"من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات"

"من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات"

لأن من مظاهر الطغيان أن ينسى الإنسان ذاته "من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الطغيان.. مؤاثرة الدنيا

يحدثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن بعض العناوين السلبية في حياة الإنسان، سواء كان في موقع المسؤولية الكبرى، أو كان في موقع المسؤوليات الصغيرة في علاقته بالآخرة أو في علاقته بمسؤولياته، وهو عنوان الطغيان، ومعناه تجاوز الحد، حيث يقول الله: {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا} طغى في مواجهته لمسؤولياته أمام الله واستغرق في الحياة الدنيا، باعتبار أنه جعلها كل شيء، هي الوسيلة وهي الهدف، هي القيمة فيما يفعل وفيما يترك، هي نهاية المطاف، هي موقع السعادة والشقاء، وبعبارة أخرى، استغرق في الحياة الدنيا وآثرها على الآخرة، فإذا وقف بين الدنيا والآخرة، فقالت له الآخرة لا تفعل، لأن النتائج سوف تكون قاصرة، وقالت له الدنيا افعل، لأن النتائج سوف تكون مربحة على مستوى الدنيا. فإنه يؤثر الدنيا على الآخرة.. فيأكل الحرام لأنه يمثل الربح المادي وينسى الآخرة، إنه يخلد في الأرض، ويبقى محدقاً فيها، ولا يرفع نظره إلى ما فوقها. وعن هؤلاء قال تعالى: {..أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}.

الالتزام بحدود الله

وهناك أنواع من الطغيان، منها طغيان الماء، وقد جاء في قوله تعالى: {إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}، بحيث يتجاوز الماء الحد، وتضيق مجاري الأنهار بالماء وتفيض إلى المناطق المجاورة، وقد تحدث المشاكل.

وعندما قال نوح لابنه: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين* قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ـ توقع أن الماء لا تصل إلى الجبل ـ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.

فهذا الطغيان في الفعل، حيث تجاوز الإنسان الحد الذي فرضه الله عليه في الأفعال، وآثر الحياة الدنيا، فالله جعل الحدود لنا في استخدام المال بأن نأخذها بالحلال ونصرفها بالحلال، وجعل لنا حدوداً في الشهوات، وهو أن نمارس شهواتنا في الحلال، ونترك الحرام، في العلاقات العامة وفي المواقف. {تلك حدود الله فلا تعتدوها} أن نلتزم بحدود الله في المسجد، في المحل التجاري، في العمل، في المواقف، سواء في الحرب أو في السلم. ولذلك تنحصر حريتنا في نطاق ما أحلّ الله لنا، أما في نطاق ما حرّم الله فلسنا أحراراً.

ولذلك عليك بأوامر الله ونواهيه، بأن تطيعه ولا تعصيه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، بإمكانك أن تقول بأنك حرٌ أمام كل الناس، لأن الله لم يسلّطهم عليك، ولكن عندما يأمرك الله بشيء فعليك أن تسلم إليه سبحانه وتعالى أمورك {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وقد علمنا الله ذلك في الصلاة، وجعل "سبل اليد" علامة التسليم لله، ثم الركوع والسجود له، حيث ينبغي أن لا تركع أو تسجد لغيره. ومن هنا علينا أن ندرك أن السجود لآدم لم يكن سجوداً له، بل كان السجود لله تحية لخلق آدم.

وهكذا فالإنسان الطاغي هو الذي يطغى على ربه، ويتجاوز حدوده، {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى}، وفي المقابل ذلك الإنسان المؤمن، الإنسان التقي.. {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ـ بأن يعمل كل ما يرضي الله، وعرف عظمة الله واستحضرها في نفسه، ورأى نفسه تحت سمع الله وبصره ـ فإن الجنة هي المأوى}.

قد يقول بعض الناس أمام الله بأنني حر، ولكنه يصبح عبداً أمام عبد حقير من عباد الله زعيماً أو وزيراً أو ما إلى ذلك، ممن يمتلك بعض المال أو الجاه أو السلطة، فيقول له عبدك فلان، ولكنه لا يقول لله بأنه عبد له. وإذا قالها بلسانه، فإنه لا يقولها بقلبه، وهذا نوع من الطغيان يعرف بالطغيان النفسي.

وفي آية ثانية يتحدث فيها الله سبحانه وتعالى عن فرعون عندما خاطب هارون وموسى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}، لأنه أولاً ادّعى الربوبية {فقال أنا ربكم الأعلى}، وثانياً لأنه استضعف بني إسرائيل، فكان يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وحكم على الناس بالظلم والعدوان وما إلى ذلك، ومن هنا أخبرنا الله تعالى عن ضرورة إرسال نبي ليذكره بالله {فقولا له قولاً ليناً ـ لا تتكلما معه بشدة، تحدثا معه بقول ليّن ليشرق الله في قلبه، ليفكر بالآخرة ـ لعلّه يتذكر أو يخشى}، ولكنه لم يتذكر ذلك إلا في أواخر أيامه عندما حصل الغرق، حيث قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل}، حيث لا ينفع الندم، لأن الوقت قد فات.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى أشر مصير هو عاقبة من يتجاوز حدوده ويطغى على الناس، {وإن للطاغين لشر مآب}، وجعل في آية ثانية جهنم مصيرهم: {إن جهنم كانت مرصاداً* للطاغين مآبا}.

من نماذج الطغيان

وفي حديث الإمام علي(ع): "الظالم طاغٍ، ينتظر إحدى النقمتين: إما نقمة الدنيا أو نقمة الآخرة، من شغل نفسه بغير نفسه ـ لم ينفتح على نفسه ليهذبها وليربيها، بل أصبح يشتغل بالناس ـ تحيّر في الظلمات وارتبك في الهلكات وحدت به شياطينه في طغيانه"، يعني أن الشياطين الموجودة في نفسه التي لم يحاربها ولم يلتفت إليها هي التي مدت له في طغيانه.

وهكذا نجد أن الطغيان يتمظهر بعدة مظاهر، من بينها طغيان المال، بحيث إذا رزقه الله مالاً وتوسع به، وضخّم له الشيطان شخصيته، فيشعر بالكبرياء على الناس، مثال ذلك قارون {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين* وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين* قال إنما أوتيته على علم عندي} {فخسفنا به وبداره}.

وهكذا ينتشر النموذج القاروني في كل وقت وفي كل زمان، ما يجعل ممن ينطبق عليهم المثال القاروني ينسون الله عندما يكون المال بين أيديهم، وعندما تقول لهم إن الله يقول: {وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم} يرفضون ذلك ويقولون {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}، وهكذا فإن بعض الناس قد يصرف ماله على شهواته، وقد يسرف فيه على زوجته وأولاده، وما إلى ذلك، ولكنه عندما يصل به الأمر إلى مسألة الحقوق الشرعية، فإنه لا يبدي أي استعداد لدفعه.

وفي بعض الأحيان يحصل ما يسمى بطغيان القوة، كمن يملك قوة بدنية أو قوة مسلحة في مجتمع غير مسلح، وقوة سلطة على من لا سلطة له، فيسوّل له الشيطان بأن الآخرين ضعفاء وبإمكانه أن يصبح شخصية مهابة، فيتغلب عليهم ويقهرهم، كما كان سائداً من قبل، كمن يجمع حوله جماعة مسلّحة، وربما تطورت اليوم إلى بعض الأحزاب والحركات والمنظمات، فيرهب الناس ويظلمهم.

وربما ينسحب هذا النوع من القوة على العلاقة بين الرجل والمرأة، بحيث يعتبر الرجل أن قوته الذكورية تتيح له أن يستضعف المرأة، وربما انقلب الأمر أحياناً فتستبد المرأة وتستضعف زوجها، فالذي يملك القوة يستضعف الآخر.

لذلك من علامات المؤمن أنه إذا قدر لم تدعه قوته إلى أن يتعاطى ما ليس له بحق، قوتك هي هبة الله لك، وعليك أن تسخّر قوتك فيما يريد الله لك.

في بعض الحالات قد يطغى الإنسان من خلال العلم، سواء كان علماً مدنياً أو دينياً، بعض الناس يمنحهم العلم تواضعاً، لأن الإنسان كلما كبر علمه عرف مقدار جهله فيما لا يعلمه، لأن العلم يعطي المساحات التي يحتاجها الإنسان ليتعلمها. وهذا بدوره يجعله يشعر بمسؤولية أكثر ويشعر بنعمة الله عليه أكثر، لأن "العلم هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء"، وعندما يتم الكفران بهذه النعمة ولا يتم الاستشعار بها، فإن الله قد يسلب العلم عن طريق النسيان أو ما إلى ذلك، فقد يطغى الإنسان في علمه فيتكبر على الناس الذين هم أقل منه علماً، وهذه الطريقة مرفوضة، حيث قال الشاعر:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

قل لمن يدّعي في العلم معرفة

وعلى هذا الأساس ليس بإمكاننا أن نقول عن شخص بأنه الأعلم في العالم، كل واحد يحمل علماً نسبياً، حيث تتنوع العلوم وتتفرع، ما أوصل بالأمر إلى وجود تخصصات عديدة ضمن الموضوع الواحد.

قد يتكبر بعض الناس المتعلمين على الآخرين، وإن نجح في موقع من المواقع تتضخم شخصيته، ما يفقده التوازن في حركة شخصيته. ولذلك علينا إذا أردنا أن نلزم طريق الاعتدال والتوازن، أن ندرس الأشياء وفق أحجامها، ونعطي لكل ذي حق حقه، بأن لا نصغر من حجم من نكرهه، وأن لا نضخم من شخصية من نحبه..

الجهاد الأكبر

وفي هذا المجال، علينا أن نتأسى بالنبي(ص)، حيث يروى أنه عندما رجع من بعض معاركه أو غزواته قال رجعنا من الجهاد الأصغر وبقي علينا الجهاد الأكبر، وعندما سُئِل ما الجهاد الأكبر، قال: "جهاد النفس"، حيث اعتبرها الدرجة الأعلى من الجهاد، فعدوك عندما تجاهده فهو أمامك، ولكن كيف تستطيع أن تجاهد نفسك التي بين جنبيك؟! يعني أنت مُحارِب ومُحارَب، وتريد أن تقتل شيئاً في نفسك وهذا الشيء يريد أن يقتلك.

ولذلك نحن نقول إن هذا الانتصار الذي تحررنا فيه من الاحتلال، إنما يعتبر جهاداً وهو أمر مهم، جاء نتيجة تضحيات مئات الشهداء، وربما الآلاف، وبفضل جهادهم ودمائهم وإرادتهم وتقواهم. لكننا نحتاج إلى الجهاد الأكبر، نحتاج إلى أن نرجع إلى أنفسنا لنحررها من احتلال الشيطان الذي يدفعنا إلى الكذب والغيبة والنميمة وظلم الناس والتكبر عليهم وما إلى ذلك، حيث يقول تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.

علينا أن نعيش الجهاد الداخلي حتى نكون محررين في داخل أنفسنا كما نكون محررين في خارجها، فنحن عندما ثرنا ضد الاحتلال، فلأنه من أبشع حالات الظلم وأقساها، ومن هنا علينا إذا كنا نكره الظلم أن لا نظلم زوجاتنا وأولادنا وأخوتنا وجيراننا، وكل من له حق علينا، حيث لا فرق عند الحساب بين ظلم وآخر {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}.

التحرر من العصبيات

ولذلك فإن علينا عندما نحتفل بيوم التحرير الذي استطاع فيه المجاهدون أن يعطوا لبنان والعرب والمسلمين وساماً من أعلى أوسمة القوة لم يحصلوا عليه في تاريخهم القريب في صراعهم مع إسرائيل، علينا أن نعتبر أن التحرير هو مجرد بداية، وأن نعمل على أن يمتد إلى الداخل؛ أن نتحرر من كل العصبيات التي استطاعت أن تفتك ببلادنا المستضعفة، والتي استطاع من خلالها العدو النفاذ إلى قرانا ومدننا، في جبل عامل والبقاع الغربي وفي بيروت.

أن نتحرر من العصبيات العائلية والحزبية والسياسية والطائفية، وأن نتحرر من الأنانيات، من كل الأمور التي يمكن أن يظلم فيها إنسان إنساناً، وبذلك نستطيع أن نحتفل في كل يوم بيوم التحرير، لأن كل يوم تتحرر فيه من شيطان نفسك في أي جانب فهو عيد، وهذا كلام علي(ع) إمام الأحرار وإمام المتقين عندما قال عن عيد الفطر: "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". كل يوم يتحرر فيه الإنسان من ضغط الشيطان عليه فهو عيد. تعالوا أيها الأحبة لنجعل كل أيامنا أعياداً من أجل طاعة الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وكونوا أحراراً في دنياكم من أجل أن تكون إرادتكم حرّة في خط طاعة الله والبعد عن معصيته، وفي خط مواجهة كل الظالمين والمستكبرين، من أجل أن تأخذوا بأسباب الحرية في كل حياتكم لتخلصوا في عبوديتكم لله، كونوا عبيداً لله وحده، وكونوا الأحرار أمام العالم، كما قال علي(ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، فالله كوّن حريتكم في سر وجودكم، فلا تتنازلوا عنها في المواقع التي أراد الله لكم فيها أن تمارسوا حريتكم، فلا تنحنوا لظالم ولا لمستكبر ولا لمنحرف، بل ليكن انحناؤكم لله وحده.

وفي هذا الجو، لا بد لنا أن نعمل على أساس أن نواجه العالم المستكبر في كل قضايانا المصيرية والحيوية، ليرتفع شعارنا مع الحسين(ع): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"، لأن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً، لذلك علينا أن نعمل على رفض الذل بكل مواقعه من كل ظالم أو مستكبر، ولننطلق لنواجه الواقع الذي نعيشه..

أصداء التحرير

قبل عام بالتحديد، شهد لبنان ومن حوله شعوب المنطقة والعالم، الهزيمة المدوّية للعدو الإسرائيلي، وانسحابه المذل من لبنان، في مشهد فتح الطريق واسعاً أمام كل دعاة التحرر وطلاب الحرية، ليأخذوا من هذا الدرس العبر والاعتبار..

لقد خاطبتكم من على هذا المنبر يوم 26 أيار في السنة الفائتة، وبعد يوم واحد من اكتمال التحرير، فقلت حرفياً: "إن النموذج اللبناني أعطى الدرس للعالم، فلا بأس أن يتعلّم بعض العرب"، وقلت حرفياً: "نحن ندرك أن هذا الصوت الذي انطلق من لبنان سيلقى الصدى داخل فلسطين المحتلة، حيث أن بواكير الانتفاضة الجديدة تبشّر بأن فجراً جديداً سينطلق داخل فلسطين المحتلة، بعيداً عن مسارات التفاوض السرية والعلنية".. وقلت من على هذا المنبر قبل سنة أيضاً: "لا نريد لـ"سكرة" التحرير أن تُذهب "فكرة" الأعباء الكبرى المترتبة على البلد في أعقابه، وأن على الدولة أن تطلق ورشة البناء والإنماء في الجنوب والبقاع الغربي بأسرع ما يمكن"..

فإذا جئنا اليوم إلى الواقع الذي نعيشه، فإننا نجد أن ما كنا نتطلع إليه ونصبو له منذ أن انطلقت المقاومة في لبنان، ومنذ أن بدأ مأزق الاحتلال الإسرائيلي يتفاقم فيه بفعل عملياتها، ومنذ أن حدث التحرير.. حيث تحقق الكثير مما كنا نصبو إليه ولا سيما داخل فلسطين المحتلة، حيث انطلق فجر جديد – تماماً كما توقعنا – وبدأ الشعب الفلسطيني يمسك بزمام المبادرة الشعبية والجهادية، حتى أوصل العدو في مدى ثمانية أشهر إلى حالة من الضياع، وبدأنا نشهد حالة ارتباك سياسية داخل كيان العدو عبّرت عن نفسها أكثر من مرة على مستوى الأداء السياسي داخل هذا الكيان، وكذلك في حركة الجريمة الوحشية التي يتحرك فيها ضد الشعب الفلسطيني، والتي تفسّر إلى حدٍّ كبير المدى الذي وصل إليه العدو من التخبط والضياع..

من هنا، فإننا نرى أن إعلان رئيس حكومة العدو عن "وقف إطلاق النار حتى إشعار آخر"، هو مناورة التفافية للتخلّص من عبء المواجهة الذي فرضته الانتفاضة على العدو، وجعلته يظهر بصورته الوحشية أمام العالم، ولذلك فهو يحاول أن يظهر بصورة الداعي للسلام بعد كل هذه المجازر التي ارتكبتها قواته المحتلة ضد الفلسطينيين.

العدوّ يؤسس لمشروع حرب

إن العدو الذي يتحدث هذه الأيام عن السلام، ويدعو لبنان وسوريا إلى ما أسماه "اختيار طريق السلام"، هو الذي يؤسس لحرب طويلة الأمد على كافة المستويات، فهو يتحدث عن التحضير لمواجهة الانتفاضة على مدى ثلاث سنوات، وعن الاستمرار في الاستيطان، وهو يعدّ العدّة – حتى في هذه الأيام – لاستقدام بقية اليهود الفالاشا من أثيوبيا، هذا بالإضافة إلى حربه اليومية ضد الفلسطينيين.. ما يؤكد أن العدو يؤسس لمشروع حرب ضد المنطقة العربية والإسلامية كلها، في الوقت الذي يحاول فيه أن يُقدّم نفسه كـ"حمامة سلام"..

ونحن نرى في التمسك الأمريكي ببعض أهداب وتوصيات لجنة "ميتشل"، وكذلك مجلس الأمن، بأنه جزء من المحاولات الدولية الساعية لإخراج العدو من عنق الزجاجة الذي وضعته الانتفاضة فيه، كما أن الاتصالات العربية متواصلة معه عبر أكثر من قناة حتى بعد قرار لجنة المتابعة العربية بوقف الاتصالات معه، وكأن المسألة هي العمل على إيجاد متنفّس للعدو في كل مرحلة تستطيع فيها الانتفاضة أن تُدخله في مأزق، وأن تضاعف من أزمته الأمنية الداخلية..

الانتصار على الشروط الإسرائيلية

إن التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان وسوريا، عشية الذكرى الأولى للتحرير، هي تذكير جديد من العدو لنا بأنه لن يكف عن سياسة العدوان، وأن التحرير إذا لم يكن شاملاً فإن المتاعب والمصاعب ستتوالى على لبنان، وهو ما نشهده بطريقة وبأخرى من خلال الاعتداءات والخروقات شبه اليومية التي يقوم بها العدو عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية المحتلة.

إننا عندما نقف في الذكرى الأولى للتحرير، فإننا نشعر بأن لبنان قد استطاع أن ينتصر على الشروط الإسرائيلية التي أعقبته، وفشل العدو في أن ينتزع منا موقفاً يشعر من خلاله بالأمن والراحة، ولكننا في المقابل نرى أن الدولة لم تستطع أن تطمئن أهلنا هناك، أو أن تتقدم خطوة واحدة على الصعيد الإنمائي، على الرغم من كل الوعود التي قُطعت، وكل الكلمات التي قيلت منذ الانسحاب الإسرائيلي قبل سنة وإلى الآن..

العدو الجديد… الحرمان

لقد ذهب احتلال العدو وجاء احتلال آخر اسمه الحرمان والإهمال، حيث بقيت المناطق المحررة تعاني من أدنى المقوّمات الاقتصادية والإنمائية، وحتى عندما تتحرك بعض المشاريع الحييّة الخجولة، فإن صفقات التلزيم تذهب بمعظم المبالغ المرصودة إلى هذا النافذ أو ذاك، من خلال المتعهّدين الذين يتعهّدون له قبل أن يتعهّدوا المشاريع..

إننا نعرف حجم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها البلد، ولا نريد أن نضع أنفسنا في موضع توجيه الاتهام والتشكيك دائماً، ولكن الجميع يدركون بأن جزءاً كبيراً من هذه الأزمة انطلق من خلال الهدر والصفقات والرشاوى هنا وهناك، فإذا استمر الوضع على هذا الحال، فإن الواقع قد يقترب من الكارثة، فمتى يمكن أن يأتي الوقت الذي يشعر فيه الناس بأن بعض ملامح الإصلاح قد أصبحت في الطريق إلى التحقق؟!

التحضير للمرحلة الصعبة

وأخيراً، إننا عندما نسمع بأن ثمة حركة عملية لتعزيز الجبهة الداخلية من خلال أكثر من لقاء، فإننا نشعر بالارتياح على أساس أن لا تكون هذه الحركة موسمية، بل أن تتحرك في نطاق الخطة العامة التي يعيش فيها الجميع همّ الوطن إزاء المرحلة المقبلة التي يتحضّر فيها العدو للقيام بأكثر من اعتداء وعدوان، ولا سيما بعد أن شعر بأن الساحة الداخلية – ساحة المقاومة والدولة معاً - قد رفضت كل عروضه ومساوماته التي انطلقت من خلال أكثر من وسيط دولي وأمريكي في الآونة الأخيرة..

إن العدو يتحضّر لمرحلة المواجهة معنا، بعدما عرف أن ما كان يتطلع إليه قد سقط تماماً، وعلينا أن نتحضّر لمواجهته في الميدان العسكري والأمني، وكذلك في ميدان الوحدة السياسية الداخلية، لنكون جميعاً بمثابة اليد التي تمتد للوحدة في الداخل، ولإرباك العدو في الخارج.. إن المرحلة صعبة صعبة، ولا سبيل للصمود إلا من خلال الإرادة والعزيمة وصفاء النوايا بين الجميع، ففي ذلك وفاء للوطن، وعمل في خطى التحرير في ذكراه الأولى.

لأن من مظاهر الطغيان أن ينسى الإنسان ذاته "من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الطغيان.. مؤاثرة الدنيا

يحدثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن بعض العناوين السلبية في حياة الإنسان، سواء كان في موقع المسؤولية الكبرى، أو كان في موقع المسؤوليات الصغيرة في علاقته بالآخرة أو في علاقته بمسؤولياته، وهو عنوان الطغيان، ومعناه تجاوز الحد، حيث يقول الله: {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا} طغى في مواجهته لمسؤولياته أمام الله واستغرق في الحياة الدنيا، باعتبار أنه جعلها كل شيء، هي الوسيلة وهي الهدف، هي القيمة فيما يفعل وفيما يترك، هي نهاية المطاف، هي موقع السعادة والشقاء، وبعبارة أخرى، استغرق في الحياة الدنيا وآثرها على الآخرة، فإذا وقف بين الدنيا والآخرة، فقالت له الآخرة لا تفعل، لأن النتائج سوف تكون قاصرة، وقالت له الدنيا افعل، لأن النتائج سوف تكون مربحة على مستوى الدنيا. فإنه يؤثر الدنيا على الآخرة.. فيأكل الحرام لأنه يمثل الربح المادي وينسى الآخرة، إنه يخلد في الأرض، ويبقى محدقاً فيها، ولا يرفع نظره إلى ما فوقها. وعن هؤلاء قال تعالى: {..أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}.

الالتزام بحدود الله

وهناك أنواع من الطغيان، منها طغيان الماء، وقد جاء في قوله تعالى: {إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}، بحيث يتجاوز الماء الحد، وتضيق مجاري الأنهار بالماء وتفيض إلى المناطق المجاورة، وقد تحدث المشاكل.

وعندما قال نوح لابنه: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين* قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ـ توقع أن الماء لا تصل إلى الجبل ـ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.

فهذا الطغيان في الفعل، حيث تجاوز الإنسان الحد الذي فرضه الله عليه في الأفعال، وآثر الحياة الدنيا، فالله جعل الحدود لنا في استخدام المال بأن نأخذها بالحلال ونصرفها بالحلال، وجعل لنا حدوداً في الشهوات، وهو أن نمارس شهواتنا في الحلال، ونترك الحرام، في العلاقات العامة وفي المواقف. {تلك حدود الله فلا تعتدوها} أن نلتزم بحدود الله في المسجد، في المحل التجاري، في العمل، في المواقف، سواء في الحرب أو في السلم. ولذلك تنحصر حريتنا في نطاق ما أحلّ الله لنا، أما في نطاق ما حرّم الله فلسنا أحراراً.

ولذلك عليك بأوامر الله ونواهيه، بأن تطيعه ولا تعصيه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، بإمكانك أن تقول بأنك حرٌ أمام كل الناس، لأن الله لم يسلّطهم عليك، ولكن عندما يأمرك الله بشيء فعليك أن تسلم إليه سبحانه وتعالى أمورك {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وقد علمنا الله ذلك في الصلاة، وجعل "سبل اليد" علامة التسليم لله، ثم الركوع والسجود له، حيث ينبغي أن لا تركع أو تسجد لغيره. ومن هنا علينا أن ندرك أن السجود لآدم لم يكن سجوداً له، بل كان السجود لله تحية لخلق آدم.

وهكذا فالإنسان الطاغي هو الذي يطغى على ربه، ويتجاوز حدوده، {فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى}، وفي المقابل ذلك الإنسان المؤمن، الإنسان التقي.. {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ـ بأن يعمل كل ما يرضي الله، وعرف عظمة الله واستحضرها في نفسه، ورأى نفسه تحت سمع الله وبصره ـ فإن الجنة هي المأوى}.

قد يقول بعض الناس أمام الله بأنني حر، ولكنه يصبح عبداً أمام عبد حقير من عباد الله زعيماً أو وزيراً أو ما إلى ذلك، ممن يمتلك بعض المال أو الجاه أو السلطة، فيقول له عبدك فلان، ولكنه لا يقول لله بأنه عبد له. وإذا قالها بلسانه، فإنه لا يقولها بقلبه، وهذا نوع من الطغيان يعرف بالطغيان النفسي.

وفي آية ثانية يتحدث فيها الله سبحانه وتعالى عن فرعون عندما خاطب هارون وموسى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}، لأنه أولاً ادّعى الربوبية {فقال أنا ربكم الأعلى}، وثانياً لأنه استضعف بني إسرائيل، فكان يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وحكم على الناس بالظلم والعدوان وما إلى ذلك، ومن هنا أخبرنا الله تعالى عن ضرورة إرسال نبي ليذكره بالله {فقولا له قولاً ليناً ـ لا تتكلما معه بشدة، تحدثا معه بقول ليّن ليشرق الله في قلبه، ليفكر بالآخرة ـ لعلّه يتذكر أو يخشى}، ولكنه لم يتذكر ذلك إلا في أواخر أيامه عندما حصل الغرق، حيث قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل}، حيث لا ينفع الندم، لأن الوقت قد فات.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى أشر مصير هو عاقبة من يتجاوز حدوده ويطغى على الناس، {وإن للطاغين لشر مآب}، وجعل في آية ثانية جهنم مصيرهم: {إن جهنم كانت مرصاداً* للطاغين مآبا}.

