ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
ولادة الإسلام
في السابع والعشرين من شهر رجب كانت ولادة الإسلام في مبعث النبي محمد (ص) ـ على أشهر الروايات ـ وكان يوم الإسراء والمعراج، وهاتان المناسبتان ـ الإسراء والمعراج ـ هما فرع من المناسبة الأولى، لأنّ الله تعالى عندما اصطفى رسوله (ص) للرسالة، أراد منذ البداية أن يمنحه في عقله وروحه وكل عناصر شخصيته الأسرار التي يستطيع من خلالها أن يقوم بالرسالة في كل أبعادها الثقافية والتربوية والروحية والسياسية والاجتماعية، لأن رسالته (ص) ليست رسالة محدودة بزمان أو مكان، أو بقوم دون قوم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}.
ولذلك، لا بدّ أن يكون الرسول (ص) في كل عناصر شخصيته، الإنسان الذي يستطيع أن يمنح الإنسان كل حاجته من الثقافة والقيم والاستقامة والصلابة والوعي، وكل ما يحقِّق التوازن للحياة وللإنسان في الحياة. ولذلك تعهّده الله تعالى منذ كان فطيماً، فوكّل به ملكاً من أعظم ملائكته يلقي إليه في كل يوم علماً، وتعهده الله بالتربية حتى قال (ص): "أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، وأنزل الله عليه الكتاب من أجل أن يملأ كل عقله به، فهو دستور الحياة كلها في الزمن كله، في العقيدة والشريعة والمنهج وكل مواقع الحياة: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}، {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل}.
وتعهّده الله تعالى بالتربية في حركية القرآن في نزولـه التدريجي على النبي(ص)، ليكون القرآن مرافقاً لكل الحركة النبوية الإسلامية، ليوجّه المسلمين هنا، وليشرّع لهم هناك، وليؤصّل المفاهيم هنالك، وليخطِّط لهم الحرب هنا والسلم هناك، ولينقدهم في ما يخطئون فيه من تفاصيل الحرب والسلم، وليلاحق كل خطواتهم، وليقوّم كل انحرافاتهم، فكان القرآن كتاب الحركة الإسلامية. وبذلك نستطيع أن نقرأ في القرآن شخصية النبي (ص)، ولعل أفضل قراءة لسيرة النبي (ص) لنتعرّف عليها بشكل نابض حيّ رسالي هو سيرته في القرآن، لأن الله تعالى تحدث عنه من خلال رساليته، وخطّ لنا الشخصية الرسالية في النبي (ص).
وكان القرآن يتحرك مع النبي (ص) ليوجّه المسلمين وليثبّته: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدة ـ القرآن ليس كتاباً كالكتب الثقافية المجردة، ولكنه الكتاب الذي يريد أن يؤكد استقامة الحركة وانفتاح النبوة على الحياة كلها ـ كذلك لنثبّت به فؤادك}، لنثبّت به موقفك وكل المسيرة التي تتحرك فيها، لأن القرآن يعطيك الفكرة والمنهج والأسلوب والهدف والشريعة حتى تثبت أقدامك في المكان الصلب، وحتى تكون المسيرة ثابتة في كل خطواتها من دون أيّ اهتزاز هنا وهناك.
وحدة الرسالات
وأراد الله تعالى لنبيّه (ص) أن يعيش تجربة الإسراء والمعراج، استكمالاً لثقافة النبي(ص): {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ـ ليأخذ النبي (ص) من خلال هذه الرحلة المباركة التي ربطت بين المسجد الحرام، الذي هو قاعدة إبراهيم (ع) منذ أن بناه إبراهيم في الخط الرسالي، وتحرك حتى وصل ليكون قاعدة النبي (ص) في الرسالة الإسلامية، ليربط بذلك بين موقع الرسالة الجديدة القديمة هنا، وبين موقع الرسالات هناك، ولتتحرك القربى الرسالية بين النبي (ص) وبين الأنبياء. وقد جاء في بعض الآثار التاريخية، أن الله تعالى جمع بين رسوله وبين الأنبياء في إسرائه في بيت المقدس ـ لنريه من آياتنا}، ليطّلع على الآفاق التي نشر الله فيها كل آياته التي تدل على عظمته، وتربطه بكلِّ تاريخ الرسالات والرسل، حتى ينطلق ليكون الرسول الخاتم والرسالة الخاتمة..
وكانت مسألة المعراج هي المسألة التي أراد الله فيها أن يثقف رسوله بآفاق السماء، ليتعرّف أمر الكون من فوق كما يتعرّف أمر الكون من تحت، وأراد الله تعالى لرسوله أن يقوم بجولة أرضية وجولة كونية على مركب لا يُعرف طبيعته، ولكنه يمثل قدرة الله ومعجزته في ذلك.
الرسولية الإنسانية
وعندما انطلق النبي (ص) في رسالته، لم ينطلق من موقع عنف، بل كان الرفيق بالناس، وكان صاحب الخلق العظيم في كل علاقاته، لأنه كان يريد أن يربح قلوب الناس ليقول لهم: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد}، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، أنا منكم، لست غريباً عنكم، أفهم كل آلامكم وأحلامكم وعاداتكم وتقاليدكم، لقد جئت من خلال رسوليتي الإنسانية المنفتحة على الله لأعالج أفكاركم لتكون أفكاراً صحيحة، ولأعالج قلوبكم لتكون قلوباً لا تحمل إلا الحب للإنسان، جئت لأعالج مشاكلكم حتى تكون حياتكم حياة التعاون على البر والتقوى، لا التعاون على الإثم والعدوان، جئت من أجل أن أجعل حركة الإنسان من أجل بناء الحياة على الصورة التي أرادها الله أفضل، لم آتِ إليكم على أساس أنها رسالة إقليمية أو قومية، صحيح أن القرآن عربي، ولكن الإسلام إلهي ليس عربياً أو عجمياً. وبما أنّه ليس هناك إنسان عالمي ولغة عالمية، فلا بدّ للرسول الذي ينطلق من قوم معينين ولغة معينة أن ينفتح على الناس كلهم ولا يبقى في دائرة قومه أو بلده أو منطقته وما إلى ذلك.
وهكذا كان الإسلام رسالة عالمية تخاطب العالم كله والزمن كله: "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة".
والإسلام عندما أطلق رسالته للعالم، قال للإنسان إن أول ما ينبغي له أن يأخذ به هو أن يحترم العقل، فالعقل هو حجة الله، والله يخاطب في الإنسان عقله، والعقل حجة بينه وبين الله، قال الله للإنسان: كن عقلاً يفكر ويخطط ويميّز بين الحق والباطل، كن عقلاً يفحص أسرار الحياة، وعندما تكون عقلاً لا بد أن تكون علماً، لأن العقل هو الذي ينتج العلم عن طريق التأملات الفكرية والخطوات التجريبية، وبذلك فإن العقل هو القيمة الإنسانية الأولى، والعلم هو امتداد العقل في معرفة أسرار الإنسان والحياة، حتى إن الله تعالى يُدرك بالعقل، وبالعقل يدرك الإنسان أسرار خلق الله ليعرف به عظمة الله، وبالعقل يدرك أسرار نعمة الله ليتعرّف علاقته بالله من خلال نعمه.
وقال الله تعالى للإنسان: في علاقاتك الاجتماعية والإنسانية، أيها الإنسان كن عدلاً، فالعدل هو سر بقاء الحياة وسر إنسايتك، كن عدلاً في تقويمك للأشياء في عقلك، ففي الفكر عدل وظلم في عملية التقويم السلبي والإيجابي، كن عدلاً في كلماتك، فلا تتكلم بكلمة ظلم لتمدح إنساناً لا يستحق المدح، ولتذم إنساناً لا يستحق الذم، كن عدلاً في معاملاتك مع الناس، لا تظلم أحداً حقه، سواء كان حقاً فردياً أو اجتماعياً، كن عدلاً في علاقاتك بالناس، فأحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لها. وأراد الله للإنسان أن يعيش أخلاقية القيم الروحية التي أراد أن يخضع الحياة لنظامها هنا وهناك.
الإسلام دين الحياة
وعلى ضوء هذا نقول، إن الإسلام هو دين الحياة كلها، ودين الإنسانية كلها مهما تقدم الزمن، لأن العقل يبقى حاجةً للإنسان كله في كل انطلاقاته وحياته، ولأن العلم هو الذي يرتفع بالإنسان إلى كل مجالات اكتشاف أسرار الكون والحياة: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. أيّ شعب من الشعوب وأي جيل من الأجيال لا يشعر بالحاجة إلى تنمية عقله، أو أنّه ليس بحاجة إلى العلم من أجل نموه وتطوره وقوته وثباته وصلابته؟ أيّ شعار يمكن للإنسان أن يتطور فيه في خط تصاعدي كالشعار القرآني: {وقل ربي زدني علماً}؟ إن الإنسان في المنهج القرآني هو الذي لا يقف على درجة معينة من العلم، بل يحتاج إلى أن يطوّر علمه ليبقى الإنسان في حركة تطوّر علمي.
عندما يُطرح هذا على الشرق والغرب، فهل يستطيع أحد أن يقول إن هذا الطرح هو طرح ما قبل أربعة عشر قرناً أو خمسة عشر قرناً؟ هذا طرح الحياة، هذا طرح لا يتأطر بزمان خاص أو بقومية خاصة، وعندما يطرح الإسلام العدل في العالم كله، ويعتبر أن العدل هو أساس الرسالات كل الرسالات، فهل العدل لزمان معين ومكان معين؟ ما هي مشكلة العالم الآن؟ انطلق إلى الغرب والشرق وهم يتحدثون عن المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعن مشاكل البيئة والتنمية والمرأة والطفولة، ما هي الكلمة التي تختصر كل تطلعات الإنسان في الحضارة الغربية والشرقية، حتى في المجتمعات البدائية؟ إنهم يبحثون عن العدل في القانون والحاكم والحكم، والعدل في الحرب والسلم والعلاقات والمعاملات.
إن العناوين الإسلامية الكبيرة في القضايا التي تمثل عمق الحيوية في مسيرة الإنسان في كل زمان ومكان، هي التي تجعل الإسلام ديناً عالمياً، وتبقى كل هذه العناوين: العقل الذي يدل على الله وهو خلق الله، والعلم الذي ألهم الله الإنسان طاقته وقابليته، وألهمه أدواته، وهكذا بالنسبة إلى العدل، يرتفع الإنسان إلى الله فيكبر عقله وعلمه، وتتحرك خطوطه في العدالة، لأن الحديث يقول: "تخلّقوا بأخلاق الله"، فالله لا يحترم الذين لا يعقلون، ولا يحب الذين لا يعلمون، ولا يحب الذين لا يعدلون، لذلك قال الإسلام: إذا أردت أن يحبك الله ويرضى عنك فاجعل عقلك كبيراً، واجعل علمك كبيراً، واجعل عدالتك أصيلة في الحياة.
مسؤوليتنا حمل الرسالة
ونحن في ذكرى المبعث والإسراء والمعراج، نعرف أن الإٍسلام يتحرك في الكون كله، ليرتفع إلى الأعالي ليتعرف أسرار الله في الكون، ولينزل إلى الأرض ليخطط للإنسان حركته في خط الاستقامة، نحن الآن عندما نعيش هذه الذكريات الإسلامية، فإن علينا أن نعرف أننا جميعاً ـ صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، مثقفين وغير مثقفين ـ مدعوون إلى أن نحمل الإسلام رسالةً، وأن نعلّم الناس الرسالة الإسلامية. لقد استطاع أجدادنا وأباؤنا منذ حركة النبي(ص)، أن يحملوا لواء الإسلام، فهاجروا معه ونصروه وآووه وقاتلوا معه.
إننا منذ ذلك الوقت رأينا أن كل جيل يحمل الإسلام إلى الجيل الآخر، ونحن جيل لا بد أن نتحمل مسؤولية الإسلام، لأن الكفر قد دخل في بيوتنا من خلال أجهزة الإعلام والمراكز الثقافية والسياسية وما إلى ذلك، ونحن مسؤولون الآن ـ كما كان آباؤنا مسؤولين ـ عن تأصيل موقع الإسلام في حياتنا، أن نربي أولادنا على الإسلام ولا نتركهم في قبضة الكفر. إن طموحاتنا ـ كما كانت طموحات النبي (ص) ـ لا أن نبقي الإسلام حيّاً في مجتمعاتنا الإسلامية فحسب، بل أن ننشر الإسلام في العالم، أن ننطلق في مهاجرنا ومغترباتنا وكل مواقعنا الثقافية في العالم، لنكون الرسل المبلِّغين المنفتحين.
ونحن عندما نذكر الرسول(ص)، فإن الله يقول لنا: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. إن النبي (ص) جاء بالرسالة وبقي ذكره في صلواتنا وكل نوادينا، ولكن الرسول يمضي وتبقى الرسالة يحملها كل جيل إلى الجيل الذي بعده، ولذلك لا بد أن نعمل ـ ولو بعد مئة سنة ـ على أسلمة العالم، لأن المستكبرين من جهة، والكافرين في اتجاهاتهم المتعمّدة من جهة أخرى، يعملون على أن يحكم الاستكبار والكفر العالم، وعلينا أن ندخل في ساحة الصراع مع الاستكبار والكفر، لنُدخل الإسلام عنصراً حضارياً بعيداً عن كل ما يجهل به الجاهلون، وعن كل ما يتخلّف فيه المتخلّفون، وعن كل ما يحركه الخرافيون. لا مجال للمجاملة والاسترخاء في هذا الموضوع، لا بد لنا أن نتخذ الموقف، كما قال الإمام الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنما هما نجدان نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير".
إننا نستقبل هذه الذكرى والاستكبار من جهة، والكفر المتحرك معه من جهة أخرى يعملان على أساس إسقاط الإسلام في ثقافته وشريعته وسياسته واقتصاده. إن المرحلة الآن ليست مرحلة عادية؛ إنها مرحلة طوارئ في دفاعنا عن الإسلام وعن بلاد الإسلام وعن المسلمين كلهم. إن القوم يستعدّون لخوض معركة إبادة بكل ما فيها من أساليب ووسائل، ويستخدمون بعض الذين يتزعّمون المسلمين لحساب المستكبرين في إضعاف الإسلام وتطويقه ومحاصرته، باسم الإرهاب تارةً، وباسم المحافظة على النظام أخرى. لا مجال لأحد أن يسترخي أو يعمل على أساس اللامبالاة: "إذا ظهرت البدع فعلى العالِم ـ كل عالِم، كل من يحمل علماً، كل من يحمل ثقافةً أو أية إمكانية لخدمة الإسلام ـ أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل ـ بل بقي خارج نطاق الصراع، والصراع بحاجة إليه ـ فعليه لعنة الله".
هذه هي رسالة المبعث والإسراء والمعراج، أن ننطلق جميعاً كمسلمين في شرق الأرض وغربها، أن ننطلق لنحمل رسالة الإسلام كما حملها رسول الله (ص) وكما حملها عليّ(ع) والأئمة من أولاده (ع)، وكما حملها الصحابة الأصفياء، وكما حملها العلماء. إن المسألة هي مسألة مصير على كل المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
خائن من يثير الفتنة
عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على الأخطار التي تحيط بالإسلام والمسلمين: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}. عندما يتوحد المستكبرون والكافرون ليحاربوا المسلمين في صف واحد، فإن علينا أن نتوحد ونجمّد كل خلافاتنا، لا أن نلغي ما نعتقد أنه حق، أن نجمّد الخلافات، فلا ندخل في معارك مذهبية وطائفية وقومية أو عرقية أو حزبية وسياسية، إن المرحلة تحتاج إلى موقف واحد وصوت واحد، وإلى أمة واحدة، لأن المطلوب هو رأس الإسلام والمسلمين..
لذلك، فإن كل من يثير فتنةً بين المسلمين ويمزّقهم فهو خائن لله ولرسوله وإن صلّى وصام. ليفكّر كل واحد منا لا بحزبيته أو بطائفيته أو مذهبيته، بل ليفكر بأنه جزء من أمة ومجتمع، وأن المطلوب الآن هو رأس الإسلام والمسلمين، لتتذكروا قول رسول الله(ص): "من أصبح لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم". المرحلة هي بمستوى حالة الطوارئ، فهل نكون في مستوى المرحلة؟ إذا سقطت الأمة فكيف يبقى الأفراد؟ وإذا استُعبدت الأمة فكيف تكون عزيزاً؟ فماذا هناك:
بوش: زعزعة النظام العالمي
إنه موسم الخطابات في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يتصدّرها مسؤولو الدول الكبرى، وفي مقدمتهم الرئيس "بوش" الذي بشّر العالم بالحرب الاستباقية على طريقته الخاصة في الحرب على العراق، التي تجاوز فيها النظام العالمي، وعمل على زعزعته وإبعاد الأمم المتحدة عن دورها الفاعل في المناطق المتوترة في العالم..
لقد تحدث الرئيس الأمريكي عن أسلحة الدمار الشامل التي يهدد الدول غير الخاضعة له باتهامها بامتلاكها لها، أو بالتخطيط لإنتاجها في المستقبل، ما جعل خطابه محلّ استغراب وإدانة من أكثر دول العالم، لأنه لا يحترم الرأي العام العالمي ليقدّم له الأسس الكفيلة بإقناعه بمنطقه، بل كان الخطاب موجَّهاً للأمريكيين الذين لا يزال يعمل على خداعهم وتخويفهم مما يسمّيه الإرهاب، بطريقة تدعو إلى الضحك على مستوى النكتة الإعلامية السياسية، في الوقت الذي عطّلت فيه إدارته أكثر الحقوق المدنية للشعب الأمريكي ـ لا سيما من العرب والمسلمين من المواطنين الأمريكيين ـ وأسقطت حقوق الإنسان بالنسبة إلى السجناء المعتقلين في معسكر "غوانتانامو"، لمجرد الاشتباه بهم من دون محاكمة أو تواصل لهم مع أهاليهم أو محاميهم، ودون العلم بالاتهامات الموجَّهة إليهم، وبعضهم لا يتعدّى الـ13 عاماً..
دور ثانوي للأمم المتحدة
ومن الطريف أن الرئيس الأمريكي في خطابه الموجَّه ـ بعمق ـ للأمريكيين من أجل الانتخابات الرئاسية المقبلة، يعطي صورة وردية مشرقة للعراق، من دون أن يتحدث عن الواقع الصعب والمتردي على الأرض في العراق.. وإذا كان يتحدث عن قرار دولي لجلب قوات دولية لمساعدة احتلاله في العراق، فإنه لا يتحدث عن قيادة الأمم المتحدة لها، بل إن دورها يبقى دوراً ثانوياً لا يتصل بالقضايا السياسية في نقل السلطة للعراقيين، ولا بالقضايا الاقتصادية والخدماتية وما إلى ذلك مما يعاني منه الشعب العراقي، الذي لم يجد في الاحتلال أيّ حلّ لمشاكله، لا سيما أن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته ودفاعه يتحدثون عن فترة طويلة للبقاء في العراق، ويرفضون تسليم السلطة للعراقيين في مدة محددة، ويريدون للأمم المتحدة أن يكون دورها دور الخاضع للخطة الأمريكية في الاحتلال..
بوش: الاستغاثة بالعالم
لقد كان خطاب الرئيس الأمريكي، على مستوى الأمم المتحدة، وحتى على مستوى الكونغرس والصحافة الأمريكية، خطاباً فاشلاً لم يأتِ بجديد، بل كل ما لديه هو الاستغاثة بالعالم من أجل مساعدته في إعمار العراق، وبالكونغرس الأمريكي لتخصيص 87 ملياراً، ما يبقي المسألة في دائرة الجدل التي تحوّل فيها هذا الرئيس بإدارته للموقف إلى دوّامة أمنية وسياسية واقتصادية بدأت تنعكس على حاضر الشعب العراقي ومستقبله..
والأمر المثير للاستغراب، أن دولة مثل أمريكا التي احتلت العراق، ومثل إسرائيل التي احتلت فلسطين، تطلبان من العالم مساعدتهما مادياً وسياسياً في دعم الاحتلال والدفاع عن أمن جنودهما الذين يقتلون المدنيين في كل يوم من العراقيين والفلسطينيين بحجة ملاحقة المطلوبين، في الألفية الثالثة التي انطلقت عناوينها الكبرى لتؤكد حرية الشعوب وحقوق الإنسان.. أيّ منطق هو هذا؟!
إعتراف بإرهابية إسرائيل
ومن جانب آخر، لا تزال إسرائيل تقتل في كل يوم أكثر من طفل ومدني، وتصادر كتب الدراسة للأطفال، وتمنعهم من التوجّه إلى مدارسهم، بحجة اعتقال المطلوبين، بالطريقة الوحشية التي تهدم فيها البيوت على رؤوس سكانها، وتقصف المدنيين بالطائرات الحربية الأمريكية المتطوّرة، من دون أن يصدر أي موقف من أمريكا والاتحاد الأوروبي الذي قرر اعتبار منظمة "حماس" ـ في جناحها السياسي ـ منظمة إرهابية، من دون أن يصدر أيّ قرار بإدانة الإرهاب الصهيوني للمدنيين في فلسطين، بينما نقرأ في الصحف الإسرائيلية أن27 طيّاراً صهيونياً يرفضون الإغارة على الأراضي الفلسطينية لأنهم يرفضون مواصلة قتل المدنيين الأبرياء، ويؤكدون أن هذه الأعمال "غير أخلاقية وغير قانونية، وهي ثمرة مباشرة للاحتلال المتواصل الذي يفسد المجتمع الإسرائيلي بأسره"، بحسب ما جاء في بيانهم..
والسؤال الموجَّه للّجنة الرباعية الدولية، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي: ألا يعتبر هذا الرفض، لا سيما أن الموقّعين هم من كبار الطيّارين، أن الحكومة الإسرائيلية إرهابية؟؟ إننا لا نكتفي من الاتحاد الأوروبي إدانة الحرب الأمريكية على العراق لمخالفتها للأمم المتحدة، بل نريد له ـ إذا كان لا يزال مؤمناً بالحرية وحقوق الإنسان ـ إدانة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والإبادة اليومية للشعب الفلسطيني بطريقة متحركة.. ولماذا لا تطرح اللجنة الرباعية انسحاب المحتل من الأراضي وإرسال قوات دولية كما هي القوات الدولية التي يُراد إرسالها للعراق، للفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإيجاد ضغط دولي لحماية الفلسطينيين الذين قالوا ـ بكل فصائلهم ـ إنهم سوف يجمّدون الانتفاضة أو يلغونها عند التحرير من خلال الانسحاب، على أساس تحقيق حرية تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أرضه؟ هل نفهم من ذلك أن هناك عنصرية تاريخية ضد الإنسان العربي والمسلم، مع الاختلاف في درجة الموقف؟؟
عجزٌ سياسي عربي
وفي الأمم المتحدة، لا نجد هناك أيّ دور فاعل على مستوى العالم العربي السياسي في الدول الـ23، وتبقى القضية الفلسطينية في حديث متنوّع منافق يحفظ ماء الوجه، ويظل الكثيرون يحدّقون بالموقف والخطاب الأمريكي، ليستوعبوا الدرس جيداً عندما يرجعون إلى بلدانهم لمواجهة ما يسمّونه الإرهاب الذي صنعه المستكبرون، ونفذته بعض الأنظمة من خلال الخطة الأمريكية لتفسير الإرهاب والإرهابيين وملاحقتهم، حتى الذين يطالبون بالعدالة لشعوبهم والحرية لأوطانهم والكرامة لأمتهم، لأن التعليمات الأمريكية عندهم هي وحدها التي تصنع التغيير لا الشعوب التي تطالب بالحرية للمستضعفين من سيطرة المستكبرين وأتباعهم.. والسؤال: هل أبقت الأنظمة شيئاً اسمه العالم العربي؟؟ إننا نحدّق في الأفق فلا نرى شيئاً.
لماذا العبث بالسرية المصرفية؟!
أما في لبنان، فإن اللعبة لا تزال تفرض نفسها على الواقع السياسي، فنحن نسمع الجدل بين وزارتي الخارجية والمالية ومصرف لبنان حول السؤال عن العبث بالسرية المصرفية، في التفتيش عن موقع من أقدس المواقع الجهادية ضد العدو، وهو حركة "حماس"، لتجميد أرصدتها، لأن أمريكا التي تريد محاصرة لبنان الاقتصادي على حساب مبادئه السياسية، تعمل على التهديد بالتخطيط لانهيار الاقتصاد فيه كما في الأرجنتين، مع الفارق بينه وبين لبنان.. والسؤال: لماذا هذا التكاذب، ولماذا يقحم اللاعبون خلافاتهم الداخلية في القضايا الوطنية؟!
إن مثل هذه الأساليب الملتوية هي التي عمّقت الهوّة بين الشعب ورجال الدولة، ما أفقد الناس الثقة بالتصريحات والمواقف، لأن ما يقال للناس غير ما يقال في الكواليس، ليبقى الشعب خاضعاً للخدعة السياسية التي يتحوّل فيها الوطن إلى كرة يتقاذفها اللاعبون الكبار وحلفاؤهم بأرجلهم.. والسؤال: هل هذه هي الطريقة الفضلى التي يُصنع فيها لبنان ـ الإنسان ـ المستقبل؟! |