المرجع فضل الله: توازنوا في المودَّة ولا تعطوا النّاس أكثر من أحجامهم

المرجع فضل الله: توازنوا في المودَّة ولا تعطوا النّاس أكثر من أحجامهم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آي الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وجمعٍ غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

مواصفات المؤمن

في شخصيَّة الإنسان المؤمن الكثير من العناصر الأخلاقيّة الّتي أكّدها الإسلام، لأنّ الله تعالى لا يريد للإنسان المؤمن أن يكتفي بالعبادات ليدلِّل على صدق إيمانه، بل يريد له أن يكون شخصيّةً قويّةً ثابتة عادلة، منفتحة على الخير كلّه وعلى الإنسان كلّه، من خلال انفتاحه على الله تعالى في كلّ ما حمّله الله من مسؤوليّة، بحيث يعتبر الإسلام الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر قاعدةً تتفرَّع منها كلّ أخلاقيَّة الإنسان في الحياة وفي علاقته بالإنسان الآخر.

ولهذا، وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله(ص) وعن الأئمَّة من أهل البيت(ع) ـ وهم ينطقون في حديثهم عن رسول الله ـ عن صفة الإنسان المؤمن، والعناصر الأساسيَّة في شخصيّة الإنسان السملم في علاقته بالنّاس، وفي موازنته لأوضاعه عندما يحبّ ويبغض، وعندما يكون قادراً على أن يضرّ وأن ينفع، ففي الحديث عن رسول الله(ص) برواية السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين(ع)، أنّ رسول الله(ص) قال: "ثلاث خصالٍ مَن كُنَّ فيه استكمل الإيمان ـ كانت هذه الخصال دليلاً على إيمانه القويّ الثّابت ـ الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل"، إذا أحبّ شخصاً أو اتّبعه في أيّ موقع مسؤول وقياديّ، فإنّه لا يدخل حبّه ورضاه في حكمه عليه، فلا يعطي من يحبّ أكثر مما يستحقّ، فقد تحبّ شخصاً يمتلك صفات علم أو تقوى أو قوّة محدودة، فعليك أن تدرس حجم هذه الصّفات، لا أن ترفع من تحبّه إلى السّماء، بل تقتصر على صفاته، وتصفه بحسب الدَّرجات الّتي يستحقّها. وهذا المعنى يدخل في توازن المجتمع، لأنَّ الإنسان الّذي يملك أيّ صفة معيَّنة، إذا أعطيناه أكثر مما يستحقّ من هذه الصّفة، فإنّه سوف يتحرّك في المجتمع بأكثر من طاقته، وسوف يسيء إلى المجتمع بذلك، وهكذا في التَّقوى وفي السياسة والمجتمع وما إلى ذلك.. فالمجتمع الّذي يقدِّر الناس الذين يعيشون فيه بالموازين، هو مجتمع يتحرّك بطريقةٍ موزنة، وهذا يدفعنا إلى دراسة حجم الأشخاص كما ندرس حجم أنفسنا. ومشكلة المجتمعات الشّرقيَّة، أنّها تعطي الحكّام والسّياسيّين والشّخصيّات الاجتماعيّة، وحتى العلماء، أكثر من أحجامهم، وإلا من أين جاءتنا عبادة الشخصيَّة؟ من خلال فكرة المبالغة وعدم التوازن.

التمسّك بالحقّ والتّــوازن

والخصلة الثّانية: "وإذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقّ"، قد تختلف مع شخصٍ أو تعاديه، وعادةً، وبحسب ذهنيَّتنا، فإنّنا إذا غضبنا على شخص، فلا نقبل أن نقول فيه كلمة حقّ، بل ننزله إلى أسفل الأرضين. يجب أن نتوازن في الغضب، والتوازن هو أن تضع غضبك في جانب، ونظرتك إلى قيمته وموقعه وإمكانيّاته في جانبٍ آخر، والله تعالى يحدِّثنا عن هذه الفكرة في كتابه الكريم، ولكن القليل منّا من يفتح عقله وقلبه للقرآن، يقول تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، بحيث لا تمنعك العلاقة السّلبيَّة مع الآخر من أن تعدل بالكلمة والحقوق.

أمّا الخصلة الثّالثة، فهي: "وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له"، بعض الناس عندما لا يملك قدرة وقوّة، تراه مسالماً من الدّرجة الأولى، ولكن بمجرد أن يحصل على القوّة، بحيث يصبح مسلّحاً، أو موظّفاً، أو ابن عشيرة كبيرة، مما يملك معه أن ينفع أو يضرّ، فإنّه يضعف أمام حالة القدرة والقوّة الموجودة عنده، ويحاول أن يتعاطى بما ما ليس له حقّ، بحيث يجبر النّاس على دفع الخوّات، ويفرض عليهم شهواته، وهنا يُختبر إيمان الإنسان، لأنَّ المؤمن هو الَّذي يتساوى عنده جانب القدرة وجانب العجز، وهي من علامات الإيمان.

وكأنَّ النبيّ(ص) يقول: إنَّ من عدل به رضاه عن قول الحقّ، وغضبه عن قول الحقّ، وقدرته عن التعاطي بالحق، فإنه ليس مؤمناً، وإن صام وصلّى، وهذه نقطة لا بدَّ من أن نؤكِّدها في أنفسنا وأولادنا، لأنه ـ مع الأسف ـ نحن نتربّى في المجتمع على أساس أن لا نعدل، وعلى بغض الحقّ وعدم الارتباط به، والإيمان هو الارتباط بالحقِّ في جميع الحالات.

وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في بعض أدعيته في الصَّحيفة السجاديّة: "اللّهمّ وارزقني التحفّظ من الخطايا، والاحتراس من الزّلل، في حال الرّضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري ـ ولاحظوا كلمة عدوّي، بحيث لا يخاف عدوّه من اختلافه معه ـ وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي". ومشكلتنا هي كذلك مع بعض النّاس الذين يصلّون ويصومون ويذهبون إلى الحجّ، وبعد ذلك يظلمون الضّعفاء؟!

حدود الكلام والسكوت

وفي الحديث عن الإمام زين العابدين(ع) في الصِّفات الذاتيَّة للمؤمن، كيف يكوّن المؤمن شخصيَّته عندما يتكلَّم ويسكت ويواجه الزّلازل الاجتماعيّة والسياسيّة، يقول(ع): "المؤمن يصمت ليسلم ـ عندما يسكت، فإنّه يسكت في الحالات الّتي يخاف إذا تكلَّم فيها أن يعصي الله أو أن يسيء إلى النّاس في كلامه، فإنَّ المؤمن يسكت حتى يسلم من المسؤوليَّة عندما تحمّله الكلمة السلبيَّة المسؤوليّة ـ وينطق ليغنم ـ يتحدّث، لا لأنَّه يحبّ الكلام، بل ليحصل من نطقه على الغنيمة عند الله، عندما يكون كلامه وعظاً ونصحاً وإرشاداً وارتفاعاً بمستوى النّاس، من خلال ما يتحدَّث به معهم ـ لا يحدِّث أمانته الأصدقاء ـ يحفظ سرّ النّاس، لأنّ السرّ أمانة عند صاحبه، بحيث لا يفشي أسرار النّاس أمام أصدقائه ـ ولا يكتم شهادته من البعداء ـ لا يكتم شهادته لمن يحتاج إليها، وإن كان بعيداً عنه على مستوى القرابة أو الانتساب ـ ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً ـ بل يعمل الخير تقرّباً إلى الله ـ ولا يتركه حياءً ـ لا يترك عمل الخير، لأنّه يخجل من الناس أن ينتقدوه، بل يفعله حتى وإن انتقدوه ـ إن زُكّي خاف مما يقولون ـ إذا مدحه الناس في وجهه لم ينتفخ، بل يشعر بالخوف من الله من هذا المدح ـ ويستغفر الله لما لا يعلمون ـ وهذه تنقل عن الإمام أمير المؤمنين(ع) وهو المعصوم، أنّه كان إذا مدحه أحد في وجهه قال: "إنّ الله أعلم بما في نفسي منّي، وأنا أعلم بما في نفسي منك، اللَّهمَّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون". وكان النبيّ(ص) والأئمَّة(ع) يستغفرون الله من غير ذنب، باعتبار أنهم المعصومون بمعرفتهم بالله، ولكنَّهم يتواضعون لله، لأنَّ الاستغفار يختزن في داخله التَّواضع له ـلا يغرّه قول من جهله ـ لا يسقط أمام النّاس الّذين يشتمونه ويغتابونه، بل يتماسك لأنه يعرف نفسه جيّداً ـ ويخاف من إحصاء ما عمله".

من هم الشيعة الحقيقيّون؟

وفي مسألة من هو الشّيعيّ، لأنَّ بعض الناس يعتقدون أنَّ حبَّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة، فيكفي أن تحبّ الأئمّة، وباستطاعتك أن تفعل "السبعة وذمّتها"، على حدّ التعبير الشعبيّ. في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): "شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظّفر". وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصَّادق(ع): "إيّاك والسّفلة ـ الّذين يعصون الله ـ فإنّما شيعة عليّ من عفّ بطنه ـ لم يدخل في بطنه الأكل والشّراب الحرام ـ وفرجه ـ لم يستعمل فرجه في ما حرَّمه الله ـ واشتدّ جهاده ـ جهاده لنفسه وجهاده في طاعة الله ـ وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر".

ما معنى هذه الرّواية؟ معناها أنَّ التشيّع هو الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وقد ذكرنا أكثر من مرّة، أنَّ التشيّع هو خطّ الإسلام، وأهل البيت(ع) هم الأمناء على هذا الخطّ، وهم أولياء الله وموضع الرّسالة، ونقرأ في حديث الإمام الباقر(ع): "ما شيعتنا إلا من اتَّقى الله وأطاعه، وكانوا يُعرفون بالتخضّع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً؟! فرسول الله خير من عليّ، أفيكفي الرَّجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنَّته؟! من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع عن معاصي الله".

لا بدَّ لنا من أن نجلس مع أنفسنا، لنفهمها ونربّيها على ما يحبّه الله ويرضاه، لأنّنا قد نقدِّم الأعذار لبعضنا البعض، ولكن عندما نقف أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، فأيّ عذرٍ يمكن أن نقدِّم؟

الخطبة الثانية

عباد الله، اتّقوا الله، وأكِّدوا إيمانكم في وحدة الموقف مع المؤمنين، لأنَّ المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد، وعلينا أن نعيش إيماننا في عمق إسلامنا في الانفتاح على كلِّ آلام المسلمين ومشاكلهم، ولا سيَّما التي تحدث من خلال تحدّيات الكفر والاستكبار، فقد جاء عن رسول الله(ص): "من أصبح لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم". لذلك، نحن نحتاج أن نعيش روح الأمّة الواحدة، ونبتعد عن روح الفرديّة، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، ونحن نواجه في كلّ يوم تحدّياً جديداً من قِبَل الاستكبار العالميّ، الّذي يريد أن يخضع المسلمين لسيطرته ولكلِّ استكباره، ولا يريد لهم أن يتوحَّدوا، ويأخذوا بأسباب القوّة، ويواجهوا محتلّي أرضهم، وهذا ما نواجهه في كلِّ ما تنطلق به الولايات المتحدة الأميركيّة، ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. فماذا هناك!؟

إيران.. الحفاظ على الاستراتيجيّة

نلتقي في هذه الأيّام بذكرى انتصار الثّورة الإسلاميَّة في إيران، وتأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة، التي قدَّمت الدّليل ـ بأكثر من تجربةٍ فكريَّةٍ وقانونيَّةٍ وإداريَّة ـ على أنَّ الإسلام قادر على إنشاء دولة إسلاميَّة عصريّة، تزاوج بين الانطلاق من الخطوط الإسلاميَّة الأصيلة في التَّشريع، والانفتاح على الإرادة الشَّعبيَّة في حدودها الشرعيَّة، التي تتحرَّك في نطاق النّظام الإسلاميّ.

وقد تمكَّنت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران من المحافظة على استراتيجيّتها السّياسيّة، في مواجهة الاستكبار العالميّ، ضمن خطّةٍ واقعيّةٍ لا تسقط أمام التّهاويل التي يثيرها ضدَّها، وفي الانفتاح على أكثر من دولةٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ ابتعدت من خلاله عن المخطّط الأميركي لفرض العزلة عليها، وأبعدت حدَّة التوتّر عن علاقاتها الدوليّة، من دون أن تقدِّم أيّة تنازلاتٍ من مبادئها الأساسيّة.

دعم حركات التحرّر ورفض للإرهاب

وبذلك، استطاعت إيران أن تخطِّط للواقعيّة السياسيّة التي لا تستسلم للأمر الواقع، ولكنّها تعمل على التّعامل مع حركيّة التَّغيير للواقع من خلال مفردات الواقع، وبقيت على خطِّها الأصيل في دعم حركات التحرّر، ابتداءً من فلسطين، مروراً بلبنان، إلى جنوب أفريقيا ومناطق البلقان، إلى أفغانستان وغيرها، ودفعت الكثير من رصيدها السّياسيّ في الضغوط الموجَّهة ضدها، وإمكاناتها الماليّة في دعم المجاهدين، ولا سيَّما في لبنان وفلسطين وأفغانستان، وأعلنت أنها تعمل ضدَّ الإرهاب الّذي يستهدف الأبرياء، لأنَّ الله تعالى يرفض للإنسان الاعتداء على الآخر، فإنَّ الله لا يحبّ المعتدين.. ولكنَّ إيران ـ وهي التي وقعت ضحيّة أكثر من عمليّة إرهابيّة ـ ترفض اعتبار المقاومة ضدّ الاحتلال إرهاباً، لأنها حقّ الشعوب المستضعفة المحتلَّة من أجل تحرير أرضها والحصول على استقلالها.

ولذلك، وقفت إيران مع الشّعب الفلسطينيّ ضدّ الكيان الصّهيوني الَّذي ترفض الاعتراف بشرعيّته، لأنّه الكيان القائم على اغتصاب الأرض والشّعب والدّولة.. وهذا ما دعا الرئيس الأمريكي وإدارته الخاضعة للصّهيونية إلى إعلان الحرب ضدّ إيران، لأنها لم تخضع لخططها الشيطانية في الضّغط على الشعوب، ولا سيَّما شعوب العالم الثالث، وفي مساندة إسرائيل في عدوانها المستمرّ ـ بواسطة الأسلحة الأميركيَّة المتقدِّمة ـ على الفلسطينيّين، وتدمير بنيتهم التحتيّة ـ شعباً وسلطةً ـ واعتبار الإرهاب الصهيوني دفاعاً عن النّفس ضدّ انتفاضة الشعب الفلسطيني التي تسمِّيها أميركا إرهاباً، في سياسة استكباريّة لا تعرف أيَّ معنى لحقوق الإنسان.

ولايات متّحدة إسرائيليّة!

وقد انضمَّت إسرائيل إلى أميركا في إطلاق التّهديدات ضدّ إيران، وإعلان الحرب عليها، ولكنّنا نعتقد أنَّ إيران سوف تقف في ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة على الاستكبار العالمي، لتؤكِّد انتصارها على هذه الحرب الجديدة، من خلال وحدة الشَّعب والسّلطة والقيادة، ومعها كلّ الشّعوب الإسلاميَّة، والفئات الباحثة عن الحريَّة وحقوق الإنسان في الحياة الحرّة الكريمة.

ونعود إلى أميركا الّتي تستقبل مجرم الحرب "شارون" في حفاوة وتقدير، إضافةً إلى أكثر من وزيرٍ إسرائيليّ، في عمليّة دعمٍ مطلقٍ تحوَّلت فيه أمريكا إلى ولايات متَّحدة إسرائيليّة لا تملك أية سياسة مستقلّة، بفعل اللوبي الصّهيوني المسيطر على إدارتها، والّذي يفرض عليها السّقوط تحت تأثير المصالح الإسرائيليّة في المنطقة، حتى لو كانت ضدّ مصالح أميركا، مستغلاً قلّة تجربة الرئيس الأميركي السّياسيّة، وسوء فهمه للواقع السّياسيّ في العالم، واعتماده على عنجهيّة القوّة التي يطلق منها التّهديدات المتحركة في أكثر من مكانٍ ضدَّ لبنان والعراق وإيران، وضدَّ الحركات الجهاديّة السَّاعية إلى تحرير أرضها.

لقاء في خدمة العدوان!

إنَّنا نحذِّر العالم العربيّ والإسلاميّ من هذا اللّقاء العدوانيّ بين "بوش" و"شارون"، لأنّه لن يكون لقاءً في خدمة السّلام الحرّ العادل لشعوب المنطقة، بل سيكون في خدمة الحرب العدوانيّة ضدَّ كلّ الّذين يختلفون مع السّياسة الأميركيّة، حتى إنَّ هذا الحلف الأميركيّ ـ الإسرائيليّ الجديد القديم، بدأ بإثارة المشاكل والتَّعقيدات والأوضاع القلقة حتى لحلفاء أميركا في المنطقة.

ونقول للفلسطينيّين إنَّ عليهم أن يدقِّقوا في كلّ الخطوات السياسيّة والأمنيّة الّتي يتحرك بها هذا الحلف الشيطاني، للانتقال بالقضيَّة الفلسطينيَّة ـ ومعها القضايا العربيّة والإسلاميّة ـ من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ تتغلَّب فيها العصا على الجزرة، لأنَّ الشِّعار الّذي أطلقه هذا الحلف هو التَّحالف الدّوليّ ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، بما في ذلك الواقع الضَّاغط على الشّعب الفلسطينيّ.

وحدة الموقف.. الضَّمانة الوحيدة

إنَّ المرحلة تحتاج إلى فكرٍ وصبرٍ وصمودٍ وتخطيط، لأنَّ الانفعال لا يصنع نصراً، بل قد يصنع الهزيمة.. كما أنَّ الوحدة الفلسطينيَّة ـ ومعها وحدة الموقف العربيّ والإسلاميّ ـ هي الضَّمانة الوحيدة للوصول إلى النّتائج الكبيرة، لأنَّنا لا نملك الكثير من عناصر القوّة الَّتي لا بدَّ من أن نحركها في اتجاه الأهداف الكبيرة، وعلينا الانتباه إلى موقف الاتحاد الأوروبيّ الّذي يملك الكثير من عناصر الواقعيَّة وبعض العدالة لقضايا المنطقة، لنحركها في خطّة الصّمود في وجه اختراق الحصار الأميركيّ للمنطقة باسم محاربة الإرهاب الَّذي لم يعد له معنى في الواقع السياسي.

لبنان: وحدة المصير ومواجهة التحدّيات

أمَّا لبنان، فإنّه لا يزال يواجه الاحتلال الّذي يطبق على بعض أراضيه، ويدور الجدل حوله من أجل التّأثير في مواقفه الحاسمة في دعم المقاومة ورفض الاحتلال، وذلك بالأكاذيب والافتراءات الّتي يعرف كلّ اللّبنانيّين، من مسؤولين وغير مسؤولين، عدم صحّتها، الأمر الَّذي يفرض على الجميع وحدة الموقف، بعيداً عن كلِّ العناصر الطائفيّة أو المهاترات السياسيَّة، لأنَّ القضيَّة هي قضيّة المصير في حجم التحدّيات الكبرى للمستقبل.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّنا قد نفهم الحديث عن حاجة الميزانيَّة إلى الضّرائب، ولكنَّ السّؤال هو: ما هي الخدمات الّتي يحصل عليها الشّعب في مقابل ما يدفعه من هذه الضّرائب التي أثقلت كاهله، وأوقعته في عجزٍ ساحقٍ دون عجز الميزانيّة؟ ثم ما هي الضّمانات لسلامة الصّرف للأموال الّتي يدفعها المواطن اللّبناني أمام الحديث المتكرّر عن السّرقات الكبرى والصغرى، وعن الهدر الكبير والفساد الإداريّ الّذي يأكل كلّ ميزانيّة الخدمات العامّة، بحيث لا يصل منها إلى النّاس إلا القليل بعد كلّ الحصص التي يتوزّعها الكبار والصّغار؟!

إنَّ القضيَّة المطروحة: هل هناك دولة واحدة أو دول متعدّدة يتنازعها هذا المسؤول أو ذاك، في ميزانيّته وخدماته ومنطقته وطائفته وحدود نفوذه الَّذي لا يملك الآخر أن يتجاوزها؟ إنّنا نريد للبلد دولةً واحدةً ترتبط بشعبٍ واحدٍ في وطنٍ واحدٍ اسمه لبنان، لا أن يسقط الجميع في متاهات دول الطَّوائف الّتي لا يستفيد منها الشَّعب في هذه الطّائفة أو تلك، بل الّذي يستفيد هم الّذين يسيطرون على مقدّراتها، ويبقى النّاس جياعاً عراةً لا يملكون معنى الحياة الكريمة.

لقد طرح البعض سابقاً سؤالاً: أيّ لبنان نريد؟ فهل يبقى الجواب: إنّه لبنان الفوضى في متاهات الضّياع؟!


بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آي الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسية والاجتماعية، وجمعٍ غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

مواصفات المؤمن

في شخصيَّة الإنسان المؤمن الكثير من العناصر الأخلاقيّة الّتي أكّدها الإسلام، لأنّ الله تعالى لا يريد للإنسان المؤمن أن يكتفي بالعبادات ليدلِّل على صدق إيمانه، بل يريد له أن يكون شخصيّةً قويّةً ثابتة عادلة، منفتحة على الخير كلّه وعلى الإنسان كلّه، من خلال انفتاحه على الله تعالى في كلّ ما حمّله الله من مسؤوليّة، بحيث يعتبر الإسلام الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر قاعدةً تتفرَّع منها كلّ أخلاقيَّة الإنسان في الحياة وفي علاقته بالإنسان الآخر.

ولهذا، وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله(ص) وعن الأئمَّة من أهل البيت(ع) ـ وهم ينطقون في حديثهم عن رسول الله ـ عن صفة الإنسان المؤمن، والعناصر الأساسيَّة في شخصيّة الإنسان السملم في علاقته بالنّاس، وفي موازنته لأوضاعه عندما يحبّ ويبغض، وعندما يكون قادراً على أن يضرّ وأن ينفع، ففي الحديث عن رسول الله(ص) برواية السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين(ع)، أنّ رسول الله(ص) قال: "ثلاث خصالٍ مَن كُنَّ فيه استكمل الإيمان ـ كانت هذه الخصال دليلاً على إيمانه القويّ الثّابت ـ الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل"، إذا أحبّ شخصاً أو اتّبعه في أيّ موقع مسؤول وقياديّ، فإنّه لا يدخل حبّه ورضاه في حكمه عليه، فلا يعطي من يحبّ أكثر مما يستحقّ، فقد تحبّ شخصاً يمتلك صفات علم أو تقوى أو قوّة محدودة، فعليك أن تدرس حجم هذه الصّفات، لا أن ترفع من تحبّه إلى السّماء، بل تقتصر على صفاته، وتصفه بحسب الدَّرجات الّتي يستحقّها. وهذا المعنى يدخل في توازن المجتمع، لأنَّ الإنسان الّذي يملك أيّ صفة معيَّنة، إذا أعطيناه أكثر مما يستحقّ من هذه الصّفة، فإنّه سوف يتحرّك في المجتمع بأكثر من طاقته، وسوف يسيء إلى المجتمع بذلك، وهكذا في التَّقوى وفي السياسة والمجتمع وما إلى ذلك.. فالمجتمع الّذي يقدِّر الناس الذين يعيشون فيه بالموازين، هو مجتمع يتحرّك بطريقةٍ موزنة، وهذا يدفعنا إلى دراسة حجم الأشخاص كما ندرس حجم أنفسنا. ومشكلة المجتمعات الشّرقيَّة، أنّها تعطي الحكّام والسّياسيّين والشّخصيّات الاجتماعيّة، وحتى العلماء، أكثر من أحجامهم، وإلا من أين جاءتنا عبادة الشخصيَّة؟ من خلال فكرة المبالغة وعدم التوازن.

التمسّك بالحقّ والتّــوازن

والخصلة الثّانية: "وإذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقّ"، قد تختلف مع شخصٍ أو تعاديه، وعادةً، وبحسب ذهنيَّتنا، فإنّنا إذا غضبنا على شخص، فلا نقبل أن نقول فيه كلمة حقّ، بل ننزله إلى أسفل الأرضين. يجب أن نتوازن في الغضب، والتوازن هو أن تضع غضبك في جانب، ونظرتك إلى قيمته وموقعه وإمكانيّاته في جانبٍ آخر، والله تعالى يحدِّثنا عن هذه الفكرة في كتابه الكريم، ولكن القليل منّا من يفتح عقله وقلبه للقرآن، يقول تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، بحيث لا تمنعك العلاقة السّلبيَّة مع الآخر من أن تعدل بالكلمة والحقوق.

أمّا الخصلة الثّالثة، فهي: "وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له"، بعض الناس عندما لا يملك قدرة وقوّة، تراه مسالماً من الدّرجة الأولى، ولكن بمجرد أن يحصل على القوّة، بحيث يصبح مسلّحاً، أو موظّفاً، أو ابن عشيرة كبيرة، مما يملك معه أن ينفع أو يضرّ، فإنّه يضعف أمام حالة القدرة والقوّة الموجودة عنده، ويحاول أن يتعاطى بما ما ليس له حقّ، بحيث يجبر النّاس على دفع الخوّات، ويفرض عليهم شهواته، وهنا يُختبر إيمان الإنسان، لأنَّ المؤمن هو الَّذي يتساوى عنده جانب القدرة وجانب العجز، وهي من علامات الإيمان.

وكأنَّ النبيّ(ص) يقول: إنَّ من عدل به رضاه عن قول الحقّ، وغضبه عن قول الحقّ، وقدرته عن التعاطي بالحق، فإنه ليس مؤمناً، وإن صام وصلّى، وهذه نقطة لا بدَّ من أن نؤكِّدها في أنفسنا وأولادنا، لأنه ـ مع الأسف ـ نحن نتربّى في المجتمع على أساس أن لا نعدل، وعلى بغض الحقّ وعدم الارتباط به، والإيمان هو الارتباط بالحقِّ في جميع الحالات.

وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في بعض أدعيته في الصَّحيفة السجاديّة: "اللّهمّ وارزقني التحفّظ من الخطايا، والاحتراس من الزّلل، في حال الرّضى والغضب، حتى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواهما، في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري ـ ولاحظوا كلمة عدوّي، بحيث لا يخاف عدوّه من اختلافه معه ـ وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي". ومشكلتنا هي كذلك مع بعض النّاس الذين يصلّون ويصومون ويذهبون إلى الحجّ، وبعد ذلك يظلمون الضّعفاء؟!

حدود الكلام والسكوت

وفي الحديث عن الإمام زين العابدين(ع) في الصِّفات الذاتيَّة للمؤمن، كيف يكوّن المؤمن شخصيَّته عندما يتكلَّم ويسكت ويواجه الزّلازل الاجتماعيّة والسياسيّة، يقول(ع): "المؤمن يصمت ليسلم ـ عندما يسكت، فإنّه يسكت في الحالات الّتي يخاف إذا تكلَّم فيها أن يعصي الله أو أن يسيء إلى النّاس في كلامه، فإنَّ المؤمن يسكت حتى يسلم من المسؤوليَّة عندما تحمّله الكلمة السلبيَّة المسؤوليّة ـ وينطق ليغنم ـ يتحدّث، لا لأنَّه يحبّ الكلام، بل ليحصل من نطقه على الغنيمة عند الله، عندما يكون كلامه وعظاً ونصحاً وإرشاداً وارتفاعاً بمستوى النّاس، من خلال ما يتحدَّث به معهم ـ لا يحدِّث أمانته الأصدقاء ـ يحفظ سرّ النّاس، لأنّ السرّ أمانة عند صاحبه، بحيث لا يفشي أسرار النّاس أمام أصدقائه ـ ولا يكتم شهادته من البعداء ـ لا يكتم شهادته لمن يحتاج إليها، وإن كان بعيداً عنه على مستوى القرابة أو الانتساب ـ ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً ـ بل يعمل الخير تقرّباً إلى الله ـ ولا يتركه حياءً ـ لا يترك عمل الخير، لأنّه يخجل من الناس أن ينتقدوه، بل يفعله حتى وإن انتقدوه ـ إن زُكّي خاف مما يقولون ـ إذا مدحه الناس في وجهه لم ينتفخ، بل يشعر بالخوف من الله من هذا المدح ـ ويستغفر الله لما لا يعلمون ـ وهذه تنقل عن الإمام أمير المؤمنين(ع) وهو المعصوم، أنّه كان إذا مدحه أحد في وجهه قال: "إنّ الله أعلم بما في نفسي منّي، وأنا أعلم بما في نفسي منك، اللَّهمَّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون". وكان النبيّ(ص) والأئمَّة(ع) يستغفرون الله من غير ذنب، باعتبار أنهم المعصومون بمعرفتهم بالله، ولكنَّهم يتواضعون لله، لأنَّ الاستغفار يختزن في داخله التَّواضع له ـلا يغرّه قول من جهله ـ لا يسقط أمام النّاس الّذين يشتمونه ويغتابونه، بل يتماسك لأنه يعرف نفسه جيّداً ـ ويخاف من إحصاء ما عمله".

من هم الشيعة الحقيقيّون؟

وفي مسألة من هو الشّيعيّ، لأنَّ بعض الناس يعتقدون أنَّ حبَّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة، فيكفي أن تحبّ الأئمّة، وباستطاعتك أن تفعل "السبعة وذمّتها"، على حدّ التعبير الشعبيّ. في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): "شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظّفر". وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصَّادق(ع): "إيّاك والسّفلة ـ الّذين يعصون الله ـ فإنّما شيعة عليّ من عفّ بطنه ـ لم يدخل في بطنه الأكل والشّراب الحرام ـ وفرجه ـ لم يستعمل فرجه في ما حرَّمه الله ـ واشتدّ جهاده ـ جهاده لنفسه وجهاده في طاعة الله ـ وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر".

ما معنى هذه الرّواية؟ معناها أنَّ التشيّع هو الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وقد ذكرنا أكثر من مرّة، أنَّ التشيّع هو خطّ الإسلام، وأهل البيت(ع) هم الأمناء على هذا الخطّ، وهم أولياء الله وموضع الرّسالة، ونقرأ في حديث الإمام الباقر(ع): "ما شيعتنا إلا من اتَّقى الله وأطاعه، وكانوا يُعرفون بالتخضّع والتخشّع وصدق الحديث وأداء الأمانة، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاّه ثم لا يكون فعّالاً؟! فرسول الله خير من عليّ، أفيكفي الرَّجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنَّته؟! من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع عن معاصي الله".

لا بدَّ لنا من أن نجلس مع أنفسنا، لنفهمها ونربّيها على ما يحبّه الله ويرضاه، لأنّنا قد نقدِّم الأعذار لبعضنا البعض، ولكن عندما نقف أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، فأيّ عذرٍ يمكن أن نقدِّم؟

الخطبة الثانية

عباد الله، اتّقوا الله، وأكِّدوا إيمانكم في وحدة الموقف مع المؤمنين، لأنَّ المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد، وعلينا أن نعيش إيماننا في عمق إسلامنا في الانفتاح على كلِّ آلام المسلمين ومشاكلهم، ولا سيَّما التي تحدث من خلال تحدّيات الكفر والاستكبار، فقد جاء عن رسول الله(ص): "من أصبح لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم". لذلك، نحن نحتاج أن نعيش روح الأمّة الواحدة، ونبتعد عن روح الفرديّة، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، ونحن نواجه في كلّ يوم تحدّياً جديداً من قِبَل الاستكبار العالميّ، الّذي يريد أن يخضع المسلمين لسيطرته ولكلِّ استكباره، ولا يريد لهم أن يتوحَّدوا، ويأخذوا بأسباب القوّة، ويواجهوا محتلّي أرضهم، وهذا ما نواجهه في كلِّ ما تنطلق به الولايات المتحدة الأميركيّة، ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. فماذا هناك!؟

إيران.. الحفاظ على الاستراتيجيّة

نلتقي في هذه الأيّام بذكرى انتصار الثّورة الإسلاميَّة في إيران، وتأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة، التي قدَّمت الدّليل ـ بأكثر من تجربةٍ فكريَّةٍ وقانونيَّةٍ وإداريَّة ـ على أنَّ الإسلام قادر على إنشاء دولة إسلاميَّة عصريّة، تزاوج بين الانطلاق من الخطوط الإسلاميَّة الأصيلة في التَّشريع، والانفتاح على الإرادة الشَّعبيَّة في حدودها الشرعيَّة، التي تتحرَّك في نطاق النّظام الإسلاميّ.

وقد تمكَّنت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران من المحافظة على استراتيجيّتها السّياسيّة، في مواجهة الاستكبار العالميّ، ضمن خطّةٍ واقعيّةٍ لا تسقط أمام التّهاويل التي يثيرها ضدَّها، وفي الانفتاح على أكثر من دولةٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ ابتعدت من خلاله عن المخطّط الأميركي لفرض العزلة عليها، وأبعدت حدَّة التوتّر عن علاقاتها الدوليّة، من دون أن تقدِّم أيّة تنازلاتٍ من مبادئها الأساسيّة.

دعم حركات التحرّر ورفض للإرهاب

وبذلك، استطاعت إيران أن تخطِّط للواقعيّة السياسيّة التي لا تستسلم للأمر الواقع، ولكنّها تعمل على التّعامل مع حركيّة التَّغيير للواقع من خلال مفردات الواقع، وبقيت على خطِّها الأصيل في دعم حركات التحرّر، ابتداءً من فلسطين، مروراً بلبنان، إلى جنوب أفريقيا ومناطق البلقان، إلى أفغانستان وغيرها، ودفعت الكثير من رصيدها السّياسيّ في الضغوط الموجَّهة ضدها، وإمكاناتها الماليّة في دعم المجاهدين، ولا سيَّما في لبنان وفلسطين وأفغانستان، وأعلنت أنها تعمل ضدَّ الإرهاب الّذي يستهدف الأبرياء، لأنَّ الله تعالى يرفض للإنسان الاعتداء على الآخر، فإنَّ الله لا يحبّ المعتدين.. ولكنَّ إيران ـ وهي التي وقعت ضحيّة أكثر من عمليّة إرهابيّة ـ ترفض اعتبار المقاومة ضدّ الاحتلال إرهاباً، لأنها حقّ الشعوب المستضعفة المحتلَّة من أجل تحرير أرضها والحصول على استقلالها.

ولذلك، وقفت إيران مع الشّعب الفلسطينيّ ضدّ الكيان الصّهيوني الَّذي ترفض الاعتراف بشرعيّته، لأنّه الكيان القائم على اغتصاب الأرض والشّعب والدّولة.. وهذا ما دعا الرئيس الأمريكي وإدارته الخاضعة للصّهيونية إلى إعلان الحرب ضدّ إيران، لأنها لم تخضع لخططها الشيطانية في الضّغط على الشعوب، ولا سيَّما شعوب العالم الثالث، وفي مساندة إسرائيل في عدوانها المستمرّ ـ بواسطة الأسلحة الأميركيَّة المتقدِّمة ـ على الفلسطينيّين، وتدمير بنيتهم التحتيّة ـ شعباً وسلطةً ـ واعتبار الإرهاب الصهيوني دفاعاً عن النّفس ضدّ انتفاضة الشعب الفلسطيني التي تسمِّيها أميركا إرهاباً، في سياسة استكباريّة لا تعرف أيَّ معنى لحقوق الإنسان.

ولايات متّحدة إسرائيليّة!

وقد انضمَّت إسرائيل إلى أميركا في إطلاق التّهديدات ضدّ إيران، وإعلان الحرب عليها، ولكنّنا نعتقد أنَّ إيران سوف تقف في ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة على الاستكبار العالمي، لتؤكِّد انتصارها على هذه الحرب الجديدة، من خلال وحدة الشَّعب والسّلطة والقيادة، ومعها كلّ الشّعوب الإسلاميَّة، والفئات الباحثة عن الحريَّة وحقوق الإنسان في الحياة الحرّة الكريمة.

ونعود إلى أميركا الّتي تستقبل مجرم الحرب "شارون" في حفاوة وتقدير، إضافةً إلى أكثر من وزيرٍ إسرائيليّ، في عمليّة دعمٍ مطلقٍ تحوَّلت فيه أمريكا إلى ولايات متَّحدة إسرائيليّة لا تملك أية سياسة مستقلّة، بفعل اللوبي الصّهيوني المسيطر على إدارتها، والّذي يفرض عليها السّقوط تحت تأثير المصالح الإسرائيليّة في المنطقة، حتى لو كانت ضدّ مصالح أميركا، مستغلاً قلّة تجربة الرئيس الأميركي السّياسيّة، وسوء فهمه للواقع السّياسيّ في العالم، واعتماده على عنجهيّة القوّة التي يطلق منها التّهديدات المتحركة في أكثر من مكانٍ ضدَّ لبنان والعراق وإيران، وضدَّ الحركات الجهاديّة السَّاعية إلى تحرير أرضها.

لقاء في خدمة العدوان!

إنَّنا نحذِّر العالم العربيّ والإسلاميّ من هذا اللّقاء العدوانيّ بين "بوش" و"شارون"، لأنّه لن يكون لقاءً في خدمة السّلام الحرّ العادل لشعوب المنطقة، بل سيكون في خدمة الحرب العدوانيّة ضدَّ كلّ الّذين يختلفون مع السّياسة الأميركيّة، حتى إنَّ هذا الحلف الأميركيّ ـ الإسرائيليّ الجديد القديم، بدأ بإثارة المشاكل والتَّعقيدات والأوضاع القلقة حتى لحلفاء أميركا في المنطقة.

ونقول للفلسطينيّين إنَّ عليهم أن يدقِّقوا في كلّ الخطوات السياسيّة والأمنيّة الّتي يتحرك بها هذا الحلف الشيطاني، للانتقال بالقضيَّة الفلسطينيَّة ـ ومعها القضايا العربيّة والإسلاميّة ـ من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ تتغلَّب فيها العصا على الجزرة، لأنَّ الشِّعار الّذي أطلقه هذا الحلف هو التَّحالف الدّوليّ ضدّ ما يسمّونه الإرهاب، بما في ذلك الواقع الضَّاغط على الشّعب الفلسطينيّ.

وحدة الموقف.. الضَّمانة الوحيدة

إنَّ المرحلة تحتاج إلى فكرٍ وصبرٍ وصمودٍ وتخطيط، لأنَّ الانفعال لا يصنع نصراً، بل قد يصنع الهزيمة.. كما أنَّ الوحدة الفلسطينيَّة ـ ومعها وحدة الموقف العربيّ والإسلاميّ ـ هي الضَّمانة الوحيدة للوصول إلى النّتائج الكبيرة، لأنَّنا لا نملك الكثير من عناصر القوّة الَّتي لا بدَّ من أن نحركها في اتجاه الأهداف الكبيرة، وعلينا الانتباه إلى موقف الاتحاد الأوروبيّ الّذي يملك الكثير من عناصر الواقعيَّة وبعض العدالة لقضايا المنطقة، لنحركها في خطّة الصّمود في وجه اختراق الحصار الأميركيّ للمنطقة باسم محاربة الإرهاب الَّذي لم يعد له معنى في الواقع السياسي.

لبنان: وحدة المصير ومواجهة التحدّيات

أمَّا لبنان، فإنّه لا يزال يواجه الاحتلال الّذي يطبق على بعض أراضيه، ويدور الجدل حوله من أجل التّأثير في مواقفه الحاسمة في دعم المقاومة ورفض الاحتلال، وذلك بالأكاذيب والافتراءات الّتي يعرف كلّ اللّبنانيّين، من مسؤولين وغير مسؤولين، عدم صحّتها، الأمر الَّذي يفرض على الجميع وحدة الموقف، بعيداً عن كلِّ العناصر الطائفيّة أو المهاترات السياسيَّة، لأنَّ القضيَّة هي قضيّة المصير في حجم التحدّيات الكبرى للمستقبل.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّنا قد نفهم الحديث عن حاجة الميزانيَّة إلى الضّرائب، ولكنَّ السّؤال هو: ما هي الخدمات الّتي يحصل عليها الشّعب في مقابل ما يدفعه من هذه الضّرائب التي أثقلت كاهله، وأوقعته في عجزٍ ساحقٍ دون عجز الميزانيّة؟ ثم ما هي الضّمانات لسلامة الصّرف للأموال الّتي يدفعها المواطن اللّبناني أمام الحديث المتكرّر عن السّرقات الكبرى والصغرى، وعن الهدر الكبير والفساد الإداريّ الّذي يأكل كلّ ميزانيّة الخدمات العامّة، بحيث لا يصل منها إلى النّاس إلا القليل بعد كلّ الحصص التي يتوزّعها الكبار والصّغار؟!

إنَّ القضيَّة المطروحة: هل هناك دولة واحدة أو دول متعدّدة يتنازعها هذا المسؤول أو ذاك، في ميزانيّته وخدماته ومنطقته وطائفته وحدود نفوذه الَّذي لا يملك الآخر أن يتجاوزها؟ إنّنا نريد للبلد دولةً واحدةً ترتبط بشعبٍ واحدٍ في وطنٍ واحدٍ اسمه لبنان، لا أن يسقط الجميع في متاهات دول الطَّوائف الّتي لا يستفيد منها الشَّعب في هذه الطّائفة أو تلك، بل الّذي يستفيد هم الّذين يسيطرون على مقدّراتها، ويبقى النّاس جياعاً عراةً لا يملكون معنى الحياة الكريمة.

لقد طرح البعض سابقاً سؤالاً: أيّ لبنان نريد؟ فهل يبقى الجواب: إنّه لبنان الفوضى في متاهات الضّياع؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية