ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قل إن كنتُم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.
ويقول تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب}.
التوحيد في الحب
في كل ما جاء به رسول الله والأنبياء من قبله وسار عليه الأولياء، هو هذه العلاقة الصادقة المخلصة الحميمة بين عباد الله وبين الله، أن يحب الإنسان ربه حباً يملك عليه كل عقله، ليكون الله في داخل عقله عندما يفكّر، وأن يملك عليه كل قلبه، ليكون الله في داخل قلبه عندما يحب، ويكون الله في داخل حياته، فلا يكون لغير الله أية شراكة في كل جوانب حياته, وقد كان رسول الله(ص) يمثّل هذا الحب الكبير لله سبحانه وتعالى، ولذلك أوذي كما لم يؤذَ رسولٌ من قبله، وعندما تحركت الأحقاد ضده رفع طرفه إلى السماء وقال: "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي"، ما دمت يا رب تحبني وما دمتُ أحبك فلا مشكلة أمام كل الناس، في كل ما يقومون به. هذا التوحيد في الحب هو الذي جعل هذه الآية الكريمة تؤكد، من خلال الله، أن العلاقة القائمة على محبة الله تعني أن تتبعوا حبيب الله، الرسول(ص)، لأن رسول الله(ص) {لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى}، فهو يحدثكم عن الله في كل ما قاله، وفي كل ما أراده منكم. وقد تحدّث الله عن الناس الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، هؤلاء الذين استغرقوا في حبهم للناس، بحيث أنهم أخذوا بأسباب الغلو، فساووا بين الله وبين خلقه، والله يقول لهم، إنه مهما كانت عظمة المخلوق، ليكن نبياً ليكن إماماً، ليكن ولياً، فهو عبد لله، لا تساووا الله بأحدٍ من خلقه، لا تقتربوا بأحد من خلقه إلى مقامه {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}. هذا التوحيد في الحب هو التوحيد في العقيدة، هو التوحيد الذي يعيش في الإنسان التوازن ليعطي كل ذي حقٍّ حقه، فلا ينـزل أحداً عن حق، ولا يرفع أحداً عن حقه.
حياتي في خط الرسالة
أيها الأحبة، في هذا الخط الإسلامي والإنساني، خط الحب لله، الذي نشأت عليه منذ طفولتي الأولى، حين كنت في جوار علي(ع)، هذا الحب لله الذي عاش في عقلي وقلبي وحياتي، هو الذي جعلني أشعر بأن حياتي لا بد أن تكون في خطِّ الرسالة، في خط رسالة الإسلام، لأنها أمانة الله ورسوله في أعناقنا، ولذلك حاولتُ منذ أكثر من خمسين سنة، أن أدرس ما يعرّفني بالله وما يقرّبني إليه، وما يطلُّ بي على أسرار الإسلام في القرآن، وفي السنّة، وفي كل المفاهيم، في كل الحياة والواقع، وقد عشتُ الصراع المرير منذ ذلك الوقت مع كل الذين يعيشون الكفر بالله، ويعيشون الشرك بالله، ويعيشون التخلّف والغلوّ، كانت المسألة عندي هي أن الله علّمنا من خلال رسوله(ص) أن نحب الناس، وكنتُ منذ الطفولة أحبّ كل الناس، ولم يدخل في قلبي ـ والله شاهد على ذلك ـ الحقد على إنسان، ولا العداوة، كنت ولا أزال أحب الذين أتفق معهم على تأكيد الرسالة، وأحب الذين أختلف معهم، لأتحاور معهم لأفتح قلوبهم على الحق، كنت أشعر أن الإنسان الذي يعمل ويحمل الرسالة، لا يمكن أن يعيش في قلبه الحقد، ولا العداوة أو البغضاء، لأن الحقد على الناس يغلق القلوب، ولقد كان النبي(ص) يعيش القلب المفتوح والعقل المفتوح واللسان المفتوح {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم}.
لذلك، أيها الأحبة، عشت هذه الحياة، وأنا أشعر بأن الحقيقة أمانة الله عندي، وكان الناس الذين يلومونني يقولون، لماذا تتحدث بشيء لا يعجب الناس؟ ولماذا تفتي ببعض الفتاوى التي يستغربها الناس؟ لماذا تثير الناس من حولك؟ جاملهم ولا تقل الحقيقة، ولكني كنت أقول: إنّ حساباتي ليست معكم، بل هي مع الله، إن الله هو الذي حمّلنا مسؤولية أن نكون الصادقين في أداء الرسالة، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم، كانت المسألة عندي، أن موقعي واسمي لا يمثّلان عندي شيئاً، ليسبّني من يسبّ، وليشهّر من يشهّر، وليكذب من يكذب، وليحرف الكلام عن موضعه من يريد أن يحرّف، لكن الله وحده هو الذي يدافع عن الذين آمنوا، والذي كنت أرجوه من الله هو أن يرزقني الإخلاص في عملي، وليس لديَّ مشكلة، وإني أتمثّل بقول الإمام الحسين(ع): "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله". ولذلك فما دام الله ينظر إليَّ فلا مشكلة.
أيّها الأحبة، لقد انفتح قلبي لكل مشاعركم الطيبة الصادقة ولكل عواطفكم، ولكل إخلاصكم، رجالاً ونساءً، لقد شعرتُ بأنني في قلوبكم كما أنتم في قلبي.. سأقول لكم كلمة، ما دامت في العمر بقية، سوف أبقى مخلصاً لكم بأن أكون الصادق معكم، لن أجامل استكباراً عالمياً حتى لو كان في حجم أميركا، لن أجامل استكباراً إقليمياً، حتى لو كان في حجم الصهيونية، لن أجامل الخرافيين، لن أجامل المتخلّفين..
البقاء في خط الوحدة
القضية عندي هي أن أقول الحقيقة التي أعتقد أنها بيني وبين الله، لقد حمّلتموني أمانة كل هذه الثقة وكل هذا الإخلاص، سوف أكون إن شاء الله أميناً على هذه الثقة، وسوف أعمل على أن أقدم لكم صغيراً وكبيراً، رجلاً وامرأة، حياتي كلها، في ما أرجوه لله، في خدمة الله، وفي خدمة الإسلام، وخدمة خط أهل البيت(ع)، لأنني أريد ـ أيها الأحبة ـ أن أقدّم خط أهل البيت للعالم بطريقة حضارية، لا بطريقة خرافية، ولا بطريقة المتخلّفين، أريد أن أقدم تراث أهل البيت(ع)، وهو التراث الإسلامي الأصيل، للغرب والشرق، ليعرفوا أن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع) هم الذين يصنعون الحضارة بعيداً عن كل الذين يركزون على الخرافة والتخلّف والعصبية والحقد والبغضاء، سأبقى مع خط الوحدة في داخلنا، ومع خط الإسلام في خط الواقع الإسلامي، ومع خط الوحدة ضد المستكبرين والظالمين، وأقول ما قاله جدي رسول الله(ص) في مواجهة الذين كانوا يكيدون له، وكانوا يستهزئون به: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله في الوقوف مع الحق، وفي خطِّ العدل، وفي مواجهة الكفر كله، والاستكبار كله، فقد برز الكفر كله والاستكبار كله إلى الإيمان كله، وإلى الاستضعاف كله، وعلينا أن نعد العدة في وحدتنا التي هي أساس القوة، وفي النصح لبعضنا البعض، وفي الانفتاح على الواقع بكل مسؤولية..
اليمين الأمريكي... تضليل إعلامي
اليمين الأمريكي ممثَّلاً بالإدارة الأمريكية يتحدّى العالم بالحرب، ويقوم بحملة تضليلية إعلامية لتسويق أكاذيبه المنسوجة بطريقة استخباراتية لخدمة مصالحه، في حركة تستهدف العرب والمسلمين تحت أكثر من شعار، وتصل إلى مستوى الضغط على المواطنين الأمريكيين من العرب والمسلمين، بالوسائل القانونية الجاهزة لدى وزارة العدل يومياً، حتى صار كل عربي أو مسلم أمريكي مُداناً حتى تثبت براءته.
أما الواقع الدولي، حتى في مجلس الأمن فيتحرّك وفق حسابات المصالح، في الوقت الذي تقوم أمريكا بعملية ابتزازه التي تبدأ بسياسة المهادنة والمجاملة، لتصل إلى مستوى القرار الأمريكي الذي يحاول الحصول على الشرعية الدولية لحربه ضد المنطقة..
أمّا العرب، فإنّهم يلتقون ويجتمعون في مستويات مختلفة ولا قرار، ثمّ يسافرون إلى مواقع قيادة القرار، ويتوسّلون.. ولا نتيجة.. ويبقى الضعف والاستضعاف والعجز الاختياري هو طابع السياسة العربية أمام الهجمة الأمريكية حتى الآن.
اليمين الإسرائيلي تجسيد للعنصرية
أمّا اليمين الإسرائيلي، فقد فاز بالانتخابات ليجسّد الحقيقة اليهودية التي تفيد أن اليهود في فلسطين يمنحون تأييدهم لمن يقتل الفلسطينيين أكثر، ولمن يجسّد العنصرية الصهيونية ضد العرب والمسلمين أكثر، ولمن يمنع الشعب الفلسطيني، الذي قدّم قادتُه التنازل عن أكثر أرض فلسطين، من تقرير مصيره، إلا على هامش الدولة العبرية، ما يجعل القضية في نطاقها العنصري قضيّة الحقد اليهودي الصهيوني ضدّ كل ما هو عربي وإسلامي، لا قضيّة حزب هنا أو حزب هناك.. ولتكون النتيجة الحاسمة، هي أنّه لا فرق بين يمين ويسار ووسط في إسرائيل إلا بالتفاصيل.
ولا يزال الحديث السياسي في الحوار الفلسطيني حول هدنة فلسطينية من جانب واحد، من دون أن تقدّم الدولة الصهيونية أيّ التزام بالانسحاب من الأراضي المحتلة في مقابل ذلك، تماماً كما لو كانت القضية هي إثبات الفلسطينيين حُسن سلوكهم أمام سلام اليهود الذين يرفضون السلام إلا بشروطهم العنصرية.
العرب والمسلمون في غيبوبة
إن المسألة تعود الآن إلى نقطة الصفر، لأن العرب لا يملكون أيّ دور في أيّ حل شرعي للمسألة الفلسطينية، فهم ينتظرون القرار الأمريكي الخاضع للقرار الإسرائيلي في "خطّة الطريق" التي لن ترى النور إلا من النافذة الشارونية.
إنّنا نتساءل: ما معنى أن يقف 300 مليون عربي بلا دور فاعل في قضاياهم المرتبطة باللحم الحيّ؟ وما معنى أن يصمت مليار مسلم عن القضايا الإسلامية المصيرية، وفي مقدّمتها قضيّة فلسطين والمنطقة؟
إن البابا وحدَه هو الذي حذّر أمريكا من كراهية مليار مسلم لها.. ولم ينطلق صوتٌ إسلامي واحد بمثل هذا التحذير .
إنّنا نتساءل عن هذا المصير البائس للمسلمين.. هل هناك غيبوبة إسلامية على مستوى الشعوب للموقف الحاسم القوي، بحيث تهتز الأرض تحت أقدام المستكبرين والصهاينة، أم أن بعض الأنظمة الخاضعة للاستكبار صادرت شعوبها؟!
لقد انطلق أكثر من بلد غربي محذّراً ومستنكراً.. فمتى نسمع صوت البلاد الإسلامية والعربية؟؟
المواجهة: الخيار الوحيد
إن المسلمين يلتقون في هذه الأيام في مؤتمرهم العبادي السنوي في موسم الحجّ، فهل نأمل بلقاءات على مستوى القيادات الإسلامية الفاعلة، حكوماتٍ وشعوباً، لإصدار القرار الإسلامي الموحّد، لتجميد الخلافات والتأكيد على الوحدة، والوقوف بقوة أمام الأخطار الكبرى الصاعقة، ولإيجاد علاقات ميثاقية صادقة حادّة، من أجل الدفاع عن المصير المشترك؟؟
ويبقى للانتفاضة دورها الريادي في إطلاق الضوء الكبير في هذا العالم، وللمقاومة ضدّ الاستكبار والصهيونية موقفها القوي في خط المواجهة. فهذا هو الخيار الوحيد، ونريد للبنان وسوريا وإيران الموقف الواعي الحذر الذي يرصد الموقف الأمريكي الإسرائيلي بكل دقّة، لأن العواصف التي يخطط لانطلاقها في المنطقة قد تربك الأوضاع كلها على جميع المستويات، ما يفرض علينا جميعاً الاستعداد لكل طارئٍ أمني أو سياسي على كل صعيد.
أمّا في لبنان الداخل، فإننا نريد لهذه الهدنة الرسمية المتوازنة أن تأخذ بالمناخ العاقل الهادئ الذي لا يستهلك الملفات الاقتصادية والسياسية في سياق تسجيل النقاط، بل يحرّكها في دراسة دقيقة واقعيّة في نطاق الإمكانات المعقولة، على مستوى الإيجابيات والسلبيات، لينطلق لبنان، الحكم الواحد والحكومة الواحدة والمجلس الواحد والوطن والمواطن الواحد..
الفساد بحاجة إلى صدمة
وتبقى كلمة أخيرة.. منذ الخمسينات صدر قانون: "من أين لك هذا؟".. والسؤال: ما هو السرّ الذي يدفع كل مرحلة إلى تجميده؟.. ومنذ زمن بعيد يتحدّث الجميع عن الهدر والفساد والسرقات، حتى أن أكثر المسؤولين يشكون من ذلك في وزاراتهم وإداراتهم.
إن لبنان يبحث عن بطل قائد حكيم مستعد ليكون كبش فداء للإنسان في وطنه.. إن وحش الفساد بحاجة إلى صدمة قويّة رساليّة، فكيف نحقّق ذلك؟؟.. إنّه خشبة الخلاص للبلد كلّه. |