من نماذج الطغيان

وفي حديث الإمام علي(ع): "الظالم طاغٍ، ينتظر إحدى النقمتين: إما نقمة الدنيا أو نقمة الآخرة، من شغل نفسه بغير نفسه ـ لم ينفتح على نفسه ليهذبها وليربيها، بل أصبح يشتغل بالناس ـ تحيّر في الظلمات وارتبك في الهلكات وحدت به شياطينه في طغيانه"، يعني أن الشياطين الموجودة في نفسه التي لم يحاربها ولم يلتفت إليها هي التي مدت له في طغيانه.

وهكذا نجد أن الطغيان يتمظهر بعدة مظاهر، من بينها طغيان المال، بحيث إذا رزقه الله مالاً وتوسع به، وضخّم له الشيطان شخصيته، فيشعر بالكبرياء على الناس، مثال ذلك قارون {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين* وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين* قال إنما أوتيته على علم عندي} {فخسفنا به وبداره}.

وهكذا ينتشر النموذج القاروني في كل وقت وفي كل زمان، ما يجعل ممن ينطبق عليهم المثال القاروني ينسون الله عندما يكون المال بين أيديهم، وعندما تقول لهم إن الله يقول: {وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم} يرفضون ذلك ويقولون {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}، وهكذا فإن بعض الناس قد يصرف ماله على شهواته، وقد يسرف فيه على زوجته وأولاده، وما إلى ذلك، ولكنه عندما يصل به الأمر إلى مسألة الحقوق الشرعية، فإنه لا يبدي أي استعداد لدفعه.

وفي بعض الأحيان يحصل ما يسمى بطغيان القوة، كمن يملك قوة بدنية أو قوة مسلحة في مجتمع غير مسلح، وقوة سلطة على من لا سلطة له، فيسوّل له الشيطان بأن الآخرين ضعفاء وبإمكانه أن يصبح شخصية مهابة، فيتغلب عليهم ويقهرهم، كما كان سائداً من قبل، كمن يجمع حوله جماعة مسلّحة، وربما تطورت اليوم إلى بعض الأحزاب والحركات والمنظمات، فيرهب الناس ويظلمهم.

وربما ينسحب هذا النوع من القوة على العلاقة بين الرجل والمرأة، بحيث يعتبر الرجل أن قوته الذكورية تتيح له أن يستضعف المرأة، وربما انقلب الأمر أحياناً فتستبد المرأة وتستضعف زوجها، فالذي يملك القوة يستضعف الآخر.

لذلك من علامات المؤمن أنه إذا قدر لم تدعه قوته إلى أن يتعاطى ما ليس له بحق، قوتك هي هبة الله لك، وعليك أن تسخّر قوتك فيما يريد الله لك.

في بعض الحالات قد يطغى الإنسان من خلال العلم، سواء كان علماً مدنياً أو دينياً، بعض الناس يمنحهم العلم تواضعاً، لأن الإنسان كلما كبر علمه عرف مقدار جهله فيما لا يعلمه، لأن العلم يعطي المساحات التي يحتاجها الإنسان ليتعلمها. وهذا بدوره يجعله يشعر بمسؤولية أكثر ويشعر بنعمة الله عليه أكثر، لأن "العلم هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء"، وعندما يتم الكفران بهذه النعمة ولا يتم الاستشعار بها، فإن الله قد يسلب العلم عن طريق النسيان أو ما إلى ذلك، فقد يطغى الإنسان في علمه فيتكبر على الناس الذين هم أقل منه علماً، وهذه الطريقة مرفوضة، حيث قال الشاعر:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

قل لمن يدّعي في العلم معرفة

وعلى هذا الأساس ليس بإمكاننا أن نقول عن شخص بأنه الأعلم في العالم، كل واحد يحمل علماً نسبياً، حيث تتنوع العلوم وتتفرع، ما أوصل بالأمر إلى وجود تخصصات عديدة ضمن الموضوع الواحد.

قد يتكبر بعض الناس المتعلمين على الآخرين، وإن نجح في موقع من المواقع تتضخم شخصيته، ما يفقده التوازن في حركة شخصيته. ولذلك علينا إذا أردنا أن نلزم طريق الاعتدال والتوازن، أن ندرس الأشياء وفق أحجامها، ونعطي لكل ذي حق حقه، بأن لا نصغر من حجم من نكرهه، وأن لا نضخم من شخصية من نحبه..

الجهاد الأكبر

وفي هذا المجال، علينا أن نتأسى بالنبي(ص)، حيث يروى أنه عندما رجع من بعض معاركه أو غزواته قال رجعنا من الجهاد الأصغر وبقي علينا الجهاد الأكبر، وعندما سُئِل ما الجهاد الأكبر، قال: "جهاد النفس"، حيث اعتبرها الدرجة الأعلى من الجهاد، فعدوك عندما تجاهده فهو أمامك، ولكن كيف تستطيع أن تجاهد نفسك التي بين جنبيك؟! يعني أنت مُحارِب ومُحارَب، وتريد أن تقتل شيئاً في نفسك وهذا الشيء يريد أن يقتلك.

ولذلك نحن نقول إن هذا الانتصار الذي تحررنا فيه من الاحتلال، إنما يعتبر جهاداً وهو أمر مهم، جاء نتيجة تضحيات مئات الشهداء، وربما الآلاف، وبفضل جهادهم ودمائهم وإرادتهم وتقواهم. لكننا نحتاج إلى الجهاد الأكبر، نحتاج إلى أن نرجع إلى أنفسنا لنحررها من احتلال الشيطان الذي يدفعنا إلى الكذب والغيبة والنميمة وظلم الناس والتكبر عليهم وما إلى ذلك، حيث يقول تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.

علينا أن نعيش الجهاد الداخلي حتى نكون محررين في داخل أنفسنا كما نكون محررين في خارجها، فنحن عندما ثرنا ضد الاحتلال، فلأنه من أبشع حالات الظلم وأقساها، ومن هنا علينا إذا كنا نكره الظلم أن لا نظلم زوجاتنا وأولادنا وأخوتنا وجيراننا، وكل من له حق علينا، حيث لا فرق عند الحساب بين ظلم وآخر {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}.

التحرر من العصبيات

ولذلك فإن علينا عندما نحتفل بيوم التحرير الذي استطاع فيه المجاهدون أن يعطوا لبنان والعرب والمسلمين وساماً من أعلى أوسمة القوة لم يحصلوا عليه في تاريخهم القريب في صراعهم مع إسرائيل، علينا أن نعتبر أن التحرير هو مجرد بداية، وأن نعمل على أن يمتد إلى الداخل؛ أن نتحرر من كل العصبيات التي استطاعت أن تفتك ببلادنا المستضعفة، والتي استطاع من خلالها العدو النفاذ إلى قرانا ومدننا، في جبل عامل والبقاع الغربي وفي بيروت.

أن نتحرر من العصبيات العائلية والحزبية والسياسية والطائفية، وأن نتحرر من الأنانيات، من كل الأمور التي يمكن أن يظلم فيها إنسان إنساناً، وبذلك نستطيع أن نحتفل في كل يوم بيوم التحرير، لأن كل يوم تتحرر فيه من شيطان نفسك في أي جانب فهو عيد، وهذا كلام علي(ع) إمام الأحرار وإمام المتقين عندما قال عن عيد الفطر: "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". كل يوم يتحرر فيه الإنسان من ضغط الشيطان عليه فهو عيد. تعالوا أيها الأحبة لنجعل كل أيامنا أعياداً من أجل طاعة الله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وكونوا أحراراً في دنياكم من أجل أن تكون إرادتكم حرّة في خط طاعة الله والبعد عن معصيته، وفي خط مواجهة كل الظالمين والمستكبرين، من أجل أن تأخذوا بأسباب الحرية في كل حياتكم لتخلصوا في عبوديتكم لله، كونوا عبيداً لله وحده، وكونوا الأحرار أمام العالم، كما قال علي(ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، فالله كوّن حريتكم في سر وجودكم، فلا تتنازلوا عنها في المواقع التي أراد الله لكم فيها أن تمارسوا حريتكم، فلا تنحنوا لظالم ولا لمستكبر ولا لمنحرف، بل ليكن انحناؤكم لله وحده.

وفي هذا الجو، لا بد لنا أن نعمل على أساس أن نواجه العالم المستكبر في كل قضايانا المصيرية والحيوية، ليرتفع شعارنا مع الحسين(ع): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"، لأن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً، لذلك علينا أن نعمل على رفض الذل بكل مواقعه من كل ظالم أو مستكبر، ولننطلق لنواجه الواقع الذي نعيشه..

أصداء التحرير

قبل عام بالتحديد، شهد لبنان ومن حوله شعوب المنطقة والعالم، الهزيمة المدوّية للعدو الإسرائيلي، وانسحابه المذل من لبنان، في مشهد فتح الطريق واسعاً أمام كل دعاة التحرر وطلاب الحرية، ليأخذوا من هذا الدرس العبر والاعتبار..

لقد خاطبتكم من على هذا المنبر يوم 26 أيار في السنة الفائتة، وبعد يوم واحد من اكتمال التحرير، فقلت حرفياً: "إن النموذج اللبناني أعطى الدرس للعالم، فلا بأس أن يتعلّم بعض العرب"، وقلت حرفياً: "نحن ندرك أن هذا الصوت الذي انطلق من لبنان سيلقى الصدى داخل فلسطين المحتلة، حيث أن بواكير الانتفاضة الجديدة تبشّر بأن فجراً جديداً سينطلق داخل فلسطين المحتلة، بعيداً عن مسارات التفاوض السرية والعلنية".. وقلت من على هذا المنبر قبل سنة أيضاً: "لا نريد لـ"سكرة" التحرير أن تُذهب "فكرة" الأعباء الكبرى المترتبة على البلد في أعقابه، وأن على الدولة أن تطلق ورشة البناء والإنماء في الجنوب والبقاع الغربي بأسرع ما يمكن"..

فإذا جئنا اليوم إلى الواقع الذي نعيشه، فإننا نجد أن ما كنا نتطلع إليه ونصبو له منذ أن انطلقت المقاومة في لبنان، ومنذ أن بدأ مأزق الاحتلال الإسرائيلي يتفاقم فيه بفعل عملياتها، ومنذ أن حدث التحرير.. حيث تحقق الكثير مما كنا نصبو إليه ولا سيما داخل فلسطين المحتلة، حيث انطلق فجر جديد – تماماً كما توقعنا – وبدأ الشعب الفلسطيني يمسك بزمام المبادرة الشعبية والجهادية، حتى أوصل العدو في مدى ثمانية أشهر إلى حالة من الضياع، وبدأنا نشهد حالة ارتباك سياسية داخل كيان العدو عبّرت عن نفسها أكثر من مرة على مستوى الأداء السياسي داخل هذا الكيان، وكذلك في حركة الجريمة الوحشية التي يتحرك فيها ضد الشعب الفلسطيني، والتي تفسّر إلى حدٍّ كبير المدى الذي وصل إليه العدو من التخبط والضياع..

من هنا، فإننا نرى أن إعلان رئيس حكومة العدو عن "وقف إطلاق النار حتى إشعار آخر"، هو مناورة التفافية للتخلّص من عبء المواجهة الذي فرضته الانتفاضة على العدو، وجعلته يظهر بصورته الوحشية أمام العالم، ولذلك فهو يحاول أن يظهر بصورة الداعي للسلام بعد كل هذه المجازر التي ارتكبتها قواته المحتلة ضد الفلسطينيين.

العدوّ يؤسس لمشروع حرب

إن العدو الذي يتحدث هذه الأيام عن السلام، ويدعو لبنان وسوريا إلى ما أسماه "اختيار طريق السلام"، هو الذي يؤسس لحرب طويلة الأمد على كافة المستويات، فهو يتحدث عن التحضير لمواجهة الانتفاضة على مدى ثلاث سنوات، وعن الاستمرار في الاستيطان، وهو يعدّ العدّة – حتى في هذه الأيام – لاستقدام بقية اليهود الفالاشا من أثيوبيا، هذا بالإضافة إلى حربه اليومية ضد الفلسطينيين.. ما يؤكد أن العدو يؤسس لمشروع حرب ضد المنطقة العربية والإسلامية كلها، في الوقت الذي يحاول فيه أن يُقدّم نفسه كـ"حمامة سلام"..

ونحن نرى في التمسك الأمريكي ببعض أهداب وتوصيات لجنة "ميتشل"، وكذلك مجلس الأمن، بأنه جزء من المحاولات الدولية الساعية لإخراج العدو من عنق الزجاجة الذي وضعته الانتفاضة فيه، كما أن الاتصالات العربية متواصلة معه عبر أكثر من قناة حتى بعد قرار لجنة المتابعة العربية بوقف الاتصالات معه، وكأن المسألة هي العمل على إيجاد متنفّس للعدو في كل مرحلة تستطيع فيها الانتفاضة أن تُدخله في مأزق، وأن تضاعف من أزمته الأمنية الداخلية..

الانتصار على الشروط الإسرائيلية

إن التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان وسوريا، عشية الذكرى الأولى للتحرير، هي تذكير جديد من العدو لنا بأنه لن يكف عن سياسة العدوان، وأن التحرير إذا لم يكن شاملاً فإن المتاعب والمصاعب ستتوالى على لبنان، وهو ما نشهده بطريقة وبأخرى من خلال الاعتداءات والخروقات شبه اليومية التي يقوم بها العدو عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية المحتلة.

إننا عندما نقف في الذكرى الأولى للتحرير، فإننا نشعر بأن لبنان قد استطاع أن ينتصر على الشروط الإسرائيلية التي أعقبته، وفشل العدو في أن ينتزع منا موقفاً يشعر من خلاله بالأمن والراحة، ولكننا في المقابل نرى أن الدولة لم تستطع أن تطمئن أهلنا هناك، أو أن تتقدم خطوة واحدة على الصعيد الإنمائي، على الرغم من كل الوعود التي قُطعت، وكل الكلمات التي قيلت منذ الانسحاب الإسرائيلي قبل سنة وإلى الآن..

العدو الجديد… الحرمان

لقد ذهب احتلال العدو وجاء احتلال آخر اسمه الحرمان والإهمال، حيث بقيت المناطق المحررة تعاني من أدنى المقوّمات الاقتصادية والإنمائية، وحتى عندما تتحرك بعض المشاريع الحييّة الخجولة، فإن صفقات التلزيم تذهب بمعظم المبالغ المرصودة إلى هذا النافذ أو ذاك، من خلال المتعهّدين الذين يتعهّدون له قبل أن يتعهّدوا المشاريع..

إننا نعرف حجم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها البلد، ولا نريد أن نضع أنفسنا في موضع توجيه الاتهام والتشكيك دائماً، ولكن الجميع يدركون بأن جزءاً كبيراً من هذه الأزمة انطلق من خلال الهدر والصفقات والرشاوى هنا وهناك، فإذا استمر الوضع على هذا الحال، فإن الواقع قد يقترب من الكارثة، فمتى يمكن أن يأتي الوقت الذي يشعر فيه الناس بأن بعض ملامح الإصلاح قد أصبحت في الطريق إلى التحقق؟!

التحضير للمرحلة الصعبة

وأخيراً، إننا عندما نسمع بأن ثمة حركة عملية لتعزيز الجبهة الداخلية من خلال أكثر من لقاء، فإننا نشعر بالارتياح على أساس أن لا تكون هذه الحركة موسمية، بل أن تتحرك في نطاق الخطة العامة التي يعيش فيها الجميع همّ الوطن إزاء المرحلة المقبلة التي يتحضّر فيها العدو للقيام بأكثر من اعتداء وعدوان، ولا سيما بعد أن شعر بأن الساحة الداخلية – ساحة المقاومة والدولة معاً - قد رفضت كل عروضه ومساوماته التي انطلقت من خلال أكثر من وسيط دولي وأمريكي في الآونة الأخيرة..

إن العدو يتحضّر لمرحلة المواجهة معنا، بعدما عرف أن ما كان يتطلع إليه قد سقط تماماً، وعلينا أن نتحضّر لمواجهته في الميدان العسكري والأمني، وكذلك في ميدان الوحدة السياسية الداخلية، لنكون جميعاً بمثابة اليد التي تمتد للوحدة في الداخل، ولإرباك العدو في الخارج.. إن المرحلة صعبة صعبة، ولا سبيل للصمود إلا من خلال الإرادة والعزيمة وصفاء النوايا بين الجميع، ففي ذلك وفاء للوطن، وعمل في خطى التحرير في ذكراه الأولى.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية