ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
استحضار عظمة الله
من الأمور التي لا بد أن يتوفر عليها الإنسان المسلم في تربية نفسه من أجل أن يحصل على سلامة المصير في الآخرة، هو أن يربي نفسه على الخوف من الله، بحيث يستحضر فيها عظمته، لأن الإنسان كلما عظم الشيء في نفسه أكثر كلما عاش الهيبة له أكثر، وكلما ارتفعت منزلة الشخص لديه أكثر كلما خشي من غضبه أكثر، لأن موازين القوة والضعف هي التي تترك تأثيرها في نفس الإنسان، فالإنسان – بشكلٍ طبيعي – يخاف القويّ ويرهبه، ولذلك فإنه يحذر من إغضابه، فكيف إذا كان القوي في مستوى قوة الله الذي يمثل الرب الخالق والقادر الذي له القوة جميعاً، فكل قوة مستمدة من قوته، وله العزة جميعاً، فكل عزيز يستمد عزته منه، وهو المهيمن على الأمر كله، فلا يملك الإنسان شيئاً أمامه. ألا نقول عندما نشعر بالضعف: "لا حول ولا قوة إلا بالله".. أو عندما تقوم من سجودك تقول: "بحول الله وقوته أقوم وأقعد"، فأنت تستحضر في نفسك أن حركة الحياة في أعضائك إنما كانت من الله.. أو عندما نشعر أمام كل المخاوف التي تنتظرنا في الحياة، والتي نخضع فيها لقضاء الله وقدره، نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"..
الجنة هي المأوى
عندما يستحضر الإنسان عظمة الله في نفسه، فيتطلع إلى كل أسرار خلق الله في الكون، فيعظم الله في نفسه ويصغر ما دون الله في عينه. قد يعصي إنسان الله لحساب ما ترغبه زوجته أو العكس، وقد نعصي الله لحساب أولادنا والناس الذين يملكون مالاً أو جاهاً أو قوةً، والسبب أنه لم تتربَ عظمة الله في نفوسنا، والله يريد لنا أن نربي عظمته في نفوسنا، وجائزة هذا الخوف من الله تعالى جنّة عرضها السموات والأرض، {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى}، فكلما خفت الله أكثر، ونهيت نفسك من خلال هذا الخوف عن الهوى الذي لا يرضاه الله، فإن الجنة هي محلك ومقامك.. وخوف الله هو أن تراقب الله في نفسك عندما تدعوك نفسك الأمّارة بالسوء إلى معصيته، أو عندما يدعوك الآخرون لمعصية الله ليرضوا عنك، أن توازن بين حجم الجنة وحجم الشيء الذي يمكن أن تحصل عليه من هذا أو ذاك، أو من نفسك، لأن فلاناً قد يغضب لأنك لم تستجب لحاجته، فلا يقضي حاجتك في مال هنا ووظيفة هناك، ولكن ماذا إذا غضب الله عنك، وغضب الله لا تقوم له السموات والأرض، كما يقول عليّ (ع)، "فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين"؟..
مرضاة الله …
في حديث الإمام عليّ (ع) في وصيته لابنه الإمام الحسن (ع): "أوصيك بخشية الله في سرّ أمرك وعلانيته"، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (ع): "خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك". وفي الحديث عن رسول الله (ص) عن خوف المؤمن من الله والقلق أمامه: "إن المؤمن يعمل بين مخافتين؛ بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه – هذه السنوات التي عشتها قد ماتت من عمرك ولها سيئاتها وحسناتها، وما أدري هل ينقلني هذا العمر إلى الجنة أو إلى النار، هل يرضى الله عن هذا الأجل الذي مضى أم لا – وبين أجل قد بقي – وهو ما تبقى لك من عمرك – لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه – اربحها واشتريها لنفسك، لتربح نفسك نفسك.
والآية التي نزلت في حقّ أمير المؤمنين (ع) في ليلة الهجرة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، أخذ نفسه وملكها ليوظّفها لله، باعتبار أن الله هو الذي أعطاه هذه النفس وأراد له أن يرجعها طاهرة صافية – ومن دنياه لآخرته – استغل هذه القوة وهذا المال وهذا الموقع الذي تنعم به في الدنيا في سبيل الآخرة لتحصّل رضوان الله – وفي الشيبة قبل الكبر – حاول أن تأخذ من قوتك وحيويتك وطاقتك قبل أن تضعف زاداً للآخرة – وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنة والنار"، فاختر لنفسك..
الموازنة بين الخوف والرجاء
ويقول الإمام الصادق (ع) وهو يوازن بين الخوف والرجاء: "كان أبي (الإمام الباقر(ع)) يقول: "ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء ـ يخاف الله من جهة فيحجبه ذلك عن معصية الله ويدفعه إلى طاعته، ومن جهة ثانية يرجو رحمة الله فيمنعه ذلك من اليأس والسقوط – ـ ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا". ونقرأ في بعض الأحاديث عن الإمام علي (ع) وهو يبيّن لنا ما هو مظهر الخوف من الله: "من رجا شيئاً طلبه – إذا كنت ترجو الجنة فإن عليك أن تطلبها من مظانّها، لأن من يرجو الربح لا يجلس في البيت بل يذهب إلى عمله ويسعى فيه – ومن خاف من شيء هرب منه – وأيّ خطر أعظم من النار لنهرب منها – ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه – أنت خائف من النار وعرضت لك الشهوة المحرّمة فأقبلت عليها ولم تتركها، فأيّ خوف هو هذا الخوف – وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو"، والله تعالى يقول: {وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة...}.
وفي القرآن الكريم، يبيّن الله تعالى جائزة الإنسان الذي يأخذ بطاعة الله ويبتعد عن معصيته، ومَن منا لا يفكر أن يحصل على جائزة الله: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ من هم أولياء الله – ـ الذين آمنوا وكانوا يتقون}، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {من أسلم وجهه لله ـ والوجه يعبّر عن كل ذاتك وكيانك ـ وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً}.
التحديات تُجابَه بالإيمان
وفي آية تبيّن للإنسان أنه عندما يخاف من الله أن لا يخاف من أحد، لأن الله تعالى يملك القوة كلها: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم – الدنيا كلها ضدكم فخافوا منهم، هذه التهاويل الإعلامية التي تحاول أن تُسقط المجاهدين قبل أن ينزلوا إلى ساحة المعركة، والحرب النفسية أخطر من الحرب العسكرية، وهذا ما هوّلوا علينا به عندما قالوا لنا أن العين لا تقاوم المخرز، ولكن العين من خلال الإيمان استطاعت أن تقاوم المخرز وأن تكسره – فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}..
لا بدّ لنا من أن نربي عظمة الله في أنفسنا، لنربي خوف الله في أنفسنا، لأننا عندما نعرف الله أكثر فإننا نخافه أكثر، وإذا خفنا الله أكثر أطعناه أكثر، وابتعدنا عن معصيته أكثر، وسرنا في خط شريعته أكثر، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله وليكن الله في عقولكم النور الذي يضيء هذه العقول، وفي قلوبكم القوة التي تثبّت قلوبكم من الاهتزاز، لأن الله إذا حلّ في قلب مؤمن أو مؤمنة زاده قوة وإيماناً وثباتاً، وهذا ما أرادنا الله تعالى أن نعيه: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.. اذكروا الله في كل مسيركم، فإن الإنسان إذا سار في أيّ طريق وكان الله هو راعيه وحافظه لا يمكن أن ينحرف أو يسقط في الطريق، لذلك علينا أمام التحديات وفي الملمّات أن نعيش مع الله لنأخذ منه القوة والعزة، وهذا ما لا بدّ لنا أن نواجهه في التحديات المعاصرة التي تنطلق من المستكبرين من أجل إسقاط مواقعنا وقضايانا، فماذا هناك؟
صمت على الوحشية الصهيونية
لا يزال الشعب الفلسطيني المجاهد يثبت في كل يوم أنه في مستوى المسؤولية، في الصمود والتضحية والثبات أمام الوحشية الهمجية الصهيونية التي استخدمت كل وسائل القتل والتدمير ضده، في ظل صمت عربي وإسلامي لافت، ودعم أمريكي صارخ وبكل الوسائل السياسية والعسكرية، حتى يخيّل للجميع أنَّ أمريكا قد دخلت الحرب مع اليهود ضد العرب والمسلمين.
أما أوروبا التي عزلها اليهود عن أيِّ دور كبير في التسوية، فإنها لا تزال تبحث لنفسها عن دور يخدم مصالحها، ويقوّي مواقعها، بالمواقف التي تعطي اليهود الكثير وتمنح الفلسطينيين القليل القليل.. أما الأمم المتحدة، فقد تحوّلت إلى موقع أمريكي خاضع للسياسة الأمريكية، فلا تستجيب لصرخات الشعوب ولا سيما الفلسطينيين الذين يطالبونها بإقرار الحماية الدولية للشعب الفلسطيني من كل هذا الدمار للأرض والشجر والإنسان، ولكن من دون جدوى..
الجهاد حتى التحرير
إنَّ هناك أكثر من رهان أمريكي وصهيوني على أنَّ الضغط العسكري اليهودي - المدعوم أمريكياً - سوف يجبر الفلسطينيين على الرضوخ للشروط السياسية المفروضة عليه بما يسمى "إيقاف العنف"، الذي يستهدف إيقاف الانتفاضة والاستسلام للتسوية الإسرائيلية التي لا تريد له أن يحصل على الحرية والاستقلال، بل تريد له أن يتحوّل إلى شعب تابع لا يملك من أمره شيئاً.
ولكن هذا الشعب المجاهد قرر أن يواصل الجهاد حتى التحرير، تحت شعار الآية الكريمة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}.. ولقد اجتاز المسافة الأكبر من مسيرة ذات الشوكة، وبقيت عليه المسافة الأقل لدفع العدو إلى التراجع، أو لدفع الأنظمة إلى متاهات الإحراج، ليكون النصر هو النهاية بإذن الله.
الارتفاع إلى مستوى التحدي
وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تتمرد على كل هذا الحصار السياسي الذي تفرضه الأنظمة المستسلمة للسياسة الأمريكية، التي تمنع شعوبها من التظاهر ضد المجازر الوحشية التي يقوم بها العدوّ خوفاً من تحوّلها إلى لون من الإدانة لسياستها الاستسلامية.. إنَّ المرحلة الراهنة تمثل أكثر المراحل قسوة في تاريخ الأمة، وعلى الأمة أن ترتفع إلى مستوى التحدي لتزيد الموقف صلابة وقوة وثباتاً وإصراراً على الاستمرار في ساحة المواجهة، لأنَّ القضية هي قضية المستقبل في إرادة القوة على صعيد العزة والكرامة والحرية.
المقاومة تمسك باللعبة
وليس بعيداً من ذلك، التهديدات الإسرائيلية التي يطلقها وزير حرب العدو ضد سوريا ولبنان، بالتزامن مع الضغوط الأمريكية في قرارات مجلس النواب الأمريكي بمنع المساعدات الاقتصادية للبنان، والتي لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً، ومع ضغوط الأمم المتحدة في قرارها بتخفيف قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان، كواجهة سياسية للضغط من أجل إجبار لبنان على إيجاد واقع أمني في الجنوب لحماية إسرائيل من ضربات المقاومة، تحت شعار "إيقاف العنف ضدها في لبنان"، على طريقة "إيقاف العنف ضدها في فلسطين"؟
ولكن لبنان – وسوريا معه – قد تجاوز كل هذه التهديدات، وأصبح يملك القوة التي يردّ بها كل ذلك من خلال مقاومته البطلة التي لم تسمح للعدو أن يجعل قواعد اللعبة بيده، بل عملت على أن تحرّك عملياتها ضد احتلاله لتؤكد استمرارها في قضية التحرير ومساندتها للانتفاضة بكل الوسائل الممكنة، ما يؤكد امتداد الموقف الجهادي من لبنان إلى فلسطين، في عملية وحدة للهدف من خلال وحدة الأمة في مسارها الجهادي، على الرغم من كل الضغوط.
قد يملك العدو بعض وسائل اللعبة، ولكنه لا يملك اللعبة كلها، لأنَّ الشعب الباحث عن حريته واستقلاله لن يسقط أمام كل التهاويل الموجَّهة إليه، بل إنه يتمرد على كل الآلام والجراح ليفرض إرادته على كل الأعداء، فإذا ضاق الحاضر عن تحقيق بعض أهدافه، فإنَّ المستقبل كفيل بذلك، {ولينصرنَّ الله من ينصره إنَّ الله لقوي عزيز}..
أولويات التحرير وحماية البلد
وإذا كان العدو يحسب حساباته الجديدة فيما هي نقاط الربح والخسارة في هذا المجال، فعلينا في الداخل أن نحسب الحسابات السياسية الداخلية في الميزان الوطني الذي تظل الوحدة الداخلية عنوانه ومعياره فيما هي الأولويات في مسيرة التحرير، وفي حماية البلد من أي اهتزاز سياسي قد يؤدي إلى اهتزاز اقتصادي أكبر، في مرحلة نحتاج فيها إلى الكثير من الأفعال والقليل من الأقوال، بعد أن كثرت أقوالنا فأحرقت مراحل بكاملها، وتراجعت الأفعال فكاد أن يدخل البلد كله في المتاهات، بين حديث عن قمة هنا وعن لقاء تشاوريّ هناك.. وتظل القمم في أبراجها، والمشاورات في دوائرها، من دون أن نُقّدم للناس بصيص أمل عملي في المستقبل، ولا ندري هل نبكي على ضياع الفرص أو على ضياع الخطط، أو حتى على بداية الحديث عن ضياع الوطن.
نحو خطة سياسية ـ اقتصادية
وأخيراً، هناك مسألة لا بد من التوقف عندها تتعلّق بما يتعرض له العمّال في لبنان من صرف كيفي، سواء من خلال الشركات الخاصة أو في بعض القطاعات الرسمية.. ونحن في الوقت الذي نؤكد فيه على أهمية أي إصلاح إداري جذري على مستوى الدولة كلها، وفي كل الوزارات والقطاعات، إلا أننا نريد لهذه العملية أن تنطلق ضمن رؤية اقتصادية شاملة يتم من خلالها استيعاب هذه الأعداد من العمّال في مجالات عمل جديدة، حتى لا نهرب من مشكلة في النظام الاقتصادي العام فنقع في مشكلة أكبر فيما هي الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، وكذلك الأمر بالنسبة للأمور الأخرى المتعلقة بالقرارات ومشاريع القرارات التي تصيب شريحة كبيرة من الناس، والتي لا بد أن تُدرس فيها المسائل من خلال الموازنة بين ما هي حاجات الدولة وما هي حاجات الناس، لا أن تصدر قرارات كتلك التي تسمح بالترخيص باستعمال هذه المادة من المحروقات في استخدامها في السيارات، ثم بعد سنة أو سنتين أو أكثر تصدر قرارات مضادّة بحجة الحفاظ على البيئة..
إننا ندعو إلى خطة اقتصادية سياسية محكمة إزاء كل هذه الأمور، بعيداً عن العشوائية التي قتلت كثيراً من الطاقات في الماضي، وتقتلها في الحاضر، ونخشى أن تقتل البقية الباقية في المستقبل.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
استحضار عظمة الله
من الأمور التي لا بد أن يتوفر عليها الإنسان المسلم في تربية نفسه من أجل أن يحصل على سلامة المصير في الآخرة، هو أن يربي نفسه على الخوف من الله، بحيث يستحضر فيها عظمته، لأن الإنسان كلما عظم الشيء في نفسه أكثر كلما عاش الهيبة له أكثر، وكلما ارتفعت منزلة الشخص لديه أكثر كلما خشي من غضبه أكثر، لأن موازين القوة والضعف هي التي تترك تأثيرها في نفس الإنسان، فالإنسان – بشكلٍ طبيعي – يخاف القويّ ويرهبه، ولذلك فإنه يحذر من إغضابه، فكيف إذا كان القوي في مستوى قوة الله الذي يمثل الرب الخالق والقادر الذي له القوة جميعاً، فكل قوة مستمدة من قوته، وله العزة جميعاً، فكل عزيز يستمد عزته منه، وهو المهيمن على الأمر كله، فلا يملك الإنسان شيئاً أمامه. ألا نقول عندما نشعر بالضعف: "لا حول ولا قوة إلا بالله".. أو عندما تقوم من سجودك تقول: "بحول الله وقوته أقوم وأقعد"، فأنت تستحضر في نفسك أن حركة الحياة في أعضائك إنما كانت من الله.. أو عندما نشعر أمام كل المخاوف التي تنتظرنا في الحياة، والتي نخضع فيها لقضاء الله وقدره، نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"..
الجنة هي المأوى
عندما يستحضر الإنسان عظمة الله في نفسه، فيتطلع إلى كل أسرار خلق الله في الكون، فيعظم الله في نفسه ويصغر ما دون الله في عينه. قد يعصي إنسان الله لحساب ما ترغبه زوجته أو العكس، وقد نعصي الله لحساب أولادنا والناس الذين يملكون مالاً أو جاهاً أو قوةً، والسبب أنه لم تتربَ عظمة الله في نفوسنا، والله يريد لنا أن نربي عظمته في نفوسنا، وجائزة هذا الخوف من الله تعالى جنّة عرضها السموات والأرض، {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى}، فكلما خفت الله أكثر، ونهيت نفسك من خلال هذا الخوف عن الهوى الذي لا يرضاه الله، فإن الجنة هي محلك ومقامك.. وخوف الله هو أن تراقب الله في نفسك عندما تدعوك نفسك الأمّارة بالسوء إلى معصيته، أو عندما يدعوك الآخرون لمعصية الله ليرضوا عنك، أن توازن بين حجم الجنة وحجم الشيء الذي يمكن أن تحصل عليه من هذا أو ذاك، أو من نفسك، لأن فلاناً قد يغضب لأنك لم تستجب لحاجته، فلا يقضي حاجتك في مال هنا ووظيفة هناك، ولكن ماذا إذا غضب الله عنك، وغضب الله لا تقوم له السموات والأرض، كما يقول عليّ (ع)، "فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين"؟..
مرضاة الله …
في حديث الإمام عليّ (ع) في وصيته لابنه الإمام الحسن (ع): "أوصيك بخشية الله في سرّ أمرك وعلانيته"، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (ع): "خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك". وفي الحديث عن رسول الله (ص) عن خوف المؤمن من الله والقلق أمامه: "إن المؤمن يعمل بين مخافتين؛ بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه – هذه السنوات التي عشتها قد ماتت من عمرك ولها سيئاتها وحسناتها، وما أدري هل ينقلني هذا العمر إلى الجنة أو إلى النار، هل يرضى الله عن هذا الأجل الذي مضى أم لا – وبين أجل قد بقي – وهو ما تبقى لك من عمرك – لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه – اربحها واشتريها لنفسك، لتربح نفسك نفسك.
والآية التي نزلت في حقّ أمير المؤمنين (ع) في ليلة الهجرة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، أخذ نفسه وملكها ليوظّفها لله، باعتبار أن الله هو الذي أعطاه هذه النفس وأراد له أن يرجعها طاهرة صافية – ومن دنياه لآخرته – استغل هذه القوة وهذا المال وهذا الموقع الذي تنعم به في الدنيا في سبيل الآخرة لتحصّل رضوان الله – وفي الشيبة قبل الكبر – حاول أن تأخذ من قوتك وحيويتك وطاقتك قبل أن تضعف زاداً للآخرة – وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنة والنار"، فاختر لنفسك..
الموازنة بين الخوف والرجاء
ويقول الإمام الصادق (ع) وهو يوازن بين الخوف والرجاء: "كان أبي (الإمام الباقر(ع)) يقول: "ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء ـ يخاف الله من جهة فيحجبه ذلك عن معصية الله ويدفعه إلى طاعته، ومن جهة ثانية يرجو رحمة الله فيمنعه ذلك من اليأس والسقوط – ـ ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا". ونقرأ في بعض الأحاديث عن الإمام علي (ع) وهو يبيّن لنا ما هو مظهر الخوف من الله: "من رجا شيئاً طلبه – إذا كنت ترجو الجنة فإن عليك أن تطلبها من مظانّها، لأن من يرجو الربح لا يجلس في البيت بل يذهب إلى عمله ويسعى فيه – ومن خاف من شيء هرب منه – وأيّ خطر أعظم من النار لنهرب منها – ما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه – أنت خائف من النار وعرضت لك الشهوة المحرّمة فأقبلت عليها ولم تتركها، فأيّ خوف هو هذا الخوف – وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصبر عليه لما يرجو"، والله تعالى يقول: {وبشّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة...}.
وفي القرآن الكريم، يبيّن الله تعالى جائزة الإنسان الذي يأخذ بطاعة الله ويبتعد عن معصيته، ومَن منا لا يفكر أن يحصل على جائزة الله: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ من هم أولياء الله – ـ الذين آمنوا وكانوا يتقون}، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {من أسلم وجهه لله ـ والوجه يعبّر عن كل ذاتك وكيانك ـ وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً}.
التحديات تُجابَه بالإيمان
وفي آية تبيّن للإنسان أنه عندما يخاف من الله أن لا يخاف من أحد، لأن الله تعالى يملك القوة كلها: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم – الدنيا كلها ضدكم فخافوا منهم، هذه التهاويل الإعلامية التي تحاول أن تُسقط المجاهدين قبل أن ينزلوا إلى ساحة المعركة، والحرب النفسية أخطر من الحرب العسكرية، وهذا ما هوّلوا علينا به عندما قالوا لنا أن العين لا تقاوم المخرز، ولكن العين من خلال الإيمان استطاعت أن تقاوم المخرز وأن تكسره – فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}..
لا بدّ لنا من أن نربي عظمة الله في أنفسنا، لنربي خوف الله في أنفسنا، لأننا عندما نعرف الله أكثر فإننا نخافه أكثر، وإذا خفنا الله أكثر أطعناه أكثر، وابتعدنا عن معصيته أكثر، وسرنا في خط شريعته أكثر، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله وليكن الله في عقولكم النور الذي يضيء هذه العقول، وفي قلوبكم القوة التي تثبّت قلوبكم من الاهتزاز، لأن الله إذا حلّ في قلب مؤمن أو مؤمنة زاده قوة وإيماناً وثباتاً، وهذا ما أرادنا الله تعالى أن نعيه: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.. اذكروا الله في كل مسيركم، فإن الإنسان إذا سار في أيّ طريق وكان الله هو راعيه وحافظه لا يمكن أن ينحرف أو يسقط في الطريق، لذلك علينا أمام التحديات وفي الملمّات أن نعيش مع الله لنأخذ منه القوة والعزة، وهذا ما لا بدّ لنا أن نواجهه في التحديات المعاصرة التي تنطلق من المستكبرين من أجل إسقاط مواقعنا وقضايانا، فماذا هناك؟
صمت على الوحشية الصهيونية
لا يزال الشعب الفلسطيني المجاهد يثبت في كل يوم أنه في مستوى المسؤولية، في الصمود والتضحية والثبات أمام الوحشية الهمجية الصهيونية التي استخدمت كل وسائل القتل والتدمير ضده، في ظل صمت عربي وإسلامي لافت، ودعم أمريكي صارخ وبكل الوسائل السياسية والعسكرية، حتى يخيّل للجميع أنَّ أمريكا قد دخلت الحرب مع اليهود ضد العرب والمسلمين.
أما أوروبا التي عزلها اليهود عن أيِّ دور كبير في التسوية، فإنها لا تزال تبحث لنفسها عن دور يخدم مصالحها، ويقوّي مواقعها، بالمواقف التي تعطي اليهود الكثير وتمنح الفلسطينيين القليل القليل.. أما الأمم المتحدة، فقد تحوّلت إلى موقع أمريكي خاضع للسياسة الأمريكية، فلا تستجيب لصرخات الشعوب ولا سيما الفلسطينيين الذين يطالبونها بإقرار الحماية الدولية للشعب الفلسطيني من كل هذا الدمار للأرض والشجر والإنسان، ولكن من دون جدوى..
الجهاد حتى التحرير
إنَّ هناك أكثر من رهان أمريكي وصهيوني على أنَّ الضغط العسكري اليهودي - المدعوم أمريكياً - سوف يجبر الفلسطينيين على الرضوخ للشروط السياسية المفروضة عليه بما يسمى "إيقاف العنف"، الذي يستهدف إيقاف الانتفاضة والاستسلام للتسوية الإسرائيلية التي لا تريد له أن يحصل على الحرية والاستقلال، بل تريد له أن يتحوّل إلى شعب تابع لا يملك من أمره شيئاً.
ولكن هذا الشعب المجاهد قرر أن يواصل الجهاد حتى التحرير، تحت شعار الآية الكريمة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}.. ولقد اجتاز المسافة الأكبر من مسيرة ذات الشوكة، وبقيت عليه المسافة الأقل لدفع العدو إلى التراجع، أو لدفع الأنظمة إلى متاهات الإحراج، ليكون النصر هو النهاية بإذن الله.
الارتفاع إلى مستوى التحدي
وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تتمرد على كل هذا الحصار السياسي الذي تفرضه الأنظمة المستسلمة للسياسة الأمريكية، التي تمنع شعوبها من التظاهر ضد المجازر الوحشية التي يقوم بها العدوّ خوفاً من تحوّلها إلى لون من الإدانة لسياستها الاستسلامية.. إنَّ المرحلة الراهنة تمثل أكثر المراحل قسوة في تاريخ الأمة، وعلى الأمة أن ترتفع إلى مستوى التحدي لتزيد الموقف صلابة وقوة وثباتاً وإصراراً على الاستمرار في ساحة المواجهة، لأنَّ القضية هي قضية المستقبل في إرادة القوة على صعيد العزة والكرامة والحرية.
المقاومة تمسك باللعبة
وليس بعيداً من ذلك، التهديدات الإسرائيلية التي يطلقها وزير حرب العدو ضد سوريا ولبنان، بالتزامن مع الضغوط الأمريكية في قرارات مجلس النواب الأمريكي بمنع المساعدات الاقتصادية للبنان، والتي لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً، ومع ضغوط الأمم المتحدة في قرارها بتخفيف قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان، كواجهة سياسية للضغط من أجل إجبار لبنان على إيجاد واقع أمني في الجنوب لحماية إسرائيل من ضربات المقاومة، تحت شعار "إيقاف العنف ضدها في لبنان"، على طريقة "إيقاف العنف ضدها في فلسطين"؟
ولكن لبنان – وسوريا معه – قد تجاوز كل هذه التهديدات، وأصبح يملك القوة التي يردّ بها كل ذلك من خلال مقاومته البطلة التي لم تسمح للعدو أن يجعل قواعد اللعبة بيده، بل عملت على أن تحرّك عملياتها ضد احتلاله لتؤكد استمرارها في قضية التحرير ومساندتها للانتفاضة بكل الوسائل الممكنة، ما يؤكد امتداد الموقف الجهادي من لبنان إلى فلسطين، في عملية وحدة للهدف من خلال وحدة الأمة في مسارها الجهادي، على الرغم من كل الضغوط.
قد يملك العدو بعض وسائل اللعبة، ولكنه لا يملك اللعبة كلها، لأنَّ الشعب الباحث عن حريته واستقلاله لن يسقط أمام كل التهاويل الموجَّهة إليه، بل إنه يتمرد على كل الآلام والجراح ليفرض إرادته على كل الأعداء، فإذا ضاق الحاضر عن تحقيق بعض أهدافه، فإنَّ المستقبل كفيل بذلك، {ولينصرنَّ الله من ينصره إنَّ الله لقوي عزيز}..
أولويات التحرير وحماية البلد
وإذا كان العدو يحسب حساباته الجديدة فيما هي نقاط الربح والخسارة في هذا المجال، فعلينا في الداخل أن نحسب الحسابات السياسية الداخلية في الميزان الوطني الذي تظل الوحدة الداخلية عنوانه ومعياره فيما هي الأولويات في مسيرة التحرير، وفي حماية البلد من أي اهتزاز سياسي قد يؤدي إلى اهتزاز اقتصادي أكبر، في مرحلة نحتاج فيها إلى الكثير من الأفعال والقليل من الأقوال، بعد أن كثرت أقوالنا فأحرقت مراحل بكاملها، وتراجعت الأفعال فكاد أن يدخل البلد كله في المتاهات، بين حديث عن قمة هنا وعن لقاء تشاوريّ هناك.. وتظل القمم في أبراجها، والمشاورات في دوائرها، من دون أن نُقّدم للناس بصيص أمل عملي في المستقبل، ولا ندري هل نبكي على ضياع الفرص أو على ضياع الخطط، أو حتى على بداية الحديث عن ضياع الوطن.
نحو خطة سياسية ـ اقتصادية
وأخيراً، هناك مسألة لا بد من التوقف عندها تتعلّق بما يتعرض له العمّال في لبنان من صرف كيفي، سواء من خلال الشركات الخاصة أو في بعض القطاعات الرسمية.. ونحن في الوقت الذي نؤكد فيه على أهمية أي إصلاح إداري جذري على مستوى الدولة كلها، وفي كل الوزارات والقطاعات، إلا أننا نريد لهذه العملية أن تنطلق ضمن رؤية اقتصادية شاملة يتم من خلالها استيعاب هذه الأعداد من العمّال في مجالات عمل جديدة، حتى لا نهرب من مشكلة في النظام الاقتصادي العام فنقع في مشكلة أكبر فيما هي الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، وكذلك الأمر بالنسبة للأمور الأخرى المتعلقة بالقرارات ومشاريع القرارات التي تصيب شريحة كبيرة من الناس، والتي لا بد أن تُدرس فيها المسائل من خلال الموازنة بين ما هي حاجات الدولة وما هي حاجات الناس، لا أن تصدر قرارات كتلك التي تسمح بالترخيص باستعمال هذه المادة من المحروقات في استخدامها في السيارات، ثم بعد سنة أو سنتين أو أكثر تصدر قرارات مضادّة بحجة الحفاظ على البيئة..
إننا ندعو إلى خطة اقتصادية سياسية محكمة إزاء كل هذه الأمور، بعيداً عن العشوائية التي قتلت كثيراً من الطاقات في الماضي، وتقتلها في الحاضر، ونخشى أن تقتل البقية الباقية في المستقبل.