ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الامتداد الرسالي:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}، من أهل هذا البيت الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في أشهر الروايات هذا اليوم السابع عشر من شهر صفر، وجاء في رواية أخرى أنه في التاسع والعشرين منه. والإمام الرضا(ع) هو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) الذين تمثّل إمامتهم الامتداد الفكري بما أعطوه من فكر إسلامي أصيل، والامتداد الروحي بما أفاضوا به على الأمة من روحانيتهم ومن كل عناصر الروح في شخصيتهم، لأن كل واحد منهم(ع) كان روحاً يتجسّد. وتمثّل الامتداد الحركي للإسلام في حركتهم، وقيمة أهل البيت(ع) أنهم كانوا يتميّزون بالعصمة في الفكر والقلب والسلوك، لأن الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس بكلّ معانيه، والرجس هو الخبث، فالله تعالى طهّرهم من خبث الفكر والروح والسلوك العملي.
والإمام الرضا(ع) هو الإمام الذي كان يلتقي به علماء المسلمين وعامتهم في المدينة، فيعطي كل واحد منهم حاجته مما لديه من العلم، بالأسلوب الذي يتفق مع ذهنيتهم، لأنه كان كجده رسول الله(ص) فيما قال: "إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"، لذلك كان الإمام الرضا والأئمة(ع) يتعرّفون عقل الإنسان في مستواه وعناصره ليعطوه الفكرة التي تتناسب مع قابلية عقله، ويحرّكوا الأسلوب الذي يمكن أن يُدخل الفكرة إلى عقله بحسب مستواه.
الإفاضة بالعلم والروح:
وقد عاش الإمام الرضا(ع) تجربة لم يعشها أحد من أئمة أهل البيت(ع)، حيث خاض المأمون العباسي الحرب ضد أخيه الأمين لنزاعهما على الخلافة، وأراد للإمام الرضا أن يكون وليّ عهده، فرفض الإمام(ع) ذلك في البداية، ولكن الظروف المحيطة به آنذاك، سواء من خلال صفتها الخاصة أو العامة، جعلته يقبل بالأمر، وهو يعرف أن من الصعب أن يتمّ له المأمون ذلك. وقد استفاد الإمام الرضا(ع) من هذه الفرصة التي فتحت له الساحة الإسلامية كلها بعد أن سدّت بوجه آبائه، الذين تعرضوا للاضطهاد في فترتي حكم الأمويين والعباسيين، ومنعوا من الامتداد في إعطاء علومهم والانفتاح على الأمة فيما تحتاجه من التوجيهات الفكرية والروحية والعملية.
فقد أخذ الإمام الرضا(ع) هذه الفرصة باعتبار أنه وليّ عهد الخلافة – بحسب الجانب الرسمي – وأفاض على الأمة من علمه وروحه، حتى استطاع أن يُدخل علوم أهل البيت(ع) إلى الساحة الإسلامية في كل رحابتها، وكان رواة الأحاديث يجتمعون عليه ليحدثهم بما يحمله من علم رسول الله(ص)، وكان عندما يبدأ الحديث يحاول أن يربط الناس بآبائه من الأئمة الذين سبقوه، ليذكّرهم بالموقع الإمامي والعلمي الذي اتصف به آباؤه، فكان(ع) يقول: "حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال: حدّثني أبي علي بن الحسين، قال: حدّثني أبي الحسين بن علي، قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله، وقد نُقل هذا السند إلى أحد أئمة أهل السنّة وهو "أحمد بن حنبل"، فعلّق على هذا السند وقال: "إن هذا الإسناد – هذه السلسلة المباركة - لو قُرئ على مجنون لأفاق"، لأنها تختزن في داخلها هذه الأسماء المشرقة بالعقل والروح والحركة الإسلامية في كل مجال، بحيث إن الإنسان إذا ذكرها ذكر هذه الثروة الإسلامية الثقافية الروحية العلمية، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه في التزامنا بأهل البيت(ع)، أن لا يكون هذا الالتزام التزام النبضة العاطفية، بل التزام الحركة العقلية.
الإحياء بالتدبر والوحي:
ولذلك، روي عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، وعندما سئل عن الأسلوب في إحياء الأمر، قال: "يتعلّم علومنا ويحدّث بها الناس، فإن الناس إذا عرفوا محاسن كلماتنا اتبعونا"، لأن مشكلة ابتعاد الناس عن أئمة أهل البيت(ع) جعلهم لا يدركون الأبعاد الروحية والفكرية والعملية التي يتميّزون بها، والإنسان إذا جهل شيئاً أنكره أو أهمله. وهذا ما ينبغي للمسلمين جميعاً، ولا سيما لأتباع أهل البيت(ع)، أن يتوفروا على دراسة علوم أهل البيت وكلماتهم التي حرّكوها في واقع الإنسان في نفسه وبيته وعلاقاته ومواقفه التي يقفها في الحياة.
وفي ضوء ذلك، إنني أحب أن أنبّه إلى مسألة في تقاليدنا الدينية التي نتبعها ونمارسها، وهي تقاليد الزيارة لرسول الله(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) وأبنائهم، لنعرف أن الزيارة ليست مجرد أن تدخل إلى حرم هذا الإمام وذاك، أو حرم ابنة هذا الإمام أو ذاك، لتقرأ الزيارة وتقبّل الضريح، بل أن تعيش أجواء هذا الإمام وأجواء هذه الإنسانة الطاهرة البطلة، فعندما نزور السيدة زينب(ع) وهي قريبة منا، فإن علينا أن نقف هناك وقفة تأمل ووعي وتدبّر لنستحضر كل حياتها، كيف كانت تفكر وتعبد الله، كيف وقفت الوقفة القوية، وقفة الصبر والاستسلام لأمر الله في كربلاء، كيف كانت تجلس مع أخيها الإمام الحسين(ع) ويوصيها بوصاياه، وكيف قادت قافلة السبايا، وكيف دافعت عن الإمام زين العابدين(ع)، وكيف خاطبت أهل الكوفة، وكيف خاطبت يزيد بتلك الخطبة التي تمثل موقف القوة الرسالية الإسلامية، والتي دللت على أن المرأة المسلمة، ولا سيما في مستوى السيدة زينب(ع)، عندما تعيش رساليتها، فإنها تتحوّل إلى إنسان قوي يتحدى ويواجه أعلى المواقع وأكثر القوى شراسة من خلال الثقة بالله وأخذ القوة من الله تعالى.
هذه هي إيحاءات أن تعيش السيدة زينب في عقلك وروحك وقلبك، لا أن تكون مجرد سياحة تتكلم فيها بعض الكلمات دون أن تعيها، وهكذا عندما يذهب الناس ويقطعون المسافات الطويلة ليصلوا إلى حرم الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في زيارتهم له، فلا بد لهم أن يكونوا قد أخذوا فكرة واسعة عن سيرته وعباداته وجهاده وإخلاصه لربه ووصاياه ومواعظه، حتى تكون الزيارة بالنسبة للإنسان زيارة واعية ومدركة، لا زيارة سطحية، بحيث أنك عندما تخاطبه فإنك تخاطبه مخاطبة العارف بحقه ومنزلته، وبذلك لا تكون الزيارة مجرد فرصة للإنسان لكي يؤكد محبته لأهل البيت(ع) – وتلك فرصة مهمة جداً – ولكن تكون الزيارة فرصة للتعرّف على أهل البيت(ع)، وللتذكّر لهم، لأن التذكر ليس مجرد أن تذكر الاسم، ولكن التذكّر أن تذكر الإنسان بشخصيته وكلّه.
مفتاح خزائن العلم السؤال:
وفي ضوء ذلك – وقد تحدثنا كثيراً فيما سبق من أحاديث في هذا الموقف عن الإمام الرضا(ع) – سنحاول في هذه الوقفة الصغيرة أن نستعرض بعض كلماته وأدعيته، لتكون برنامج عمل لنا وخط حياة في ما تعالجه هذه الكلمات. فعن الإمام الرضا(ع) أنه قال: "قال رسول الله(ص): العلم خزائن ومفتاحها السؤال – إن عليك أن تسأل العلماء الذين يملكون خزائن العلم، كلّ بحسبه، من أجل أن يعلّموك ما تجهل، وهذا ما قاله الله تعالى في كتابه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، ولا تجمدوا على جهلكم، ومن هنا تقع على الإنسان المؤمن المسؤولية في أن يتثقف إسلامياً، لا تعتبروا أن لديكم أشغالاً وأعمالاً تأخذ وقتكم، فإن هناك كثيراً من أوقات الفراغ التي تصرفونها على ما لا ينفعكم وربما على ما يضركم، لذلك حاولوا أن تفرغوا أنفسكم بين وقت وآخر لتسألوا العلماء عما تجهلون في أمور دينكم العبادية والمعاملاتية.. وإذا كان الله تعالى قد كلّف الجاهلين بالسؤال، فقد كلف العلماء بالتعليم والإجابة عن كل سؤال يقدّم إليهم، وليس من حق العالم - أياً كان موقعه - أن لا يجيب على سؤال مما يحتاجه الناس في أمور دينهم، لأن العلم هو أمانة الله لدى العالم والله يأمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها – فاسألوا رحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل – لأنه فتح باب الخزانة – والمعلّم – لأنه أجاب على السؤال – والمستمع والمحب لهم"..
أفضل الصدقة المعرفة:
وعنه(ع): "عونك للضعيف من أفضل الصدقة"، هل تريد أن تتصدق، وفي الصدقة خير كثير، لأنها قد تعالج المرض وقد ترفع البلاء، والصدقة تعطي الإنسان محبة الله ورضاه، وليست الصدقة مجرد أن تعطي مالاً من مالك، بل قد تكون أن تعطي جاهاً من جاهك، وخبرة من خبرتك، وعوناً من طاقتك وقوتك، وعلماً من علمك.. وفي الحديث عنه(ع): "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين – لا بد لك أن تتفقه في العقيدة الدينية وفي الأحكام الشرعية وفي المفاهيم الإسلامية، لأن الإنسان المؤمن الجاهل هو إنسان لا يعرف طبيعة الإيمان، لأن الإيمان هو فكر وعقيدة وشريعة ومنهج للحياة وحركة في خط الاستقامة – وحسن التقدير في المعيشة – أن تملك الخبرة في إدارة معيشتك بحيث لا يغلبك الناس عليها، لتوازن بين إمكاناتك وبين حاجاتك – والصبر على الرزايا"..
محاسبـة النفس
ثم يقول الإمام الرضا(ع) في كلمة رابعة: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر – أن تحاسبها بأشد مما تحاسب شريكك، لأن شريكك قد يأخذ بعض مالك، ولكنك عندما تغفل عن نفسك فإنها تأخذ منك مصيرك وآخرتك، بحيث تخسر محبة الله ورضوانه، وهذا هو الخسران المبين – ومن خاف أَمِن – من خاف الله فإنه يحصل على الأمن منه تعالى يوم يحتاج إلى هذا الأمن – ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فَهِم، ومن فهم عَلِم، وصديق الجاهل في تعب –عندما تصادق شخصاً لا يملك ثقافة ولا علماً وعقلاُ فإنه يُتعبك في هذه الصداقة – وأفضل المال ما وُقي به العرض – ما تحفظ به كرامتك – وأفضل العقل معرفة الإنسان نفسه، والمؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يأخذ أكثر من حقه".. ثم يحدّثنا الإمام الرضا(ع) عن فضل العمّال والتجار وفضل كل كاسب يكسب من أجل أن يسدّ حاجة عياله ونفسه من الحلال، فيقول: "إن الذي يطلب ما يكف به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله"..
ومن دعائه(ع): "اللهم أعطني الهدى، وثبّتني عليه، واحشرني عليه أمناً، أمن من لا خوف عليه ولا حزن ولا جزع، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة". وعن أحد أصحابه(ع) قال: قلت للرضا(ع): علّمني دعاءً وأوجز، فقال(ع): "قل: يا من دلّني على نفسه – أنت يا ربّ دللتني عليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت، أعطني هذا الوعي لأعرفك كما يجب أن تُعرف - وذلل قلبي بتصديقه، أسألك الأمن والإيمان".
هذا بعض من إضاءات الإمام الرضا(ع) التي تعطينا ضوء الإيمان والروح والحياة، فتعالوا إلى رسول الله(ص) وأئمة أهل البيت(ع) حتى يعطونا إشراق العقل والروح والحياة، ولنردد مع ذلك الشاعر:
روى جدّنا عن جبرائيل عن الباري |
ووالِ أناساً قولهمْ وحديثهم |
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وحرّكوا خطواتكم في خط الاستقامة وهو خط أهل البيت(ع) الذين عرفوا الحق حق معرفته، وعبدوا الله كما يجب أن يُعبد، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، وخطوا لنا خط الجهاد على أساس الوقوف مع كل قضايا الإسلام وأهله وقفة قوة وعزة ووعي في كل مجالات الحياة.
وهذا ما يفرض علينا – في خط التقوى – أن نتطلع إلى كل قضايا المسلمين في حربهم وسلمهم، في أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، لأن كل واحد منا مسؤول عن المسلمين بحسب حجمه وظروفه، لنكون دائماً كما أرادنا أمير المؤمنين(ع) للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، أياً كان الظالم، وهذا ما نريد أن نعيشه أمام التحديات التي تواجه عالمنا من خلال الاستكبار العالمي، وفي مقدمته أمريكا والاستكبار الصهيوني، فماذا هناك؟
التبني الأمريكي المطلق لإسرائيل:
لا تزال الانتفاضة مستمرة، بفعل صلابة الشعب الفلسطيني أمام الوحشية الصهيونية، في قصف المدنيين وقتل الأطفال الرضّع، وتدمير البيوت، وجرف المزروعات، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات.. أما أمريكا فإنها أعطت إسرائيل الحرية المطلقة في ذلك كله، وأنذرت الفلسطينيين إما أن يوقفوا "الإرهاب" – كما تسمّي الانتفاضة – وإما أن يبقوا بعيداً عن واشنطن، وأنذرت أوروبا داعية إياها أن تتخذ الموقف نفسه إذا أرادت أن تلعب دوراً في المنطقة؟!
إن عنوان الإرهاب ضد كل ما هو إسرائيلي وأمريكي في السياسة، وفي مصادرة حقوق الشعوب، هو العنوان الذي يستغله الطرفان في الضغط السياسي والأمني والاقتصادي، باسم المحافظة على حقوق الإنسان وحماية السلام، وهذا هو الذي تمارسه الإدارة الأمريكية في تبنّي كل طروحات إسرائيل، مع بعض النفاق السياسي في دعوتها إلى الانسحاب من مناطق الحكم الذاتي، وعدم زيادة المستوطنات، من دون أن تمارس أي ضغط على إسرائيل.
وبذلك، فإن أمريكا تتحمّل بشكل قوي جداً مسؤولية كل الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين التي تشبه أو تتعدى مستوى جرائم النازية ضد اليهود.. وإذا كانت أمريكا تتحدث أنها لا تتدخّل في مسار التسوية، ولكنها تتدخل بشكل فاضح من خلال تغطيتها لحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وإيجاد المبررات لها وتحريضها على الاستمرار، لا سيما في ضغطها على أوروبا لاتخاذ الموقف نفسه، أو الوقوف بعيداً عن استنكار جرائم الصهيونية في فلسطين.
وهذا ما لاحظناه في الموقف الفرنسي – إلى جانب الموقف الأمريكي – في الاحتجاج على تصريحات الرئيس الأسد ضد الوحشية الإسرائيلية، واعتباره هجوماً على اليهود في الموقع الديني، بالرغم من الصفة السياسية التي أكدتها سوريا للتصريح ضد الصهيونية في تصرفاتها الوحشية على صعيد الماضي والحاضر، في الوقت الذي لم نجد فيه هذه الحماسة الاحتجاجية لتصريحات أكثر من مسؤول إسرائيلي – ديني وسياسي – التي دعت إلى إبادة العرب والفلسطينيين، ما يؤكد أن استراتيجية السياسة الأمريكية هي الأمن المطلق لإسرائيل، كما هو الأمن الأمريكي، ضد أمن العرب والمسلمين بالمطلق!!
موقف عربي خجول:
ونلاحظ في الوقت نفسه أن الموقف العربي في المسألة الفلسطينية لا يزال حييّاً خجولاً، بفعل العجز العربي للأنظمة والخوف من أمريكا التي تسيطر على أغلب المواقع الرسمية العربية. فلا يزال أغلب الحكّام العرب يكتفون بالتصريحات الاحتجاجية، من دون القيام بأيّ ضغط يوحي لأمريكا بأن مواقفها ضد الفلسطينيين تهدد مصالحها بالخطر.. حتى أن أكثر المسؤولين العرب يقفون بشدة ضد أية حالة احتجاج شعبية ضد إسرائيل وأمريكا، لأنهم يخافون من تحوّل المظاهرات إلى حركة احتجاجية ضد سياسة الأنظمة.
الانتفاضة والصراع على البقاء..
إننا في الوقت الذي نشعر فيه بخطورة الضغوط القاسية على الشعب الفلسطيني، في كل حركة النازية الصهيونية المدعومة بالنازية السياسية الأمريكية، ندعو الشعب الفلسطيني المجاهد إلى الاستمرار في انتفاضته التحريرية، لأنها السبيل الوحيد للضغط على اليهود الذين توحّدوا من أجل إبادة هذا الشعب بالحقد والعنصرية اليهودية.. وهذا هو ما شاهدناه في أن العدو بدأ يغرق أكثر فأكثر في الوحول الفلسطينية، وقد دخلت المسألة فعلاً في مرحلة الصراع على البقاء، وبدأنا نشهد تظاهرات المستوطنين التي تطالب "شارون" بوعوده الانتخابية في إعادة الأمن إليهم، ما يدل على أن الانتفاضة نجحت في تحقيق أكثر من هدف مرحلي وهز الكيان الصهيوني في الجانب الأمني والسياسي تحت تأثير ضرباتها الجهادية.
الكارثة في دائرة السجالات:
وعندما نأتي إلى الداخل اللبناني، هذا الذي لا ينتهي من سجال حول بيان هنا، حتى يدخل في سجال آخر حول بيان آخر صادر عن اجتماع أو لقاء أو ما إلى ذلك، والناس غارقون في مشكلتهم الاقتصادية التي تزداد استفحالاً، على الرغم من كل المواقف والتصريحات التي توحي بالتفاؤل.. فنحن نريد أن نتفاءل ولكن الوقائع تكذّب هذا التفاؤل، أو تدفع به إلى مساحات الحذر والقلق على الأقل.
إنّ الأرقام تتحدث عن دَين عام كاد أن يبلغ عتبة الثلاثين مليار دولار، تبلغ فوائدها عشرة ملايين دولار كل يوم، كما تتحدث عن بطالة مستشرية، وهجرة لا تتوقف للشباب اللبناني إلى أي مكان يستقبلهم في العالم، الأمر الذي يعني أن الكارثة بدأت تطل برأسها..
إننا – في ظل ذلك – ندعو إلى قمة اقتصادية على أنقاض القمم والبيانات السياسية المتواصلة، لأن الخطر الأكبر يكمن هنا، ليصار في هذه القمة التي يحضرها الجميع من معارضة وموالاة ومن فاعليات سياسية من كل الاتجاهات، إلى دراسة الواقع الاقتصادي كأولوية تأخذ بعين الاعتبار المسائل السياسية الأخرى، ومن زاوية أن الاستقرار الاقتصادي يحتاج إلى الاستقرار السياسي الذي يحتاجه البلد في هذه المرحلة أكثر من أية مرحلة سبقت..
لبنان.. البقاء في الخط الاستراتيجي
إننا في الوقت الذي نشهد فيه ضغوطاً دولية جديدة، ليس آخرها الضغط في مسألة خفض عديد قوات الطوارئ الدولية وتغيير مهامها، ندعو إلى البدء بتركيز القواعد السياسية والاقتصادية الداخلية..
إننا نفهم أن هذا الضغط الجديد هو في الحقيقة يحمل شيئاً من الاعتراف بنجاح لبنان في البقاء في الخط السياسي الاستراتيجي فيما هي مسألة التحرير الحقيقية، ولكن هذا النجاح الذي تضافرت فيه جهود الدولة والمقاومة معاً يحتاج إلى جهود سياسية مضاعفة لكي يتحرك في المجالات الحيوية الأخرى، التي تتصل بمستقبل البلد وخاصة على المستوى الاقتصادي.
الخروج من المأزق بالتدارس:
ولذلك، لا بدّ أن يجلس الجميع إلى طاولة حوار واحدة، ليتدارسوا كيفية الخروج من هذا المأزق، هذا مع قناعتنا التامة بأن ما تحاول الضغوط الدولية أن تصل إليه هو وضع لبنان أمام خيارين: إما النزول عند الشروط الإسرائيلية فيما هي المسألة الأمنية في الجنوب، وإما الوصول إلى واقع الجبهة المفتوحة بعيداً عن أيّ رقيب دولي.
إن قناعتنا أن ذلك يمثّل مشكلة أكبر للعدوّ، وإن مثّل شيئاً من المشكلة للبنان، ولكن ذلك يحتاج إلى حركتين: الأولى تتصل بالعمل الدبلوماسي الواسع لشرح هذا الواقع في المحافل الدولية والإقليمية، والثانية لا بدّ أن تنطلق من قاعدة سياسية داخلية، ترتكز إلى الوحدة الداخلية في النظرة والعمل فيما هي قضايا المصير والمستقبل للوطن والأمة. |