة بيت، وقتل شبابها، بعد اجتياح مدينة "جنين" إلى جانب اجتياحها المدن والقرى الفلسطينية.. ولم نسمع صوتاً أمريكياً أو أوروبياً أو من الأمم المتحدة يستنكر ذلك، بل سمعنا ما يشبه الدعم والتأييد لهذه الاجتياحات من قِبَل الإدارة الأمريكية بشخص رئيسها، باعتبار أن تدمير الشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه ورجاله وشيوخه وبيوته ومزارعه هو أمر مشروع عنده، تحت عنوان "دفاع إسرائيل عن نفسها" الذي أعطاه البيت الأبيض لها ـ حيث تجد مصلحتها ـ في أيّ مكان حتى عبر حدود فلسطين..
وهذا ما جعل إسرائيل تهدد سوريا وتخطط ـ ولو على سبيل التهويل ـ لتدمير المفاعلات النووية الإيرانية المستخدمة للأغراض السلمية، لأنها تريد البقاء كدولة نووية وحيدة في المنطقة لتهدد من تريد تهديده، بالتحالف المطلق مع أمريكا التي بلغت علاقتها بالكيان الصهيوني المستوى الذي لا يحتاج إلا إلى اللمسات الدبلوماسية والسياسية لضم إسرائيل إلى الولايات المتحدة لتحقيق الارتباط العضوي كاملاً.
أمريكا: دراسة دلالات انفجار غزة
أما في قطاع غزة، فقد حدث انفجار استهدف قافلةً أمريكية، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أمريكيين.. إننا لا نريد تبرير هذا العمل الذي أدى إلى هذا الحدث، لا سيما إذا كان الأشخاص القتلى من الدبلوماسيين كما قيل، ولكن على أمريكا أن تدرس دلالات هذا الأمر بدلاً من إطلاق لغة التهديد والوعيد من قِبَل الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، وأن تتساءل: لماذا يقوم هؤلاء الناس ـ بقطع النظر عن هويتهم ـ بهذا التفجير الذي دانته السلطة والفصائل الفلسطينية المجاهدة؟ ألا يكفي ذلك في أخذ أمريكا ـ الإدارة الدرس على أن الاحتقان النفسي والأمني والسياسي لدى الشعب الفلسطيني ـ من خلال الإنسان العادي ـ يمكن أن يوجّه التحدي إلى الأمريكيين أنفسهم لحمايتهم المطلقة للعدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؟ وسوف تزداد الأمور سوءاً عندما تتوسّع هذه الحالة من الكراهية والرفض للأمريكيين في المنطقة كلها، ولكن المشكلة أن الإدارة الأمريكية الحالية ليست مستعدة للدخول في حساب مع النفس لتعرف أنها تقود العالم والشعب الأمريكي إلى حافة الهاوية.
عجز إسلامي في مواجهة التحديات
وفي جانب آخر، عقدت منظمة المؤتمر الإسلامي مؤتمر القمة الإسلامي في ماليزيا في هذه المرحلة الحاضرة، في استهلاك للكلمات وتكرارٍ للقرارات، وحديث عن تضامن لا واقع له، بل يبقى مجرد حروف فارغة ميتة على الورق، وتباين مصالح وحسابات على الأرض لكل دولة لا تلتقي مع مصالح وحسابات الدول الأخرى، ما يغرق الموقف الإسلامي في بحار الخلافات الصغيرة.. ويعرف الجميع أن حجم دول المنظمة الـ57 هي بمقياس العدد أكبر من ربع الأمم المتحدة، وبمقياس القوة البشرية تقترب من خُمس سكان الأرض، ولكنها تبقى على الهامش عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً وثقافياً..
ولعلّ من اللافت حديث الأمين العام للمنظمة الذي يختصر الصورة بالقول إن "إحساساً بالعجز والقهر ينتاب المسلمين وهم يرون بعض بلدانهم تحت الاحتلال وبعضها يواجه عقوبات وأخرى تواجه تهديدات ورابعة تُتهم بالإرهاب".. وتبقى المسألة في العالم الإسلامي أن الأكثرية من المسؤولين يحكمها الخوف من الهيمنة الأمريكية، ولذلك أصبحت رهينة السياسة الأمريكية، في عجز فاضحٍ عن المواجهة وحتى عن التأثير في موقف الرئيس الأمريكي وفي مجابهة عدوانيته ضد شعوبها، حتى أصبح القانون هو الرجل ولم يعد القانون هو الوطن..
ولعلّ أصدق كلمة في هذا المجال عن المؤتمر، أن الشعوب كانت خارج القمة وأمريكا حاضرة، وربما كانت أوعى كلمة فيه هي كلمة الرئيس بشار الأسد، أن "الحرب ضد الإرهاب ليست حرباً ضد التطرف الإسلامي، بل هي حرب ضد الإسلام نفسه"، فهل استمع المؤتمرون إلى هذه الحقيقة ليعتبروا أن الحرب المعلنة على العالم الإسلامي الآن هي الحرب الأمريكية ضد الإسلام نفسه؟ وهل ارتفعوا إلى مستوى الدفاع عن الإسلام الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد والأمن والشعوب، أم أنهم لا يزالون يخوّفون بعضهم بعضاً ويلهثون وراء "السيد" الأمريكي للحظوة بلفتة منه تدل على الرضى؟؟
استنكار أحداث كربلاء
أما في العراق، فقد صدمتنا الأحداث الدامية التي وقعت في مدينة كربلاء، لا سيما أنها استهدفت مقامي الإمام الحسين (ع) وأبي الفضل العباس (ع) بالاعتداء الذي لا مجال لتبريره، لأن هذه المقامات محل تعظيم المسلمين جميعاً، ما يجعل الإساءة إليها إساءة لهم وللإسلام نفسه وللرموز العظيمة المتمثلة فيها..
إننا نستنكر ذلك ونؤكد بأنها خط أحمر لا يجوز تجاوزه، ونأسف للدماء التي سالت في هذه الحادثة، وندعو الجميع إلى إعادة الأمور إلى نصابها وإغلاق هذا الملف، وحصر القضية في دائرتها الخاصة، والاتجاه إلى منطق العقل والدين في خط الوحدة بين المسلمين والعراقيين جميعاً.. إن الإساءة إلى المقدّسات الدينية خط أحمر، وإن الصراع الشيعي ـ الشيعي خط أحمر، كما أن الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي كذلك..
ليكن الصوت واحداً لوحدة العراق من أجل الحرية والاستقلال والمستقبل على أنقاض الاحتلال، لأن المشكلة هي مشكلة الذين يمنعون الشعب العراقي من الاستقرار والأمن وتقرير المصير من الداخل والخارج، ويريدون للاحتلال أن يتوسّع ليتحوّل إلى احتلال عسكري دولي بقيادة أمريكية للتخفيف من خسائر الجيش الأمريكي في العراق.
لبنان: غرق في السجالات العقيمة
أما في لبنان الذي تحيط به الهزّات السياسية والأمنية في المنطقة، فإنه لا يزال غارقاً في السجالات العقيمة التي يتسابق فيها الكثيرون من المسؤولين لتسجيل النقاط على بعضهم البعض، وتوجيه الاتهامات التي قد تصل إلى مستوى الجريمة، وتمييع القضايا الحيوية في حقوق المواطنين وحاجاتهم المعيشية وأزماتهم الاقتصادية في أكثر من دوّامة، في حركة الميزانية والحديث عمّا يشبه الإفلاس، وحشر الجميع في زاوية الحلّ بالمديونية الجديدة وقضايا التمديد والتجديد وغير ذلك، في استغراق أعمى في التفاصيل، وغيبوبة عن مواقع الزلزال الذي اقترب من المنطقة. |