لنهتم بقضايا الإسلام الكبرى ونتجاوز التخلف والانقسام

لنهتم بقضايا الإسلام الكبرى ونتجاوز التخلف والانقسام

في ذكرى أمير المؤمنين(ع) بمناسبة يوم الغدير
لنهتم بقضايا الإسلام الكبرى ونتجاوز التخلف والانقسام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وكان النبي(ص) راجعاً والمسلمين معه من حجة الوداع، ونزلت عليه هذه الآية التي أرادت له أن يتمم حركة النبوة بحركة الولاية، حتى تكون الولاية استكمالاً لحركية النبوة في إتمام تبليغ الرسالة ورعاية كل حركتها، وفي تصحيح ما يقع من خطأ في مفاهيمها من هنا وهناك، لتكون الولاية حارسة للإسلام بعد غياب رسول الله (ص).

موقع علي(ع) من الرسالة

ومن أولى بأن يكون الولي والوصي بعد رسول الله من عليّ(ع)، الذي رباه الرسول(ص) منذ طفولته كما يربي الأب ولده، لم يربه جسدياً، وإنما كان يبني عقله وشخصيته وقلبه وسلوكه، "كان يلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه"، بحسب ما جاء عن عليّ(ع) وهو يتحدث عن طفولته مع رسول الله(ص)، كان معه في بداية الرسالة، وكان معه في حروب الرسالة في ساحة الصراع مع المشركين، وكان معه والوحي ينزل عليه حتى قال له: "يا علي، إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنك لست بنبي"، وأعطاه العلم كله حتى قال عليّ (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، وحتى قال رسول الله(ص) مما يرويه المسلمون كلهم: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، كان في عقله عقل رسول الله، وفي روحانيته روحانية رسول الله، كان الصادق كما كان رسول الله الصادق، حتى قال بعض الناس للإمام الصادق (ع): إني أريد ان أقرب اليك وأحصل على محبتك فبماذا توصيني؟ فقال (ع): "انظر ما بلغ به عليّ عند رسول الله من الشأن فاعمله، فإن علياً بلغ ما بلغ من الشأن عند رسول الله في صدقه وأمانته، فكان الصادق الأمين كما كان رسول الله الصادق الأمين".

ونجد ان علياً (ع) حصل على الوسام في موقعة "الأحزاب"، عندما برز الى عمرو بن عبد ود، وكان المشركون بكل أحلافهم قد قدموا الى المدينة ليسقطوا الإسلام في مهده، وبرز عليّ بعد أن نادى رسول الله: "من لعمرو، وقد ضمنت له على الله الجنة"؟ ولم يقم إلا عليّ في مرات ثلاث، وعندما برز عليّ (ع) رفع رسول الله يديه الى السماء وقال: "اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، برز الإيمان كله الى الشر كله"، وانتصر عليّ (ع) وقال فيه رسول الله: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين"، لأنها أنقذت الإسلام ولولاها لقضي على الإسلام. وهكذا في موقعة "خيبر" عندما قال رسول الله(ص) وقد جبن الآخرون: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، وفتح الله على يدي علي. وكان رسول الله(ص) يتحدث عن علي(ع) كما لم يتحدث عن أي صحابي آخر، لأنه كان يريد أن يوحي للمسلمين جميعاً ان علياً وحده هو المتعيّن لأن يكون خليفته ووصيه، وقال له: "يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"، وأضاف وهو يشير إلى أن علياً هو الذي يحمي الحق ويدافع عنه: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار".

الحق مع علي(ع) حيثما دار:

وعندما وصل الى غدير خم، قافلاً من حجة الوداع، نزلت عليه الآية الكريمة: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وأمر القافلة بالوقوف وكان الحرّ شديداً، حتى أخذ القوم منازلهم وصلى بالناس، وظلل لرسول الله (ص) بثوب على شجرة من الشمس، فلما انصرف من صلاته قام خطيباً وسط القوم، ومن جملة ما قاله: "ألستم تشهدون أن لا اله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وان الموت حق وان الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور"، قالوا: بلى نشهد بذلك، ثم قال: "اللهم اشهد، أيها الناس ألا تسمعون"، قالوا: نعم، فقال: "فإني فرط على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصره، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين"، فنادى منادِ: وما الثقلان يا رسول الله؟، فقال: "الثقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ـ وهذا ما يستدل منه بعض العلماء على الإمام المهدي (عج)، لأنه ليس هناك زمن فيه الكتاب إلا ويوجد معه شخص من العترة الطاهرة ـ فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا"، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها حتى رؤي بياض ابطيهما، وعرفه القوم بأجمعهم، فقال: "أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال (ص): "إن الله مولاي وانا مولى المؤمنين وانا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه"، يقولها ثلاث مرات ـ فجعل الولاية التي له لعليّ (ع) وهي معنى الحاكمية ـ ثم قال: "اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم ـ الذي بدأ بالتوحيد وبالرسالة وأُكمل بالولاية ـ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فقال رسول الله (ص): "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي"، ونصب لعليّ خيمة وجاء كبار الصحابة يهنئونه، وبهذا كان يوم الغدير يوم الولاية.

لا تُنال الولاية إلا بالورع

والولاية ليست مجرد نبضة قلب نفتحها على عليّ (ع)، وليست مجرد خفقة مشاعر، ولكن الولاية خط وموقف، أن نكون في الخط الذي سار عليه عليّ (ع)، كما قال الإمام الباقر (ع): "أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من علي، أفحسب الرجل أن يقول أحب رسول الله ثم لا يعمل بسنته، من كان ولياً لله فهو لنا ولي، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدو، والله لا تنال ولايتنا إلا بالورع عن محارم الله"، وقد قال عليّ (ع): "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفة وسداد"، هذا هو خط التشيّع الذي هو خط الإسلام فيما أنزله الله على رسوله من كتابه، وفيما ألهم الله به رسوله من سنته، وفيما أخذ به الأئمة (ع) عن رسول الله، لأن حديثهم هو حديث رسول الله.

ومرت الأيام، وأُبعد عليّ (ع) عن موقعه، وبقي وهو الأمين على الإسلام والوصي لرسول الله (ص) في حماية الإسلام ورعايته حتى وهو خارج مركز الخلافة، لم يقم بأية ثورة ضد الذين تقدّموه، ولم يسمح بأية فتنة يستغلها الذين يصطادون في الماء العكر، وقد جاءه أبو سفيان مع بعض قدامى المشركين الذين دخلوا في الإسلام لاحقاً وقال له: مدّ يدك لأبايعك، والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً، فقال له: "متى كنت مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان"، وقد أطلقها كلمة رائعة في هذا المجال عندما قال: "لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه".

وعاون عليّ (ع) الذين تقدّموه حتى قال قائلهم: "لولا علي لهلك عمر". كان يعطي الرأي والنصيحة، ويشير الى ما فيه سلامة هؤلاء، لأن علياً لا يعيش العقدة، ولكنه كان يعيش الرسالة، وصاحب الرسالة يضحي بكثير من ذاتياته من خلال مسؤوليته عن الرسالة كلها.

حديث الغدير لا شك فيه

وعندما نستعيد حدث الغدير، نتأكد أن الذي رواه من الصحابة، وبحسب ما ذكره صاحب الغدير، مئة وعشرة، ورواه من العلماء ثلاثمئة وستون عالماً، فحديث الغدير هو من الأحاديث الثابتة التي رواها باختلاف التفصيل والإجمال كبار السنّة والشيعة معاً، فلا ريب فيه ولا شك، بالرغم مما نسبه اليّ بعض الناس ـ زوراً وبهتاناً ـ بأنني أشكك في سند الغدير. ولكن علينا أن لا نجعل من اختلاف المسلمين في قضية الخلافة أساساً للعصبية، نقولها للسنة وللشيعة، لأن الله قال لنا فيما تنازعنا فيه، سواء كان الأمر في شؤون الخلافة والإمامة أو الفقه أو في أيّ شيء من تفاصيل القضايا الإسلامية: {فإن تنازعتم فيه شيء فردوه الى الله والرسول}.

بين الخلافات الإسلامية والحوار الموضوعي

إن الكفر العالمي يدرس كل خلافات المسلمين فيما بينهم، يدرس خلافات السنّة فيما بينهم ليثير الفتنة بين السنّة، ويدرس خلافات المسلمين الشيعة ف ما بينهم ليثير الفتنة بين الشيعة أنفسهم، ويدرس الخلافات بين السنّة والشيعة ليثير الفتنة فيما بينهم، فتنة تقود الى التباعد والاختلاف والتقاتل، والى أن يكفّر المسلمون بعضهم بعضاً، وهذا ما نسمعه بين وقت وآخر من تكفير بعض السنة للشيعة ومن تكفير بعض الشيعة للسنة، ومن تكفير بعض السنّة لبعض السنّة، ومن تكفير بعض الشيعة لبعض الشيعة، لأنهم خضعوا للإشاعات ولخطط الاستكبار العالمي الذي وضع في جامعاته ومواقعه الثقافية منابر لدراسة كل الاختلافات المذهبية بين المسلمين أنفسهم، وحتى أنه وضع كل الاختلافات الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين، والله أراد لنا أن ندعو أهل الكتاب الى كلمة سواء بيننا وبينهم.

كل من أراد أن يثير الفتنة بين المسلمين اطردوه من بينكم، سواء الذي ينطلق ليثير الخلافات بين السنّة والشيعة، أو بين السنّة انفسهم أو بين الشيعة أنفسهم، أما إذا أردتم أن تبحثوا في خلافاتكم فإن السباب والشتائم لا تحل خلافاً، وهذا ما قاله عليّ (ع) عندما سمع بعض أهل العراق يسبون أهل الشام: "إني أكره لكم ان تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم ـ من خلال الحوار الموضوعي ـ وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم ربنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

لذلك، نحن مع الوحدة الإسلامية، وليس معنى الوحدة الإسلامية ان يتنازل الشيعي عن شيعيته، كما يتهمنا البعض زوراً وبهتاناً، وليس معنى ذلك أن نقول للسني كن شيعياً، بل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ونتحاور في ما نختلف فيه حوار العقل والعلم. نحن بحاجة في هذه المرحلة الى الابتعاد عن التعصب وإثارة الحقد والبغضاء بين المسلمين، لأن علياً ـ وهو أمامنا وقدوتنا وهدانا ـ هو رائد الوحدة الإسلامية، وقد قال لابن عباس وقد رآه يخصف نعله: "إنها أحب الي من أمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"، وقد قال في خطبة الشقشقية: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز". هذا هو عليّ الذي يسمو ويرتفع، هذا هو عليّ الذي أحب الله ورسوله وأحبه الله ورسوله، هذا هو عليّ الذي لا نستطيع إلا أن نحبه وأن نملأ عقولنا بعقله وقلوبنا بقلبه، لا نستطيع أن نجد فيه إلا إنساناً لا نقول عنه إنه معصوم بل هو فوق العصمة.

لقد كان عليّ محباً لله فأحبوه، ومطيعاً لله فأطيعوه، عليّ هو القدوة بعد رسول الله فلنقتدِ به، ولننطلق لنلتقي به غداً {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من اتى الله بقلب سليم} لنحصل على الشفاعة من خلاله ومن خلال رسول الله، ولنقول له: يا أمير المؤمنين، كنا في الدنيا نعمل على أن نؤكد خطك، وها نحن نقف معك في يوم القيامة لنحصل على نتائج ذلك.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط الله ورسوله وفي خط عليّ الذي أخلص لله ولرسوله، والذي دعانا الى أن نتقي الله ونحافظ على أمرنا ونصلح ذات بيننا، وأوصانا ان نكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، والاستكبار هو اعلى مواقع الظلم، وأراد لنا أن نكون مع المستضعفين كلهم. ونحن نعيش في هذه الظروف الحرجة المشكلة الكبرى في مواجهة الكفر والاستكبار، وعلينا أن نكون أمة واحدة وموقفاً واحداً لنسقط الاستكبار في كل مواقعه، لأن القضية هي كيف نكون قوة في سبيل الله بكل ما عندنا من طاقة، وعلينا أن نكون في هذه المرحلة الواعين للساحة ولكل الظروف التي تحيط بها، ولكل الخطط التي تدبّر لها، وعلينا أن نواجه موقفنا من خلال ما نعيشه من كل هذه المشاكل، فماذا هناك:

جرائم إسرائيل ومسؤولية أمريكا

الانتفاضة مستمرة في الدرجة العالية من الثبات والصمود، أمام عملية الإبادة للشعب الفلسطيني التي ترعاها الإدارة الأمريكية، في مساندتها للكيان الصهيوني في استخدامها كل الأسلحة الأمريكية المدمِّرة، وتأكيدها مسؤولية الفلسطينيين في ما تسميه العنف، في الوقت الذي تنكر فيه عليهم مقاومة الاحتلال، وتضغط عليهم لإلقاء السلاح جانباً والخضوع للشروط الإسرائيلية، في غياب أيّ توازن في ميزان القوة.. ولكن أمريكا في الوقت نفسه لا تتحدث عن أيّ احتلال للأرض الفلسطينية من قِبَل إسرائيل، بل تعتبرها أراضي متنازعاً عليها؟!

إن المشكلة هي أن أمريكا التي تتاجر بالدعوة إلى حقوق الإنسان في العالم، وتضغط على كل معارضي سياستها تحت شعار تطبيق حقوق الإنسان، لا تجد للشعب الفلسطيني حقاً في الحياة، وهي تتحدث نفاقاً ورياءً عن دولة فلسطينية، من دون أن تمارس أيّ ضغط على الكيان الصهيوني للانسحاب من الأرض؟!

ولقد تابعنا أحداث الانتفاضة من خلال المجزرة الوحشية التي قام بها الجيش الصهيوني، حيث حصد العشرات من الفلسطينيين بين شهيد وجريح، من دون أن يصدر أيّ احتجاج من الإدارة الأمريكية، بل إن المضحك المبكي أن أمريكا تعتبر الضحايا إرهابيين بينما تعتبر القتلة مدافعين عن النفس؟؟

بين المبادرات العربية والدوامة الإسرائيلية

ويتحدث الإعلام بين مرحلة وأخرى عن مبادرات سلمية عربية، تأكيداً للرغبة العامة لدى العرب في السلام، ولكن، وبالرغم من أن الشعب الفلسطيني هو الضحية وان اليهود هم المعتدون، فإن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لم تتحدث عن الانسحاب الذي اعتبرته المبادرة الأخيرة أساساً للسلام العربي اليهودي، بل تحدثت عن تمييع المسألة بالدخول في التفاصيل، لتعود الدوّامة في اعتبار القدس خارج نطاق المفاوضات، وإبقاء المستوطنات في مواقعها، واعتبار عودة اللاجئين أمراً غير واقعي، إلى غير ذلك من "اللاءات" الصهيونية التي تملك عطفاً وتأييداً أمريكياً.. والسؤال: هل الضحية هي التي تقدّم مبادرة السلام أو المعتدي؟

لقد قدّم العرب التنازلات تلو التنازلات في كل تاريخ صراعهم مع إسرائيل، ولكن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تريد الوصول بالتنازلات إلى المستوى الذي يفقد فيه الفلسطينيون أكثر أرضهم، ويتحوّلون إلى مجرد عمّال لليهود، وتتحوّل دولتهم الموعودة إلى شيء ليس له من الدولة إلا الاسم، لتبقى القوة الحقيقية لإسرائيل باسم الواقعية السياسية..

إننا نقول للشعب الفلسطيني: إن المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ـ وأخشى أن أقول عربياً وإسلامياً ـ هو أن يبقى لكم بقايا فلسطين.. ولن نتحدث عن التطرف عندما نقول لكم تابعوا الانتفاضة، فقد استطعتم أن تُدخلوا العدو في المأزق، وأن تفضحوا السياسة الأمريكية في شعار الحرب ضد الإرهاب، ليبرز في واقع الحرب ضد الحرية والاستقلال للشعب المحتلة أرضه.. لن يقلّع أحد كل الأشواك المزروعة في حاضركم ومستقبلكم، لأنهم يخافون من إدماء أصابعهم، وتذكّروا أن الحرية لن تتحقق لأي شعب إلا بالصمود وتحريك كل عناصر القوة في مواجهة أية قوة معادية للاستقلال.

الخلاف المذهبي يضعف قضايا المصير

وفي جانب آخر، ينقل لنا الإعلام إطلاق النار على المصلّين في مسجد للمسلمين الشيعة في باكستان، انطلاقاً من الطائفية المذهبية البغيضة، والتي قد تجتذب ردّ فعل مماثل من جانب آخر.. إننا نقول للمسلمين هناك: إن الموقف الذي تواجهونه هو الهيمنة الأمريكية على مقدّراتكم الحيوية وعلى قوتكم الإسلامية، وليست مشكلتكم الحقيقية هي هذا الخلاف المذهبي الذي أراد الله تعالى لنا أن نرده إليه سبحانه والى الرسول (ص)، في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والى الرسول}.. ارتفعوا إلى مستوى المرحلة الصعبة التي يواجهها الواقع الإسلامي كله في حملة الاستكبار العالمي ضده، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}..

ونقرأ أيضاً المشكلة التي يعيشها المسلمون في الهند، في هدم مسجدهم وإحراق متاجرهم وبيوتهم على أهلها، لنقول للمسلمين إن ما يتعرضون له من مجازر ومآسٍ إنما ينطلق من هذا العبث في قضاياهم، ويصدر من الانقسامات والتمزقات التي يعيشونها في واقعهم هنا وهناك، ولذلك نؤكد عليهم أن يكونوا في مستوى الوعي الإسلامي، ويتخلّصوا من كل هذا الجهل الغبي والتخلّف المجنون، ليعرفوا كيف يكونون قوة في العالم، أشداء على المستكبرين رحماء بينهم.

الانهيار الاقتصادي ومسؤولية الإنقاذ

وفي لبنان، يبقى السؤال الكبير موجّهاً للوسط اللبناني كله: هل نحن هنا في مرحلة إدارة الأزمة أو في مرحلة الخروج منها، ولماذا السكوت عن الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الإجباري للإصلاح الاقتصادي؟ ولماذا لا يجد الشعب أجوبة مقنعة واقعية عن الأسئلة الاقتصادية الصعبة؟ وإذا كان البلد يتجه إلى ما يشبه الانهيار الاقتصادي، فلماذا لا يرتفع الجميع إلى ما يشبه حال الطوارئ للإنقاذ؟ وهل يأتي الإنقاذ من الخارج ـ ولا سيما من أمريكا ـ الذي لا يهمه من لبنان إلا الدخول في التحالف ضد ما يسميه الإرهاب، ليصادر المقاومة لحساب إسرائيل تحت تأثير التهديد بالعقوبات الدولية؟

إن الحلول المتداولة الآن تنتج في كل يوم مشكلة جديدة وأزمة خانقة، إلى جانب المشاكل والأزمات السابقة.. ويبقى المترفون في الدائرة التي تحمي الهدر والسرقات والفساد الإداري، لحماية التوازن الطائفي، ويغرق الفقراء من عمّال وموظفين، ويتخبطون في وحل سياسي هنا ووحل اقتصادي هناك، ليبقى السؤال: متى تقوم قيامة لبنان؟

في ذكرى أمير المؤمنين(ع) بمناسبة يوم الغدير
لنهتم بقضايا الإسلام الكبرى ونتجاوز التخلف والانقسام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وكان النبي(ص) راجعاً والمسلمين معه من حجة الوداع، ونزلت عليه هذه الآية التي أرادت له أن يتمم حركة النبوة بحركة الولاية، حتى تكون الولاية استكمالاً لحركية النبوة في إتمام تبليغ الرسالة ورعاية كل حركتها، وفي تصحيح ما يقع من خطأ في مفاهيمها من هنا وهناك، لتكون الولاية حارسة للإسلام بعد غياب رسول الله (ص).

موقع علي(ع) من الرسالة

ومن أولى بأن يكون الولي والوصي بعد رسول الله من عليّ(ع)، الذي رباه الرسول(ص) منذ طفولته كما يربي الأب ولده، لم يربه جسدياً، وإنما كان يبني عقله وشخصيته وقلبه وسلوكه، "كان يلقي إليّ في كل يوم خلقاً من أخلاقه وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه"، بحسب ما جاء عن عليّ(ع) وهو يتحدث عن طفولته مع رسول الله(ص)، كان معه في بداية الرسالة، وكان معه في حروب الرسالة في ساحة الصراع مع المشركين، وكان معه والوحي ينزل عليه حتى قال له: "يا علي، إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع ولكنك لست بنبي"، وأعطاه العلم كله حتى قال عليّ (ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب"، وحتى قال رسول الله(ص) مما يرويه المسلمون كلهم: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، كان في عقله عقل رسول الله، وفي روحانيته روحانية رسول الله، كان الصادق كما كان رسول الله الصادق، حتى قال بعض الناس للإمام الصادق (ع): إني أريد ان أقرب اليك وأحصل على محبتك فبماذا توصيني؟ فقال (ع): "انظر ما بلغ به عليّ عند رسول الله من الشأن فاعمله، فإن علياً بلغ ما بلغ من الشأن عند رسول الله في صدقه وأمانته، فكان الصادق الأمين كما كان رسول الله الصادق الأمين".

ونجد ان علياً (ع) حصل على الوسام في موقعة "الأحزاب"، عندما برز الى عمرو بن عبد ود، وكان المشركون بكل أحلافهم قد قدموا الى المدينة ليسقطوا الإسلام في مهده، وبرز عليّ بعد أن نادى رسول الله: "من لعمرو، وقد ضمنت له على الله الجنة"؟ ولم يقم إلا عليّ في مرات ثلاث، وعندما برز عليّ (ع) رفع رسول الله يديه الى السماء وقال: "اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، برز الإيمان كله الى الشر كله"، وانتصر عليّ (ع) وقال فيه رسول الله: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين"، لأنها أنقذت الإسلام ولولاها لقضي على الإسلام. وهكذا في موقعة "خيبر" عندما قال رسول الله(ص) وقد جبن الآخرون: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، وفتح الله على يدي علي. وكان رسول الله(ص) يتحدث عن علي(ع) كما لم يتحدث عن أي صحابي آخر، لأنه كان يريد أن يوحي للمسلمين جميعاً ان علياً وحده هو المتعيّن لأن يكون خليفته ووصيه، وقال له: "يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"، وأضاف وهو يشير إلى أن علياً هو الذي يحمي الحق ويدافع عنه: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار".

الحق مع علي(ع) حيثما دار:

وعندما وصل الى غدير خم، قافلاً من حجة الوداع، نزلت عليه الآية الكريمة: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وأمر القافلة بالوقوف وكان الحرّ شديداً، حتى أخذ القوم منازلهم وصلى بالناس، وظلل لرسول الله (ص) بثوب على شجرة من الشمس، فلما انصرف من صلاته قام خطيباً وسط القوم، ومن جملة ما قاله: "ألستم تشهدون أن لا اله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق وان الموت حق وان الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور"، قالوا: بلى نشهد بذلك، ثم قال: "اللهم اشهد، أيها الناس ألا تسمعون"، قالوا: نعم، فقال: "فإني فرط على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصره، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين"، فنادى منادِ: وما الثقلان يا رسول الله؟، فقال: "الثقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ـ وهذا ما يستدل منه بعض العلماء على الإمام المهدي (عج)، لأنه ليس هناك زمن فيه الكتاب إلا ويوجد معه شخص من العترة الطاهرة ـ فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا"، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها حتى رؤي بياض ابطيهما، وعرفه القوم بأجمعهم، فقال: "أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال (ص): "إن الله مولاي وانا مولى المؤمنين وانا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه"، يقولها ثلاث مرات ـ فجعل الولاية التي له لعليّ (ع) وهي معنى الحاكمية ـ ثم قال: "اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم ـ الذي بدأ بالتوحيد وبالرسالة وأُكمل بالولاية ـ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فقال رسول الله (ص): "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي"، ونصب لعليّ خيمة وجاء كبار الصحابة يهنئونه، وبهذا كان يوم الغدير يوم الولاية.

لا تُنال الولاية إلا بالورع

والولاية ليست مجرد نبضة قلب نفتحها على عليّ (ع)، وليست مجرد خفقة مشاعر، ولكن الولاية خط وموقف، أن نكون في الخط الذي سار عليه عليّ (ع)، كما قال الإمام الباقر (ع): "أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من علي، أفحسب الرجل أن يقول أحب رسول الله ثم لا يعمل بسنته، من كان ولياً لله فهو لنا ولي، ومن كان عدوّاً لله فهو لنا عدو، والله لا تنال ولايتنا إلا بالورع عن محارم الله"، وقد قال عليّ (ع): "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع ـ عن الحرام ـ واجتهاد ـ في طاعة الله ـ وعفة وسداد"، هذا هو خط التشيّع الذي هو خط الإسلام فيما أنزله الله على رسوله من كتابه، وفيما ألهم الله به رسوله من سنته، وفيما أخذ به الأئمة (ع) عن رسول الله، لأن حديثهم هو حديث رسول الله.

ومرت الأيام، وأُبعد عليّ (ع) عن موقعه، وبقي وهو الأمين على الإسلام والوصي لرسول الله (ص) في حماية الإسلام ورعايته حتى وهو خارج مركز الخلافة، لم يقم بأية ثورة ضد الذين تقدّموه، ولم يسمح بأية فتنة يستغلها الذين يصطادون في الماء العكر، وقد جاءه أبو سفيان مع بعض قدامى المشركين الذين دخلوا في الإسلام لاحقاً وقال له: مدّ يدك لأبايعك، والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً، فقال له: "متى كنت مخلصاً للإسلام يا أبا سفيان"، وقد أطلقها كلمة رائعة في هذا المجال عندما قال: "لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه".

وعاون عليّ (ع) الذين تقدّموه حتى قال قائلهم: "لولا علي لهلك عمر". كان يعطي الرأي والنصيحة، ويشير الى ما فيه سلامة هؤلاء، لأن علياً لا يعيش العقدة، ولكنه كان يعيش الرسالة، وصاحب الرسالة يضحي بكثير من ذاتياته من خلال مسؤوليته عن الرسالة كلها.

حديث الغدير لا شك فيه

وعندما نستعيد حدث الغدير، نتأكد أن الذي رواه من الصحابة، وبحسب ما ذكره صاحب الغدير، مئة وعشرة، ورواه من العلماء ثلاثمئة وستون عالماً، فحديث الغدير هو من الأحاديث الثابتة التي رواها باختلاف التفصيل والإجمال كبار السنّة والشيعة معاً، فلا ريب فيه ولا شك، بالرغم مما نسبه اليّ بعض الناس ـ زوراً وبهتاناً ـ بأنني أشكك في سند الغدير. ولكن علينا أن لا نجعل من اختلاف المسلمين في قضية الخلافة أساساً للعصبية، نقولها للسنة وللشيعة، لأن الله قال لنا فيما تنازعنا فيه، سواء كان الأمر في شؤون الخلافة والإمامة أو الفقه أو في أيّ شيء من تفاصيل القضايا الإسلامية: {فإن تنازعتم فيه شيء فردوه الى الله والرسول}.

بين الخلافات الإسلامية والحوار الموضوعي

إن الكفر العالمي يدرس كل خلافات المسلمين فيما بينهم، يدرس خلافات السنّة فيما بينهم ليثير الفتنة بين السنّة، ويدرس خلافات المسلمين الشيعة ف ما بينهم ليثير الفتنة بين الشيعة أنفسهم، ويدرس الخلافات بين السنّة والشيعة ليثير الفتنة فيما بينهم، فتنة تقود الى التباعد والاختلاف والتقاتل، والى أن يكفّر المسلمون بعضهم بعضاً، وهذا ما نسمعه بين وقت وآخر من تكفير بعض السنة للشيعة ومن تكفير بعض الشيعة للسنة، ومن تكفير بعض السنّة لبعض السنّة، ومن تكفير بعض الشيعة لبعض الشيعة، لأنهم خضعوا للإشاعات ولخطط الاستكبار العالمي الذي وضع في جامعاته ومواقعه الثقافية منابر لدراسة كل الاختلافات المذهبية بين المسلمين أنفسهم، وحتى أنه وضع كل الاختلافات الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين، والله أراد لنا أن ندعو أهل الكتاب الى كلمة سواء بيننا وبينهم.

كل من أراد أن يثير الفتنة بين المسلمين اطردوه من بينكم، سواء الذي ينطلق ليثير الخلافات بين السنّة والشيعة، أو بين السنّة انفسهم أو بين الشيعة أنفسهم، أما إذا أردتم أن تبحثوا في خلافاتكم فإن السباب والشتائم لا تحل خلافاً، وهذا ما قاله عليّ (ع) عندما سمع بعض أهل العراق يسبون أهل الشام: "إني أكره لكم ان تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم ـ من خلال الحوار الموضوعي ـ وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم ربنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

لذلك، نحن مع الوحدة الإسلامية، وليس معنى الوحدة الإسلامية ان يتنازل الشيعي عن شيعيته، كما يتهمنا البعض زوراً وبهتاناً، وليس معنى ذلك أن نقول للسني كن شيعياً، بل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ونتحاور في ما نختلف فيه حوار العقل والعلم. نحن بحاجة في هذه المرحلة الى الابتعاد عن التعصب وإثارة الحقد والبغضاء بين المسلمين، لأن علياً ـ وهو أمامنا وقدوتنا وهدانا ـ هو رائد الوحدة الإسلامية، وقد قال لابن عباس وقد رآه يخصف نعله: "إنها أحب الي من أمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"، وقد قال في خطبة الشقشقية: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز". هذا هو عليّ الذي يسمو ويرتفع، هذا هو عليّ الذي أحب الله ورسوله وأحبه الله ورسوله، هذا هو عليّ الذي لا نستطيع إلا أن نحبه وأن نملأ عقولنا بعقله وقلوبنا بقلبه، لا نستطيع أن نجد فيه إلا إنساناً لا نقول عنه إنه معصوم بل هو فوق العصمة.

لقد كان عليّ محباً لله فأحبوه، ومطيعاً لله فأطيعوه، عليّ هو القدوة بعد رسول الله فلنقتدِ به، ولننطلق لنلتقي به غداً {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من اتى الله بقلب سليم} لنحصل على الشفاعة من خلاله ومن خلال رسول الله، ولنقول له: يا أمير المؤمنين، كنا في الدنيا نعمل على أن نؤكد خطك، وها نحن نقف معك في يوم القيامة لنحصل على نتائج ذلك.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانطلقوا في خط الله ورسوله وفي خط عليّ الذي أخلص لله ولرسوله، والذي دعانا الى أن نتقي الله ونحافظ على أمرنا ونصلح ذات بيننا، وأوصانا ان نكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، والاستكبار هو اعلى مواقع الظلم، وأراد لنا أن نكون مع المستضعفين كلهم. ونحن نعيش في هذه الظروف الحرجة المشكلة الكبرى في مواجهة الكفر والاستكبار، وعلينا أن نكون أمة واحدة وموقفاً واحداً لنسقط الاستكبار في كل مواقعه، لأن القضية هي كيف نكون قوة في سبيل الله بكل ما عندنا من طاقة، وعلينا أن نكون في هذه المرحلة الواعين للساحة ولكل الظروف التي تحيط بها، ولكل الخطط التي تدبّر لها، وعلينا أن نواجه موقفنا من خلال ما نعيشه من كل هذه المشاكل، فماذا هناك:

جرائم إسرائيل ومسؤولية أمريكا

الانتفاضة مستمرة في الدرجة العالية من الثبات والصمود، أمام عملية الإبادة للشعب الفلسطيني التي ترعاها الإدارة الأمريكية، في مساندتها للكيان الصهيوني في استخدامها كل الأسلحة الأمريكية المدمِّرة، وتأكيدها مسؤولية الفلسطينيين في ما تسميه العنف، في الوقت الذي تنكر فيه عليهم مقاومة الاحتلال، وتضغط عليهم لإلقاء السلاح جانباً والخضوع للشروط الإسرائيلية، في غياب أيّ توازن في ميزان القوة.. ولكن أمريكا في الوقت نفسه لا تتحدث عن أيّ احتلال للأرض الفلسطينية من قِبَل إسرائيل، بل تعتبرها أراضي متنازعاً عليها؟!

إن المشكلة هي أن أمريكا التي تتاجر بالدعوة إلى حقوق الإنسان في العالم، وتضغط على كل معارضي سياستها تحت شعار تطبيق حقوق الإنسان، لا تجد للشعب الفلسطيني حقاً في الحياة، وهي تتحدث نفاقاً ورياءً عن دولة فلسطينية، من دون أن تمارس أيّ ضغط على الكيان الصهيوني للانسحاب من الأرض؟!

ولقد تابعنا أحداث الانتفاضة من خلال المجزرة الوحشية التي قام بها الجيش الصهيوني، حيث حصد العشرات من الفلسطينيين بين شهيد وجريح، من دون أن يصدر أيّ احتجاج من الإدارة الأمريكية، بل إن المضحك المبكي أن أمريكا تعتبر الضحايا إرهابيين بينما تعتبر القتلة مدافعين عن النفس؟؟

بين المبادرات العربية والدوامة الإسرائيلية

ويتحدث الإعلام بين مرحلة وأخرى عن مبادرات سلمية عربية، تأكيداً للرغبة العامة لدى العرب في السلام، ولكن، وبالرغم من أن الشعب الفلسطيني هو الضحية وان اليهود هم المعتدون، فإن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لم تتحدث عن الانسحاب الذي اعتبرته المبادرة الأخيرة أساساً للسلام العربي اليهودي، بل تحدثت عن تمييع المسألة بالدخول في التفاصيل، لتعود الدوّامة في اعتبار القدس خارج نطاق المفاوضات، وإبقاء المستوطنات في مواقعها، واعتبار عودة اللاجئين أمراً غير واقعي، إلى غير ذلك من "اللاءات" الصهيونية التي تملك عطفاً وتأييداً أمريكياً.. والسؤال: هل الضحية هي التي تقدّم مبادرة السلام أو المعتدي؟

لقد قدّم العرب التنازلات تلو التنازلات في كل تاريخ صراعهم مع إسرائيل، ولكن إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تريد الوصول بالتنازلات إلى المستوى الذي يفقد فيه الفلسطينيون أكثر أرضهم، ويتحوّلون إلى مجرد عمّال لليهود، وتتحوّل دولتهم الموعودة إلى شيء ليس له من الدولة إلا الاسم، لتبقى القوة الحقيقية لإسرائيل باسم الواقعية السياسية..

إننا نقول للشعب الفلسطيني: إن المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً ـ وأخشى أن أقول عربياً وإسلامياً ـ هو أن يبقى لكم بقايا فلسطين.. ولن نتحدث عن التطرف عندما نقول لكم تابعوا الانتفاضة، فقد استطعتم أن تُدخلوا العدو في المأزق، وأن تفضحوا السياسة الأمريكية في شعار الحرب ضد الإرهاب، ليبرز في واقع الحرب ضد الحرية والاستقلال للشعب المحتلة أرضه.. لن يقلّع أحد كل الأشواك المزروعة في حاضركم ومستقبلكم، لأنهم يخافون من إدماء أصابعهم، وتذكّروا أن الحرية لن تتحقق لأي شعب إلا بالصمود وتحريك كل عناصر القوة في مواجهة أية قوة معادية للاستقلال.

الخلاف المذهبي يضعف قضايا المصير

وفي جانب آخر، ينقل لنا الإعلام إطلاق النار على المصلّين في مسجد للمسلمين الشيعة في باكستان، انطلاقاً من الطائفية المذهبية البغيضة، والتي قد تجتذب ردّ فعل مماثل من جانب آخر.. إننا نقول للمسلمين هناك: إن الموقف الذي تواجهونه هو الهيمنة الأمريكية على مقدّراتكم الحيوية وعلى قوتكم الإسلامية، وليست مشكلتكم الحقيقية هي هذا الخلاف المذهبي الذي أراد الله تعالى لنا أن نرده إليه سبحانه والى الرسول (ص)، في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والى الرسول}.. ارتفعوا إلى مستوى المرحلة الصعبة التي يواجهها الواقع الإسلامي كله في حملة الاستكبار العالمي ضده، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}..

ونقرأ أيضاً المشكلة التي يعيشها المسلمون في الهند، في هدم مسجدهم وإحراق متاجرهم وبيوتهم على أهلها، لنقول للمسلمين إن ما يتعرضون له من مجازر ومآسٍ إنما ينطلق من هذا العبث في قضاياهم، ويصدر من الانقسامات والتمزقات التي يعيشونها في واقعهم هنا وهناك، ولذلك نؤكد عليهم أن يكونوا في مستوى الوعي الإسلامي، ويتخلّصوا من كل هذا الجهل الغبي والتخلّف المجنون، ليعرفوا كيف يكونون قوة في العالم، أشداء على المستكبرين رحماء بينهم.

الانهيار الاقتصادي ومسؤولية الإنقاذ

وفي لبنان، يبقى السؤال الكبير موجّهاً للوسط اللبناني كله: هل نحن هنا في مرحلة إدارة الأزمة أو في مرحلة الخروج منها، ولماذا السكوت عن الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الإجباري للإصلاح الاقتصادي؟ ولماذا لا يجد الشعب أجوبة مقنعة واقعية عن الأسئلة الاقتصادية الصعبة؟ وإذا كان البلد يتجه إلى ما يشبه الانهيار الاقتصادي، فلماذا لا يرتفع الجميع إلى ما يشبه حال الطوارئ للإنقاذ؟ وهل يأتي الإنقاذ من الخارج ـ ولا سيما من أمريكا ـ الذي لا يهمه من لبنان إلا الدخول في التحالف ضد ما يسميه الإرهاب، ليصادر المقاومة لحساب إسرائيل تحت تأثير التهديد بالعقوبات الدولية؟

إن الحلول المتداولة الآن تنتج في كل يوم مشكلة جديدة وأزمة خانقة، إلى جانب المشاكل والأزمات السابقة.. ويبقى المترفون في الدائرة التي تحمي الهدر والسرقات والفساد الإداري، لحماية التوازن الطائفي، ويغرق الفقراء من عمّال وموظفين، ويتخبطون في وحل سياسي هنا ووحل اقتصادي هناك، ليبقى السؤال: متى تقوم قيامة لبنان؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية