ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
البر هو الالتزام بحكم الله
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.
هذه الآية الكريمة نزلت عندما حوّل الله تعالى القبلة من بيت المقدس التي كان أهل الكتاب والمسلمون من بعدهم يتوجهون إليها، حوّلها إلى الكعبة، كما جاء في قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}، ولعل الذين ذهبوا إلى الحج زاروا مسجد القبلتين الذي صلّى فيه رسول الله (ص) إلى بيت المقدس ونزل عليه الوحي، فصلى الصلاة الثانية إلى المسجد الحرام.
عند ذلك كثر اللغط الذي أثاره اليهود بين المسلمين، كيف يمكن أن تحوّل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فإذا كانت المسألة حكم الله في الأول فكيف تغيّر، وإذا كانت حكم الله في الأخير فكيف رضي الله للمسلمين أن يتوجهوا إلى بيت المقدس، فكانت هذه المسألة محل اختبار للمسلمين في إذعانهم لله، لأن التحليل والتحريم بيد الله تعالى، فقد يوجب اليوم شيئاً وغداً شيئاً آخر، وقد جاء في قول السيد المسيح (ع) مما ينقله القرآن الكريم في خطابه لبني إسرائيل: {ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم}، وورد عن أئمة أهل البيت (ع) أمام الذين سألوا عن كيفية تزاوج أبناء آدم وكيف تزوّج الأخ أخته، فأجاب الإمام (ع) بأن التحليل والتحريم بيد الله، هو الذي يحرّم وهو الذي يحلل.
فهذه الآية الكريمة أرادت أن تبيّن للمسلمين بأنه عليكم أن لا تشغلوا أنفسكم بوجهة الصلاة، فهذه المسألة ليست هي البرّ، والبرّ هو عبارة عن فعل الطاعات والخيرات، فأراد الله تعالى أن يبيّن لهم أن البرّ الحقيقي هو أن تطيعوا الله في كل شيء، أن تطيعوه بما تعتقدونه وفي ما تعملونه، لأن على الإنسان أن يكون مطيعاً لله في كل ما أمر الله به، ولذلك نلاحظ أن النبي (ص) عندما تحدث عن إسلامه قال: "وأُمرت أن أكون أول المسلمين"، فإذا أمركم الله اليوم بشيء فعليكم أن تطيعوه، وإذا أمركم بشيء آخر يختلف عن ذلك فعليكم أن تطيعوه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
إن الله تعالى أراد أن يجمع للمسلمين في هذه الآية الكريمة العناصر الأساسية لشخصية الإنسان المسلم في ما يعتقده، وشخصية الإنسان المؤمن في ما يعمله في القضايا العامة المتصلة بنفسه وبعلاقاته مع الناس، ويربط أحدهما بالآخر، لأن قضية العمل مربوطة بالإيمان، فلا قيمة للإيمان بدون عمل، ولا قيمة للعمل بدون إيمان، وقد قال الله تعالى: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، فالقرآن الكريم عندما يتحدث عن الإيمان فإنه يتحدث عن العمل الصالح، فلا يكفي أن يعيش الإيمان في عقلك عقيدة إذا لم يتحوّل هذا الإيمان إلى عمل وممارسة، كما أنه لا قيمة للعمل الصالح إذا لم تربطه بالإيمان بالله تعالى.
مواصفات البر
ما هي الصفات الأساسية للبرّ؟ {ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ـ أن تستقبلوا الشرق والغرب، فهذا تفصيل من التفاصيل التي هي بيد الله ـ ولكن البرّ من آمن بالله ـ وهو الأساس في شخصية الإنسان المسلم، أن يؤمن بالله الواحد الذي لا شريك له، وأنه الرب الذي ليس هناك ربّ غيره، وأن العباد كلهم مخلوقون له ومربوبون له ـ واليوم الآخر ـ لا بدّ أن يؤمن بأن الحياة هي مرحلة، وأن الإنسان سوف يبعث يوم القيامة ليقدّم حسابه أمام الله ـ والملائكة ـ وأن يؤمن بالملائكة باعتبار أنهم يمثلون المخلوقات الغيبية التي أخبرنا الله بها، ولذلك لا بد لنا أن نؤمن بها من خلال الإيمان بالغيب الذي جاء به الصادق المصدَّق ـ والكتاب}، وكلمة الكتاب تشمل كل الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ورسله، وقد ورد في بعض الآيات القرآنية في خطاب المسلمين في حديثهم إلى أهل الكتاب: {وتؤمنون بالكتاب كله} ـ والنبيين"، فنحن نؤمن بالكتاب كله وبالرسل كلهم.
وهذه الأمور هي الأمور الأساسية التي يكون بها الإنسان مسلماً، وبإنكار واحدة منها يخرج عن الإسلام، أما الجوانب الأخرى التي تتعلّق بالمذهبية مثل قضية الإمامة، فإنها من حقائق الدين ومما ثبت عندنا بالقطع، وهي مما جاء به رسول الله (ص) بأمر من الله عندما نزل عليه الوحي: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}، ولكن من لا يؤمن بالإمامة يعتبر مسلماً وإن كان في النظر الإيماني يعتبر منحرفاً عن خط الإيمان. ولذلك، فإننا لا نكفّر المسلمين الآخرين الذين يختلفون معنا في مسألة الإمامة، ويتفقون معنا في الأصول الثلاثة للعقيدة. هذا في الجانب العقيدي الذي لا بدّ للمسلم أن يعتقده ليكون باراً بالله تعالى في المسألة العقيدية التي تعتبر الأساس في كل ما ينطلق به الإنسان المسلم.
ثم ينطلق القرآن الكريم في وصف البر: {وآتى المال على حبه ـ فمن الأمور التي تمثل البر كل البر، والخير كل الخير، أن يعطي المال على حبه، و"حبه" تحمل تفسيرين: الأول أن يعطي المال وهو يحبه، والثاني أن يعطي المال حباً بالله تعالى، على هدى الآية الكريمة التي تحدثت عن أهل البيت(ع) وكل السائرين على خطه: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً ـ ذوي القربى ـ أي الأقرباء، وقد فُسّرت في بعض التفاسير أقرباء الرسول (ص) ـ واليتامى ـ إعطاء اليتامى بمختلف أنواع العطاء، إما بكفالتهم ومساعدتهم أو ما إلى ذلك ـ والمساكين ـ وهم الذين بلغ بهم الفقر حداً كبيراً ـ وابن السبيل ـ وهو الإنسان الذي انقطع في سفره ولم يكن عنده ما يكمل به سفره ـ والسائلين ـ الذين يسألون الناس عن حاجة لا عن غير حاجة ـ وفي الرقاب ـ في عتق العبيد أيام كان في الواقع الإسلامي إماء وعبيد، وأراد الإسلام أن يحررهم، ففرض لهم في الزكاة قسماً يُدفع لتحريرهم ـ وأقام الصلاة ـ وانطلق ليقيم الصلاة التي هي معراج روح المؤمن إلى الله ـ وآتى الزكاة ـ والمقصود بها كل ما يبذله الإنسان في سبيل الله، سواء من الفرائض الواجبة أو المستحبة ـ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ـ من البرّ أن تفي بكل التزام التزمته، سواء في حياتك الزوجية أو في العلاقات بين الناس ـ والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس ـ أن تكون الصابر في حال الفقر، فلا يسقط الإنسان أمامه ليتنازل عن دينه ومبادئه، وفي حال المرض فلا يجزع، وأن يكون الصابر في حال الحرب ـ أولئك الذين صدقوا ـ هؤلاء هم الصادقون الذين يعيشون الصدق في إيمانهم وممارساتهم العملية ـ وأولئك هم المتقون}، الذين يتقون الله ويخافونه ويحبونه ويطيعونه من موقع المحبة.
وقد ورد عن رسول الله (ص) عن علامة البّار، يقول: "أما علامة البّار فعشرة: يحبّ في الله، ويبغض في الله، ويُصاحب في الله ويفارق في الله ويغضب في الله ويرضى في الله ويعمل لله ويطلب إليه ويخشع لله خائفاً مخوفاً ظاهراً مخلصاً مستحيياً مراقباً ويحسن في الله".
الابتعاد عن خط المعصية
ويقول تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. إن الله تعالى يريد أن يؤكد للمجتمع، ولا سيما المجتمع المسلم المؤمن، أن يعيش التعاون فيما بينه، لأن الحياة الاجتماعية هي الحياة التي يتعاون فيها الناس على بناء القضايا الحيوية والمصيرية. لذلك، لا بدّ أن يكون التعاون تعاوناً على البرّ، على طاعة الله، على الخيرات، على ما يرفع مستوى المجتمع ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، أن نتعاون على أن ندعو إلى التقوى ونعمل بها ونتواصى بها، هذا هو خط التعاون الإسلامي، فلا يكن تعاونكم على أساس معصية الله، وهو ما تمثّله كلمة الإثم، ولا يكن تعاونكم على الاعتداء على الناس فتنطلقون من خلال عصبياتكم الحزبية أو العائلية أو الطائفية أو المذهبية، لتعتدوا على الناس بما لا حق لكم في التصرف معهم فيه، لأن الله لا يريد لنا أن نعتدي على الكافر إذا كان مسالماً، كما لا يجوز لنا أن نعتدي على المسلم، لذلك علينا أن ندرس كل من دعانا إلى معاونة ومساعدة، من أقربائنا وأصدقائنا ومحازبينا ومواطنينا ومذهبنا، إذا دعانا إلى مساعدة في أيّ أمر من الأمور، فعلينا أن ندرس هذه المساعدة ما هو عنوانها، هل هي مساعدة على البر والخير فنبادر إليها، أو هي مساعدة على الإثم والعدوان فنتجنبها وننهى الذين يدعوننا إليها.
ونجد في آية أخرى أن الله تعالى يؤكد على مسألة الاجتماعات السرية التي تحدث بين الناس، لأن الناس عندما يخططون في أمورهم فهناك طريقة التخطيط في العلن والتخطيط في السرّ يغري الإنسان بالعدوان والتآمر والتخطيط للمعصية، ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبرّ والتقوى واتقوا الله الذي إليه تُحشرون}.
ثواب العمل في سبيل الله
ويحدّثنا رسول الله (ص) أن الإنسان الذى عمل في سبيل البرّ فإن الله تعالى قد يزيد في عمره ثواباً في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما ورد في الحديث عنه(ص): "ما يزيد في العمر إلا البرّ"، وعنه (ص): "إن أسرع الخير ثواباً البرّ، وإن أسرع الشرّ عقاباً البغي"، وقد ورد عن الإمام الباقر (ع): "البرّ وصدقة السر ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر ويدفعان عن سبعين ميتة سوء". وعن الإمام عليّ (ع): "البرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى"، وعن الإمام الصادق في كلامه لبعض أصحابه: "من صالح الأعمال البرّ بالأخوان والسعي في حوائجهم، ففي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران، ودخول الجنان، أخبر بهذا غرر أصحابك.. هم البررة بالإخوان في العسر واليسر". وعنه (ع): "برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم".
لا بدّ لنا أن نعيش هذا الجو القرآني، لتكون حياتنا حياة البرّ والتعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، لأن ذلك هو الذي يعطي مجتمعنا استقراراً ومحبة وأخوّة ووحدة، أما التعاون على الإثم والعدوان على مستوى الحزبيات والطائفيات والمذهبيات والعائليات وكل العصبيات، فإنه يهدم المجتمع ويدفعه إلى الانهيار، ونحن مسؤولون عن ذلك كله.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل أموركم، وبرّوا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم في الله. ومن البرّ أن نعمل على أن نتحمل مسؤولية أهلنا ومجتمعنا وأمتنا، لا سيما عندما تتعرض للأخطار الكبرى من قبل الظالمين والمستكبرين، فإن علينا أن نحمي الأمة من أولئك كلهم، ونبذل الخير للناس، حتى لا يسقطوا أمام حاجاتهم، فيلجأوا إلى المستكبرين الذين يستغلون نقاط الضعف فينا ليسيطروا علينا. لذلك، علينا أن نعيش التكافل الاجتماعي والروحي والإنساني لنسدّ كل الثغرات التي ينفذ منها الأعداء إلى مجتمعاتنا، لأن المسلمين يواجهون في هذه المرحلة الكثير من القضايا الصعبة، ولا بدّ لنا أن نعرفها لكي نتخذ الموقف:
توزّع الأدوار في خداع الرأي العام
الإسرائيليون يتابعون عمليات القتل والتدمير من خلال الاحتلال المتحرّك بكل الوسائل الوحشية، ووزير الدفاع الأمريكي يرفض اعتبار أراضي الضفة الغربية أراضٍي محتلة، ويعتبر أن إسرائيل كسبتها بالحرب، كما يرفض دعوة إسرائيل للانسحاب من المستوطنات بالرغم من أن قرارات الأمم المتحدة ومعها قرار الإدارة الأمريكية سابقاً ولاحقاً يعتبران أراضي الـ67 أراضٍ محتلة..
وهكذا، نلاحظ أن الرئيس الأمريكي يتابع حملته على الفلسطينيين، تحت شعار "الحرب ضد الإرهاب"، ويرى في المجازر الإسرائيلية الوحشية دفاعاً عن النفس.. كل ذلك من أجل أن ينجح مرشحو الحزب الجمهوري في الانتخابات الفرعية بأصوات اليهود والأصوليين المسيحيين الذين هم أكثر صهيونية من اليهود..
ويتوزّع الأمريكيون والإسرائيليون الأدوار في خداع الرأي العام العالمي لتغطية تلك الجرائم، باستقبال وزير خارجية أمريكا لبعض الوزراء الفلسطينيين في عملية إدارة الأزمة، حتى لا تخرج عن الدائرة المرسومة لها بعيداً عن أية معالجة للمشكلة الحقيقية وهي الاحتلال، وعن منع المجازر المتحرّكة يومياً ضد الشعب الفلسطيني في المواقع المدنية، بل ربما يُراد منهم الدخول في فتنة داخلية في مواجهة مجاهدي الانتفاضة، لأن ذلك هو الشرط الحيوي لبراءة الذمة لهم من تهمة الإرهاب..
أما الإسرائيليون، فقد طرحوا مشروع "غزة أولاً" كاقتراح أمني قيد التجربة، يخوّل السلطة الفلسطينية القبض على زمام الأمن وملاحقة رجال المقاومة، في ظل إغرائها بالسماح لها لاحقاً بإعادة بناء أجهزتها الأمنية، ولكنهم عادوا إلى التلاعب بالطرح المذكور بإضافة شروط جديدة بعد قبول السلطة به، لتقوم بتقديم تنازلات أكبر، كما هي طريقة إسرائيل في دفع السلطة إلى السقوط تحت تأثير شروطها التعجيزية، في تجربة الوصول بها إلى مرحلة الاستسلام.. وقد أعلن المجاهدون رفضهم لهذه الخطة الأمنية، التي يُراد منها إيقاع الفتنة بين أطراف الصف الواحد، كما أكدوا أنهم لن يدخلوا في صراع داخلي مهما كلّفهم ذلك من التضحيات.
دراسة دقيقة للخطة الأمريكية
إننا نعتقد أن المرحلة الآن ـ من خلال الخطة الأمريكية ـ هي إشغال العالم بالمسألة العراقية عن الوحشية التي تتمثّل في الاحتلال الصهيوني، لينسى الناس كل ذلك، ولتتفرّغ إسرائيل لإسقاط الانتفاضة بوسائلها العسكرية والتجويعية والتدميرية والتهجيرية..
وإننا في الوقت الذي نؤكد فيه المأساة التي يعيشها الشعب العراقي من خلال الحصار الداخلي والخارجي، وندعو بالصوت العالي لتوفّر كل الأحرار وكل المعارضة السياسية للقيام بعملية الإنقاذ، لتعود للشعب حريته في تقرير مصيره وفي خلاصه من الطغيان، فإننا نؤكد ـ في الوقت نفسه ـ أن أمريكا ليست معنية بتخفيف آلام هذا الشعب، بل هي معنية بالسيطرة على مقدّراته الاقتصادية والسياسية والأمنية، وتحريك هذه الهجمة العسكرية ضد المنطقة كلها، لا سيما ضمن خطتها في إسقاط كل قوة عربية وإسلامية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وخطتها في محاصرة الواقع العربي والإسلامي..
ومن المؤسف أن المعارضة العراقية قد صدّقت أمريكا في إعلانها التخطيط لإنقاذ الشعب، وزحفت إليها من أجل إدارة الحوار معها حول مستقبل العراق، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا لا تحاور ولكنها تفرض رأيها، على طريقة المقولة المشهورة لـ"بوش": "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهاب"!!
إننا ندعو إلى دراسة دقيقة وعميقة للخطة الأمريكية التي لم توضع ـ حتى الآن ـ على نار حارّة، بل هي موضوعة على نار باردة بفعل التعقيدات السياسية الدولية وفي المنطقة.. ولذلك، فإن على المستعجلين للحصول على البَرَكة الأمريكية، التي لن تكون في صالح قضية الإنقاذ، أن يراجعوا حساباتهم جيداً، لأن أمريكا تبحث عن معارضة على الطريقة الأفغانية التي يبرر رئيسها للأمريكيين مجازرهم ضد المدنيين الأفغان..
إن المرحلة الحاضرة على مستوى القضية الفلسطينية، هي المرحلة الأكثر خطورة، ما يفرض على الشعب الفلسطيني أن يكون واعياً لحركته، مصرّاً على انتفاضته، محافظاً على وحدته.. كما أن طبيعة المرحلة في قضايا المنطقة، ولا سيما القضية العراقية، تحفل بالكثير من الأخطار التي قد تضيف إلى مأساة الشعب العراقي أكثر من مأساة جديدة، في تدمير البنية التحتية للعراق، وفي السيطرة على المنطقة العربية، وربما الإسلامية من خلال ذلك..
وعلينا أن لا ننسى تصريح الرئيس "بوش" الأخير ضد نظام الجمهورية الإسلامية، من دون تفريق بين القوى السياسية المتنوّعة من المحافظين والإصلاحيين، في تآمر جديد مع كل أعدائها.
إن أمريكا لا تفكّر إلا بمصلحتها على حساب كل الشعوب، فعلى الشعوب الحرّة أن تكون واعية للخطط الأمريكية التي تعيش الانتفاخ السلطوي الذي يتحرك في المزيد من خطوات الاستكبار على مستوى العالم.. وإذا كانت أمريكا تعتبر نفسها الأقوى في العالم، كما تعتبر إسرائيل نفسها الأقوى في المنطقة، فإن على الشعوب الحرّة المستضعفة أن تعرف أن قوتها عندما تتحرك في خط المواجهة بقوة وإرادة وتصميم سوف تُسقط كل قوى المستكبرين.
التجمعات الطائفية لا تخدم عناوين الحرية
أما في لبنان، فإننا نتصوّر أن التجمّعات الطائفية ذات اللون الواحد لن تخدم كل عناوين الحرية والاستقلال، وإننا نتساءل: ما معنى أن ينطلق صوت من هنا وصوت من هناك ليعتبر أن المشكلة في لبنان هي سوريا وليست إسرائيل، أو أن قرارات الكونغرس المقبلة في الضغط على سوريا هي الحل للبنان؟؟
إن اللبنانيين هم المسؤولون عن حلِّ مشاكلهم بالطريقة الحوارية الموضوعية، فذلك هو الذي يمكن أن يحقق لهم الأمن والحرية والطمأنينة، وإذا كان هناك خلل في بعض أنماط العلاقة مع سوريا فلينطلق الجميع لإدارة الحوار حول هذه الأمور..
إن الكثير من الطروحات السلبية الانفعالية غير المدروسة بدقة، لا سيما من موقع طائفي محدد، قد تعقّد الكثير من أوضاع اللبنانيين وتزيد في انقسامهم.. لذلك، لا بد أن نكون واقعيين، وأن نعتبر أن حركة مشاكلنا في الداخل إنما هي في الاستقواء بالخارج..
أيها اللبنانيون، إن المرحلة هي مرحلة تجميع النقاط وليست تسجيل النقاط.. وإن حوار الطرشان لن يصل بنا إلى نتيجة.. فلنكن واقعيين بكل ما للواقعية من معنى لا يتنازل عن المبادئ، ولكنه يعرف كيف يحرّكها في اتجاه الحل، لا في اتجاه التعقيد. |