ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد، وهو يخاطب نبيّه(ص): {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، وقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
ذكرى ولادة الرسول( ص )
نستقبل في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول – الذي يصادف غداً - على الرواية المشهورة عند علماء المسلمين الشيعة، ذكرى ولادة رسول الله(ص)، كما نستقبل في اليوم نفسه ذكرى ولادة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع). ونحن أمام هاتين المناسبتين الشريفتين، نقف من أجل أن نواجه مسؤولياتنا الإسلامية فيما نستقبل من حياتنا. إن القضية هي أن تتذكّر شخصية عظيمة كبيرة اصطفاها الله تعالى لرسالته، وأكرمها بكرامته، كشخصية رسول الله (ص) الذي أرسله الله شاهداً، يشهد على الناس كيف يتصلون بالله، أو كيف ينحرفون عنه، وكيف يحملون رسالاته، يشهد عليهم في عصره وفي عليائه بعد عصره، ومبشراً يبشّر الناس برحمة من الله ورضوان وجنّة فيها نعيم مقيم عندما يأخذون بطاعة الله بعد أن يؤمنوا به تعالى، ونذيراً ينذرهم بعذاب الله وسخطه إذا كفروا وتمردوا على الله وعصوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وداعياً إلى الله، لأن الإسلام هو دعوة إلى الله تماماً كما هي دعوة كل الأنبياء الذين دعوا الناس لعبادته وحده دون سوه، وأن يتّقوه في كل عمل من أعمالهم، وفي كل كلمة من كلماتهم، وفي كل موقف من مواقفهم.
الهجرة إلى الله بالعقل والقلب
وهذا ما عبّر عنه السيد المسيح عيسى بن مريم (ع) عندما أحسّ الكفر من قومه، {قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله..}. وعندما دعا إبراهيم (ع) قبله وقال: {إني مهاجر إلى ربي}، ويريدنا أن نهاجر إلى الله، والهجرة إلى الله هي أن تهاجر عقولنا إلى الله، أن نهاجر من مواقع الشرك إلى مواقع التوحيد، ومن مواقع الكفر إلى مواقع الإيمان، ومن مواقع الانحراف إلى مواقع الاستقامة، وأن تهاجر قلوبنا من العداوة والبغضاء إلى المحبة والرحمة، وأن تهاجر حياتنا كلها من معصية الله إلى طاعته.
هذه الهجرة التي لا تحتاج فيها إلى أن تقطع المسافة سيراً على أقدامك، ولكن أن تقطعها في عقلك وقلبك وحركتك العملية في الحياة، فقد أراد رسول الله (ص) أن يطلق الدعوة لتمتدّ في الحياة كلها، لأن الله تعالى أرسله كافة للناس، ولهذا كانت الدعوة الإسلامية التي قام بها رسول الله (ص) دعوة إلى العالم كله، وقد حمّلها النبي (ص) إلى الأمة كلها. فليكن كل واحد منا داعية إلى الله لأن رسول الله(ص) عاش فترة من الزمن ليطلق الدعوة وليرسم المنهج ويفصّل الشريعة، وليقول لكم: أيها الناس تعالوا وليحمل كل واحد منكم إسلامه في عقله وقلبه وحركته في الحياة، فيتحمّل فيه الإنسان المسلم مسؤولية الإسلام في نفسه ويؤمن به ويسير على خطه، فإنه يتحمّل مسؤولية أن يدعو الناس إلى الإسلام..
وهذا ما عاشه رسول الله (ص) في أول دعوته، فقد دعا أهله وعشيرته إلى الله، {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}، أن تكون الداعية في بيتك لتأمر أهلك بالصلاة والطاعة لله، والصلاة هي هوية المسلم وعنوانه، فمن أخذ بالصلاة ارتبط بالله برباط وثيق، ومن ترك الصلاة انفصل عن الله كما لو كان قد خرج عن الإسلام، قد ينطق بالشهادتين ولكنه قاطعٌ للعلاقة مع الله.. ولو فكّر الإنسان في مسألة واحدة وهي: هل نستطيع أن نستغني عن الله تعالى؟ وقد وهبنا النفس الذي نتنفّسه، والماء الذي نشربه، ووهبنا العين واليد والرجل، ومنحنا كل شيء، ومع ذلك، لا نريد أن نصلي لله ولا نصوم له، والبعض يقول: "أنا حرّ"؟!!
بالحكمة والموعظة ننشر الإسلام
وأول أمر وجهه الله تعالى للنبيّ (ص) أن ينذر عشيرته، فجمع عشيرته وأبلغهم الرسالة، وكان عليّ (ع) في حينها في الحادي عشر من عمره، وطلب منهم المؤازرة في تبليغ الرسالة والدعوة إلى الله على أن يكون الذي يؤازره هو خليفته ووصيّه من بعده، ولم يقف إلا عليّ وهو الصغير في السنّ والكبير في القدر، فقال له النبي(ص) – في ذلك الوقت - : "أنت خليفتي من بعدي"، لأن عليّاً كان الصغير في سنّه ولكنه كان الكبير في عقله، وهو الذي امتلأ عقله وروحه بعقل رسول الله وروحه، وبعبارة أخرى كان نفس رسول الله (ص).
إذاً، أن تكون مسلماً يعني أن تكون داعياً للإسلام، حتى لو عملت بالسياسة لا بدّ أن تدعو إلى الإسلام، أن يكون الإسلام همّك بقدر ما تحمل من الثقافة، لأن مشروعنا هو أن ننشر الإسلام في العالم، لا بالقوة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، وبالكلمة الحلوة، لذلك لا بدّ أن نفهم الناس من حولنا، لنفهم ماذا يحبون وماذا يبغضون وبعد ذلك نحرّك مفتاح الكلمة الطيبة والأسلوب الأحسن لكي نصل إلى داخل عقولهم، بعد أن نفتح قلوبهم علينا..
لذلك، علينا في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي، وقد نقل آباؤنا الإسلام إلينا، فصرنا مسلمين بفضلهم، وسرنا في خط أهل البيت (ع) بفضلهم، علينا أن ننقل الإسلام إلى أولادنا والأجيال القادمة، إسلاماً قوياً صافياً حضارياً، إسلاماً ينفتح على المحبة والوحدة والقوة والعزة والكرامة، لا نريد الإسلام الذي يعيش فيه الإنسان ذلّ نفسه وذلّ الآخرين، أن نأخذ بأسباب القوة لأن الحق يحتاج إلى القوة، أن نعيش الإحساس بالقوة.
الوحدة أول شروط القوة
ومن أول شروط القوة - أيها الشباب.. أيها المؤمنون - أن لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أن لا تسمحوا لأي شخص أن يوجد الفتنة بينكم، ليكن لكل إنسان وجهة نظر، لا أن يلغي بعضنا بعضاً عندما نختلف بالفكرة، لأن هذا ليس شأن المؤمنين المسلمين، والله تعالى يأمرنا عندما نختلف في شيء أن نرده إليه وإلى الرسول، لا أن نردّه إلى عصبياتنا وأنانياتنا وذاتياتنا، وإلى كل الشياطين المتجمّعة في نفوسنا من خلال عصبياتنا العائلية والحزبية والطائفية.
عندما نقف في ذكرى ولادة رسول الله (ص)، علينا أن نقول له: يا رسول الله، سنحتفل بولادتك بأن نتوحّد باسمك، لأنك قلت لنا فيما بلّغت عن الله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، حتى لو اختلفنا في المذاهب، فإن علينا أن نتحد بالله وبرسوله، ثم نتحاور، والله تعالى أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب – وهم اليهود والنصارى - إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ويأمرنا أن نقف معهم على الكلمة السواء، فكيف بالعلاقة بين المسلمين؟ ومشكلتنا هي هذه العقلية التي ورثناها من عصور التخلّف، وهي أننا نبحث عن الفواصل التي تفصل بيننا، ولا نبحث عن الجوامع التي تجمع بيننا، وكأننا معنيّون بالتقسيم حتى وصلنا إلى أن يقسّم الإنسان نفسه فيعيش الازدواجية داخل نفسه.
في ذكرى رسول الله (ص)، علينا أن نعيش معه رحابة الرسالة والأفق والمحبة، ونتبع أسلوبه الذي جعله في أعلى مستوى من الأخلاق، وأن نعيش ذلك في ذكرى الإمام جعفر الصادق(ع)، الذي أعطانا من علمه ما ركّز لنا خط أهل البيت في خط الإسلام، وعلينا أن نلتقي عند رسول الله وعند الإمام الصادق (ع)، لننطلق من حركة الإسلام في الخط الأصيل للإسلام، وهو خط الأئمة من أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم الذين قال فيهم رسول الله (ص): "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى".
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله فيما حمّلكم الله ورسوله من مسؤولية الإسلام كله، ومن مسؤولية المسلمين في كلّ ما تحملونه من همّ، وفي كل ما تملكونه من طاقة، وفي كل ما تحرّكونه من عناصر القوة داخل أنفسكم وفي من حولكم وما حولكم، لأن الله تعالى أراد للمسلمين أن يكونوا الأمة التي تملك العزة والكرامة والقوة.. وها نحن – ونحن نواجه كل حالات الصراع التي فُرضت علينا من خلال التحديات التي أطلقها ضدنا المستكبرون في العالم، والذين عملوا على أن يهيئوا لليهود أن يحتلوا أرضنا – نعيش أقسى أنواع التحدي، ونعيش عصر الانتفاضة الفلسطينية المجاهدة، فماذا هناك؟
سقوط أكذوبة الأمن الشاروني
لا يزال الشعب الفلسطيني يقدّم الشهيد تلو الشهيد، ويواجه ثقل الحصار الأمني والاقتصادي والسياسي، تحت سمع الأمم المتحدة وبصرها، من دون أن تقدّم أيّ جهد من أجل التخفيف عن هذا الشعب، لأن أمريكا تمنع مجلس الأمن من إصدار أيّ قرار يدين العدو أو يطالبه برفع يده عن هذا الشعب، في الوقت الذي تقدّم فيه أمريكا الأسلحة المتطوّرة للعدوّ لكي يقتل به أطفال فلسطين ونساءها ورجالها، ويجرف بساتينها، ويهدم دورها بكل وحشية..
ولكن المجاهدين استطاعوا تحويل الاحتلال إلى مشكلة للمحتل، فأسقطوا أكذوبة الأمن الذي وعد به "شارون" اليهود في مدى مائة يوم، وأصبح المجتمع الإسرائيلي يعيش هاجس الاهتزاز الأمني في كل مكان، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى التدخّل لإيقاف الانتفاضة تحت شعار "وقف العنف الفلسطيني" - حسب تعبيرها – ودعوة إسرائيل إلى "ضبط النفس" كما لو كانت هي الضحية، والفلسطينيون هم المعتدون؟! وهكذا، أرسلت مبعوثها الدبلوماسي، ثم مسؤولها الأمني، للقيام باللازم لإنقاذ إسرائيل من داخل المأزق.
لعل مشكلة أمريكا أنها لا تنظر إلى إسرائيل كدولة محتلة أرضاً لشعب آخر، بل تصرّح أن هناك أرضاً متنازعاً عليها، وأن على الفلسطينيين القبول بما تفرضه إسرائيل من دون اعتبارٍ لحاجة هذا الشعب الى الحرية والاستقلال. ولذلك، لم يصدر من أمريكا أيّ تصريح بخروج إسرائيل من مناطق الاحتلال، حتى على مستوى الضفة الغربية وغزة أو القدس، وعودة اللاجئين وتطبيق قرارات الأمم المتحدة في ذلك كله.
الاستمرار في الانتفاضة..
إن المرحلة الجديدة تتميّز بكثرة الضغوط الأمريكية والأوروبية والعربية على الفلسطينيين لإيقاف الانتفاضة، تحت تأثير تهديدهم بالعزل السياسي والمقاطعة الاقتصادية، وتركهم في مرمى القصف الإسرائيلي الوحشي حتى الاستسلام.. من هنا، فإننا ندعو الشعب الفلسطيني للتمرد على هذه الضغوط، بالصمود أمام التحديات والصبر على الآلام، والاستمرار في الانتفاضة، والثبات على قاعدة الوحدة الفلسطينية لكل فئات الشعب المجاهد، ولكل الفصائل المجاهدة، لأن هناك أكثر من خطة لتفرقة الشعب في المسألة السياسية والجهادية، لأننا نعتقد أن المرحلة التي قطعها هذا الشعب المجاهد قد اقتربت من مرحلة الحصول على حريته، فلا يجوز له أن يتوقف أو يتراجع، لأن ذلك يضع القضية كلها في مواقع الخطر.
وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تبقى في الساحة، لتدعم حركة الانتفاضة المجاهدة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، إذا لم تتمكّن من دعمها جهادياً.. وعلينا أن نغسل عار 5 حزيران(يونيو) بالانتصار الكبير في فلسطين، كما غسلنا عار الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران بانتصار المقاومة في لبنان، {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
حل المشاكل الداخلية بالحوار
أما في الواقع الداخلي، فإن الخلافات السياسية في المواقع العليا أدخلت البلد في حالة من التعقيدات التي لا مصلحة في إثارتها بالوسائل الإعلامية بالمستوى الذي قد يسيء إلى سمعة البلد، في الوقت الذي كان من الممكن حلّ هذه المشاكل بطريقة الحوار الهادئ خلف الستار، ولا سيما فيما يتصل بقضايا الصراع مع العدو الإسرائيلي، والجدل حول "مزارع شبعا" مع الأمم المتحدة..
إن هذا البلد الذي يتعرّض لكارثة اقتصادية تأكل الأخضر واليابس، وتصادر البنية التحتية لاقتصاده بفعل المديونية المتصاعدة، يفرض على كل القياديين والسياسيين والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية أن تكون في حالة طوارئ يتكامل فيها الجميع في البحث عن حلّ، وفي إيجاد حالة من التوازن السياسي التي توحي بالاستقرار، لا سيما أن العدوّ يخترق أمن البلد في موقع التحدي بخرقه الدائم للأجواء اللبنانية بطائراته، واستهداف المدنيين بين وقت وآخر برصاص جنوده على البوّابات الحدودية.
إننا ندعو الجميع الى التحلّي بالواقعية الوطنية التي تفرض عليهم الامتناع عن إثارة الكثير من القضايا قبل نضوجها، ما يؤدي إلى بعض النتائج السلبية من دون ضرورة أو فائدة..
أيها اللبنانيون: كونوا الواقعيين من دون التخلي عن المبادئ، ولا تكونوا الخياليين.. كونوا المواطنيين ولا تكونوا الطائفيين، ليكن الجميع "أمّ الولد"، لأن البلد يبحث عن "أمّ حنون" ترعى أمنه وسياسته واقتصاده في حاضره ومستقبله، فهل تكون الدولة المنفتحة على الشعب في مطالبه الحقة التي تستمع إليه بمسؤولية.. إننا نطمح أن تكون الدولة الشعب لا الأشخاص، وأن يتكامل الشعب معها في مسؤولياته في الانضباط والتوازن والتعاون على البرّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان.
التوازن في معالجة المشاكل
وأخيراً، هناك مسألة تتعلّق بالخدمات العامة للناس، والتي ينبغي للدولة ان تقدّمها لهم دون منّة، وفي مقدمة هذه الخدمات مسألة الكهرباء التي يتأثر بها البلد بشكل عام والضاحية الجنوبية بشكل خاص، وقد وُعد الناس بحل هذه المشكلة منذ العهد السابق من دون أن نصل إلى أية نتيجة..
إننا نقول: إذا كانت الدولة عاجزة عن حلّ هذه المشكلة بشكل حاسم، فلماذا تدفع الضاحية الجنوبية الثمن مضاعفاً، ولماذا لا تعالج الأمور بالتساوي بين المواطنين؟! إننا نريد للدولة أن تعمل لمعالجة هذه المسألة بشكل جذري، وأن يكون الحل قريباً، لا أن تستمر هذه المشكلة بكلّ تفاعلاتها الاجتماعية والاقتصادية، لأن في استمرارها إساءة للدولة وللمواطنين على حد سواء. |