الإمام الكاظم(ع): تجسيد لنهج الانفتاح على الله وعلى قضايا الناس

الإمام الكاظم(ع):  تجسيد لنهج الانفتاح على الله وعلى قضايا الناس

الإمام الكاظم(ع):  تجسيد لنهج الانفتاح على الله وعلى قضايا الناس


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}.من أئمة هذا البيت النبوي الطاهر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب.

انفتاحٌ على الواقع

والإمام الكاظم (ع) هو من الأئمة الذين كانت حياتهم منفتحة على الواقع الإسلامي كله، وكان يمثّل التحدي القوي الهادئ لحكّام زمانه من بني العباس، في الوقت الذي كان يعيش مع الناس ليتابع كل قضاياهم ومشاكلهم وأفكارهم، وكان (ع) يتميّز بالخلق العالي العظيم الذي يجسّد خلق رسول الله (ص)، وقد سُمّي الكاظم تصويراً لهذا الخلق، لأنه كان يواجه الكثير من الآلام والإيذاء والإساءة من كثير من الناس، وكان يكظم غيظه ويدفع السيئة بالحسنة، وكان يُحسن إلى من أساء إليه.

وينقل كتّاب سيرته أن شخصاً في المدينة من الوجهاء كان يحمل الحقد في نفسه للإمام الكاظم (ع)، حتى وصل الأمر بشيعة الإمام (ع) إلى أن يطلبوا منه الإذن في قتله، لأنه كان يتحدث عنه بطريقة فيها الكثير من الإساءة والإهانة، وكان (ع) يمنعهم من ذلك، وذهب إلى هذا الرجل في زيارة له في مزرعة من مزارعه، وقد دخل الإمام (ع) بدابته التي كان يركبها إلى المزرعة، ولكن هذا الإنسان بدل أن يستقبل الإمام صرخ به: "لا توطىء زرعنا"، ولكن الإمام (ع) تقدّم وجلس إلى جانبه وتحدث معه بطريقة منفتحة، ثم قال له: "كم غرمت في زرعك هذا"؟ فقال له: مائة دينار، قال: "وكم ترجو أن تصيب فيه؟" ـ لا كم تحصّل ـ قال: أرجو أن يجئيني فيه مائتا دينار، فأخرج الإمام (ع) صرّة فيها ثلاثمائة دينار وأعطاه المبلغ وزرعه على حاله، وبدأ الإمام (ع) يحادثه ويحاسنه، حتى قام هذا الرجل وودّع الإمام بأفضل ما يكون، وذهب الإمام إلى المسجد النبوي الشريف، ودخل هذا الرجل إلى المسجد، وما إن شاهد الإمام حتى رفع صوته وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، ثم التفت الإمام الكاظم (ع) إلى أصحابه وسألهم: هل هذه الطريقة أفضل أم طريقتكم؟ والله تعالى يقول: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم}.

قمة في الروحانية والعبادة

وكان (ع) معاصراً لهارون الرشيد الذي كان يخشى على ملكه منه، ليس لأن الإمام (ع) دخل في صراع معه في مسألة الملك، ولكن للثقة الواسعة التي كان يملكها الإمام في العالم الإسلامي، ولا سيما من جانب العلماء والنخبة في المجتمع، حيث كانوا يأخذون من علمه، ويستفيدون منه، ويرون فيه القمة في المعرفة والروحانية والعبادة والإخلاص لله. ولذلك، قام هارون الرشيد باعتقال الإمام الكاظم (ع) ونقله من سجن إلى سجن، حيث كان السجّان في بعض هذه السجون لا يملك إلا أن يُحسن إليه، وكان يضع العيون ليرى هل يذكر هارون بسوء أو يدعو عليه، فكانت التقارير تفيد بنتيجة واحدة، وهي أنه كان يقضي ليله ونهاره بالعبادة، وكان مما قاله: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت، فلك الحمد". كان يشعر بالسعادة في سجنه، لأنه لا يشغله أيّ شيء عن ذكر الله وعبادته. وهذه المعاملة أدخلت الإمام إلى قلب السجّان الذي أرسل إلى هارون: إذا لم تفرِّج عنه أو تأخذه مني فسأفرج عنه أنا، ولذلك رأى الرشيد أنه لا بدّ من التخلّص منه، فدسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك".

الولاية اتّباع واقتداء بالأئمة(ع)

وقد عانى الإمام الكاظم(ع) الكثير في هذه السجون، ولذلك نقترح أن يكون يوم الخامس والعشرين من رجب يوم الأسير. ولكن بالرغم من كل ذلك، لم تمنعه آلامه ومعاناته من متابعة شؤون الأمّة وقضاياها، ليراقب كل التطورات الفكرية في المجتمع، وكل الانحرافات التي كانت تصيب الواقع الإسلامي من خلال ما يأتي إليه من هذا البلد أو ذاك، أو من هذا الفكر أو ذاك. ولو درسنا تراث الإمام الكاظم(ع)، لرأيناه تراثاً متنوعاً ينفتح على العقيدة والشريعة والفلسفة والتاريخ والتفسير وعلى قضايا الإنسان، وحتى إنه كان يشجّع الثورات التي قامت في عهده ضد ظلم بني العباس.

ونحن أمام هذه الذكرى، لا بد لنا أن نتابع حركة أئمتنا في كل ما قالوه وفعلوه، لنشعر بالتواصل معهم في كل زمان ومكان، لأن هذا هو معنى الولاية لهم (ع) بأن نتبعهم ونقتدي بهم في كل ما قالوه وفعلوه. هناك أحاديث عالج فيها الإمام الكاظم (ع) أكثر من جانب في التربية والموعظة، في حديثه الذي رواه أحد أصحابه، وهو "سماعة" قال: سمعت أبا الحسن موسى (ع) يقول: "لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً". والإمام (ع) يعالج حالة الذين قد يعملون الخير فيُخيّل إليهم أنهم قد قاموا بواجبهم، ليوجّهنا ويقول لنا إن مسألة الخير ليست مسألة محدودة بكمّ معيّن، بل إن الخير يمثّل في إنسانية الإنسان وإيمانه كل حركة حياته، فما دام يملك طاقةً للخير، فإن مسؤوليته هي أن يفجِّر هذه الطاقة في عمل الخير في كل موقع يستطيع فيه أن يعمله، ليبدأ الخير من بداية طاقاته ولا ينتهي إلا مع نهاية عمره، لأن الخير مسؤوليته تجاه نفسه بما يبني فيه نفسه، وتجاه الناس فيما يمكن أن يقدّمه للناس. كما أن البعض قد يفكر بأنه ليس عليّ ذنوب وتبعات، لم أزنِ ولم أسرق، فقط قمت بأشياء صغيرة، ولكن الإمام الكاظم (ع) يقول بأن هذه الأشياء الصغيرة المتناثرة عندما تجمعها فإنها تصبح كثيرة وكبيرة، والمشكلة أن استصغار الذنب يشجّع على المعصية.

ثم يتابع الإمام الكاظم (ع) كلامه فيقول: "وخافوا الله في السرّ والعلانية ـ لأن الله يعلم السرّ وأخفى ـ حتى تعطوا من أنفسكم النصف ـ حتى تكونوا منصفين مع الناس في ما للناس عليكم من حق، فلا تحتاجوا إلى حاكم وقضاء يثبت الحق للناس، بل أن تراقبوا الله ـ وسارعوا إلى طاعة الله ـ قبل أن تفوتكم فرص الطاعة ـ واصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحلّ لكم فإن ذلك عليكم".

تحمّل المسؤولية في قول الحق

وفي بعض كلماته (ع) سأله رجل عن الجواد الكريم، قال: "إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوقين ـ الكريم من الناس ـ فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه ـ الذي يؤدي حق الله في ماله من الخمس والزكاة، لأن هذا يدل على أنه قد انتصر على حالة البخل في نفسه ـ والبخيل من بخل بما افترض الله عليه ـ كثير من الناس مستعد أن يتبرع للزعماء والحملات الانتخابية والمهرجانات الاستعراضية، أما عندما تحدثه عن الحقوق الشرعية فإن السماء تسقط على الأرض ـ وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى والجواد إن منع، لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك". وقال (ع) لبعض شيعته: "أي فلان، اتقِ الله وقل الحق وإن كان فيه هلاكك ـ كن من الذين لا يخشون في الله لومة لائم حتى لو تضررت بذلك، لأن الحق مرّ وكريه مطعمه، فلو أن الناس حسبوا حسابات النتائج السلبية من قول الحق لما قاله أحد، ولذلك لا بد أن نتحمل المسؤوليات الكبرى في قول الحق ـ فإن فيه نجاتك ـ عند الله تعالى ـ ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك"، لأنك عندما تأخذ بالباطل فإن الله سيحاسبك على ذلك.

الحياديون خائنون

وفي حديث آخر يعالج الإمام الكاظم (ع) حالة اللاموقف عند بعض الناس، لا سيما أمام الأزمات والتحديات بين الحق والباطل، فيؤكد الإمام (ع) أن الإنسان المنتمي إلى الحق هو إنسان الموقف، لأنه عندما لا يكون لك موقف فإنك لا تخذل الحق فقط ولكنك تشجّع الباطل تشجيعاً سلبياً، وعندما تكون اللاموقف فإنك اللاإنسان، لأن الإنسان اللاموقف واللامبالاة هو الإنسان الذي لا يحترم ذاته، أما الحياديون فإنهم الخائنون، لأنهم يحجبون طاقاتهم عن أمتهم. يقول(ع) لأحد أصحابه: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة"، قلت: وما الإمّعة؟ قال(ع): "لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحدٍ من الناس، إن رسول الله(ص) قال: يا أيها الناس، إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير". إن معنى هذا أن تتخذ موقفاً لحساب الخير لا لحساب الشر، وأن لا تكون حيادياً بين الخير والشر.

احترام إنسانية الإنسان

وفي موقف آخر، يبيّن الإمام الكاظم (ع) جانب احترام الإنسان للإنسان الآخر، مهما كان الواحد منهما في درجة عالية من المكانة الاجتماعية. يروى أن الإمام الكاظم (ع) مرّ برجل من أهل السواد، دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض (ع) عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له، فقيل له: يابن رسول الله، أتنزل إلى هذا وتسأله عن حوائجه إليك وهو إليك أحوج؟ فقال (ع): "عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم (ع) وأفضل الأديان، ولعل الدهر يردّ من حاجاتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين"، ثم قال: "نواصل من لا يستحق وصالنا مخافة أن نبقى بغير صديق". وكان يقول لكل واحد منا: "ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله وتاب إليه".

هذا هو منهج أهل البيت (ع)، هذا هو خطهم، وهذا هو الطريق المستقيم، وعلينا أن نلتزم هذا الخط بالسير على منهاجهم، لأنهم الدعاة إلى الله والأدلاّء عليه، والأمناء على دينه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المرحلة بصوت واحد هو صوت الحق، وموقف واحد هو موقف العدل، ومسيرة واحدة هي مسيرة العزة والكرامة والحرية، وواجهوا الموقف أمام التحديات التي يتحرك بها الاستكبار العالمي بكل وسائله وأوضاعه من أجل أن يُسقط مواقفنا ويصادر أوضاعنا ويسرق ثرواتنا، ويحوّل كل حياتنا إلى هامش اقتصادي وسياسي وأمني.

ونحن نواجه في هذه المرحلة حملة أمريكية شرسة، تقف مع العدو الصهيوني بالمطلق ضد المستضعفين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وتعمل على تكثيف احتلالها للعراق وتهديد أكثر الدول المحيطة به، ما يجعل الموقف في مستوى الخطورة التي لا بد للأمة كلها من أن تجمد خلافاتها وتستنفر طاقاتها حتى تملك أمرها وتقوّي موقفها.. إن المرحلة تفرض علينا أن نرتفع إلى مستوى المسؤولية والتحدّي، حتى نستطيع أن نمنع الاهتزاز في أرضنا بمنع الاهتزاز في مواقفنا، لتثبيت هذه المواقف من أجل قضايانا المصيرية، ولنبدأ بدراسة الأحداث التي تمثل التحدي الاستكباري، ولا سيما الأمريكي، فماذا هناك:

حق "النقض" لحماية الكيان العبري

تتحدث الدول الكبرى ـ ولا سيما أمريكا ـ في نطاق الأمم المتحدة عن الديمقراطية، ولكن هذا ينحصر في الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي لها حق "النقض" لأيّ قرار يحظى بأكثرية أصوات المجلس، إلغاءً وإهداراً لمصالح الدول الأخرى إذا اختلفت مع حركة مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ما يجعل هذا المجلس ممثلاً لمصالح هذه الدول في خلافاتها واتفاقاتها، من دون أن تملك شعوب العالم أية ضمانة لحقوقها من خلال هذا المجلس إلا ببَرَكة هذه الدول..

وهذا ما نلاحظه في تاريخ قرارات مجلس الأمن، ولا سيما في مواقف أمريكا الداعمة لإسرائيل بالمطلق، حتى إنها استخدمت حق النقض عشرات المرات لحماية الكيان العبري من القرارات التي تدين احتلاله ومجازره وإبادته للشعب الفلسطيني، من دون أن يصدر من أمريكا أيّ قرار لمصلحة هذا الشعب، بل إنها تعمل وتخطط وتضغط لإدانة المجاهدين للاحتلال، لأن أمريكا لا ترفض احتلال فلسطين من قِبَل الصهاينة، بل تؤكده وتدعمه باعتبار أنه "دفاع عن النفس"، على حدّ زعمها!!

وكان آخر نقض لقرار مجلس الأمن هو القرار الأخير برفض طرد "عرفات" أو قتله، فقد أصرّت على تضمين القرار شجب المنظمات المقاوِمة للاحتلال باعتبارها "منظمات إرهابية"، للحصول على قرار دوليّ في ذلك.. وكان هذا الفيتو الأمريكي صفعة للعرب كلهم باعتبار أن القرار عربي، كما أنه إلغاءٌ لكل الدول الأعضاء التي صوّتت لمصلحة القرار في مجلس الأمن..

السعي لإلغاء الفيتو

إن أمريكا تريد أن تجعل القرار الحكومي "الشاروني" سيفاً مسلّطاً على الشعب الفلسطيني، من أجل الضغط السياسي والأمني عليه، لا سيما بعد التفاف هذا الشعب على القيادة الفلسطينية ضد قرار إسرائيل إبعادها، ما يمثّل تصويتاً شعبياً شاملاً ضد السياسة الأمريكية في خططها "الشارونية" ضد حرية الفلسطينيين.

وإننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الثالث، إلى الوقوف بحزم والتخطيط لإلغاء نظام "الفيتو" الذي يصادر حقوق هذه الشعوب لمصلحة المستكبرين من الدول الكبرى، لأن هذا النظام يمثّل لوناً من ألوان الامبراطورية الاستكبارية لهذه الدول الغنيّة التي تتحرك لمصادرة مقدّرات الشعوب الأخرى على قياس مصالحها، من خلال تقاسم الحصص في غنيمتها لثروات المستضعفين..

وعلى الدول العربية والإسلامية أن تحترم نفسها باحترام شعوبها في مصالحها الحيوية وقضاياها المصيرية، ولا تسقط تحت تأثير الضغوط الأمريكية التي تسخّرها لحماية سياستها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وذلك باعتماد المواقف الضاغطة على أمريكا وإسرائيل، وعدم الاكتفاء بالقرارات التي لا تعني شيئاً.

محاسبة سوريا: دعم لاحتلال العراق

ونلتقي في دائرة الحقد الأمريكي ضد العرب والمسلمين بجلسات الكونغرس الأمريكي ضد سوريا ـ مع تعاطف متحرّك من قِبَل الإدارة الأمريكية معه ـ في اقتراح قانون محاسبة سوريا بالاتهامات الكاذبة وبالدعم المشروع للشعب الفلسطيني واللبناني.. وبالتدقيق في المسألة، فإن هذه الإدارة تعمل للضغط على سوريا من أجل دعم احتلالها للعراق بعد فشلها في إدارته، وهذا هو الأمر المستحيل في السياسة العربية السورية، لاصطدامه بالمسلّمات المصيرية للأمة كلها..

سوريا ليست المشكلة للبنان

وإننا ننصح الذين يقفون مع الكونغرس اليهودي الصهيوني، أن يعرفوا حقيقة سياسية حاسمة، وهي أن أمريكا لن تمنح هؤلاء الذين يساعدونها ضد أمتهم أيّ موقع، لأنها لا تحترم الذين لا يحترمون شعوبهم ويتحركون في سياستهم من موقع العقدة، وقد لاحظ الجميع أنهم لم يقفوا ضد الاحتلال الإسرائيلي ولم يحاربوه ولم يطلقوا رصاصة ضده، بل تعاونوا معه ـ بطريقة وبأخرى ـ ضد شعوبهم.. إن الذين يبيعون أنفسهم للمستكبرين سوف يلفظهم هؤلاء لفظ النواة، لأن الذين لا يحترمون أمتهم لا يمكن أن يثق أحد بهم.. إن على الجميع أن يعرفوا أن سوريا ليست المشكلة للبنان، بل إن إسرائيل وأمريكا هما المشكلة له وللعرب أجمعين.

إسرائيل هي الخطر

وتبقى الضغوط الأمريكية والأوروبية على إيران من خلال وكالة الطاقة الدولية الخاضعة للنفوذ السياسي الأمريكي ـ حالياً على الأقل ـ من أجل إذلال إيران ومنعها من الحصول على الخبرة النووية للأغراض السلمية والتكنولوجيا العلمية، لأن المطلوب لدى أمريكا أن لا تملك دولة إسلامية في المنطقة ميزان القوة، لتبقى إسرائيل وحدها مالكة لأسلحة الدمار الشامل، بالرغم من أن إيران وقّعت على معاهدة حظر السلاح النووي..

وإننا ـ في هذه المناسبة ـ نطلب من العرب الذين يطرحون الآن التوقيع على قرار حظر الأسلحة النووية من دول المنطقة وغيرها بما فيها إسرائيل، إننا نطلب منهم أن لا يضعفوا أمام أمريكا التي تمنع ذلك، وأمام إسرائيل التي تصرّح بأنها لن توقّع حتى يحصل السلام الشامل، بحسب تعبيرها.. ونحن نعلم ـ والجميع يعلم ـ أن إسرائيل المتحالفة مع أمريكا بالمطلق هي التي تمثّل الخطر على المنطقة وليست إيران.. وعلى العرب أن يعرفوا الازدواجية الأمريكية المنافقة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بالتزامها المطلق بأمن إسرائيل، وبإسقاط الأمن العربي والإسلامي.

الأمم المتحدة لحماية الاحتلال في العراق

ومن جهة أخرى، فقد بدأت أمريكا الضغط السياسي والاقتصادي والأمني، لتغطية فشلها في العراق الذي هيّأت كل الظروف السلبية لإعلانه كساحة لللإرهاب، ما يفرض عليها البقاء طويلاً فيه، لا للقيام بتحقيق أمن الشعب العراقي وخدماته الحياتية ومؤسساته العامة..

وهذا هو الذي جعلها تدخل في مساومة الأمم المتحدة وممثلي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لاستصدار قرار بإرسال قوات دولية من قِبَل الأمم المتحدة لحماية جنودها في داخل العراق، ولكن مع بقاء القيادة المطلقة للاحتلال الأمريكي، بالإغراء تارةً وبالترهيب أخرى.. وتبقى حركة اللعبة الاستكبارية في يد أمريكا، ويبقى العراقيون في داخل الدوّامة، والسؤال: إلى متى؟

لبنان: هل من محاسبة للكبار!!

أما في لبنان، فإن اللبنانيين يتساءلون بكل مرارة: هل يملك القائمون على لبنان محاسبة الكبار الكبار من خلال الفريق الذي يحرّكونه من الصغار الذين ينفّذون الأوامر، ويدفعون الحصة الكبرى مما يهدرون ويسرقون لأسيادهم، أم أن الخطة هي القبض على الصغار باعتبار أنهم سبب الفساد؟!

ثم إن اللبنانيين يطلبون الوضوح بطريقة سياسية وقضائية عن الملايين التي قيل إنها دُفعت لإغلاق ملف اقتصادي هنا أو سياسي هناك، ليعرفوا الحقيقة في ذلك.. إن المؤسسات في الدولة تملك قوانين المحاسبة والمراقبة والمحاكمة، ولكن السؤال هو: هل يريد القائمون على مقدّرات البلد طائفياً وسياسياً واقتصادياً أن يكون لبنان دولة؟؟ ربما كان الجميع ـ أو الأكثرية ـ لا يريدون ذلك.

الإمام الكاظم(ع):  تجسيد لنهج الانفتاح على الله وعلى قضايا الناس


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}.من أئمة هذا البيت النبوي الطاهر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب.

انفتاحٌ على الواقع

والإمام الكاظم (ع) هو من الأئمة الذين كانت حياتهم منفتحة على الواقع الإسلامي كله، وكان يمثّل التحدي القوي الهادئ لحكّام زمانه من بني العباس، في الوقت الذي كان يعيش مع الناس ليتابع كل قضاياهم ومشاكلهم وأفكارهم، وكان (ع) يتميّز بالخلق العالي العظيم الذي يجسّد خلق رسول الله (ص)، وقد سُمّي الكاظم تصويراً لهذا الخلق، لأنه كان يواجه الكثير من الآلام والإيذاء والإساءة من كثير من الناس، وكان يكظم غيظه ويدفع السيئة بالحسنة، وكان يُحسن إلى من أساء إليه.

وينقل كتّاب سيرته أن شخصاً في المدينة من الوجهاء كان يحمل الحقد في نفسه للإمام الكاظم (ع)، حتى وصل الأمر بشيعة الإمام (ع) إلى أن يطلبوا منه الإذن في قتله، لأنه كان يتحدث عنه بطريقة فيها الكثير من الإساءة والإهانة، وكان (ع) يمنعهم من ذلك، وذهب إلى هذا الرجل في زيارة له في مزرعة من مزارعه، وقد دخل الإمام (ع) بدابته التي كان يركبها إلى المزرعة، ولكن هذا الإنسان بدل أن يستقبل الإمام صرخ به: "لا توطىء زرعنا"، ولكن الإمام (ع) تقدّم وجلس إلى جانبه وتحدث معه بطريقة منفتحة، ثم قال له: "كم غرمت في زرعك هذا"؟ فقال له: مائة دينار، قال: "وكم ترجو أن تصيب فيه؟" ـ لا كم تحصّل ـ قال: أرجو أن يجئيني فيه مائتا دينار، فأخرج الإمام (ع) صرّة فيها ثلاثمائة دينار وأعطاه المبلغ وزرعه على حاله، وبدأ الإمام (ع) يحادثه ويحاسنه، حتى قام هذا الرجل وودّع الإمام بأفضل ما يكون، وذهب الإمام إلى المسجد النبوي الشريف، ودخل هذا الرجل إلى المسجد، وما إن شاهد الإمام حتى رفع صوته وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، ثم التفت الإمام الكاظم (ع) إلى أصحابه وسألهم: هل هذه الطريقة أفضل أم طريقتكم؟ والله تعالى يقول: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم}.

قمة في الروحانية والعبادة

وكان (ع) معاصراً لهارون الرشيد الذي كان يخشى على ملكه منه، ليس لأن الإمام (ع) دخل في صراع معه في مسألة الملك، ولكن للثقة الواسعة التي كان يملكها الإمام في العالم الإسلامي، ولا سيما من جانب العلماء والنخبة في المجتمع، حيث كانوا يأخذون من علمه، ويستفيدون منه، ويرون فيه القمة في المعرفة والروحانية والعبادة والإخلاص لله. ولذلك، قام هارون الرشيد باعتقال الإمام الكاظم (ع) ونقله من سجن إلى سجن، حيث كان السجّان في بعض هذه السجون لا يملك إلا أن يُحسن إليه، وكان يضع العيون ليرى هل يذكر هارون بسوء أو يدعو عليه، فكانت التقارير تفيد بنتيجة واحدة، وهي أنه كان يقضي ليله ونهاره بالعبادة، وكان مما قاله: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت، فلك الحمد". كان يشعر بالسعادة في سجنه، لأنه لا يشغله أيّ شيء عن ذكر الله وعبادته. وهذه المعاملة أدخلت الإمام إلى قلب السجّان الذي أرسل إلى هارون: إذا لم تفرِّج عنه أو تأخذه مني فسأفرج عنه أنا، ولذلك رأى الرشيد أنه لا بدّ من التخلّص منه، فدسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك".

الولاية اتّباع واقتداء بالأئمة(ع)

وقد عانى الإمام الكاظم(ع) الكثير في هذه السجون، ولذلك نقترح أن يكون يوم الخامس والعشرين من رجب يوم الأسير. ولكن بالرغم من كل ذلك، لم تمنعه آلامه ومعاناته من متابعة شؤون الأمّة وقضاياها، ليراقب كل التطورات الفكرية في المجتمع، وكل الانحرافات التي كانت تصيب الواقع الإسلامي من خلال ما يأتي إليه من هذا البلد أو ذاك، أو من هذا الفكر أو ذاك. ولو درسنا تراث الإمام الكاظم(ع)، لرأيناه تراثاً متنوعاً ينفتح على العقيدة والشريعة والفلسفة والتاريخ والتفسير وعلى قضايا الإنسان، وحتى إنه كان يشجّع الثورات التي قامت في عهده ضد ظلم بني العباس.

ونحن أمام هذه الذكرى، لا بد لنا أن نتابع حركة أئمتنا في كل ما قالوه وفعلوه، لنشعر بالتواصل معهم في كل زمان ومكان، لأن هذا هو معنى الولاية لهم (ع) بأن نتبعهم ونقتدي بهم في كل ما قالوه وفعلوه. هناك أحاديث عالج فيها الإمام الكاظم (ع) أكثر من جانب في التربية والموعظة، في حديثه الذي رواه أحد أصحابه، وهو "سماعة" قال: سمعت أبا الحسن موسى (ع) يقول: "لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً". والإمام (ع) يعالج حالة الذين قد يعملون الخير فيُخيّل إليهم أنهم قد قاموا بواجبهم، ليوجّهنا ويقول لنا إن مسألة الخير ليست مسألة محدودة بكمّ معيّن، بل إن الخير يمثّل في إنسانية الإنسان وإيمانه كل حركة حياته، فما دام يملك طاقةً للخير، فإن مسؤوليته هي أن يفجِّر هذه الطاقة في عمل الخير في كل موقع يستطيع فيه أن يعمله، ليبدأ الخير من بداية طاقاته ولا ينتهي إلا مع نهاية عمره، لأن الخير مسؤوليته تجاه نفسه بما يبني فيه نفسه، وتجاه الناس فيما يمكن أن يقدّمه للناس. كما أن البعض قد يفكر بأنه ليس عليّ ذنوب وتبعات، لم أزنِ ولم أسرق، فقط قمت بأشياء صغيرة، ولكن الإمام الكاظم (ع) يقول بأن هذه الأشياء الصغيرة المتناثرة عندما تجمعها فإنها تصبح كثيرة وكبيرة، والمشكلة أن استصغار الذنب يشجّع على المعصية.

ثم يتابع الإمام الكاظم (ع) كلامه فيقول: "وخافوا الله في السرّ والعلانية ـ لأن الله يعلم السرّ وأخفى ـ حتى تعطوا من أنفسكم النصف ـ حتى تكونوا منصفين مع الناس في ما للناس عليكم من حق، فلا تحتاجوا إلى حاكم وقضاء يثبت الحق للناس، بل أن تراقبوا الله ـ وسارعوا إلى طاعة الله ـ قبل أن تفوتكم فرص الطاعة ـ واصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تظلموا ولا تدخلوا فيما لا يحلّ لكم فإن ذلك عليكم".

تحمّل المسؤولية في قول الحق

وفي بعض كلماته (ع) سأله رجل عن الجواد الكريم، قال: "إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوقين ـ الكريم من الناس ـ فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه ـ الذي يؤدي حق الله في ماله من الخمس والزكاة، لأن هذا يدل على أنه قد انتصر على حالة البخل في نفسه ـ والبخيل من بخل بما افترض الله عليه ـ كثير من الناس مستعد أن يتبرع للزعماء والحملات الانتخابية والمهرجانات الاستعراضية، أما عندما تحدثه عن الحقوق الشرعية فإن السماء تسقط على الأرض ـ وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى والجواد إن منع، لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، وإن منعك منعك ما ليس لك". وقال (ع) لبعض شيعته: "أي فلان، اتقِ الله وقل الحق وإن كان فيه هلاكك ـ كن من الذين لا يخشون في الله لومة لائم حتى لو تضررت بذلك، لأن الحق مرّ وكريه مطعمه، فلو أن الناس حسبوا حسابات النتائج السلبية من قول الحق لما قاله أحد، ولذلك لا بد أن نتحمل المسؤوليات الكبرى في قول الحق ـ فإن فيه نجاتك ـ عند الله تعالى ـ ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك"، لأنك عندما تأخذ بالباطل فإن الله سيحاسبك على ذلك.

الحياديون خائنون

وفي حديث آخر يعالج الإمام الكاظم (ع) حالة اللاموقف عند بعض الناس، لا سيما أمام الأزمات والتحديات بين الحق والباطل، فيؤكد الإمام (ع) أن الإنسان المنتمي إلى الحق هو إنسان الموقف، لأنه عندما لا يكون لك موقف فإنك لا تخذل الحق فقط ولكنك تشجّع الباطل تشجيعاً سلبياً، وعندما تكون اللاموقف فإنك اللاإنسان، لأن الإنسان اللاموقف واللامبالاة هو الإنسان الذي لا يحترم ذاته، أما الحياديون فإنهم الخائنون، لأنهم يحجبون طاقاتهم عن أمتهم. يقول(ع) لأحد أصحابه: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة"، قلت: وما الإمّعة؟ قال(ع): "لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحدٍ من الناس، إن رسول الله(ص) قال: يا أيها الناس، إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير". إن معنى هذا أن تتخذ موقفاً لحساب الخير لا لحساب الشر، وأن لا تكون حيادياً بين الخير والشر.

احترام إنسانية الإنسان

وفي موقف آخر، يبيّن الإمام الكاظم (ع) جانب احترام الإنسان للإنسان الآخر، مهما كان الواحد منهما في درجة عالية من المكانة الاجتماعية. يروى أن الإمام الكاظم (ع) مرّ برجل من أهل السواد، دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض (ع) عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له، فقيل له: يابن رسول الله، أتنزل إلى هذا وتسأله عن حوائجه إليك وهو إليك أحوج؟ فقال (ع): "عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم (ع) وأفضل الأديان، ولعل الدهر يردّ من حاجاتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين"، ثم قال: "نواصل من لا يستحق وصالنا مخافة أن نبقى بغير صديق". وكان يقول لكل واحد منا: "ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله وتاب إليه".

هذا هو منهج أهل البيت (ع)، هذا هو خطهم، وهذا هو الطريق المستقيم، وعلينا أن نلتزم هذا الخط بالسير على منهاجهم، لأنهم الدعاة إلى الله والأدلاّء عليه، والأمناء على دينه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا المرحلة بصوت واحد هو صوت الحق، وموقف واحد هو موقف العدل، ومسيرة واحدة هي مسيرة العزة والكرامة والحرية، وواجهوا الموقف أمام التحديات التي يتحرك بها الاستكبار العالمي بكل وسائله وأوضاعه من أجل أن يُسقط مواقفنا ويصادر أوضاعنا ويسرق ثرواتنا، ويحوّل كل حياتنا إلى هامش اقتصادي وسياسي وأمني.

ونحن نواجه في هذه المرحلة حملة أمريكية شرسة، تقف مع العدو الصهيوني بالمطلق ضد المستضعفين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وتعمل على تكثيف احتلالها للعراق وتهديد أكثر الدول المحيطة به، ما يجعل الموقف في مستوى الخطورة التي لا بد للأمة كلها من أن تجمد خلافاتها وتستنفر طاقاتها حتى تملك أمرها وتقوّي موقفها.. إن المرحلة تفرض علينا أن نرتفع إلى مستوى المسؤولية والتحدّي، حتى نستطيع أن نمنع الاهتزاز في أرضنا بمنع الاهتزاز في مواقفنا، لتثبيت هذه المواقف من أجل قضايانا المصيرية، ولنبدأ بدراسة الأحداث التي تمثل التحدي الاستكباري، ولا سيما الأمريكي، فماذا هناك:

حق "النقض" لحماية الكيان العبري

تتحدث الدول الكبرى ـ ولا سيما أمريكا ـ في نطاق الأمم المتحدة عن الديمقراطية، ولكن هذا ينحصر في الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي لها حق "النقض" لأيّ قرار يحظى بأكثرية أصوات المجلس، إلغاءً وإهداراً لمصالح الدول الأخرى إذا اختلفت مع حركة مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ما يجعل هذا المجلس ممثلاً لمصالح هذه الدول في خلافاتها واتفاقاتها، من دون أن تملك شعوب العالم أية ضمانة لحقوقها من خلال هذا المجلس إلا ببَرَكة هذه الدول..

وهذا ما نلاحظه في تاريخ قرارات مجلس الأمن، ولا سيما في مواقف أمريكا الداعمة لإسرائيل بالمطلق، حتى إنها استخدمت حق النقض عشرات المرات لحماية الكيان العبري من القرارات التي تدين احتلاله ومجازره وإبادته للشعب الفلسطيني، من دون أن يصدر من أمريكا أيّ قرار لمصلحة هذا الشعب، بل إنها تعمل وتخطط وتضغط لإدانة المجاهدين للاحتلال، لأن أمريكا لا ترفض احتلال فلسطين من قِبَل الصهاينة، بل تؤكده وتدعمه باعتبار أنه "دفاع عن النفس"، على حدّ زعمها!!

وكان آخر نقض لقرار مجلس الأمن هو القرار الأخير برفض طرد "عرفات" أو قتله، فقد أصرّت على تضمين القرار شجب المنظمات المقاوِمة للاحتلال باعتبارها "منظمات إرهابية"، للحصول على قرار دوليّ في ذلك.. وكان هذا الفيتو الأمريكي صفعة للعرب كلهم باعتبار أن القرار عربي، كما أنه إلغاءٌ لكل الدول الأعضاء التي صوّتت لمصلحة القرار في مجلس الأمن..

السعي لإلغاء الفيتو

إن أمريكا تريد أن تجعل القرار الحكومي "الشاروني" سيفاً مسلّطاً على الشعب الفلسطيني، من أجل الضغط السياسي والأمني عليه، لا سيما بعد التفاف هذا الشعب على القيادة الفلسطينية ضد قرار إسرائيل إبعادها، ما يمثّل تصويتاً شعبياً شاملاً ضد السياسة الأمريكية في خططها "الشارونية" ضد حرية الفلسطينيين.

وإننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الثالث، إلى الوقوف بحزم والتخطيط لإلغاء نظام "الفيتو" الذي يصادر حقوق هذه الشعوب لمصلحة المستكبرين من الدول الكبرى، لأن هذا النظام يمثّل لوناً من ألوان الامبراطورية الاستكبارية لهذه الدول الغنيّة التي تتحرك لمصادرة مقدّرات الشعوب الأخرى على قياس مصالحها، من خلال تقاسم الحصص في غنيمتها لثروات المستضعفين..

وعلى الدول العربية والإسلامية أن تحترم نفسها باحترام شعوبها في مصالحها الحيوية وقضاياها المصيرية، ولا تسقط تحت تأثير الضغوط الأمريكية التي تسخّرها لحماية سياستها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وذلك باعتماد المواقف الضاغطة على أمريكا وإسرائيل، وعدم الاكتفاء بالقرارات التي لا تعني شيئاً.

محاسبة سوريا: دعم لاحتلال العراق

ونلتقي في دائرة الحقد الأمريكي ضد العرب والمسلمين بجلسات الكونغرس الأمريكي ضد سوريا ـ مع تعاطف متحرّك من قِبَل الإدارة الأمريكية معه ـ في اقتراح قانون محاسبة سوريا بالاتهامات الكاذبة وبالدعم المشروع للشعب الفلسطيني واللبناني.. وبالتدقيق في المسألة، فإن هذه الإدارة تعمل للضغط على سوريا من أجل دعم احتلالها للعراق بعد فشلها في إدارته، وهذا هو الأمر المستحيل في السياسة العربية السورية، لاصطدامه بالمسلّمات المصيرية للأمة كلها..

سوريا ليست المشكلة للبنان

وإننا ننصح الذين يقفون مع الكونغرس اليهودي الصهيوني، أن يعرفوا حقيقة سياسية حاسمة، وهي أن أمريكا لن تمنح هؤلاء الذين يساعدونها ضد أمتهم أيّ موقع، لأنها لا تحترم الذين لا يحترمون شعوبهم ويتحركون في سياستهم من موقع العقدة، وقد لاحظ الجميع أنهم لم يقفوا ضد الاحتلال الإسرائيلي ولم يحاربوه ولم يطلقوا رصاصة ضده، بل تعاونوا معه ـ بطريقة وبأخرى ـ ضد شعوبهم.. إن الذين يبيعون أنفسهم للمستكبرين سوف يلفظهم هؤلاء لفظ النواة، لأن الذين لا يحترمون أمتهم لا يمكن أن يثق أحد بهم.. إن على الجميع أن يعرفوا أن سوريا ليست المشكلة للبنان، بل إن إسرائيل وأمريكا هما المشكلة له وللعرب أجمعين.

إسرائيل هي الخطر

وتبقى الضغوط الأمريكية والأوروبية على إيران من خلال وكالة الطاقة الدولية الخاضعة للنفوذ السياسي الأمريكي ـ حالياً على الأقل ـ من أجل إذلال إيران ومنعها من الحصول على الخبرة النووية للأغراض السلمية والتكنولوجيا العلمية، لأن المطلوب لدى أمريكا أن لا تملك دولة إسلامية في المنطقة ميزان القوة، لتبقى إسرائيل وحدها مالكة لأسلحة الدمار الشامل، بالرغم من أن إيران وقّعت على معاهدة حظر السلاح النووي..

وإننا ـ في هذه المناسبة ـ نطلب من العرب الذين يطرحون الآن التوقيع على قرار حظر الأسلحة النووية من دول المنطقة وغيرها بما فيها إسرائيل، إننا نطلب منهم أن لا يضعفوا أمام أمريكا التي تمنع ذلك، وأمام إسرائيل التي تصرّح بأنها لن توقّع حتى يحصل السلام الشامل، بحسب تعبيرها.. ونحن نعلم ـ والجميع يعلم ـ أن إسرائيل المتحالفة مع أمريكا بالمطلق هي التي تمثّل الخطر على المنطقة وليست إيران.. وعلى العرب أن يعرفوا الازدواجية الأمريكية المنافقة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بالتزامها المطلق بأمن إسرائيل، وبإسقاط الأمن العربي والإسلامي.

الأمم المتحدة لحماية الاحتلال في العراق

ومن جهة أخرى، فقد بدأت أمريكا الضغط السياسي والاقتصادي والأمني، لتغطية فشلها في العراق الذي هيّأت كل الظروف السلبية لإعلانه كساحة لللإرهاب، ما يفرض عليها البقاء طويلاً فيه، لا للقيام بتحقيق أمن الشعب العراقي وخدماته الحياتية ومؤسساته العامة..

وهذا هو الذي جعلها تدخل في مساومة الأمم المتحدة وممثلي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لاستصدار قرار بإرسال قوات دولية من قِبَل الأمم المتحدة لحماية جنودها في داخل العراق، ولكن مع بقاء القيادة المطلقة للاحتلال الأمريكي، بالإغراء تارةً وبالترهيب أخرى.. وتبقى حركة اللعبة الاستكبارية في يد أمريكا، ويبقى العراقيون في داخل الدوّامة، والسؤال: إلى متى؟

لبنان: هل من محاسبة للكبار!!

أما في لبنان، فإن اللبنانيين يتساءلون بكل مرارة: هل يملك القائمون على لبنان محاسبة الكبار الكبار من خلال الفريق الذي يحرّكونه من الصغار الذين ينفّذون الأوامر، ويدفعون الحصة الكبرى مما يهدرون ويسرقون لأسيادهم، أم أن الخطة هي القبض على الصغار باعتبار أنهم سبب الفساد؟!

ثم إن اللبنانيين يطلبون الوضوح بطريقة سياسية وقضائية عن الملايين التي قيل إنها دُفعت لإغلاق ملف اقتصادي هنا أو سياسي هناك، ليعرفوا الحقيقة في ذلك.. إن المؤسسات في الدولة تملك قوانين المحاسبة والمراقبة والمحاكمة، ولكن السؤال هو: هل يريد القائمون على مقدّرات البلد طائفياً وسياسياً واقتصادياً أن يكون لبنان دولة؟؟ ربما كان الجميع ـ أو الأكثرية ـ لا يريدون ذلك.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية