أفشِ السلام.. وأنصف الناس من نفسك

أفشِ السلام.. وأنصف الناس من نفسك
 
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ،
ومما جاء في خطبته الأولى :
 

صياغة الشخصية على أساس العدل

إن الإسلام في كل تعاليمه أراد للإنسان ـ رجلاً أو امرأة ـ أن يصوغ شخصيته بالطريقة التي يكون فيها الإنسان العادل، بحيث يتمثّل العدل في كل أوضاعه وأقواله وأفعاله، لأن الحياة كلها تتقوّم وتتوازن في كل المجتمعات الإنسانية إذا أخذ الناس بأسباب العدل، وقد أكد الله تعالى في سورة "الحديد" أن كل الرسل والرسالات جاءت من أجل إقامة العدل بين الناس، {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، والقسط هو العدل، وبه تتوازن المجتمعات الإنسانية، سواء في حربها وسلمها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

ومن مظاهر العدل أن يعيش الإنسان العدل في نفسه، وهو ما عبّرت عنه الأحاديث الشريفة بكلمة الإنصاف، أن تنصف الناس من نفسك، يعني أن تدرس كل علاقاتك مع الناس، في مشاعر الناس وأحاسيسهم، في حقوقهم الإنسانية والتعاقدية في ما يتعاقد به الناس مع بعضهم البعض، لتحكم على نفسك في ما يستحقه الناس عليك، بحيث لا تحتاج أن يقدّم أحد دعوى عليك لكي يأخذ حقه منك، أو يأتي إليك الوسطاء لتعطيهم حقهم، ولا سيما بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يملكون القوة والقدرة على أن ينتصفوا منك، كما في الحياة العائلية، فبحسب الواقع الاجتماعي الرجل أقوى من المرأة في البيت ـ بشكل عام ـ وكذلك في علاقة الأب بأبنائه، حيث هو الأقوى، وهكذا بالنسبة إلى القوي والضعيف في كل موارد القوة والضعف، وعادة الإنسان الذي يملك قوة وسلطة لا يُلاحظ المشاعر الإنسانية للإنسان الآخر، مثلاً الرجل بشكل عام يلاحظ نفسه في الحياة الزوجية أو الأبوية، فيبحث عما يشبع جوعه ورغبته ويريح جسمه وما يستجيب لعنفوانه وكبريائه، أما أن يرتاح الإنسان الآخر ـ زوجة أو أولاداً ـ فهذه ليست مشكلته، إلا من عصم الله تعالى، المهم أن يرتاح ولو على حساب زوجته وأولاده..

وتصل القضية إلى الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، وما إلى ذلك، لهذا ركّزت التعليمات الإسلامية على أن ينصف الإنسان الناس من نفسه، وهذا أولاً يحتاج إلى أن تتحقق مسألتان في نفس الإنسان، الأولى أن يعيش إنسانيته ويعترف بإنسانية الآخر، وهذا ما لاحظه الحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها"، بحيث يعيش مع الإنسان الآخر وأحاسيسه تماماً كما لو كان هو الآخر، وقد ربطها النبي (ص) بالإيمان.. والمسألة الثانية هي أن يفكر الإنسان بحسابات الله تعالى يوم القيامة، بحيث يعيش المسؤولية في الوقوف بين يدي الله.

طيبو الخلق مأواهم الجنة

ونقرأ بعض أحاديث الأئمة من أهل البيت (ع)، وقد قلنا إن كل ما جاء عنهم (ع) هو حديث رسول الله (ص)، فالأئمة (ع) ليس عندهم شيء خاص بهم وإنما عاشوا كل رسول الله (ص) وكل القرآن، وتحدثوا بما جاء في كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله (ص):

ورد عن الإمام زين العابدين (ع) أن رسول الله (ص) كان يقول في آخر خطبته: "طوبى ـ طوبى بمعنى هنيئاً، ويُقال إنها منطقة في الجنة ـ لمن طاب خلقه، وطهرت سجيّته ـ طهرت نفسيته ـ وصلحت سريرته ـ كانت سريرته في كل ما ينويه السريرة الصالحة التي لا تحمل للناس إلا كل الخير ـ وحسنت علانيته ـ في مظهره وفي ما يبرزه في شخصيته الاجتماعية ـ وأنفق الفضل من ماله ـ فيما يفضل عن حاجاته ومؤونته ـ وأمسك الفضل من قوله ـ لا يتكلم إلا بالكلام اللازم، أما الزائد الذي يمثل اللغو فإنه يمسك لسانه عنه ـ وأنصف الناس من نفسه"، بحيث يحاسب نفسه ويحدّثها بما للناس من حق، ولا يحوج الناس إلى أن يطلبوا حقوقهم منه.

وعن الإمام الصادق (ع) يقول: "من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة: أنفق ولا تخف فقراً ـ أعطِ من يحتاج إلى عطائك ولا تفكر بالفقر، وهذه الكلمة مستوحاة من الآية الكريمة: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} ـ وأفشِ السلام في العالم ـ والسلام لها معنيان، الأول أن تسلّم على من تلتقي به، والثانية بأن لا يأتي للناس منك إلا ما فيه السلام ـ وترك المراء وإن كنت محقاً ـ اترك الجدال لأن الجدال يورث الخصومة ـ وأنصف الناس من نفسك". وعنه (ع): "سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء إلا رضيت لهم مثله، ومواساتك الأخ في المال، وذكر الله على كل حال"، وذكر الله لا أن تمسك المسبحة لكي تسبّح الله فحسب، بل فسّر الإمام الصادق (ع) "ذكر الله" بأنه إذا "ورد عليك شيء أمر الله عزّ وجلّ به أخذت به، وإذا ورد عليك شيء نهى الله عنه تركته".

إنصاف الناس مجلبة للعز

وفي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزاً"، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده ـ أن لا يجور عندما يغضب وينفعل على الإنسان الذي يغضب عليه ممن هو أضعف منه، بل استحضر خوفك من الله واستحضر عقلك وإنسانيتك فلا يدفعك غضبك إلى الظلم ـ ورجل مشى بين اثنين فلم يمل على أحدهما على الآخر بشعيرة ـ إذا أراد أن يصلح أو يحكم بين اثنين أن يحكم بالحق ـ ورجل قال الحق فيما له وما عليه".

لنربّ أنفسنا على العدل

والمسألة هي مسألة أن نربي أنفسنا على العدل، والعدل هو أن نعطي كل ذي حق حقه، وأن لا تدفعنا قدرتنا المالية أو السياسية أو الاجتماعية أو العضلية أو ما أشبه ذلك لأن نظلم الناس حقوقهم، سواء كان هؤلاء الناس ضعفاء أو أقوياء، لأن الله تعالى يريد للإنسان أن يكون العادل، بحيث إذا وقفنا بين يديه فلا يأتي أحد لكي يقول: يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين فلان فلقد ظلمني حقي، فإذا كان الإنسان العادل فإنه سيلقى الله تعالى وهو عنه راضٍ، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

ومشكلتنا أننا نستغرق بالدنيا ونعتبر أن ما يحيط بنا من شؤون الدنيا ومظاهر القوة فيها هو نهاية المطاف، فننسى الله تعالى والآخرة، لذلك فلنذكر دائماً موقفنا من الله، ولنذكر الله في كل شيء، حتى يمنعنا ذكرنا لله عن ظلم عباد الله، وذلك هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتقوا الله واعدلوا، فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون، وليكن عدلكم في أنفسكم ومع الله ومع النفس ومع الناس كلهم، ولتكونوا مع العادلين الذين يريدون أن يقيموا العدل في الحياة، وقفوا ضد الظالمين الذين يسقطون إنسانية الإنسان ويفرضون الظلم عليه، من كل هؤلاء الذين يعيشون الاستكبار، ليحصلوا على ما يريدونه من امتيازات في عالم المستضعفين..

ونحن نواجه في هذه المرحلة من حياتنا كمسلمين ومستضعفين الكثير من مواقع الظلم في العالم، ولا سيما ما نسمعه ونراه من حركة الاستكبار العالمي في كل مواقعنا الإسلامية، لينتقل من موقع إسلامي يستعمل فيه كل ما يملك من قوة التدمير، إلى موقع إسلامي آخر يهدده بقوته واستكباره، ليبتزه ويسقطه وليتدخل في كل شؤونه، وليستعلي عليه، فماذا هناك:

اتهامات أمريكية للمجاهدين بالإرهاب

لقد انضمت أمريكا إلى الكيان الصهيوني في إعلان الحرب على الانتفاضة بتهديد مجاهديها، تحت شعار الحرب على ما تسميه الإرهاب، وفي تهديد المقاومة الإسلامية في لبنان بالإعلان بأنها منظمة إرهابية، لأنها ـ كما الانتفاضة ـ تواجه الاحتلال الصهيوني الذي تدعمه أمريكا، باسم الدفاع عن الحرية.. في الوقت الذي تحارب فيه أمريكا الفلسطينيين الباحثين عن الحرية، من خلال السلاح الأمريكي المتطوّر الذي يقصف ويقتل ويدمّر ويحاصر ويعتقل، تحت غطاء الحلف الاستراتيجي مع العدو في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي وحماية احتلاله..

وتتحدث أمريكا عن إيران بأنها "دولة الشرّ"، لأنها تخطط لإنتاج السلاح النووي، على حدّ الزعم الأمريكي، في الوقت الذي وقّّعت فيه إيران على معاهدة الحظر على التجارب النووية، بينما لا تتحدث أمريكا عن إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، التي تهدد بعدوانيتها المنطقة وأربكت كل أوضاعها في القرن الماضي ولا تزال!! ولكن ما يجوز لإسرائيل ـ في نظر أمريكا ـ لا يجوز لغيرها، وهي ـ أمريكا ـ تدين إيران بأنها مسؤولة عن تقديم السلاح للفلسطينيين، من خلال السفينة المحتجزة من قِبَل إسرائيل، في الوقت الذي تبرّأت فيه إيران من مسؤوليتها عنها، ولكن أمريكا تبيح لنفسها أن تقدّم لإسرائيل أكثر الأسلحة تطوراً بالدرجة التي تتفوّق فيها على كل دول المنطقة.

خضوع أمريكي للدعاية الصهيونية

إن مشكلة الرئيس الأمريكي هي أنه يريد إخفاء فشله في المسألة الاقتصادية، باللعب على غرائز الشعب الأمريكي المملوء بالحقد على العرب والمسلمين، والخاضع للدعاية الصهيونية، كما أنه يهدف إلى تنمية شعبيته وشعبية حزبه في الانتخابات الفرعية القادمة، بتقديم الخدمات لليهود في أمريكا بالتأييد المطلق لإسرائيل.. إن الرئيس الأمريكي يحاول أن يستعرض عضلات أمريكا أمام العالم، ليثبت وحدانيته القيادية، وليلاحق عدوّاً مجهولاً خفيّاً كمثل الأشباح، ليحمّل الدول والشعوب مسؤولية البحث عمّن يسميهم الإرهابيين الذين تتهمهم أمريكا بتهديد المصالح الأمريكية، وتتحدث عن الخطر الذي يواجهها من خلالهم، من دون أن تقدّم دليلاً واحداً على هذا الاتهام؟!

إن مشكلة أمريكا هي أنها تمنح نفسها الحرية في مصادرة حريات الشعوب، ومواقعها الاستراتيجية، وثرواتها الطبيعية، وأسواقها الاقتصادية، ولا تسمح لأحد أن يعارضها أو يصرخ من هذه الحرب الأمريكية المجنونة التي تمارس فيها الإرهاب وتؤيده على مستوى الدولة، بحجة حماية مصالحها من الأخطار القادمة.. إنها تريد تغيير العالم على صورة مصالحها، ولا تريد أن تتغيّر لحساب مصالح الشعوب المستضعفة، ولا سيما الشعوب العربية والإسلامية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، الذي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لتدمير كيانه بالكامل، من دون أن تسمح لأي محور دولي بالتدخّل الفاعل لحمايته، حتى أنها سيطرت على مجلس الأمن الدولي، ومنعته من حماية هذا الشعب، وأعطت نفسها الحق في حلّ المشكلة الفلسطينية، ولكن لحساب إسرائيل ضد حسابات الشعب الفلسطيني الحيوية في تقرير مصيره، لتجعل أمره بيد المجرم "شارون"..

هوس أمريكي بوحدانية القيادة

إن على العالم ـ الذي بدأ يسجّل أكثر من نقطة سلبية ضد السياسة الأمريكية ـ أن يرتفع إلى مستوى المسؤولية الحضارية في حقوق الإنسان، وأن يتدخّل لحمايته من هذا الوحش الهائج المتعطّش للدماء، والمسكون بعقدة وحدانية القيادة الكونية، قبل أن يصنع المأساة للإنسان كله.. وعلى العرب ـ والمسلمين ـ الذين يعلنون في مؤتمراتهم عن التفريق بين المقاومة والإرهاب، ويدعون إلى مؤتمر دولي لبحث مفهوم الإرهاب، ويرون في الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان عنوانين لحركة تحرير، إن عليهم أن يعبّروا عن هذه المواقف بمواقف سياسية ضاغطة، استجابة للحرية وللعدالة من جهة، وللتكامل مع شعوبهم من جهة أخرى، لا أن يكتفوا بإصدار البيانات والقرارات التي توضع في الأدراج.

الشعب الفلسطيني.. دور طليعي جهادي

ويبقى للشعب الفلسطيني دوره الطليعي الجهادي، في الاستمرار في إبقاء المأزق الأمني في الواقع الصهيوني، بعيداً عن كل الوعود المعسولة في المفاوضات التي لن تمنحهم شيئاً، لأن الأوراق الرابحة في الصعيد السياسي بيد العدو، الذي تمنحه أمريكا في كل يوم أوراقاً جديدة.

إن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ ليست القضاء والقدر، وإن الشعوب لم تسقط في نقاط الضعف، فهناك أكثر من نقطة قوة نملك فيها الدخول في المواجهة من خلال تخطيط دقيق للحركة، نعرف فيها كيف نضع أقدامنا على طريق الحرية والعزة والكرامة، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.

لبنان دوامة الضجيج السياسي

أما لبنان فإنه يعيش في دوامة الضجيج السياسي الذي قد لا يؤدي إلى نتيجة، لأن المسألة تشبه الديكور الديمقراطي ولكن من دون ممارسة للتغيير، لأن هذا البلد محكوم بأن يبقى في الدوّامة وفي عملية تسجيل النقاط ولكن من دون حسم، وشعار المرحلة لدى الأكثرية: "سنعارض ونعارض ونعارض"، ثم بعد أن تهدأ الضجة "سنوافق ونوافق ونوافق ونرفع الأيدي"، من خلال أكثر من سرّ خفيّ في حركة الأشباح الخفيّة..

إننا نقول للمسؤولين: إن الناس خائفون، إن الناس جائعون.. إذا كنتم تريدون لبنان الوطن فلماذا لا تلتقون عليه؟ وإذا كنتم تريدون الخروج من النفق المظلم، فلماذا لا تبحثون عن نقاط الضوء في آخره؟ وإذا كنتم تريدون الحلّ للمشكلة الاقتصادية والسياسية، فلماذا لا تتعاونون في البحث عن حلّ؟

إن المرحلة التي تمر بها المنطقة في دوّامة الهجمة الأمريكية، وفي نطاق التحالف الدولي على ما يسمى الإرهاب، هي من أكثر المراحل خطورة، وهي بحاجة إلى المزيد من الوحدة والوعي والتخطيط، والبحث عن معالم الطريق، فلماذا نبقى في المتاهات الضائعة، نبحث عن جنس الملائكة، وعن تفاهات الأمور من دون جدوى؟؟

 
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ،
ومما جاء في خطبته الأولى :
 

صياغة الشخصية على أساس العدل

إن الإسلام في كل تعاليمه أراد للإنسان ـ رجلاً أو امرأة ـ أن يصوغ شخصيته بالطريقة التي يكون فيها الإنسان العادل، بحيث يتمثّل العدل في كل أوضاعه وأقواله وأفعاله، لأن الحياة كلها تتقوّم وتتوازن في كل المجتمعات الإنسانية إذا أخذ الناس بأسباب العدل، وقد أكد الله تعالى في سورة "الحديد" أن كل الرسل والرسالات جاءت من أجل إقامة العدل بين الناس، {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، والقسط هو العدل، وبه تتوازن المجتمعات الإنسانية، سواء في حربها وسلمها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

ومن مظاهر العدل أن يعيش الإنسان العدل في نفسه، وهو ما عبّرت عنه الأحاديث الشريفة بكلمة الإنصاف، أن تنصف الناس من نفسك، يعني أن تدرس كل علاقاتك مع الناس، في مشاعر الناس وأحاسيسهم، في حقوقهم الإنسانية والتعاقدية في ما يتعاقد به الناس مع بعضهم البعض، لتحكم على نفسك في ما يستحقه الناس عليك، بحيث لا تحتاج أن يقدّم أحد دعوى عليك لكي يأخذ حقه منك، أو يأتي إليك الوسطاء لتعطيهم حقهم، ولا سيما بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يملكون القوة والقدرة على أن ينتصفوا منك، كما في الحياة العائلية، فبحسب الواقع الاجتماعي الرجل أقوى من المرأة في البيت ـ بشكل عام ـ وكذلك في علاقة الأب بأبنائه، حيث هو الأقوى، وهكذا بالنسبة إلى القوي والضعيف في كل موارد القوة والضعف، وعادة الإنسان الذي يملك قوة وسلطة لا يُلاحظ المشاعر الإنسانية للإنسان الآخر، مثلاً الرجل بشكل عام يلاحظ نفسه في الحياة الزوجية أو الأبوية، فيبحث عما يشبع جوعه ورغبته ويريح جسمه وما يستجيب لعنفوانه وكبريائه، أما أن يرتاح الإنسان الآخر ـ زوجة أو أولاداً ـ فهذه ليست مشكلته، إلا من عصم الله تعالى، المهم أن يرتاح ولو على حساب زوجته وأولاده..

وتصل القضية إلى الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، وما إلى ذلك، لهذا ركّزت التعليمات الإسلامية على أن ينصف الإنسان الناس من نفسه، وهذا أولاً يحتاج إلى أن تتحقق مسألتان في نفس الإنسان، الأولى أن يعيش إنسانيته ويعترف بإنسانية الآخر، وهذا ما لاحظه الحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها"، بحيث يعيش مع الإنسان الآخر وأحاسيسه تماماً كما لو كان هو الآخر، وقد ربطها النبي (ص) بالإيمان.. والمسألة الثانية هي أن يفكر الإنسان بحسابات الله تعالى يوم القيامة، بحيث يعيش المسؤولية في الوقوف بين يدي الله.

طيبو الخلق مأواهم الجنة

ونقرأ بعض أحاديث الأئمة من أهل البيت (ع)، وقد قلنا إن كل ما جاء عنهم (ع) هو حديث رسول الله (ص)، فالأئمة (ع) ليس عندهم شيء خاص بهم وإنما عاشوا كل رسول الله (ص) وكل القرآن، وتحدثوا بما جاء في كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله (ص):

ورد عن الإمام زين العابدين (ع) أن رسول الله (ص) كان يقول في آخر خطبته: "طوبى ـ طوبى بمعنى هنيئاً، ويُقال إنها منطقة في الجنة ـ لمن طاب خلقه، وطهرت سجيّته ـ طهرت نفسيته ـ وصلحت سريرته ـ كانت سريرته في كل ما ينويه السريرة الصالحة التي لا تحمل للناس إلا كل الخير ـ وحسنت علانيته ـ في مظهره وفي ما يبرزه في شخصيته الاجتماعية ـ وأنفق الفضل من ماله ـ فيما يفضل عن حاجاته ومؤونته ـ وأمسك الفضل من قوله ـ لا يتكلم إلا بالكلام اللازم، أما الزائد الذي يمثل اللغو فإنه يمسك لسانه عنه ـ وأنصف الناس من نفسه"، بحيث يحاسب نفسه ويحدّثها بما للناس من حق، ولا يحوج الناس إلى أن يطلبوا حقوقهم منه.

وعن الإمام الصادق (ع) يقول: "من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة: أنفق ولا تخف فقراً ـ أعطِ من يحتاج إلى عطائك ولا تفكر بالفقر، وهذه الكلمة مستوحاة من الآية الكريمة: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} ـ وأفشِ السلام في العالم ـ والسلام لها معنيان، الأول أن تسلّم على من تلتقي به، والثانية بأن لا يأتي للناس منك إلا ما فيه السلام ـ وترك المراء وإن كنت محقاً ـ اترك الجدال لأن الجدال يورث الخصومة ـ وأنصف الناس من نفسك". وعنه (ع): "سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء إلا رضيت لهم مثله، ومواساتك الأخ في المال، وذكر الله على كل حال"، وذكر الله لا أن تمسك المسبحة لكي تسبّح الله فحسب، بل فسّر الإمام الصادق (ع) "ذكر الله" بأنه إذا "ورد عليك شيء أمر الله عزّ وجلّ به أخذت به، وإذا ورد عليك شيء نهى الله عنه تركته".

إنصاف الناس مجلبة للعز

وفي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزاً"، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده ـ أن لا يجور عندما يغضب وينفعل على الإنسان الذي يغضب عليه ممن هو أضعف منه، بل استحضر خوفك من الله واستحضر عقلك وإنسانيتك فلا يدفعك غضبك إلى الظلم ـ ورجل مشى بين اثنين فلم يمل على أحدهما على الآخر بشعيرة ـ إذا أراد أن يصلح أو يحكم بين اثنين أن يحكم بالحق ـ ورجل قال الحق فيما له وما عليه".

لنربّ أنفسنا على العدل

والمسألة هي مسألة أن نربي أنفسنا على العدل، والعدل هو أن نعطي كل ذي حق حقه، وأن لا تدفعنا قدرتنا المالية أو السياسية أو الاجتماعية أو العضلية أو ما أشبه ذلك لأن نظلم الناس حقوقهم، سواء كان هؤلاء الناس ضعفاء أو أقوياء، لأن الله تعالى يريد للإنسان أن يكون العادل، بحيث إذا وقفنا بين يديه فلا يأتي أحد لكي يقول: يا عدل يا حكيم احكم بيني وبين فلان فلقد ظلمني حقي، فإذا كان الإنسان العادل فإنه سيلقى الله تعالى وهو عنه راضٍ، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

ومشكلتنا أننا نستغرق بالدنيا ونعتبر أن ما يحيط بنا من شؤون الدنيا ومظاهر القوة فيها هو نهاية المطاف، فننسى الله تعالى والآخرة، لذلك فلنذكر دائماً موقفنا من الله، ولنذكر الله في كل شيء، حتى يمنعنا ذكرنا لله عن ظلم عباد الله، وذلك هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتقوا الله واعدلوا، فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون، وليكن عدلكم في أنفسكم ومع الله ومع النفس ومع الناس كلهم، ولتكونوا مع العادلين الذين يريدون أن يقيموا العدل في الحياة، وقفوا ضد الظالمين الذين يسقطون إنسانية الإنسان ويفرضون الظلم عليه، من كل هؤلاء الذين يعيشون الاستكبار، ليحصلوا على ما يريدونه من امتيازات في عالم المستضعفين..

ونحن نواجه في هذه المرحلة من حياتنا كمسلمين ومستضعفين الكثير من مواقع الظلم في العالم، ولا سيما ما نسمعه ونراه من حركة الاستكبار العالمي في كل مواقعنا الإسلامية، لينتقل من موقع إسلامي يستعمل فيه كل ما يملك من قوة التدمير، إلى موقع إسلامي آخر يهدده بقوته واستكباره، ليبتزه ويسقطه وليتدخل في كل شؤونه، وليستعلي عليه، فماذا هناك:

اتهامات أمريكية للمجاهدين بالإرهاب

لقد انضمت أمريكا إلى الكيان الصهيوني في إعلان الحرب على الانتفاضة بتهديد مجاهديها، تحت شعار الحرب على ما تسميه الإرهاب، وفي تهديد المقاومة الإسلامية في لبنان بالإعلان بأنها منظمة إرهابية، لأنها ـ كما الانتفاضة ـ تواجه الاحتلال الصهيوني الذي تدعمه أمريكا، باسم الدفاع عن الحرية.. في الوقت الذي تحارب فيه أمريكا الفلسطينيين الباحثين عن الحرية، من خلال السلاح الأمريكي المتطوّر الذي يقصف ويقتل ويدمّر ويحاصر ويعتقل، تحت غطاء الحلف الاستراتيجي مع العدو في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي وحماية احتلاله..

وتتحدث أمريكا عن إيران بأنها "دولة الشرّ"، لأنها تخطط لإنتاج السلاح النووي، على حدّ الزعم الأمريكي، في الوقت الذي وقّّعت فيه إيران على معاهدة الحظر على التجارب النووية، بينما لا تتحدث أمريكا عن إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، التي تهدد بعدوانيتها المنطقة وأربكت كل أوضاعها في القرن الماضي ولا تزال!! ولكن ما يجوز لإسرائيل ـ في نظر أمريكا ـ لا يجوز لغيرها، وهي ـ أمريكا ـ تدين إيران بأنها مسؤولة عن تقديم السلاح للفلسطينيين، من خلال السفينة المحتجزة من قِبَل إسرائيل، في الوقت الذي تبرّأت فيه إيران من مسؤوليتها عنها، ولكن أمريكا تبيح لنفسها أن تقدّم لإسرائيل أكثر الأسلحة تطوراً بالدرجة التي تتفوّق فيها على كل دول المنطقة.

خضوع أمريكي للدعاية الصهيونية

إن مشكلة الرئيس الأمريكي هي أنه يريد إخفاء فشله في المسألة الاقتصادية، باللعب على غرائز الشعب الأمريكي المملوء بالحقد على العرب والمسلمين، والخاضع للدعاية الصهيونية، كما أنه يهدف إلى تنمية شعبيته وشعبية حزبه في الانتخابات الفرعية القادمة، بتقديم الخدمات لليهود في أمريكا بالتأييد المطلق لإسرائيل.. إن الرئيس الأمريكي يحاول أن يستعرض عضلات أمريكا أمام العالم، ليثبت وحدانيته القيادية، وليلاحق عدوّاً مجهولاً خفيّاً كمثل الأشباح، ليحمّل الدول والشعوب مسؤولية البحث عمّن يسميهم الإرهابيين الذين تتهمهم أمريكا بتهديد المصالح الأمريكية، وتتحدث عن الخطر الذي يواجهها من خلالهم، من دون أن تقدّم دليلاً واحداً على هذا الاتهام؟!

إن مشكلة أمريكا هي أنها تمنح نفسها الحرية في مصادرة حريات الشعوب، ومواقعها الاستراتيجية، وثرواتها الطبيعية، وأسواقها الاقتصادية، ولا تسمح لأحد أن يعارضها أو يصرخ من هذه الحرب الأمريكية المجنونة التي تمارس فيها الإرهاب وتؤيده على مستوى الدولة، بحجة حماية مصالحها من الأخطار القادمة.. إنها تريد تغيير العالم على صورة مصالحها، ولا تريد أن تتغيّر لحساب مصالح الشعوب المستضعفة، ولا سيما الشعوب العربية والإسلامية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، الذي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لتدمير كيانه بالكامل، من دون أن تسمح لأي محور دولي بالتدخّل الفاعل لحمايته، حتى أنها سيطرت على مجلس الأمن الدولي، ومنعته من حماية هذا الشعب، وأعطت نفسها الحق في حلّ المشكلة الفلسطينية، ولكن لحساب إسرائيل ضد حسابات الشعب الفلسطيني الحيوية في تقرير مصيره، لتجعل أمره بيد المجرم "شارون"..

هوس أمريكي بوحدانية القيادة

إن على العالم ـ الذي بدأ يسجّل أكثر من نقطة سلبية ضد السياسة الأمريكية ـ أن يرتفع إلى مستوى المسؤولية الحضارية في حقوق الإنسان، وأن يتدخّل لحمايته من هذا الوحش الهائج المتعطّش للدماء، والمسكون بعقدة وحدانية القيادة الكونية، قبل أن يصنع المأساة للإنسان كله.. وعلى العرب ـ والمسلمين ـ الذين يعلنون في مؤتمراتهم عن التفريق بين المقاومة والإرهاب، ويدعون إلى مؤتمر دولي لبحث مفهوم الإرهاب، ويرون في الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان عنوانين لحركة تحرير، إن عليهم أن يعبّروا عن هذه المواقف بمواقف سياسية ضاغطة، استجابة للحرية وللعدالة من جهة، وللتكامل مع شعوبهم من جهة أخرى، لا أن يكتفوا بإصدار البيانات والقرارات التي توضع في الأدراج.

الشعب الفلسطيني.. دور طليعي جهادي

ويبقى للشعب الفلسطيني دوره الطليعي الجهادي، في الاستمرار في إبقاء المأزق الأمني في الواقع الصهيوني، بعيداً عن كل الوعود المعسولة في المفاوضات التي لن تمنحهم شيئاً، لأن الأوراق الرابحة في الصعيد السياسي بيد العدو، الذي تمنحه أمريكا في كل يوم أوراقاً جديدة.

إن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ ليست القضاء والقدر، وإن الشعوب لم تسقط في نقاط الضعف، فهناك أكثر من نقطة قوة نملك فيها الدخول في المواجهة من خلال تخطيط دقيق للحركة، نعرف فيها كيف نضع أقدامنا على طريق الحرية والعزة والكرامة، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.

لبنان دوامة الضجيج السياسي

أما لبنان فإنه يعيش في دوامة الضجيج السياسي الذي قد لا يؤدي إلى نتيجة، لأن المسألة تشبه الديكور الديمقراطي ولكن من دون ممارسة للتغيير، لأن هذا البلد محكوم بأن يبقى في الدوّامة وفي عملية تسجيل النقاط ولكن من دون حسم، وشعار المرحلة لدى الأكثرية: "سنعارض ونعارض ونعارض"، ثم بعد أن تهدأ الضجة "سنوافق ونوافق ونوافق ونرفع الأيدي"، من خلال أكثر من سرّ خفيّ في حركة الأشباح الخفيّة..

إننا نقول للمسؤولين: إن الناس خائفون، إن الناس جائعون.. إذا كنتم تريدون لبنان الوطن فلماذا لا تلتقون عليه؟ وإذا كنتم تريدون الخروج من النفق المظلم، فلماذا لا تبحثون عن نقاط الضوء في آخره؟ وإذا كنتم تريدون الحلّ للمشكلة الاقتصادية والسياسية، فلماذا لا تتعاونون في البحث عن حلّ؟

إن المرحلة التي تمر بها المنطقة في دوّامة الهجمة الأمريكية، وفي نطاق التحالف الدولي على ما يسمى الإرهاب، هي من أكثر المراحل خطورة، وهي بحاجة إلى المزيد من الوحدة والوعي والتخطيط، والبحث عن معالم الطريق، فلماذا نبقى في المتاهات الضائعة، نبحث عن جنس الملائكة، وعن تفاهات الأمور من دون جدوى؟؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية