لنكن دعاةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه

لنكن دعاةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه

في ذكرى الولادة المباركة للإمام المهدي(عج):
لنكن دعاةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة امتداد للرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل البيت (ع) خاتمة الإمامة، إمام العصر والحياة والعدل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

نستقبل في هذه الليلة، ليلة النصف من شهر شعبان، ليلة العبادة والدعاء والابتهال والقرب إلى الله تعالى في الانفتاح عليه، في حساب النفس والتخطيط لأن يكون الإنسان طائعاً لله في عبوديته المطلقة أمام الألوهية المطلقة، حتى يقترب الإنسان من ربه فيقترب من الإنسان الآخر ومن الحياة كلها.

في هذه الليلة المباركة، كانت ولادة إمامنا (عجل الله تعالى فرجه) الذي التقت كل آفاق سره ومعناه والإعداد الإلهي لشخصيته، ليجعل بذلك نهاية الحياة نهاية الظلم كله، ولتصبح الحياة كلها عدلاً ـ ولأول مرة ـ لا يظلم فيها إنسان إنساناً، ولا يعتدي فيها إنسان على إنسان.

هذا هو الحلم الكبير الذي لا زال الناس في كلِّ أجيالهم يتطلّعون إليه، لأن الناس منذ قابيل وهابيل عرفوا كيف ينطلق الإنسان في عدوانيته التي تتحرك من خلال الحسد أو العناصر السلبية الأخرى في شخصيته ليقتل أخاه، وهكذا عاشت البشرية ظلماً بعد ظلم، وأرسل الله الأنبياء لإزاحة هذا الظلم، ولكن أعداء الله والحياة كانوا يقتلون النبيين بغير حق، كما هي سيرة اليهود في تاريخهم، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.

لذلك كانت مسألة المهدية في الإسلام التي خُتمت بها الإمامة التي تمثل الامتداد الحركي والثقافي للرسالة، فالأئمة(ع) رسل الرسول(ص)، وهم الذين ينطقون عنه ويؤصّلون كلَّ ما ورد من سنّته، ليقدّموها للناس، ليروا في السنّة تفاصيل الكتاب، وليروا في الكتاب عناوين السنّة.

ويلتقي المسلمون كلّهم بفكرة الإمام المهدي (عج)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته بأن الروايات التي وردت عن النبي (ص) في الإمام المهدي (عج) بلغت حد التواتر، بحيث أصبحت من الضروريات التي لا يمكن أن يشك فيها أحد. ولذلك، روى السنّة والشيعة عن رسول الله (ص) ذلك، فمن الروايات التي رواها علماء أهل السنّة: "لا تذهب الدنيا حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"، وعن أبي حذيفة الصحابي قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفرّ منهم بقلبه، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كل جبار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمّة بعد فسادها"، وهو(ص) يتحدث عن المستقبل الذي تتغير فيه حالة الإنسان من الظلم إلى العدل، ثم قال (ص): "يا حذيفة ـ وهو يشير إلى الشخصية التي يمكن أن تقود هذا التغيير الجذري ـ لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه ويُظهر الإسلام، لا يُخلف الله وعده، إنه سريع الحساب"، إنه وعد الله الذي لا بد أن يتحقق.

وفي الحديث عن النبي (ص) رواه أبو سعيد الخدري: "لا تنقضي الساعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما ملئت من قبل جوراً"، ويقول (ص): "إني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، ليؤكد (ص) من خلال هذا الحديث، أنه ما دام الكتاب بين أيدي المسلمين فهناك رجل من عترته في الموقع القيادي للإمامة، وهذا لا ينطبق إلا عليه(عج).

الأئمة(ع): إغناء العقل الإنساني

عندما نتذكره (عج) في هذه المرحلة من حياتنا، فكيف نستوحي ذلك؟ لن نخوض في الحديث عن مسألة طول العمر وقصره، لأنّ الله تعالى حدّثنا عن نبيه نوح(ع) أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والعلم يقول بأن لا مانع من أن يعيش الإنسان عندما يُكتشف سرّ الحياة آلاف السنين، والله تعالى حدّثنا عن خلود المتقين في الجنة وعن خلود الكافرين في النار، فالمسألة بُحثت ولم يبق فيها إشكال.

إن هناك كلاماً لا يزال يدور، وهو أن الإمامة تمثل في الواقع الإسلامي، على المستوى القيادي والثقافي والحركي، حضوراً دائماً متحركاً للإمام الذي يعيّنه الله تعالى من خلال رسوله (ص)، فما الفائدة من إمام يغيب عن أنظارنا لا نستمع إلى أي توجيه من توجيهاته، ولا إلى أي درس من دروسه، ولا نجد أي حركة قيادية في نشاطه؟ إن الجواب عن هذا هو أن الله تعالى جعل للإمامة دورين، دوراً يتحرك في تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه الإمام، وفي هذه الحالة يقوم الإمام ـ كما قام الأئمة الأحد عشر ـ بدوره في تأصيل الثقافة الإسلامية ضد من يريدون أن يهمّشوها، وفي الإيحاء بالحركة المواجهة للكفر والظلم وإيجاد الخطط اللازمة تبعاً للظروف المحيطة بالإمام.

وقد ترك الأئمة من أهل البيت(ع) ثروة ثقافية فكرية عقيدية شرعية منهجية حياتية، بما يكفي الناس في جزئياتها وكلياتها وفي كل قواعدها. ولهذا رأينا الإمام الحجّة(عج) في توقيعه الذي أرسله إلى بعض من سأله في أيام الغيبة الصغرى عن طريق سفرائه، عن بعض المسائل فأجاب عنها، ثم قال: "وأما الحوادث الواقعة ـ عند طروء بعض الأحداث التي تريدون أن تعرفوا حكمها والطريقة في العمل عليها ـ فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"، ورواة أحاديثهم هم العلماء الذين يحملون كل هذا التراث، ويعرفون كتاب الله معرفة ثقافية منفتحة على الحياة كلها وعلى الإنسان كله، والذين يعرفون سنّة رسول الله (ص) في ما صدر عنه من قوله وفعله وتقريره، ويعرفون ما صدر عن عليّ (ع) والأئمة من ولده، والذين استطاعوا إغناء العقل الإنساني والحياة الإنسانية بكل الثقافة الإسلامية، كما لو كان النبي والأئمة موجودين. فالإمام (عج) عندما استأثر الله بغيبته، لم يترك الأمة في فراغ ثقافي، لأن ما بقي للأمة من تراث إسلامي يمكن أن يملأ كل فراغها.

ولذلك لا نزال حتى الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه ينهل من معين هذا التراث، وكذلك كل المجمعات الثقافية والحوزات العلمية وكل ساحات الصراع الفكري مع الآخرين، ولا تزال الأمة من خلال علمائها ومفكريها تغتني بما لديها من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (ص) وتراث أئمة أهل البيت (ع)، مما اجتهد به المجتهدون وفكّر فيه المفكرون، من دون أن تشعر بأيّ فراغ هناك، كما لو كان الإمام (ع) موجوداً بينهم، لأن وجود الإمام لا يقتصر على وجوده البارز، ولكن يتمثل وجوده بوجود الإمامة، ووجود الإمامة إنما هو من خلال كل هذا الغنى الثقافي.

ولذلك إذا أردتم أن تستشعروا ذلك بوجدانكم، فإننا نذكر رسول الله (ص)، هل يحس أحد منكم أنه ميت؟ نحن نشعر أنه حيّ كما لو أنه أمامنا، لأننا عندما نعيش كل ما قاله وعمله في سيرته وما قرّره، نشعر أنه أمامنا، وهو أكثر حضوراً من كثير من الناس الذين يعيشون بيننا، وهكذا عندما نتذكر عليّاً(ع)، نشعر بأنه حيّ، لأن الحياة الفكرية والروحية هي امتداد للإنسان أكثر من الحياة المادية.. لذلك، نحن نشعر بأن رسول الله(ص) والأئمة (ع) من بعده والصحابة الذين كانوا معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم، لا يزالون أحياء بيننا في كل هذا التاريخ الذي يحمل فكر الإسلام. هذا دورٌ من أدوار الإمامة، وقد قام الأئمة بدورهم خير قيام في كل مسؤولياتهم القيادية والثقافية والروحية.

الإمامة المتحركة عالمياً

وهناك دور آخر للإمامة، وهو دور الإمامة المتحركة عالمياً وإنسانياً، والتي يختم الله فيها الحياة، كما جاء في حديث رسول الله (ص): "لا تنقضي الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يُظهر الإسلام ويهلك كل جبار عنيد، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وهذه الإمامة تختلف عن تلك، وإن كانتا تلتقيان في أصل المبدأ، فهما تتحركان من رسول الله ودين الله، لأن الإمام لا يأتي بدين جديد، فهم ينطلقون من الإسلام، ولذا نحن نقول في دعاء الافتتاح: "اللهم أظهر به دينك وسنّة نبيّك حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحدٍ من الخلق"، فالقضية أنه يأتي ليُظهر الدين ظهوراً فكرياً حركياً على مستوى العالم. والإمامة على مستوى العالم، في الحركة القيادية التي تجدد الحركة الثقافية بعد أن ابتعدت عن عقول الناس، تحتاج إلى إعداد إلهي مباشر، وذلك لتقريبها إلى عقول الناس بعد أن ابتعدت عنهم.

غيبته(عج) سر

ولذلك نحن لا نملك أي معلومات تفصيلية كيف هي حياة الإمام المهدي (عج)، لأن غيبته هي سرّ من أسرار الله، وغيبٌ من غيب الله لم يطلعنا عليه، ولأن الإمام(عج) يعيش في ذلك الأفق الإلهي الروحي الذي يصنعه الله فيه على عينه، كما أوحى الله تعالى إلى موسى (ع): "ولتُصنع على عيني"، فهناك، مما يحتفظ الله بسرّه، نوعٌ من الإعداد الروحي والفكري والنفسي والقيادي والحركي للإمام تحت سمع الله وبصره، لتتكامل شخصيته بشكل مباشر في رعاية الله وتربيته وإعداده لها، لأن دور الإمام(عج) هو أن يختصر كل رسالات الأنبياء في حركته ودوره. لذلك فلا بد له أن يعيش الأنبياء والأئمة بكل رسالاتهم ودعواتهم، ولا بد له أن يعيش الحياة كلها والإنسان كله تحت رعاية الله وليصنعه على عينه.

لذلك، فإن هذا سرّ من أسرار الله وغيب من غيبه استأثر الله به وأراد تعالى ـ بحسب حكمته وتدبيره ـ إعداده لهذا الدور العالمي الرحب، حتى لا يبقى في العالم شيء اسمه الظلم والباطل، ليعيش الناس أخلاق الجنة في الدنيا قبل أن ينتقلوا إلى الجنة في الآخرة، فللجنة أخلاقها وقوانينها وأجواؤها، فلا يجوز أن ندخل الجنة ونحن معقّدون وظالمون ومنحرفون، ونحن نكره بعضنا بعضاً ويتعصب بعضنا ضد بعض، إن عليّاً(ع) ـ ومَن منا يفهم عليّاً ـ يقول: "أبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يُخدع الله عن جنته".

رسالته العدل الشامل

في ذكرى هذه الولادة المباركة، وفي ليلة النصف من شعبان التي تصادف هذه الليلة، علينا أن نرتفع بأرواحنا إلى الله تعالى، ونفتح قلوبنا لله حتى ننزع منها كل حقد وبغضاء وسوء، لأن قلوبنا هي عرش الله، فهل تقبلون أن يكون عرش الله محلاً لعصبياتكم وأحقادكم وظلمكم؟ إن رسالة الإمام المهدي (عج) لكل الناس: كونوا مع العدل العالمي الشامل، كونوا مع كل صوت للعدل حتى لو كان هذا الصوت لا يلتقي معكم في دينكم، لأن الله تعالى يريد العدل لكل الناس، فالعدل فوق الصداقات والعداوات: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}. وقد عاش الإمام زين العابدين (ع) هذا الجو الرسالي في دعائه، إذ يقول: "اللهم ارزقني التحفظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل، في الدنيا والآخرة، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي".

نسأل الله تعالى أن يرينا تلك الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه، ليجعلنا مع محمد وآله (سلام الله عليهم) حتى نستطيع أن ننطلق معهم إلى الله ولا شيء إلا الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانتظروا الانطلاقة الكبرى التي يراد لكم أن تندفعوا فيها مع جيش الحق من أجل تأكيد الحق، وفي جيش العدل مع إمام العدل، حتى تشاركوا في تحقيق وتنفيذ رسالة العدل الشامل الذي ينطلق من خلال خط الإسلام الشامل، هذا الخط الذي انطلق من كتاب الله وسنّة رسول الله. إننا مدعوون منذ الآن أن لا يكون انتظارنا سلبياً وعاطفياً، وإن كان للعاطفة دور. بعض الناس يقتصر على الدعاء ويتصوّر أنه لمجرد الدعاء للإمام قد أدى مسؤوليته. إن الانتظار هو انتظار التغيير الشامل، انتظار أسلمة العالم في خط العدل للعالم كله، لذلك في مرحلة الانتظار، لا بد أن ينطلق كل واحد منا ليكون داعيةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه ومواجهة المستكبرين والظالمين، وفي كل ما يصيب الإسلام من أخطار وتحديات. إن النبي (ص) الذي أرادنا الله تعالى أن نتأسى به، قال له: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}،عبء التحدي والمواجهة والجهد الذي لا يهدأ، ونحن لا بد أن نشعر عندما التزمنا بالإسلام فإن هناك قولاً ثقيلاً، لنغني ثقافة الإٍسلام بثقافتنا، وجهاده بجهادنا، وسياسته بسياستنا..

إننا في هذه المرحلة من حياتنا نعيش في أكثر من حالة طوارئ، نعيش في داخل الزلزال السياسي والأمني والثقافي الذي يريد أن يفرضه المستكبرون علينا، وعلينا أن نرفض ذلك بالعمل والجهاد والوحدة، فلا مكان للذين يعملون للفتنة بين الأمة في الصغير والكبير، ليكن الصوت واحداً: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}، أن نعمل على أساس أن نكون للإسلام كله. وفي هذا الجو نسأل ماذا هناك، لأننا ـ كما قلنا ـ قبل أكثر من أسبوع، لا بد أن نعرف من هم أعداؤنا، أعداء الإنسانية والإسلام، لا بد أن نفحص كل خلفياتهم وخططهم ولا ننخدع بكلماتهم ودموعهم التماسيحية، فماذا هناك؟

بوش: شرعنة الاحتلال

هل فَقَدَ الرئيس الأمريكي توازنه الإنساني لمصلحة الخط اليميني لإدارته الخاضعة للصهيونية، التي تحوّلت إلى ملحق أمني وسياسي للإدارة الإسرائيلية؟ كيف يحترم الرئيس "بوش" موقعه ودولته وعقله ـ وهو المنادي بالحرية وحقوق الإنسان ـ في تصريحه الذي برّر فيه العدوان الإسرائيلي على سوريا، وأكد أن على "شارون الدفاع عن بلده"، بحسب تصريحه، مذكّراً بأن إسرائيل تعرّضت لهجوم من خلال عملية "حيفا"، ومؤكداً بأننا "سنفعل الأمر ذاته لو كنا مكانه"، على حدّ تعبيره؟؟

لقد هدّد "شارون" بضربات في أيّ مكان، من خلال الضوء الأخضر الأمريكي الذي يوحي بأن حرب أمريكا وإسرائيل واحدة ضد شعوب المنطقة، ما لم تخضع للقرارات المفروضة عليها من خلال أمريكا الملحقة سياسياً بإسرائيل؟!

إننا نسأل الرئيس الأمريكي: هل حقق في أن منفذي العمليات الاستشهادية الفلسطينية يأخذون تعليماتهم من المنظمة في سوريا، أم أن هذه كذبة جديدة تضاف إلى الأكاذيب الأمريكية ـ الإسرائيلية لتبرير العدوان؟ وهل قدّمت مخابراته له تقريراً بأن الجيش الصهيوني لم يضرب معسكر تدريب، بل مخيّماً بائساً للاجئين الذين شرّدتهم إسرائيل من وطنهم؟

ثم، إن هذا الرئيس يكرر دائماً بأن "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها من أجل تأكيد استقلالها"، على حدّ زعمه، ولكننا لم نسمع منه ـ ولو لمرة واحدة ـ حديثاً عن حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وعن حقه في تحرير بلده من الاحتلال؟.. وإذا كان "بوش" يتحدث عن خارطة الطريق وامتنانه على العرب والمسلمين بحديثه كأول رئيس أمريكي عن دولة فلسطينية، فإنه لم يتقدّم خطوة واحدة لتحقيق ذلك إلا بتسجيل النقاط السلبية على المجاهدين في فلسطين!!

إنه يتباكى على أطفال اليهود، ولم يذرف دمعة واحدة على أطفال الفلسطينيين ونسائهم وشيوخهم من المدنيين، ولم يستنكر تدمير المزارع أو بناء الجدار العنصري إلا بطريقة النفاق السياسي للاستهلاك الساذج لإرضاء العرب والمسلمين..

إن "بوش" يؤكد في تصريحاته شرعنة الاحتلال للشعب الفلسطيني، كما هو الاحتلال الذي قام به للعراق، من دون أن يسمح للعرب والمسلمين بالحديث عن الفرق بين الإرهاب والمقاومة، لأنه يتحرك بعقلية امبراطورية دكتاتورية، فلا حق ـ عنده ـ لأيّ جهة في أن تناقش الرئيس في طروحاته، لأنه ليس من حق شعوب العالم الثالث أن تعارض "امبراطور العالم"، كما تعبّر إدارته..

إن الرئيس "بوش" يعمل ـ من خلال إدارته ـ على إيجاد حالة من الكراهية للسياسة الأمريكية، ولن تنفعه الأجهزة الإعلامية في رفع هذه الكراهية.. وإننا في الوقت الذي نؤكد فيه أننا نريد صداقة الشعب الأمريكي ونحترم تطوره العلمي والتكنولوجي، ونأمل أن يأخذ بأسباب التطور الإنساني في التعاطف مع الشعوب المستضعفة في تطلعاتها للحرية، ندعو هذا الشعب إلى الوقوف في وجه هذه الإدارة التي سوف تعزل أمريكا عن وجدان العالم بفعل الغطرسة الاستكبارية.

مواجهة العدو بخطة حاسمة

إننا نطالب العرب والمسلمين ـ شعوباً وحكومات ـ أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، لأن المشروع "الشاروني" ـ "الليكودي"، الذي تدعمه الإدارة الأمريكية، يخطط لإبادة الشعب الفلسطيني بشكل تدريجي، من خلال هذه الحرب المتحركة التي تشمل كل فئات هذا الشعب وكل عمرانه ومزارعه، ولأن التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل لن يوفِّر أيّ بلد عربي أو إسلامي من عدوانه على أساس التهمة الجاهزة، وهي "حماية الإرهاب ودعمه"، أو "العدوان على إسرائيل"..

إن البيانات الإنشائية لا تقدّم شيئاً، بل المفروض تحريك المصالح الاقتصادية والسياسية للعدو المشترك ومواجهته بخطة حاسمة، الأمر يتعلق بمستقبل الأمة كلها، ولا حماية لأحد حتى لحلفاء الاستكبار، لأن أمريكا لا تحترم الذين يخافونها ويخضعون لها.

ومن جهة أخرى، فإن العراق لا يزال يعاني من الفوضى الأمنية تحت نير الاحتلال، ما يتسبب في قتل المدنيين برصاص الجنود الأمريكيين الذين لا يحترمون إنسانية العراقيين وحياتهم، من خلال الطريقة العشوائية التي يديرون فيها الفوضى الأمنية لجنودهم، حتى أصبحت المسألة عندهم هي الأمن للجنود الأمريكيين لا للشعب العراقي..

إن هناك صوتاً واحداً في العراق موجَّهاً للاحتلال يقول: انسحبوا من العراق، فالعراقيون قادرون على إدارة أمورهم بأنفسهم وليسوا قاصرين، ولا هم بحاجة إلى ولاية سياسية أمريكية.

ندين الفتنة بين المسلمين

ومن جانب آخر، فقد تابعنا الأحداث الدامية المؤلمة التي وقعت بين المسلمين في باكستان، في عمليات الفعل بقصف حافلة للمصلّين الشيعة المتجهين إلى صلاة الجمعة، ورد فعل من خلال قتل زعيم سنّي من "جيش الصحابة"، مع ما صاحبه من نداءات حاقدة بالتكفير للمسلمين الشيعة والدعوة إلى قتلهم، مع الهجوم على المواقع الدينية والمؤسسات الأهلية..

إننا نقول للجميع: إن مشكلة الشيعة في العالم ليست السنّة، وإن مشكلة السنّة ليست الشيعة، بل المشكلة هي الاستكبار العالمي الذي يعمل على مصادرة كل الواقع الإسلامي في سياسته وأمنه واقتصاده.. وإن التكفير المتبادل لا يمثّل أية ذهنية إسلامية، لأن الله تعالى قد وضع لنا قاعدةً قرآنية في إدارة الخلافات المذهبية في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، ما يفرض على الجميع الحوار الموضوعي العقلاني الذي يبحث عن الاختلاف في مصادره الأصيلة..

إننا ندين كل المحاولات الساعية لإيجاد الفتنة بين المسلمين وكل أساليب العنف، وندعو علماء المسلمين في باكستان إلى التدخّل لإطفاء هذه الفتنة التي سوف تحرق الأخضر واليابس.. كما ندعو العلماء والفعاليات الإسلامية بشكل عام إلى العمل على تأكيد الوحدة الإسلامية على أساس الاعتصام بحبل الله جميعاً، لأن الأخطار المحدقة لا تتهددنا كسنّة أو كشيعة فقط، بل كمسلمين في العالم كله، ولا بد أن يرتفع صوت العقل في مواجهة صوت الفتنة، فالفتنة نائمة ولعن الله من يوقظها.

المجتمع الدولي: إسرائيل أولاً!!

أما في لبنان، الذي يتعرّض بشكل شبه يومي للاعتداءات الإسرائيلية في البر والبحر والجو، من دون أن يستنكر أيّ موقع دولي ـ بما في ذلك أمريكا ـ كل هذه الاعتداءات، بل إن الجميع اندفعوا ليطالبوا بالتهدئة وعدم توتير الأجواء لمصلحة إسرائيل لا لمصلحة لبنان، لأن القضية في الواقع الدولي هي: إسرائيل أولاً..

إننا ندعو الشعب اللبناني كله، بما في ذلك المسؤولين على مختلف المستويات، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة في تثبيت الوطن وحماية استقلاله، وتفعيل المؤسسات التي قد تساهم في بعض الحلول إذا لم يتدخّل فيها الذين يصادرونها لمصالحهم الخاصة..

إن المرحلة ـ في خط الإصلاح ـ هي في التزاوج بين الإصلاح السياسي والإصلاح الإداري، اللذين يمكن أن يتكاملا في تحقيق الإصلاح الاقتصادي لحل المشكلة الاقتصادية في البلد، كما أن من الواجب على الجميع أن يبتعدوا عن اللغو الذي يدور في الصالونات، وعن اللعبة الطائفية التي تلعب بالوطن، لأن الدوّامة التي تطغى في أجواء المنطقة قد تصادر الجميع.

في ذكرى الولادة المباركة للإمام المهدي(عج):
لنكن دعاةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الإمامة امتداد للرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل البيت (ع) خاتمة الإمامة، إمام العصر والحياة والعدل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

نستقبل في هذه الليلة، ليلة النصف من شهر شعبان، ليلة العبادة والدعاء والابتهال والقرب إلى الله تعالى في الانفتاح عليه، في حساب النفس والتخطيط لأن يكون الإنسان طائعاً لله في عبوديته المطلقة أمام الألوهية المطلقة، حتى يقترب الإنسان من ربه فيقترب من الإنسان الآخر ومن الحياة كلها.

في هذه الليلة المباركة، كانت ولادة إمامنا (عجل الله تعالى فرجه) الذي التقت كل آفاق سره ومعناه والإعداد الإلهي لشخصيته، ليجعل بذلك نهاية الحياة نهاية الظلم كله، ولتصبح الحياة كلها عدلاً ـ ولأول مرة ـ لا يظلم فيها إنسان إنساناً، ولا يعتدي فيها إنسان على إنسان.

هذا هو الحلم الكبير الذي لا زال الناس في كلِّ أجيالهم يتطلّعون إليه، لأن الناس منذ قابيل وهابيل عرفوا كيف ينطلق الإنسان في عدوانيته التي تتحرك من خلال الحسد أو العناصر السلبية الأخرى في شخصيته ليقتل أخاه، وهكذا عاشت البشرية ظلماً بعد ظلم، وأرسل الله الأنبياء لإزاحة هذا الظلم، ولكن أعداء الله والحياة كانوا يقتلون النبيين بغير حق، كما هي سيرة اليهود في تاريخهم، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.

لذلك كانت مسألة المهدية في الإسلام التي خُتمت بها الإمامة التي تمثل الامتداد الحركي والثقافي للرسالة، فالأئمة(ع) رسل الرسول(ص)، وهم الذين ينطقون عنه ويؤصّلون كلَّ ما ورد من سنّته، ليقدّموها للناس، ليروا في السنّة تفاصيل الكتاب، وليروا في الكتاب عناوين السنّة.

ويلتقي المسلمون كلّهم بفكرة الإمام المهدي (عج)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته بأن الروايات التي وردت عن النبي (ص) في الإمام المهدي (عج) بلغت حد التواتر، بحيث أصبحت من الضروريات التي لا يمكن أن يشك فيها أحد. ولذلك، روى السنّة والشيعة عن رسول الله (ص) ذلك، فمن الروايات التي رواها علماء أهل السنّة: "لا تذهب الدنيا حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"، وعن أبي حذيفة الصحابي قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفرّ منهم بقلبه، فإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كل جبار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمّة بعد فسادها"، وهو(ص) يتحدث عن المستقبل الذي تتغير فيه حالة الإنسان من الظلم إلى العدل، ثم قال (ص): "يا حذيفة ـ وهو يشير إلى الشخصية التي يمكن أن تقود هذا التغيير الجذري ـ لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه ويُظهر الإسلام، لا يُخلف الله وعده، إنه سريع الحساب"، إنه وعد الله الذي لا بد أن يتحقق.

وفي الحديث عن النبي (ص) رواه أبو سعيد الخدري: "لا تنقضي الساعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما ملئت من قبل جوراً"، ويقول (ص): "إني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، ليؤكد (ص) من خلال هذا الحديث، أنه ما دام الكتاب بين أيدي المسلمين فهناك رجل من عترته في الموقع القيادي للإمامة، وهذا لا ينطبق إلا عليه(عج).

الأئمة(ع): إغناء العقل الإنساني

عندما نتذكره (عج) في هذه المرحلة من حياتنا، فكيف نستوحي ذلك؟ لن نخوض في الحديث عن مسألة طول العمر وقصره، لأنّ الله تعالى حدّثنا عن نبيه نوح(ع) أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والعلم يقول بأن لا مانع من أن يعيش الإنسان عندما يُكتشف سرّ الحياة آلاف السنين، والله تعالى حدّثنا عن خلود المتقين في الجنة وعن خلود الكافرين في النار، فالمسألة بُحثت ولم يبق فيها إشكال.

إن هناك كلاماً لا يزال يدور، وهو أن الإمامة تمثل في الواقع الإسلامي، على المستوى القيادي والثقافي والحركي، حضوراً دائماً متحركاً للإمام الذي يعيّنه الله تعالى من خلال رسوله (ص)، فما الفائدة من إمام يغيب عن أنظارنا لا نستمع إلى أي توجيه من توجيهاته، ولا إلى أي درس من دروسه، ولا نجد أي حركة قيادية في نشاطه؟ إن الجواب عن هذا هو أن الله تعالى جعل للإمامة دورين، دوراً يتحرك في تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه الإمام، وفي هذه الحالة يقوم الإمام ـ كما قام الأئمة الأحد عشر ـ بدوره في تأصيل الثقافة الإسلامية ضد من يريدون أن يهمّشوها، وفي الإيحاء بالحركة المواجهة للكفر والظلم وإيجاد الخطط اللازمة تبعاً للظروف المحيطة بالإمام.

وقد ترك الأئمة من أهل البيت(ع) ثروة ثقافية فكرية عقيدية شرعية منهجية حياتية، بما يكفي الناس في جزئياتها وكلياتها وفي كل قواعدها. ولهذا رأينا الإمام الحجّة(عج) في توقيعه الذي أرسله إلى بعض من سأله في أيام الغيبة الصغرى عن طريق سفرائه، عن بعض المسائل فأجاب عنها، ثم قال: "وأما الحوادث الواقعة ـ عند طروء بعض الأحداث التي تريدون أن تعرفوا حكمها والطريقة في العمل عليها ـ فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"، ورواة أحاديثهم هم العلماء الذين يحملون كل هذا التراث، ويعرفون كتاب الله معرفة ثقافية منفتحة على الحياة كلها وعلى الإنسان كله، والذين يعرفون سنّة رسول الله (ص) في ما صدر عنه من قوله وفعله وتقريره، ويعرفون ما صدر عن عليّ (ع) والأئمة من ولده، والذين استطاعوا إغناء العقل الإنساني والحياة الإنسانية بكل الثقافة الإسلامية، كما لو كان النبي والأئمة موجودين. فالإمام (عج) عندما استأثر الله بغيبته، لم يترك الأمة في فراغ ثقافي، لأن ما بقي للأمة من تراث إسلامي يمكن أن يملأ كل فراغها.

ولذلك لا نزال حتى الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه ينهل من معين هذا التراث، وكذلك كل المجمعات الثقافية والحوزات العلمية وكل ساحات الصراع الفكري مع الآخرين، ولا تزال الأمة من خلال علمائها ومفكريها تغتني بما لديها من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (ص) وتراث أئمة أهل البيت (ع)، مما اجتهد به المجتهدون وفكّر فيه المفكرون، من دون أن تشعر بأيّ فراغ هناك، كما لو كان الإمام (ع) موجوداً بينهم، لأن وجود الإمام لا يقتصر على وجوده البارز، ولكن يتمثل وجوده بوجود الإمامة، ووجود الإمامة إنما هو من خلال كل هذا الغنى الثقافي.

ولذلك إذا أردتم أن تستشعروا ذلك بوجدانكم، فإننا نذكر رسول الله (ص)، هل يحس أحد منكم أنه ميت؟ نحن نشعر أنه حيّ كما لو أنه أمامنا، لأننا عندما نعيش كل ما قاله وعمله في سيرته وما قرّره، نشعر أنه أمامنا، وهو أكثر حضوراً من كثير من الناس الذين يعيشون بيننا، وهكذا عندما نتذكر عليّاً(ع)، نشعر بأنه حيّ، لأن الحياة الفكرية والروحية هي امتداد للإنسان أكثر من الحياة المادية.. لذلك، نحن نشعر بأن رسول الله(ص) والأئمة (ع) من بعده والصحابة الذين كانوا معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم، لا يزالون أحياء بيننا في كل هذا التاريخ الذي يحمل فكر الإسلام. هذا دورٌ من أدوار الإمامة، وقد قام الأئمة بدورهم خير قيام في كل مسؤولياتهم القيادية والثقافية والروحية.

الإمامة المتحركة عالمياً

وهناك دور آخر للإمامة، وهو دور الإمامة المتحركة عالمياً وإنسانياً، والتي يختم الله فيها الحياة، كما جاء في حديث رسول الله (ص): "لا تنقضي الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يُظهر الإسلام ويهلك كل جبار عنيد، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وهذه الإمامة تختلف عن تلك، وإن كانتا تلتقيان في أصل المبدأ، فهما تتحركان من رسول الله ودين الله، لأن الإمام لا يأتي بدين جديد، فهم ينطلقون من الإسلام، ولذا نحن نقول في دعاء الافتتاح: "اللهم أظهر به دينك وسنّة نبيّك حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحدٍ من الخلق"، فالقضية أنه يأتي ليُظهر الدين ظهوراً فكرياً حركياً على مستوى العالم. والإمامة على مستوى العالم، في الحركة القيادية التي تجدد الحركة الثقافية بعد أن ابتعدت عن عقول الناس، تحتاج إلى إعداد إلهي مباشر، وذلك لتقريبها إلى عقول الناس بعد أن ابتعدت عنهم.

غيبته(عج) سر

ولذلك نحن لا نملك أي معلومات تفصيلية كيف هي حياة الإمام المهدي (عج)، لأن غيبته هي سرّ من أسرار الله، وغيبٌ من غيب الله لم يطلعنا عليه، ولأن الإمام(عج) يعيش في ذلك الأفق الإلهي الروحي الذي يصنعه الله فيه على عينه، كما أوحى الله تعالى إلى موسى (ع): "ولتُصنع على عيني"، فهناك، مما يحتفظ الله بسرّه، نوعٌ من الإعداد الروحي والفكري والنفسي والقيادي والحركي للإمام تحت سمع الله وبصره، لتتكامل شخصيته بشكل مباشر في رعاية الله وتربيته وإعداده لها، لأن دور الإمام(عج) هو أن يختصر كل رسالات الأنبياء في حركته ودوره. لذلك فلا بد له أن يعيش الأنبياء والأئمة بكل رسالاتهم ودعواتهم، ولا بد له أن يعيش الحياة كلها والإنسان كله تحت رعاية الله وليصنعه على عينه.

لذلك، فإن هذا سرّ من أسرار الله وغيب من غيبه استأثر الله به وأراد تعالى ـ بحسب حكمته وتدبيره ـ إعداده لهذا الدور العالمي الرحب، حتى لا يبقى في العالم شيء اسمه الظلم والباطل، ليعيش الناس أخلاق الجنة في الدنيا قبل أن ينتقلوا إلى الجنة في الآخرة، فللجنة أخلاقها وقوانينها وأجواؤها، فلا يجوز أن ندخل الجنة ونحن معقّدون وظالمون ومنحرفون، ونحن نكره بعضنا بعضاً ويتعصب بعضنا ضد بعض، إن عليّاً(ع) ـ ومَن منا يفهم عليّاً ـ يقول: "أبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يُخدع الله عن جنته".

رسالته العدل الشامل

في ذكرى هذه الولادة المباركة، وفي ليلة النصف من شعبان التي تصادف هذه الليلة، علينا أن نرتفع بأرواحنا إلى الله تعالى، ونفتح قلوبنا لله حتى ننزع منها كل حقد وبغضاء وسوء، لأن قلوبنا هي عرش الله، فهل تقبلون أن يكون عرش الله محلاً لعصبياتكم وأحقادكم وظلمكم؟ إن رسالة الإمام المهدي (عج) لكل الناس: كونوا مع العدل العالمي الشامل، كونوا مع كل صوت للعدل حتى لو كان هذا الصوت لا يلتقي معكم في دينكم، لأن الله تعالى يريد العدل لكل الناس، فالعدل فوق الصداقات والعداوات: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}. وقد عاش الإمام زين العابدين (ع) هذا الجو الرسالي في دعائه، إذ يقول: "اللهم ارزقني التحفظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل، في الدنيا والآخرة، في حال الرضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي".

نسأل الله تعالى أن يرينا تلك الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين والمستشهدين بين يديه، ليجعلنا مع محمد وآله (سلام الله عليهم) حتى نستطيع أن ننطلق معهم إلى الله ولا شيء إلا الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانتظروا الانطلاقة الكبرى التي يراد لكم أن تندفعوا فيها مع جيش الحق من أجل تأكيد الحق، وفي جيش العدل مع إمام العدل، حتى تشاركوا في تحقيق وتنفيذ رسالة العدل الشامل الذي ينطلق من خلال خط الإسلام الشامل، هذا الخط الذي انطلق من كتاب الله وسنّة رسول الله. إننا مدعوون منذ الآن أن لا يكون انتظارنا سلبياً وعاطفياً، وإن كان للعاطفة دور. بعض الناس يقتصر على الدعاء ويتصوّر أنه لمجرد الدعاء للإمام قد أدى مسؤوليته. إن الانتظار هو انتظار التغيير الشامل، انتظار أسلمة العالم في خط العدل للعالم كله، لذلك في مرحلة الانتظار، لا بد أن ينطلق كل واحد منا ليكون داعيةً إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه ومواجهة المستكبرين والظالمين، وفي كل ما يصيب الإسلام من أخطار وتحديات. إن النبي (ص) الذي أرادنا الله تعالى أن نتأسى به، قال له: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}،عبء التحدي والمواجهة والجهد الذي لا يهدأ، ونحن لا بد أن نشعر عندما التزمنا بالإسلام فإن هناك قولاً ثقيلاً، لنغني ثقافة الإٍسلام بثقافتنا، وجهاده بجهادنا، وسياسته بسياستنا..

إننا في هذه المرحلة من حياتنا نعيش في أكثر من حالة طوارئ، نعيش في داخل الزلزال السياسي والأمني والثقافي الذي يريد أن يفرضه المستكبرون علينا، وعلينا أن نرفض ذلك بالعمل والجهاد والوحدة، فلا مكان للذين يعملون للفتنة بين الأمة في الصغير والكبير، ليكن الصوت واحداً: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}، أن نعمل على أساس أن نكون للإسلام كله. وفي هذا الجو نسأل ماذا هناك، لأننا ـ كما قلنا ـ قبل أكثر من أسبوع، لا بد أن نعرف من هم أعداؤنا، أعداء الإنسانية والإسلام، لا بد أن نفحص كل خلفياتهم وخططهم ولا ننخدع بكلماتهم ودموعهم التماسيحية، فماذا هناك؟

بوش: شرعنة الاحتلال

هل فَقَدَ الرئيس الأمريكي توازنه الإنساني لمصلحة الخط اليميني لإدارته الخاضعة للصهيونية، التي تحوّلت إلى ملحق أمني وسياسي للإدارة الإسرائيلية؟ كيف يحترم الرئيس "بوش" موقعه ودولته وعقله ـ وهو المنادي بالحرية وحقوق الإنسان ـ في تصريحه الذي برّر فيه العدوان الإسرائيلي على سوريا، وأكد أن على "شارون الدفاع عن بلده"، بحسب تصريحه، مذكّراً بأن إسرائيل تعرّضت لهجوم من خلال عملية "حيفا"، ومؤكداً بأننا "سنفعل الأمر ذاته لو كنا مكانه"، على حدّ تعبيره؟؟

لقد هدّد "شارون" بضربات في أيّ مكان، من خلال الضوء الأخضر الأمريكي الذي يوحي بأن حرب أمريكا وإسرائيل واحدة ضد شعوب المنطقة، ما لم تخضع للقرارات المفروضة عليها من خلال أمريكا الملحقة سياسياً بإسرائيل؟!

إننا نسأل الرئيس الأمريكي: هل حقق في أن منفذي العمليات الاستشهادية الفلسطينية يأخذون تعليماتهم من المنظمة في سوريا، أم أن هذه كذبة جديدة تضاف إلى الأكاذيب الأمريكية ـ الإسرائيلية لتبرير العدوان؟ وهل قدّمت مخابراته له تقريراً بأن الجيش الصهيوني لم يضرب معسكر تدريب، بل مخيّماً بائساً للاجئين الذين شرّدتهم إسرائيل من وطنهم؟

ثم، إن هذا الرئيس يكرر دائماً بأن "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها من أجل تأكيد استقلالها"، على حدّ زعمه، ولكننا لم نسمع منه ـ ولو لمرة واحدة ـ حديثاً عن حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وعن حقه في تحرير بلده من الاحتلال؟.. وإذا كان "بوش" يتحدث عن خارطة الطريق وامتنانه على العرب والمسلمين بحديثه كأول رئيس أمريكي عن دولة فلسطينية، فإنه لم يتقدّم خطوة واحدة لتحقيق ذلك إلا بتسجيل النقاط السلبية على المجاهدين في فلسطين!!

إنه يتباكى على أطفال اليهود، ولم يذرف دمعة واحدة على أطفال الفلسطينيين ونسائهم وشيوخهم من المدنيين، ولم يستنكر تدمير المزارع أو بناء الجدار العنصري إلا بطريقة النفاق السياسي للاستهلاك الساذج لإرضاء العرب والمسلمين..

إن "بوش" يؤكد في تصريحاته شرعنة الاحتلال للشعب الفلسطيني، كما هو الاحتلال الذي قام به للعراق، من دون أن يسمح للعرب والمسلمين بالحديث عن الفرق بين الإرهاب والمقاومة، لأنه يتحرك بعقلية امبراطورية دكتاتورية، فلا حق ـ عنده ـ لأيّ جهة في أن تناقش الرئيس في طروحاته، لأنه ليس من حق شعوب العالم الثالث أن تعارض "امبراطور العالم"، كما تعبّر إدارته..

إن الرئيس "بوش" يعمل ـ من خلال إدارته ـ على إيجاد حالة من الكراهية للسياسة الأمريكية، ولن تنفعه الأجهزة الإعلامية في رفع هذه الكراهية.. وإننا في الوقت الذي نؤكد فيه أننا نريد صداقة الشعب الأمريكي ونحترم تطوره العلمي والتكنولوجي، ونأمل أن يأخذ بأسباب التطور الإنساني في التعاطف مع الشعوب المستضعفة في تطلعاتها للحرية، ندعو هذا الشعب إلى الوقوف في وجه هذه الإدارة التي سوف تعزل أمريكا عن وجدان العالم بفعل الغطرسة الاستكبارية.

مواجهة العدو بخطة حاسمة

إننا نطالب العرب والمسلمين ـ شعوباً وحكومات ـ أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، لأن المشروع "الشاروني" ـ "الليكودي"، الذي تدعمه الإدارة الأمريكية، يخطط لإبادة الشعب الفلسطيني بشكل تدريجي، من خلال هذه الحرب المتحركة التي تشمل كل فئات هذا الشعب وكل عمرانه ومزارعه، ولأن التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل لن يوفِّر أيّ بلد عربي أو إسلامي من عدوانه على أساس التهمة الجاهزة، وهي "حماية الإرهاب ودعمه"، أو "العدوان على إسرائيل"..

إن البيانات الإنشائية لا تقدّم شيئاً، بل المفروض تحريك المصالح الاقتصادية والسياسية للعدو المشترك ومواجهته بخطة حاسمة، الأمر يتعلق بمستقبل الأمة كلها، ولا حماية لأحد حتى لحلفاء الاستكبار، لأن أمريكا لا تحترم الذين يخافونها ويخضعون لها.

ومن جهة أخرى، فإن العراق لا يزال يعاني من الفوضى الأمنية تحت نير الاحتلال، ما يتسبب في قتل المدنيين برصاص الجنود الأمريكيين الذين لا يحترمون إنسانية العراقيين وحياتهم، من خلال الطريقة العشوائية التي يديرون فيها الفوضى الأمنية لجنودهم، حتى أصبحت المسألة عندهم هي الأمن للجنود الأمريكيين لا للشعب العراقي..

إن هناك صوتاً واحداً في العراق موجَّهاً للاحتلال يقول: انسحبوا من العراق، فالعراقيون قادرون على إدارة أمورهم بأنفسهم وليسوا قاصرين، ولا هم بحاجة إلى ولاية سياسية أمريكية.

ندين الفتنة بين المسلمين

ومن جانب آخر، فقد تابعنا الأحداث الدامية المؤلمة التي وقعت بين المسلمين في باكستان، في عمليات الفعل بقصف حافلة للمصلّين الشيعة المتجهين إلى صلاة الجمعة، ورد فعل من خلال قتل زعيم سنّي من "جيش الصحابة"، مع ما صاحبه من نداءات حاقدة بالتكفير للمسلمين الشيعة والدعوة إلى قتلهم، مع الهجوم على المواقع الدينية والمؤسسات الأهلية..

إننا نقول للجميع: إن مشكلة الشيعة في العالم ليست السنّة، وإن مشكلة السنّة ليست الشيعة، بل المشكلة هي الاستكبار العالمي الذي يعمل على مصادرة كل الواقع الإسلامي في سياسته وأمنه واقتصاده.. وإن التكفير المتبادل لا يمثّل أية ذهنية إسلامية، لأن الله تعالى قد وضع لنا قاعدةً قرآنية في إدارة الخلافات المذهبية في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، ما يفرض على الجميع الحوار الموضوعي العقلاني الذي يبحث عن الاختلاف في مصادره الأصيلة..

إننا ندين كل المحاولات الساعية لإيجاد الفتنة بين المسلمين وكل أساليب العنف، وندعو علماء المسلمين في باكستان إلى التدخّل لإطفاء هذه الفتنة التي سوف تحرق الأخضر واليابس.. كما ندعو العلماء والفعاليات الإسلامية بشكل عام إلى العمل على تأكيد الوحدة الإسلامية على أساس الاعتصام بحبل الله جميعاً، لأن الأخطار المحدقة لا تتهددنا كسنّة أو كشيعة فقط، بل كمسلمين في العالم كله، ولا بد أن يرتفع صوت العقل في مواجهة صوت الفتنة، فالفتنة نائمة ولعن الله من يوقظها.

المجتمع الدولي: إسرائيل أولاً!!

أما في لبنان، الذي يتعرّض بشكل شبه يومي للاعتداءات الإسرائيلية في البر والبحر والجو، من دون أن يستنكر أيّ موقع دولي ـ بما في ذلك أمريكا ـ كل هذه الاعتداءات، بل إن الجميع اندفعوا ليطالبوا بالتهدئة وعدم توتير الأجواء لمصلحة إسرائيل لا لمصلحة لبنان، لأن القضية في الواقع الدولي هي: إسرائيل أولاً..

إننا ندعو الشعب اللبناني كله، بما في ذلك المسؤولين على مختلف المستويات، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة في تثبيت الوطن وحماية استقلاله، وتفعيل المؤسسات التي قد تساهم في بعض الحلول إذا لم يتدخّل فيها الذين يصادرونها لمصالحهم الخاصة..

إن المرحلة ـ في خط الإصلاح ـ هي في التزاوج بين الإصلاح السياسي والإصلاح الإداري، اللذين يمكن أن يتكاملا في تحقيق الإصلاح الاقتصادي لحل المشكلة الاقتصادية في البلد، كما أن من الواجب على الجميع أن يبتعدوا عن اللغو الذي يدور في الصالونات، وعن اللعبة الطائفية التي تلعب بالوطن، لأن الدوّامة التي تطغى في أجواء المنطقة قد تصادر الجميع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية