لنكن روّاد الوحدة ومنتجي المحبة بدل الحقد

لنكن روّاد الوحدة ومنتجي المحبة بدل الحقد

لأن النبي(ص) والأئمة(ع) قدوتنا في السير في خط القيم:
لنكن روّاد الوحدة ومنتجي المحبة بدل الحقد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

مكارم الأخلاق

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم}، ويقول تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ويقول سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

لماذا هذا التأكيد في القرآن الكريم على تقديم النبي(ص) إلينا بهذه الصورة، وهو الكامل في كلِّ صفاته كشخصية أخلاقية، تنفتح بأخلاقيتها على مشاعر الإنسان لتحترم تطلعاته في خط الدعوة وفي خط الحياة وفي خط المسؤولية؟ ولماذا كانت الرسالة كلها حركة أخلاق، بحيث يختصر النبي(ص) كلّ الإسلام في مكارم الأخلاق؟

إن هدف الرسالة الإسلامية ـ كما هو هدف الرسالات التي أرسل الله تعالى بها رسله ـ هو أن يعيش الإنسان إنسانيته المودعة في شخصيته في إنسانية الإنسان الآخر، بحيث تحترم إنسانية الإنسان الآخر حتى لو اختلف معك كما تريده أن يحترم إنسانيتك. والأخلاق هي القيمة الإنسانية التي تربط بين الإنسان والإنسان الآخر لتفتح عقله وقلبه وحياته، لأنك عندما تحترم إنسانية الآخر فإن الآخر سوف ينفتح عليك، لأنه يشعر بأنه موجود فيك كما أنت موجود فيه.

أسس العلاقات الأسرية

ولذلك كان الأنبياء والأولياء هم القمّة في المسألة الأخلاقية، التي تجسّدت في بيوتهم مع أهلهم، وقد حدّثنا رسول الله (ص) عن سيرته مع أهله في الحديث المروي عنه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، لأن النبي(ص) كان يشعر بمسؤوليته في المحافظة على مشاعر أهله الذين يعيشون معه، إن على مستوى زوجاته أو على مستوى الذين ينتسبون إليه، لأنه يعتبر أن العلاقة بالزوجة والأولاد ليست علاقة مالك لمملوك حتى يستغل الإنسان ما يملكه من قوة لاضطهاد الإنسان الآخر وإسقاط إنسانيته، بل هي علاقة إنسان مع إنسان تقوم على أساس التعاقد بينهما كما هي العلاقة الزوجية التي ركزها الله على قاعدة المودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف، وكما في علاقة الإنسان بأولاده، وعلاقة الأولاد بأبيهم، والتي هي علاقة إنسانية، حمّل الله فيها الأب مسؤولية تربية إنسانية أولاده ورعايتها وحمايتها، ولذلك لم يسلّطك الله على أولادك سلطة القوي على الضعيف، وإنما أعطاك الولاية قبل بلوغهم من أجل أن تحوطهم برعايتك، لتمكّنهم من النموّ الطبيعي الذي يجعل منهم رجالاً أو نساءً يشاركون في بناء المجتمع والأمة.

لذلك، أراد الإسلام أن يركّز هذا المفهوم الأخلاقي، وهذا ما نلاحظه في حديث الله تعالى عن العلاقة بين الزوجين: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}، لأنك قد تنطلق من حالة مزاجية تجعلك لا تعرف عنصر الخير في الطرف الآخر، فالمزاج لا يحدد درجة الخير والشر في الإنسان الآخر، لأن المزاج مشاعر، أما مسألة الخير والشر، فإنها تأتي من الدراسة للعناصر الشخصية في الإنسان الآخر، ربما لا يلتقي مزاجك مع شخص ولكنه قد يكون في أعلى درجات الخير، وربما يلتقي مزاجك مع شخص وقد يكون في أعلى درجات الشر، لذلك، فإن القيمة الأخلاقية شيء والمزاج الذاتي شيء آخر، ولذلك لا يمكن أن تجعل حياتك خاضعة لمزاجك، بل تجعل حياتك خاضعة لمعنى الإنسانية في أخلاقك.

الحقوق المتبادلة

وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه حتى في كل مواقعنا، في الحياة العائلية والحياة الاجتماعية وما إلى ذلك، فإذا ما عشت في المجتمع، فإن عليك أن لا تعتبر أنك تمثل الشخصية التي ترى أنه يجب على المجتمع أن يؤدِّي حقوقها، ولا تطلب من ذاتها أن تؤدي حقوق المجتمع، وذلك لأن الحقوق والواجبات متبادلة في كلِّ مجالات الحياة. عندما ندرس خطاب كل من النبي (ص) والإمام عليّ(ع)، فإننا نجد أنه كان يتركز على قاعدة "لي عليكم حق ولكم عليّ حق".. بل أكثر من ذلك، نجد أن الله تعالى ـ وهو إله الكون، ولا حق لأحد عليه لأننا صنعته ـ من رحمته ولطفه، أرادنا أن نقوم بحقه في توحيده وطاعته وعبادته، وجعل لنا حقاً في أن يرزقنا ويرعانا ويلطف بنا ويدخلنا الجنة إذا أحسنّا.

لذلك، فإن الإنسان الذي يعتبر نفسه هو العالم وكل الناس غثاء، هو إنسان يعيش العقدة ويحبس نفسه في زنزانة ذاته من الناحية المادية، لأن الإنسان كلما كان يحمل سمات إنسانية أكثر، كلما انفتح على مسؤولياته في الحياة أكثر، وقد قال النبي (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، بقدر ما تخدم الناس وترعاهم وتتواضع لهم وتعيش معهم كواحد منهم، بقدر ما تكون قائداً ورسالياً، ومن هو أفصل من النبي (ص)؟ رسول الله (ص) كان يعيش مع أصحابه كواحد منهم، لا يميّز نفسه أبداً ، ويقول أحد أصحابه: "كان فينا كأحدنا"، حتى إن القادم إلى النبي (ص) وهو جالس مع أصحابه كان يسأل: "أيكم محمد"؟ ويقال إن النبي (ص) كان سائراً والتقته امرأة فارتعدت لهيبته، فقال (ص): "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد في مكة".

هذا الخطّ الأخلاقي العظيم هو الذي يعطينا الحسّ الإنساني، لأننا بدأنا بفعل السيطرة المادية واعتبار المنفعة والمصلحة والمطامع أساس العلاقات الإنسانية، بدأنا نفقد هذا الحسّ والقيم الإنسانية في علاقاتنا السياسية والدينية والاجتماعية، ووصلنا إلى وضع صار فيه العقل والقلب والإحساس والشعور عملةً، وأصبح تكويننا يدخل في حسابات البورصة لا في حسابات القيم الأخلاقية..

إعادة النظر في القيم الاجتماعية

لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في قيمنا الاجتماعية، ومن المؤسف أننا بدأنا نربي أطفالنا على هذا الأساس، وافتقدنا ـ كظاهرة ـ في مجتمعنا معنى المحبة، نحن لا نربي بعضنا بعضاً على المحبة بل على الحسابات، أما أن تحبّ إنساناً لإنسانيته فهذا غير وارد، وأصبحنا ننتج الحقد ونعلّم أولادنا على مقاطعة فلان والحقد على فلان، وعندما دخلت الأحزاب ـ كل الأحزاب ـ بدأت تبث ثقافة المقاطعة: لا تتكلموا عن فلان ولا تصلّوا عند فلان، ولا تذهبوا إلى المسجد الفلاني، حتى أصبحنا مجتمعاً يربي الأجيال في المسألة السياسية والدينية والاجتماعية على الحقد، ويدّعي أن هذا الحقد مقدّس، ولا أدري كيف يكون الحقد مقدّساً؟

إن مجتمعنا يتخبط في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر، ادرسوا كل الواقع من حولكم لتجدوا من منا يعيش الراحة في هذا المجتمع، والمشكلة أن هذه التعقيدات الداخلية المتعبة تنعكس على تخطيط الآخرين ضدنا. الآخرون في كل جامعاتهم يدرسون بشكل واسع وعميق عادات الشعوب وتقاليدها والعلاقات بين بعضها البعض، واختلاف الأديان والمذاهب والخطوط السياسية، ويقدّمونها كدراسات من خلال اختصاصيين، ليقدّموا هذه الدراسات إلى المخابرات لتعرف كيف توسّع الثغرة بين الناس لتزيد من الحقد الطائفي والمذهبي والحزبي، حتى أصبحت القضايا تتصل بقضايا الاستقرار والحرية ومواجهة الاستكبار العالمي ضد الأمة.

وفي العودة إلى الفترة الماضية، نلاحظ كيف كانت أوضاعنا في لبنان، وكيف عشنا الحقد الطائفي والمذهبي والسياسي، حتى كان الصغير والكبير يفكّر كيف يقتل الآخر، وأنا أذكر في أيام الحرب كيف كان بعض الصبية يأتون ليأخذوا الفتوى في قتل فلان وتفجير المحل الفلاني. إن هذه الثقافة شملت كل شرائح المجتمع وطوائفه، فمن أين جاء هذا الواقع؟ جاء من خلال الذهنيات التي تحاول أن تنتج الحقد في الناس، بحيث نحاول دائماً أن نبحث عن الفواصل التي تفصل بعضنا عن بعض لا عن الجوامع التي تجمعنا، ومن الطرائف أن بعض الناس المتعصّبين ـ عند السنّة والشيعة ـ يقول "إن السنّة عندهم إله غير إلهنا ونبيّهم غير نبيّنا"، وبعض آخر يقول إن الشيعة مشركون وما إلى ذلك، أما مواضع اللقاء فإننا لا نبحث عنها، والله تعالى علّمنا كيف نتعامل مع أهل الكتاب، وهل اليهود والنصارى في عقيدتهم أقرب للشيعي من السنّي، أو للسنّي من الشيعي، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}.

التدرب على إنتاج المحبة

إنّ علينا أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن النبي (ص) ومن أهل البيت(ع) الذين قد نختلف مع السنّة على حسابهم، مع أنهم (ع) روّاد الوحدة الإسلامية، فهذا الإمام عليّ (ع) ـ وهو صاحب الحق الشرعي ـ نرى أنه عاون الخلفاء الذين تقدّموه وأعطاهم النصيحة والمشورة وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"..

أيها الأحبة: إنكم تتدربون على كثير من المهن وعلى حمل السلاح، فما رأيكم أن نتدرّب كيف نحرك عقولنا بالخير ونتدرب على المحبة والتسامح والحوار، ونتدرب على أن نجعل من مجتمعنا جنّة مصغّرة على الأرض حتى نعيش جوّ الجنة.. إن الجنة جميلة، ولكنها تحتاج إلى جهد، والحديث يقول: "ما رأيت كالجنة نام طالبها، وما رأيت كالنار نام هاربها".

{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. رسول الله (ص) هو قدوتنا في كل شيء، وقد كانت أخلاقه هي القرآن، فليكن (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) وابنته الصدّيقة الطاهرة (ع) قدوتنا في السير في خط القيم الروحية والأخلاقية.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله واعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرّقوا، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، وعليكم بالتواصل والتباذل، لينفتح المؤمن على المؤمن، وليتحسس مسؤوليته في وحدة أمته والأخذ بعناصر القوة للأمة، حتى تستطيع أن تقوى وتتماسك وتثبت وتصمد أمام التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، لأن أعداء الله من المستكبرين قرروا أن يضعفوا المواقع الإسلامية كلها، وأن يسيطروا على كل اقتصاد المسلمين وسياستهم وأمنهم وحتى ثقافتهم، وأن يُخضعوا كل الذين يسيطرون من الداخل على بلاد المسلمين ممن وظّفهم الاستكبار العالمي ليكونوا سجّاناً لشعوبهم وحرّاساً لمصالحهم، وهذا ما لاحظناه في مواقف الاستكبار العالمي ـ والأمريكي بالذات ـ الذي يعمل على مصادرة كل أولئك الذين وُظّفوا ملوكاً ورؤساء وأمراء.

لا بد من وعي ذلك كله، لأن المرحلة التي وصلنا إليها هي مرحلة يراد منها تغيير العالم الإسلامي في سياسته وأمنه واقتصاده وثقافته لحساب المصالح الاستكبارية، وهذا ما لا يرضاه الله ورسوله ولا يرضاه احترامنا لإنسانيتنا وأمتنا. لذلك، فإن علينا في هذه المرحلة أن نبتعد عن ذهنية اللامبالاة والحياد، لننطلق إلى خصوصياتنا وننسى الأمور العامة التي سوف تنسف كل الخصوصيات لحساب الآخرين. إننا لا ندعو إلى الفوضى في الحماس والانفعال، لأنهما ـ وحدهما ـ قد يسقطان الأهداف، بل أن نكون حذرين، بحيث نخطط حيث يخطط الآخرون، وأن نواجه كل ما يكيدون فيه بخطط مماثلة، لأن المعركة ليست معركةً في حجم الشهور والسنين، بل هي معركة في حجم المستقبل كله والأجيال كلها، فماذا هناك؟

انصياع عربي للإملاءات الأميركية

ما هي نظرة أمريكا إلى الأنظمة العربية المتحالفة معها؟ هل هي إدارة الحوار حول القضايا المعقّدة التي تتحدّى المنطقة، أم هي تلقّي التعليمات السياسية والأمنية التي تضمن المصالح الأمريكية في المنطقة، والقيام بالتوقيع على كلّ الإملاءات، لا سيما بما يتصل بالقضية الفلسطينية؟؟

وهذا الأمر هو الذي جمع عناصر قمة "شرم الشيخ" برئاسة "الإمبراطور الأمريكي"، حيث تمّ إصدار بيان عربي لم يعلّق على الاحتلال الأمريكي للعراق، بما يوحي بالموافقة عليه ومنح الشرعية له، من دون إدانة لإرهاب الدولة في احتلال اليهود للأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة، بل أكد على رفض الحق العربي في مقاومة الاحتلال في فلسطين على أساس إدانة "العنف بجميع أشكاله"، حتى على مستوى حركة الانتفاضة ضد الاحتلال، باعتبارها "إرهاباً مرفوضاً"،

ولم يتحدثوا عن المطالبة بتجريد إسرائيل من أسلحة الدمار الشامل، التي تمثّل الخطر النووي الكيماوى والبيولوجي على المنطقة كلها، لأن أمريكا لا تسمح بإثارة هذه الأمور، لأن ذلك قد يزعج إسرائيل ويربك "خريطة الطريق".. كما إنها لم تسمح بالمطالبة بتفكيك كل المستوطنات، وحق جميع اللاجئين في العودة، والحق في القدس، لأن "شارون" لا يعترف بحق العودة ولا بالقدس كعاصمة للفلسطينيين، ولا يوافق على إزالة المستوطنات إلا بطريقة خادعة للاستهلاك الإعلامي..

وهكذا، ألغى البيان العربي بطريقة وبأخرى كلّ قرارات القمة العربية التي انعقدت في بيروت، لأن العرب الحاضرين في المؤتمر لا يجرؤون على الاعتراض على الإملاءات الأمريكية.. أما العرب الذين قد يثيرون التحفظات ويطالبون بالحرية للشعب الفلسطيني، وبإزالة الاحتلال لسوريا ولبنان، فلا مكان لهم في هذه القمة، لأن أمريكا لا تريد لأيّ عربي أن يسجّل أيّ تحفظ على سياستها جملةً وتفصيلاً..

العقبة: تقديم صك براءة لشارون

أما رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، فقد كان خطابه في قمة "العقبة" تقديم صكّ البراءة إلى "شارون" و"بوش"، بالإعلان عن عذابات اليهود التاريخية من دون أيّ إشارة إلى عذابات الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المحيطة بفلسطين، الذين لا علاقة لهم بما أصاب اليهود، بل إن الغرب هو المسؤول عن ذلك كله.. ثم الإعلان عن إسقاط الانتفاضة التي لم تنطلق من أجل الحل العسكري، بل من أجل إزالة الاحتلال، الذي تعتبر مقاومته حقاً إنسانياً ودينياً لجميع الشعوب، ولا ندري ماذا يملك "أبو مازن" من أوراق للضغط في الحل السياسي، وهل هناك أساس للثقة بأمريكا التي تلتزم في استراتيجيتها المعلنة بأمن إسرائيل في المطلق، من دون التزام بأمن الفلسطينيين والعرب إلا على هامش الأمن الصهيوني، بل إنها منحت "شارون" وجيشه الضوء الأخضر لتدمير كل البنية التحتية الفلسطينية بكل مواقعها ومؤسساتها، باعتبار ذلك دفاعاً عن النفس ضد ما تسمّيه الإرهاب؟!

إنّ الرئيس بوش تحدّث عن "شارون" بحذر، بالطريقة التي يتحدث فيها العاشق عن معشوقه في كلماتٍ لا تحمل أيّ التزام دقيق واضح حتى في الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، بل ترك ذلك للمفاوضات.. كما إنه لم يتحدث عن إزالة المستوطنات بالمطلق، بل عن إيجاد حالة تواصل بين المناطق الفلسطينية ولو من خلال الجسور المعلّقة، لتبقى الأرض للمستوطنين وللدولة الصهيونية المحتلة.. وقد كان العنوان الكبير للقمتين هو منع أيّ مساعدة عربية إنسانية وغير إنسانية للفلسطينيين، لأن ذلك سوف يكون مساعدةً للإرهاب، وقد أقرّ البيان العربي ذلك!!

إننا نخشى أن تكون المرحلة الحاضرة مرحلة الضغط العربي والدولي، وحتى في جانب السلطة الفلسطينية، لإيصال القضية الفلسطينية إلى دولة تملك العنوان السياسي ولكنها لا تملك الأرض والثروات الجوفية والأمن والحدود..

إن أمريكا قدّمت لإسرائيل احتلالها للعراق باعتباره القوة التي كانت تشكّل خطراً مستقبلياً على الدولة العبرية، وهي الآن تعمل على تحجيم الجيش العراقي ليبقى مجرد جيش يرابط على الحدود دون أن يملك القوة الرادعة في المنطقة.. كما تعمل الآن لتقدّم لإسرائيل خريطة الطريق لتأكيد أطماعها في استراتيجيتها السياسية والأمنية والاقتصادية، بالخديعة وبالضغوط الهائلة على الشعب الفلسطيني الذي كان تاريخه مع وعود الإدارات الأمريكية تاريخ الأحلام التي لا ترتكز على واقع..

استراتيجية التحرير والاستقلال

والمطلوب ـ الآن ـ من الشعب الفلسطيني، ولا سيما فصائل الانتفاضة المباركة، المزيد من الصمود والصبر والوعي، والبقاء مع استراتيجية التحرير والاستقلال، لأن الأنهار التي تدفّقت من دماء الشهداء والجرحى لا ترحم الذين يقدّمون التنازلات للعدوّ.. إن المرحلة بحاجة إلى التخطيط الدقيق الذي يبقي القضية حيّة في خط المواجهة، ويمنع الفتنة في داخل الشعب الفلسطيني..

والمطلوب من الشعوب العربية والإسلامية عدم الاستسلام للإحباط والخوف والاهتزاز أمام التحديات، لأن للشعوب كلمتها في تحقيق أهدافها حتى في نطاق الضغوط الهائلة.. إن المسألة في حجم المستقبل، وفي حجم الأمة، فلنتحمّل مسؤوليتنا جميعاً في ذلك كله.

لعراق يصنعه شعبه

ويبقى العراق في دوّامة الاحتلال الأمريكي الذي جعل من الواقع هناك ساحةً للتجارب، في نطاق الإرباك الذي أصاب قوة الاحتلال في متاهات الحلول.. ويبقى العراقيون يبحثون عن أبنائهم وإخوانهم وآبائهم وأمهاتهم في المقابر الجماعية التي تصل أرقامها إلى عشرات الآلاف، في مجزرة وحشية للطاغية الوحش وكل نظامه مما لا نجد له مثيلاً في التاريخ.. ويتذكّر العراقيون أن بعض هذه المجازر قد حصل بغطاء أمريكي، بمساعدته في سنة 1991للنظام الطاغي في تصفية الانتفاضة الشعبية العراقية، لأنها ـ في تلك المرحلة ـ كانت بحاجة إليه..

إننا نعيش مع أهلنا في العراق كلَّ أحزانهم وآلامهم، ونريد لهم أن يصبروا عن ذلك بالموقف من أجل عراق جديد يصنعه شعبه ولا يصنعه الاحتلال، وإننا على ثقة أنهم يملكون القدرة على ذلك بالوحدة والوعي والتخطيط للمستقبل.

وتبقى أمريكا تطلق تهديداتها على إيران، وتحرّك علاقاتها الدولية في سبيل إكمال الحصار الاقتصادي والسياسي على الجمهورية الإسلامية التي لم تسقط تحت تأثير الضغط والاحتواء الأمريكيين، ما جعل أمريكا تعلن حرباً دبلوماسية بالحديث عن السلاح النووي ودعم ما تسمّيه الإرهاب، بالأكاذيب التي استهلكتها ـ مع بريطانيا ـ في حربها على العراق.. ولكننا نعتقد أن الشعب الإيراني قادر على أن يصمد أمام الحرب، وينتصر على الاستكبار كله.

إبقاء المقاومة ضد الاحتلال

وأخيراً، يبقى لبنان المحتل في بعض أرضه، وسوريا في الجولان المحتل، خارج نطاق الاهتمام السياسي للرئيس الأمريكي، الذي يتحرّك من أجل سلام إسرائيل لا سلام شعوب المنطقة العربية، ولأن إسرائيل لا تزال مصرّة على احتلالها للأراضي اللبنانية والسورية من أجل المزيد من إدارة لعبة الاهتزاز، فإن أمريكا لا تحرّك ساكناً في هذا الموضوع..

والمطلوب في هذه المرحلة إبقاء المقاومة ضد الاحتلال، وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات الأمريكية ـ الإسرائيلية، والتأكيد على التخطيط في المسار السوري ـ اللبناني في حركة المنطقة، والعمل على أساس تجميد الخلافات الداخلية بالطريقة التي تتحرّك بها اللعبة السياسية، والانفتاح على قضايا الناس المعيشية بعيداً عن المناكفات والمساجلات الشخصانية، وليكن الحوار في داخل الوطن في الدائرة الموضوعية الهادئة، لأن الحوار بطريقة الصراخ السياسي والطائفي هو المسؤول عن المتاهات الطائفية التي يُدفع إليها البلد، ويسقط معها الوفاق.

لأن النبي(ص) والأئمة(ع) قدوتنا في السير في خط القيم:
لنكن روّاد الوحدة ومنتجي المحبة بدل الحقد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

مكارم الأخلاق

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم}، ويقول تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ويقول سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

لماذا هذا التأكيد في القرآن الكريم على تقديم النبي(ص) إلينا بهذه الصورة، وهو الكامل في كلِّ صفاته كشخصية أخلاقية، تنفتح بأخلاقيتها على مشاعر الإنسان لتحترم تطلعاته في خط الدعوة وفي خط الحياة وفي خط المسؤولية؟ ولماذا كانت الرسالة كلها حركة أخلاق، بحيث يختصر النبي(ص) كلّ الإسلام في مكارم الأخلاق؟

إن هدف الرسالة الإسلامية ـ كما هو هدف الرسالات التي أرسل الله تعالى بها رسله ـ هو أن يعيش الإنسان إنسانيته المودعة في شخصيته في إنسانية الإنسان الآخر، بحيث تحترم إنسانية الإنسان الآخر حتى لو اختلف معك كما تريده أن يحترم إنسانيتك. والأخلاق هي القيمة الإنسانية التي تربط بين الإنسان والإنسان الآخر لتفتح عقله وقلبه وحياته، لأنك عندما تحترم إنسانية الآخر فإن الآخر سوف ينفتح عليك، لأنه يشعر بأنه موجود فيك كما أنت موجود فيه.

أسس العلاقات الأسرية

ولذلك كان الأنبياء والأولياء هم القمّة في المسألة الأخلاقية، التي تجسّدت في بيوتهم مع أهلهم، وقد حدّثنا رسول الله (ص) عن سيرته مع أهله في الحديث المروي عنه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، لأن النبي(ص) كان يشعر بمسؤوليته في المحافظة على مشاعر أهله الذين يعيشون معه، إن على مستوى زوجاته أو على مستوى الذين ينتسبون إليه، لأنه يعتبر أن العلاقة بالزوجة والأولاد ليست علاقة مالك لمملوك حتى يستغل الإنسان ما يملكه من قوة لاضطهاد الإنسان الآخر وإسقاط إنسانيته، بل هي علاقة إنسان مع إنسان تقوم على أساس التعاقد بينهما كما هي العلاقة الزوجية التي ركزها الله على قاعدة المودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف، وكما في علاقة الإنسان بأولاده، وعلاقة الأولاد بأبيهم، والتي هي علاقة إنسانية، حمّل الله فيها الأب مسؤولية تربية إنسانية أولاده ورعايتها وحمايتها، ولذلك لم يسلّطك الله على أولادك سلطة القوي على الضعيف، وإنما أعطاك الولاية قبل بلوغهم من أجل أن تحوطهم برعايتك، لتمكّنهم من النموّ الطبيعي الذي يجعل منهم رجالاً أو نساءً يشاركون في بناء المجتمع والأمة.

لذلك، أراد الإسلام أن يركّز هذا المفهوم الأخلاقي، وهذا ما نلاحظه في حديث الله تعالى عن العلاقة بين الزوجين: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}، لأنك قد تنطلق من حالة مزاجية تجعلك لا تعرف عنصر الخير في الطرف الآخر، فالمزاج لا يحدد درجة الخير والشر في الإنسان الآخر، لأن المزاج مشاعر، أما مسألة الخير والشر، فإنها تأتي من الدراسة للعناصر الشخصية في الإنسان الآخر، ربما لا يلتقي مزاجك مع شخص ولكنه قد يكون في أعلى درجات الخير، وربما يلتقي مزاجك مع شخص وقد يكون في أعلى درجات الشر، لذلك، فإن القيمة الأخلاقية شيء والمزاج الذاتي شيء آخر، ولذلك لا يمكن أن تجعل حياتك خاضعة لمزاجك، بل تجعل حياتك خاضعة لمعنى الإنسانية في أخلاقك.

الحقوق المتبادلة

وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه حتى في كل مواقعنا، في الحياة العائلية والحياة الاجتماعية وما إلى ذلك، فإذا ما عشت في المجتمع، فإن عليك أن لا تعتبر أنك تمثل الشخصية التي ترى أنه يجب على المجتمع أن يؤدِّي حقوقها، ولا تطلب من ذاتها أن تؤدي حقوق المجتمع، وذلك لأن الحقوق والواجبات متبادلة في كلِّ مجالات الحياة. عندما ندرس خطاب كل من النبي (ص) والإمام عليّ(ع)، فإننا نجد أنه كان يتركز على قاعدة "لي عليكم حق ولكم عليّ حق".. بل أكثر من ذلك، نجد أن الله تعالى ـ وهو إله الكون، ولا حق لأحد عليه لأننا صنعته ـ من رحمته ولطفه، أرادنا أن نقوم بحقه في توحيده وطاعته وعبادته، وجعل لنا حقاً في أن يرزقنا ويرعانا ويلطف بنا ويدخلنا الجنة إذا أحسنّا.

لذلك، فإن الإنسان الذي يعتبر نفسه هو العالم وكل الناس غثاء، هو إنسان يعيش العقدة ويحبس نفسه في زنزانة ذاته من الناحية المادية، لأن الإنسان كلما كان يحمل سمات إنسانية أكثر، كلما انفتح على مسؤولياته في الحياة أكثر، وقد قال النبي (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، بقدر ما تخدم الناس وترعاهم وتتواضع لهم وتعيش معهم كواحد منهم، بقدر ما تكون قائداً ورسالياً، ومن هو أفصل من النبي (ص)؟ رسول الله (ص) كان يعيش مع أصحابه كواحد منهم، لا يميّز نفسه أبداً ، ويقول أحد أصحابه: "كان فينا كأحدنا"، حتى إن القادم إلى النبي (ص) وهو جالس مع أصحابه كان يسأل: "أيكم محمد"؟ ويقال إن النبي (ص) كان سائراً والتقته امرأة فارتعدت لهيبته، فقال (ص): "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد في مكة".

هذا الخطّ الأخلاقي العظيم هو الذي يعطينا الحسّ الإنساني، لأننا بدأنا بفعل السيطرة المادية واعتبار المنفعة والمصلحة والمطامع أساس العلاقات الإنسانية، بدأنا نفقد هذا الحسّ والقيم الإنسانية في علاقاتنا السياسية والدينية والاجتماعية، ووصلنا إلى وضع صار فيه العقل والقلب والإحساس والشعور عملةً، وأصبح تكويننا يدخل في حسابات البورصة لا في حسابات القيم الأخلاقية..

إعادة النظر في القيم الاجتماعية

لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في قيمنا الاجتماعية، ومن المؤسف أننا بدأنا نربي أطفالنا على هذا الأساس، وافتقدنا ـ كظاهرة ـ في مجتمعنا معنى المحبة، نحن لا نربي بعضنا بعضاً على المحبة بل على الحسابات، أما أن تحبّ إنساناً لإنسانيته فهذا غير وارد، وأصبحنا ننتج الحقد ونعلّم أولادنا على مقاطعة فلان والحقد على فلان، وعندما دخلت الأحزاب ـ كل الأحزاب ـ بدأت تبث ثقافة المقاطعة: لا تتكلموا عن فلان ولا تصلّوا عند فلان، ولا تذهبوا إلى المسجد الفلاني، حتى أصبحنا مجتمعاً يربي الأجيال في المسألة السياسية والدينية والاجتماعية على الحقد، ويدّعي أن هذا الحقد مقدّس، ولا أدري كيف يكون الحقد مقدّساً؟

إن مجتمعنا يتخبط في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر، ادرسوا كل الواقع من حولكم لتجدوا من منا يعيش الراحة في هذا المجتمع، والمشكلة أن هذه التعقيدات الداخلية المتعبة تنعكس على تخطيط الآخرين ضدنا. الآخرون في كل جامعاتهم يدرسون بشكل واسع وعميق عادات الشعوب وتقاليدها والعلاقات بين بعضها البعض، واختلاف الأديان والمذاهب والخطوط السياسية، ويقدّمونها كدراسات من خلال اختصاصيين، ليقدّموا هذه الدراسات إلى المخابرات لتعرف كيف توسّع الثغرة بين الناس لتزيد من الحقد الطائفي والمذهبي والحزبي، حتى أصبحت القضايا تتصل بقضايا الاستقرار والحرية ومواجهة الاستكبار العالمي ضد الأمة.

وفي العودة إلى الفترة الماضية، نلاحظ كيف كانت أوضاعنا في لبنان، وكيف عشنا الحقد الطائفي والمذهبي والسياسي، حتى كان الصغير والكبير يفكّر كيف يقتل الآخر، وأنا أذكر في أيام الحرب كيف كان بعض الصبية يأتون ليأخذوا الفتوى في قتل فلان وتفجير المحل الفلاني. إن هذه الثقافة شملت كل شرائح المجتمع وطوائفه، فمن أين جاء هذا الواقع؟ جاء من خلال الذهنيات التي تحاول أن تنتج الحقد في الناس، بحيث نحاول دائماً أن نبحث عن الفواصل التي تفصل بعضنا عن بعض لا عن الجوامع التي تجمعنا، ومن الطرائف أن بعض الناس المتعصّبين ـ عند السنّة والشيعة ـ يقول "إن السنّة عندهم إله غير إلهنا ونبيّهم غير نبيّنا"، وبعض آخر يقول إن الشيعة مشركون وما إلى ذلك، أما مواضع اللقاء فإننا لا نبحث عنها، والله تعالى علّمنا كيف نتعامل مع أهل الكتاب، وهل اليهود والنصارى في عقيدتهم أقرب للشيعي من السنّي، أو للسنّي من الشيعي، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}.

التدرب على إنتاج المحبة

إنّ علينا أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن النبي (ص) ومن أهل البيت(ع) الذين قد نختلف مع السنّة على حسابهم، مع أنهم (ع) روّاد الوحدة الإسلامية، فهذا الإمام عليّ (ع) ـ وهو صاحب الحق الشرعي ـ نرى أنه عاون الخلفاء الذين تقدّموه وأعطاهم النصيحة والمشورة وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"..

أيها الأحبة: إنكم تتدربون على كثير من المهن وعلى حمل السلاح، فما رأيكم أن نتدرّب كيف نحرك عقولنا بالخير ونتدرب على المحبة والتسامح والحوار، ونتدرب على أن نجعل من مجتمعنا جنّة مصغّرة على الأرض حتى نعيش جوّ الجنة.. إن الجنة جميلة، ولكنها تحتاج إلى جهد، والحديث يقول: "ما رأيت كالجنة نام طالبها، وما رأيت كالنار نام هاربها".

{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. رسول الله (ص) هو قدوتنا في كل شيء، وقد كانت أخلاقه هي القرآن، فليكن (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) وابنته الصدّيقة الطاهرة (ع) قدوتنا في السير في خط القيم الروحية والأخلاقية.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله واعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرّقوا، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، وعليكم بالتواصل والتباذل، لينفتح المؤمن على المؤمن، وليتحسس مسؤوليته في وحدة أمته والأخذ بعناصر القوة للأمة، حتى تستطيع أن تقوى وتتماسك وتثبت وتصمد أمام التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، لأن أعداء الله من المستكبرين قرروا أن يضعفوا المواقع الإسلامية كلها، وأن يسيطروا على كل اقتصاد المسلمين وسياستهم وأمنهم وحتى ثقافتهم، وأن يُخضعوا كل الذين يسيطرون من الداخل على بلاد المسلمين ممن وظّفهم الاستكبار العالمي ليكونوا سجّاناً لشعوبهم وحرّاساً لمصالحهم، وهذا ما لاحظناه في مواقف الاستكبار العالمي ـ والأمريكي بالذات ـ الذي يعمل على مصادرة كل أولئك الذين وُظّفوا ملوكاً ورؤساء وأمراء.

لا بد من وعي ذلك كله، لأن المرحلة التي وصلنا إليها هي مرحلة يراد منها تغيير العالم الإسلامي في سياسته وأمنه واقتصاده وثقافته لحساب المصالح الاستكبارية، وهذا ما لا يرضاه الله ورسوله ولا يرضاه احترامنا لإنسانيتنا وأمتنا. لذلك، فإن علينا في هذه المرحلة أن نبتعد عن ذهنية اللامبالاة والحياد، لننطلق إلى خصوصياتنا وننسى الأمور العامة التي سوف تنسف كل الخصوصيات لحساب الآخرين. إننا لا ندعو إلى الفوضى في الحماس والانفعال، لأنهما ـ وحدهما ـ قد يسقطان الأهداف، بل أن نكون حذرين، بحيث نخطط حيث يخطط الآخرون، وأن نواجه كل ما يكيدون فيه بخطط مماثلة، لأن المعركة ليست معركةً في حجم الشهور والسنين، بل هي معركة في حجم المستقبل كله والأجيال كلها، فماذا هناك؟

انصياع عربي للإملاءات الأميركية

ما هي نظرة أمريكا إلى الأنظمة العربية المتحالفة معها؟ هل هي إدارة الحوار حول القضايا المعقّدة التي تتحدّى المنطقة، أم هي تلقّي التعليمات السياسية والأمنية التي تضمن المصالح الأمريكية في المنطقة، والقيام بالتوقيع على كلّ الإملاءات، لا سيما بما يتصل بالقضية الفلسطينية؟؟

وهذا الأمر هو الذي جمع عناصر قمة "شرم الشيخ" برئاسة "الإمبراطور الأمريكي"، حيث تمّ إصدار بيان عربي لم يعلّق على الاحتلال الأمريكي للعراق، بما يوحي بالموافقة عليه ومنح الشرعية له، من دون إدانة لإرهاب الدولة في احتلال اليهود للأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة، بل أكد على رفض الحق العربي في مقاومة الاحتلال في فلسطين على أساس إدانة "العنف بجميع أشكاله"، حتى على مستوى حركة الانتفاضة ضد الاحتلال، باعتبارها "إرهاباً مرفوضاً"،

ولم يتحدثوا عن المطالبة بتجريد إسرائيل من أسلحة الدمار الشامل، التي تمثّل الخطر النووي الكيماوى والبيولوجي على المنطقة كلها، لأن أمريكا لا تسمح بإثارة هذه الأمور، لأن ذلك قد يزعج إسرائيل ويربك "خريطة الطريق".. كما إنها لم تسمح بالمطالبة بتفكيك كل المستوطنات، وحق جميع اللاجئين في العودة، والحق في القدس، لأن "شارون" لا يعترف بحق العودة ولا بالقدس كعاصمة للفلسطينيين، ولا يوافق على إزالة المستوطنات إلا بطريقة خادعة للاستهلاك الإعلامي..

وهكذا، ألغى البيان العربي بطريقة وبأخرى كلّ قرارات القمة العربية التي انعقدت في بيروت، لأن العرب الحاضرين في المؤتمر لا يجرؤون على الاعتراض على الإملاءات الأمريكية.. أما العرب الذين قد يثيرون التحفظات ويطالبون بالحرية للشعب الفلسطيني، وبإزالة الاحتلال لسوريا ولبنان، فلا مكان لهم في هذه القمة، لأن أمريكا لا تريد لأيّ عربي أن يسجّل أيّ تحفظ على سياستها جملةً وتفصيلاً..

العقبة: تقديم صك براءة لشارون

أما رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، فقد كان خطابه في قمة "العقبة" تقديم صكّ البراءة إلى "شارون" و"بوش"، بالإعلان عن عذابات اليهود التاريخية من دون أيّ إشارة إلى عذابات الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المحيطة بفلسطين، الذين لا علاقة لهم بما أصاب اليهود، بل إن الغرب هو المسؤول عن ذلك كله.. ثم الإعلان عن إسقاط الانتفاضة التي لم تنطلق من أجل الحل العسكري، بل من أجل إزالة الاحتلال، الذي تعتبر مقاومته حقاً إنسانياً ودينياً لجميع الشعوب، ولا ندري ماذا يملك "أبو مازن" من أوراق للضغط في الحل السياسي، وهل هناك أساس للثقة بأمريكا التي تلتزم في استراتيجيتها المعلنة بأمن إسرائيل في المطلق، من دون التزام بأمن الفلسطينيين والعرب إلا على هامش الأمن الصهيوني، بل إنها منحت "شارون" وجيشه الضوء الأخضر لتدمير كل البنية التحتية الفلسطينية بكل مواقعها ومؤسساتها، باعتبار ذلك دفاعاً عن النفس ضد ما تسمّيه الإرهاب؟!

إنّ الرئيس بوش تحدّث عن "شارون" بحذر، بالطريقة التي يتحدث فيها العاشق عن معشوقه في كلماتٍ لا تحمل أيّ التزام دقيق واضح حتى في الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، بل ترك ذلك للمفاوضات.. كما إنه لم يتحدث عن إزالة المستوطنات بالمطلق، بل عن إيجاد حالة تواصل بين المناطق الفلسطينية ولو من خلال الجسور المعلّقة، لتبقى الأرض للمستوطنين وللدولة الصهيونية المحتلة.. وقد كان العنوان الكبير للقمتين هو منع أيّ مساعدة عربية إنسانية وغير إنسانية للفلسطينيين، لأن ذلك سوف يكون مساعدةً للإرهاب، وقد أقرّ البيان العربي ذلك!!

إننا نخشى أن تكون المرحلة الحاضرة مرحلة الضغط العربي والدولي، وحتى في جانب السلطة الفلسطينية، لإيصال القضية الفلسطينية إلى دولة تملك العنوان السياسي ولكنها لا تملك الأرض والثروات الجوفية والأمن والحدود..

إن أمريكا قدّمت لإسرائيل احتلالها للعراق باعتباره القوة التي كانت تشكّل خطراً مستقبلياً على الدولة العبرية، وهي الآن تعمل على تحجيم الجيش العراقي ليبقى مجرد جيش يرابط على الحدود دون أن يملك القوة الرادعة في المنطقة.. كما تعمل الآن لتقدّم لإسرائيل خريطة الطريق لتأكيد أطماعها في استراتيجيتها السياسية والأمنية والاقتصادية، بالخديعة وبالضغوط الهائلة على الشعب الفلسطيني الذي كان تاريخه مع وعود الإدارات الأمريكية تاريخ الأحلام التي لا ترتكز على واقع..

استراتيجية التحرير والاستقلال

والمطلوب ـ الآن ـ من الشعب الفلسطيني، ولا سيما فصائل الانتفاضة المباركة، المزيد من الصمود والصبر والوعي، والبقاء مع استراتيجية التحرير والاستقلال، لأن الأنهار التي تدفّقت من دماء الشهداء والجرحى لا ترحم الذين يقدّمون التنازلات للعدوّ.. إن المرحلة بحاجة إلى التخطيط الدقيق الذي يبقي القضية حيّة في خط المواجهة، ويمنع الفتنة في داخل الشعب الفلسطيني..

والمطلوب من الشعوب العربية والإسلامية عدم الاستسلام للإحباط والخوف والاهتزاز أمام التحديات، لأن للشعوب كلمتها في تحقيق أهدافها حتى في نطاق الضغوط الهائلة.. إن المسألة في حجم المستقبل، وفي حجم الأمة، فلنتحمّل مسؤوليتنا جميعاً في ذلك كله.

لعراق يصنعه شعبه

ويبقى العراق في دوّامة الاحتلال الأمريكي الذي جعل من الواقع هناك ساحةً للتجارب، في نطاق الإرباك الذي أصاب قوة الاحتلال في متاهات الحلول.. ويبقى العراقيون يبحثون عن أبنائهم وإخوانهم وآبائهم وأمهاتهم في المقابر الجماعية التي تصل أرقامها إلى عشرات الآلاف، في مجزرة وحشية للطاغية الوحش وكل نظامه مما لا نجد له مثيلاً في التاريخ.. ويتذكّر العراقيون أن بعض هذه المجازر قد حصل بغطاء أمريكي، بمساعدته في سنة 1991للنظام الطاغي في تصفية الانتفاضة الشعبية العراقية، لأنها ـ في تلك المرحلة ـ كانت بحاجة إليه..

إننا نعيش مع أهلنا في العراق كلَّ أحزانهم وآلامهم، ونريد لهم أن يصبروا عن ذلك بالموقف من أجل عراق جديد يصنعه شعبه ولا يصنعه الاحتلال، وإننا على ثقة أنهم يملكون القدرة على ذلك بالوحدة والوعي والتخطيط للمستقبل.

وتبقى أمريكا تطلق تهديداتها على إيران، وتحرّك علاقاتها الدولية في سبيل إكمال الحصار الاقتصادي والسياسي على الجمهورية الإسلامية التي لم تسقط تحت تأثير الضغط والاحتواء الأمريكيين، ما جعل أمريكا تعلن حرباً دبلوماسية بالحديث عن السلاح النووي ودعم ما تسمّيه الإرهاب، بالأكاذيب التي استهلكتها ـ مع بريطانيا ـ في حربها على العراق.. ولكننا نعتقد أن الشعب الإيراني قادر على أن يصمد أمام الحرب، وينتصر على الاستكبار كله.

إبقاء المقاومة ضد الاحتلال

وأخيراً، يبقى لبنان المحتل في بعض أرضه، وسوريا في الجولان المحتل، خارج نطاق الاهتمام السياسي للرئيس الأمريكي، الذي يتحرّك من أجل سلام إسرائيل لا سلام شعوب المنطقة العربية، ولأن إسرائيل لا تزال مصرّة على احتلالها للأراضي اللبنانية والسورية من أجل المزيد من إدارة لعبة الاهتزاز، فإن أمريكا لا تحرّك ساكناً في هذا الموضوع..

والمطلوب في هذه المرحلة إبقاء المقاومة ضد الاحتلال، وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات الأمريكية ـ الإسرائيلية، والتأكيد على التخطيط في المسار السوري ـ اللبناني في حركة المنطقة، والعمل على أساس تجميد الخلافات الداخلية بالطريقة التي تتحرّك بها اللعبة السياسية، والانفتاح على قضايا الناس المعيشية بعيداً عن المناكفات والمساجلات الشخصانية، وليكن الحوار في داخل الوطن في الدائرة الموضوعية الهادئة، لأن الحوار بطريقة الصراخ السياسي والطائفي هو المسؤول عن المتاهات الطائفية التي يُدفع إليها البلد، ويسقط معها الوفاق.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية