ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
التوبة النصوح
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد:{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}..
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا وهو يعلم كل تفاصيل الأجهزة التي ركّبها فينا، ويعلم أن لكل إنسان غرائزه، وأن الشيطان يوسوس له، وأن النفس أمارة بالسوء، إلا من رحم الله. ولذلك فإن الله يعلم أننا قد نواقع الخطيئة وقد ننحرف عن الخط بفعل ما قد تلتهب فيه الغرائز، وما يخطىء فيه الفكر، وما تخضع له العاطفة.
ولذلك فمن رحمته أنه أعطى الإنسان فرصة لأن يصحح خطأه، وأن يقوّم انحرافه، ليستقيم بعد انحراف، وليطيع بعد معصية، وليعقل بعد عاطفة، وليسير في خط العقل والموضوعية بعد أن تضغط عليه العصبية. إن من رحمة الله علينا أنه فتح لنا باب التوبة وأراد لنا أن نفكر بأن المعصية قد تجلب لنا سخطه، وأن علينا أن نتحقق من سخطه. لأنه كما جاء في دعاء كميل: "وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، لأنه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، يا سيدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين".. أن نعمل على التخفف من سخط الله ليتبدل سخطه إلى رضاه، ولتنفتح لنا أبواب محبته، وإن الله يحب العبد التواب، ولذلك قال لنا : إذا عصيتم فلا تصرّوا على المعصية حتى لو كانت المعصية صغيرة، لأن الإصرار على المعصية الصغيرة يحوّلها إلى معصية كبيرة، والمعصية الكبيرة هي التي يستحق الإنسان عليها دخول النار.
لذلك عندما تعصي ربك عليك أن تتوب إليه، بمعنى أن تندم على ما فعلت وأن تعزم وتقرر أن لا تعود لذلك، وهذه هي التوبة النصوح، عندما تفتح قلبك لربك وتقول: يا ربي إني تائب، فإن الله يطّلع على قلبك ليرى أنك ألغيت الذنب من كل حياتك، بحيث لا تعود إليه أبداً.
التوبة إتمام للنور
{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}، وتنصحون فيها أنفسكم لتخففوا عنها غضب الله، وتنصحون فيها لربكم لتشهدوه على إخلاصكم له، {عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم}، حيث تجعلك هذه التوبة النصوح قريباً من رحمة الله، ليكفر عنك سيئاتك فيغفرها لك، وليجعل الجنة هي ثوابك {ليدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار}، متى يوم القيامة، {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} ، بحيث يصور الله لنا يوم القيامة، يقود فيه النبي(ص) مسيرة المسلمين المؤمنين ، وفي آية ثانية يحدثنا الله سبحانه: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}، وفي المقابل، يوجد في يوم القيامة مسيرة للمنافقين والمنافقات، وهذا يعني أننا إذا تبنا إلى الله توبة نصوحاً سوف نكون في خط المسيرة النبوية التي يقودها رسول الله ويتبعه كل المؤمنين منذ أن جاء الإسلام إلى نهاية الأمر، بحيث تعدل التوبة لتكون جزءاً من هذه المسيرة النبوية {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} لأن اليمين هي ما يستعمله الإنسان للعطاء، للخير، للجهاد، {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا}، يعني يا رب يوجد نقصان، لأن السيئات هي ظلمة، فإذا كان الإنسان مؤمناً وعمل خيراً وعمل السيئات، فإن السيئات تنقص من نوره، تنقص من نور الحق في قلبه عندما ينبض قلبه ببعض الشر، وتنقص من نور الحق في حياته عندما تتحرك حياته بالشر، {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} أي أبعد عنا نتائج السيئات المظلمة {واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}. والله تعالى يقول: {هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات}، يعني أنه عندما يطّلع عليك وأنت تتذكر سيئاتك وتندم عليها، وتقرر أن لا تعيدها فإنه يقبل توبتك من دون حاجة إلى وسيط.
إجابة دعوات العباد
من عظمة الإسلام الذي يختلف فيه عن كل ما يتصوره الناس، أنه ليس بين العبد وربه واسطة، الأنبياء والأولياء هم وسائط للوعي، وسائط للدعوة، وسائط للهدى، ولكن الله يقول لك: يا عبدي تحدث معي من دون أي وساطة {فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}، توبوا إلى الله مباشرة وليس عبر الواسطة، كما عند بعض أتباع الأديان،مما يعرف بسر الاعتراف، حيث يعترف المذنب عند رجل دين، فيقول له الله يتوب عليك، ولكن الذي تعترف عنده قد لا يكون أفضل منك، وقد يكون مرتكباً للكثير من الخطايا. قد يكون هناك إنسان مرتكب للمعاصي طوال حياته، ولكنه يتوب توبة نصوحاً، يعمل عملاً صغيراً من الخير فينجيه، "لا تستصغرنّ حسنة فلربما أدخلتك الجنة، ولا تستصغرنّ معصية فلربما أدخلتك النار".
لذلك، يقول الله سبحانه وتعالى لكم (توبوا إليّ) افتح قلبك إلي، قد لا تحتاج التوبة إلى فتح الكتاب، تكلم بلغتك، بلهجتك مع الله، المهم أن تخرج توبتك من عقلك وقلبك ويرى الله صدق نيتك، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}، وفي آية أخرى {.. ويحب التوابين}.
التائب محبوب عند الله
في حديث عن بعض أصحاب الإمام الصادق(ع)، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر الصادق(ع) يقول: "إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله ـ ما هو مظهر هذا الحب ـ فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت كيف يستر عليه، قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ـ لأن الإنسان عندما يعصي الله في غرفة أو بار أو مرقص أو من خلال تأييدك لظالم أو حفلة جماهيرية للظلمة، أو أن تصوّت لظالم، هذه كلها تشهد يوم القيامة عليك ـ ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب".
وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) أو الصادق(ع) في قول الله عز وجل: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} موعظة من ربه يعني التوبة. وفي الحديث قال عن أبي الصباح الكناني، قال سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} قال: "يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه.
ففي الحديث قال: يا أبا محمد، "إن الله يحب من عباده المفتّن التواب". وفي الحديث قال: "إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنجوا بها: قوله عز وجل {إن الله يحب التوابين}، و{يحب المتطهرين}، فمن أحبه الله لن يعذبه، وقوله:{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ـ عندما تتوب إلى الله أيها الشاب فستحصل على استغفار الملائكة الذين يحملون العرش لك ـ وقهم عذاب الجحيم ـ ثم يدعون لك ـ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}. هذا ما تراه، لأن الملائكة يستغفرون لك ويدعون الله أن يقيك عذاب الجحيم، ويدعونه أن يدخلك الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
وقوله عز وجل: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقى آثاماً* يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}".
التقوى طريق الإبصار
وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) رواه محمد بن مسلم، قال(ع) يا محمد بن مسلم: "ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنس بعد التوبة، أما والله إنها ليست إلا بأهل الإيمان، قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب؟ قال: يا محمد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته، قلت فإنه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر الله، قال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، إن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، إياك أن تقنّط المؤمنين من رحمة الله".. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}".
وهذا يعني أن الإنسان يعزم على التوبة، ولكن الشيطان قد يأتيه ويضله عن ذلك، فيعود إلى الله سبحانه وتعالى. وهذه الآية الثانية، قال سألت الإمام الصادق(ع) عن قول الله: {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان {تذكروا فإذا هم مبصرون} قال(ع): "هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك فذلك قوله تذكروا فإذا هم مبصرون".
ثم يقول بعض أصحاب الإمام الباقر(ع): سمعت أبا جعفر يقول: "إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده فوجدها". وعن أبي جعفر، قال: سمعته يقول: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر كالمستهزىء بربه".
في ختام الحديث، هناك قصة ينقلها الإمام الباقر(ع)، قال: "إن الله عز وجل أوحى إلى داود أن ائتِ عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن عصيتني الرابعة لن أغفر لك، فقال له دانيال: قد أبلغت يا نبي الله، فلما كان في السحر قام دانيال فناجى ربه، فقال يا رب إن داود نبيّك أخبرني عنك أنني قد عصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، وأخبرني أنني إن عصيتك الرابعة لن تغفر لي، فوعزتك لئن لم تعصمني لأعصينّك، ثم لأعصينّك، ثم لأعصينّك"، لا متمرداً عليك، ولا متجرئاً عليك، ولكن لأن نقاط الضعف في نفسي هي التي تحكمني.
وهكذا أيها الأحبة، لا بد لنا أن نواجه حياتنا بالتوبة، ولا بد لكلواحد منا أن يجلس مع نفسه وأن يجلس مع ربه، ثم يحاسب نفسه على كل ذنوبه، ثم يدرس ما هي النتائج السلبية، ويعرف أنه محتاج إلى الله في كل أمور حياته، وأن الذنب ربما يتحول إلى بلاء في الدنيا من خلال نتائجه العضوية، وعلينا أن نفكر بأنفسنا عندما يجلس كل واحد منا في قبره وحده، وعندما يحشر إلى ربه وحده وظهره مثقل بذنوبه، عندما يقف بين يدي ربه وحده ليحاسبه الله على كل شيء، وليسأله عن كل شيء، فإذا رآه الله تائباً فإنه يدخله الجنة بغير حساب، وإذا رآه الله غير تائب فهو متمرد عليه وهو متجرىء عليه، فماذا يفعل في ذلك الوقت، يلتفت عن يمينه فلا يرى أحداً، ويلتفت عن شماله فلا يرى أحداً.
كربلاء.. مواجهة الضلال والانحراف
أيها الأحبة، إننا عندما نعيش ذكرى كربلاء، فإننا نجد أن كثيراً من الكبار الكبار من أصحاب الحسين(ع) كانوا في خط الانحراف المواجه للحسين(ع)، ولكنه سمع كلام الحسين(ع) وانفتح قلبه على الله وتاب، كزهير بن القين الذي قال للحسين(ع): "لوددت أني قُتلت ثم أحييت ثم أحرقت، ويفعل بي ذلك سبعين مرة وأن الله يدفع بذلك عنك ما توانيت عن ذلك".
كان بعضهم في خط الانحراف وخط المعصية وتابوا إلى الله توبة نصوحاً، وصدقوا ما عاهدوا عليه الله، وبذلك كان الوسام الذي أعطاهم إياه الإمام الحسين(ع) أنه كان يودع كل واحد منهم ويقول: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً}.
درس كربلاء ـ أيها الأحبة ـ هو أن نصدق عهد الله في أن نوحّده وأن لا نشرك به شيئاً، في أن نطيعه ولا نعصيه، في أن نسير على الصراط المستقيم. درس كربلاء، أن نكون في هذا الخط، خط الإيمان، وخط التقوى.. درس كربلاء، أن لا نكون مع المجتمع الذي حارب الحسين(ع)، "كانت قلوبهم معك وسيوفهم عليك". إنه مجتمع العصبيات، إنه مجتمع العاملين مع الظلمة، الذين ركنوا إلى الذين ظلموا فمستهم النار، أما مجتمع الحسين(ع)، فهو المجتمع الذي أحب الله وأحب رسول الله وأحب الحسين(ع) حب الإيمان وحب الإسلام، ولذلك انطلقوا لمواجهة الضلال والانحراف حتى لقوا الله سبحانه وتعالى وهو راضٍ عنهم.
أيها الأحبة، إذا أردنا أن نكون مع هذه الصفوة الطيبة مع رسول الله، ومع علي(ع) وأبنائه، ومع الحسين(ع)، فلنجدد التوبة لله، ولنتطهر من كل ذنوبنا، والله هو الذي يقبل التوبة عن عباده فيعفـو عن السيئات، ويحب التوابـين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الاعتصام بحبل الله
عباد الله، اتقوا الله وسيروا على الصراط المستقيم، فإن الله يقول: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، فإن الفرقة من الشيطان الذي يحاول أن يضع في قلوب المؤمنين العداوة والبغضاء حتى لا يتوحدوا على الحق، وحتى لا يتحركوا في خط العدل، وحتى يظلم بعضهم بعضاً، وحتى يكونوا عوناً للظالمين على المؤمنين، وحتى يتعصبوا على من لا يوافقونه فيظلموه ويتحركوا في خط الإساءة إليه حتى لو كان مؤمناً.
أيها الأحبة، إن الله يقول: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، إن الله يريدنا أن نعيش الوحدة في كل قضايانا، لأن قضايانا هي قضايا الإسلام التي أراد الله ورسوله أن نحققها في كل حياتنا، أن نتوحد في كل قضايانا، وأن نلتقي كل ما توافقنا عليه، وأن نتحاور في ما اختلفنا فيه، لا تجعلوا خلافاتكم تسيء إلى وحدتكم، لأن الله وحّدكم بالإسلام، فلا تفسحوا المجال لأكثر من شيطان من شياطين الإنسان والجن أن يفرّقكم بالعصبية، سواء كانت عصبية طائفية أو عصبية حزبية، أو عصبية شخصانية، لأن العصبية في النار، ومن أخذ بأسباب العصبية فتعصب على مؤمن لأنه يختلف معه في السياسة أو في رأي فقهي، أو في بعض الآراء الفكرية، أو عائلياً، إن من تعصب فإن النار مثواه حتى لو صام وصلى.
إن الله يريدنا أن نتحرك لنلتزم دينه ولنلتزم رسله ولنلتزم أولياءه، وأن لا نلتزم العصبية في الخط المنحرف، فإن إبليس كما قال علي(ع): "إمام المتعصبين".
لا بد لنا أن نواجه الاستكبار العالمي بكل ما عنده من ظلم، وبكل ما عنده من مخططات تريد إسقاطنا وإسقاط كل قضايانا السياسية والاقتصادية والأمنية، هذا الاستكبار العالمي المنفتح على الكفر العالمي، الذي يريد أن يستغل خلافاتنا من خلال مخابراته الدولية ليفرقنا وليمزقنا وليجعلنا كما جعلنا مزقاً متناثرة لا ينفتح أحدٌ على الآخر، ولا ينفتح شعب على شعب آخر، ثم يأتي بكل مخططاته ليفرضها علينا، كما جاءنا بإسرائيل التي زرعها في قلب العالم العربي، وفي قلب العالم الإسلامي، وحوّلها إلى خطر على المنطقة كلها، فماذا هناك:
الانتفاضة.. إنتاج المآزق للعدو
الانتفاضة مستمرة على الرغم من الدعم الأمريكي لإسرائيل ، ومن الوحشية الإسرائيلية بعمليات القصف المدمّر والاغتيال والحصار الاقتصادي، وقد استطاع المجاهدون أن يفرضوا أكثر من مأزق أمني على العدو، حتى بدأت الأصوات في داخل كيانه ترتفع بأنه لم يستطع أن يحقق لهم الأمن، لأن الشعب الفلسطيني لا يزال صامداً في حركته، عاضّاً على جراحه، كبيراً في عنفوانه، مجاهداً في انتفاضته، حيث يرتفع الشهيد تلو الشهيد بصبر وقوة وثبات في وحدة وطنية رائعة، لا سيّما مع التطور الجديد في العلاقات السورية ـ اللبنانية ـ الفلسطينية، التي تزيد الموقف قوة وتعيد إلى الواجهة وحدة المسارات في أكثر دول الطوق، وتساهم في إعادة اللحمة إلى الفصائل الفلسطينية، وخاصة بعد القمة العربية التي لم ترتفع إلى مستوى التحدي الكبير في ساحة الصراع مع العدو، ومن جانب آخر، فقد استطاع صمود الانتفاضة في ضغطها على العدو أن يحرّك الموقف الأمريكي للتدخل في إعادة المفاوضات ولو من الجانب الأمني، خوفاً من سقوط حكومة المجرم "شارون".
ولكن إسرائيل التي عملت على اغتيال المجاهدين من الفلسطينيين، عبرت عن مأزقها السياسي والأمني، وليكون ذلك رسالةً إلى المراهنين على التدخل الأمريكي بأن إسرائيل لا تفهم إلا بلغة القوة، إن أمريكا تلعب اللعبة المزدوجة في هذه المسألة من أجل حماية العدو، ولذلك لم يصدر منها إلا احتجاج خجول لا ضغط فيه على ما حدث وكذلك على قرار العدو بتوسيع المستوطنات اليهودية.
إننا ندعو الفلسطينيين من منطق الواقع لا من منطق الانفعال أن يستمروا في انتفاضتهم، لأنهم لا يزالون يملكون موقع القوة الكبير في الضغط على الكيان الصهيوني أمنياً.. وأن يفهموا معنى أمريكا التي لا تحترم أيّ شعب عربي أو إسلامي إلا إذا خضع لسياستها ولاستراتيجيتها في الخضوع للخطة الإسرائيلية، التي لا تريد للفلسطينيين أن يحصلوا على الحرية والاستقلال.
الشعوب العربية.. اختزان العداوة للأمريكيين
ونريد لشعوبنا العربية والإسلامية أن تصمد أمام كل الضغوط المفروضة على الأنظمة من قبل أمريكا، لأن القضية قد وصلت إلى مرحلة التحدي الكبير في مسألة المصير، مما يؤدي إلى أكثر من مشكلة سياسية في المنطقة بفعل الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية من خلال الحلف الاستراتيجي بين الدولتين ضد كل حركات التحرر في المنطقة.
لقد راهن العرب على الرئيس الأمريكي الجديد، ولكنه منذ البداية أعطى الضوء الأخضر لمجرم الحرب "شارون" وحكومته في العدوان على الشعب الفلسطيني بما لم تحصل عليه حكومة باراك حسب اعتراف رئيس أركان جيش العدو، بأن يد الجيش الصهيونية باتت مطلقة في العدوان.
إن على شعوبنا العربية والإسلامية أن تختزن ـ في وجدانها ـ معنى أمريكا كعدو للحاضر والمستقبل على جميع المستويات، لأنها تحولت إلى شرطي للعالم وإلى داعمٍ سياسي وعسكري واقتصادي لكل الأنظمة الظالمة، ولا سيما النظام الصهيوني، وقد بدأت الشعوب تعاني من السياسة الأمريكية، فلنتعاون مع كل الشعوب الحرة الباحثة عن الحرية والكرامة.
لبنان.. الانفتاح على الحوار والوحدة
وختاماً، لا بد لنا في لبنان أن ننفتح من جديد على المحبة في كل علاقاتنا السياسية والأمنية والاقتصادية، بعيداً عن أي حساسيات طائفية أو مذهبية، لنعرف كيف نعيد الحوار إلى الساحة على قاعدة الموضوعية الباحثة عن المشاكل في أبعادها الواقعية وخلفياتها السياسية وامتداداتها الإقليمية والدولية، لينفتح حوار الشعب مع الشعب من خلال قياداته الحقيقية، وحوار الدولة مع الشعب من أجل فهم دقيق للواقع في نطاق المشاكل الباحثة عن حل، ومن أجل تحديد المفاهيم الدقيقة للعناوين المتحركة في الساحة السياسية على مستوى الواقع، كالسيادة والاستقلال، لنفرق في ذلك بين العدو والصديق، ولندرس طبيعة المشاكل التي يفرضها الواقع في علاقاتنا الإقليمية بعيداً عن أية عقدة.
وعلينا أن نتوحد حول الموضوع الحار المتمثل بالجوع والحرمان الذي بات يمثل ـ بكل آلامه وجراحاته ـ مشكلة للطبقات الفقيرة في الأمة، بالإضافة إلى بقاء الاحتلال الصهيوني، لندرس جميعاً حجم المشكلة وطبيعة الحل بالإنماء المتوازن والخطة الدقيقة والتعاون على إنقاذ البلد من الاقتصاد المنهار.. الوحدة الوحدة.. المحبة المحبة.. إن الحاضر يتحدانا والمستقبل ينتظرنا، فلنعرف كيف نبني المستقبل من خلال حكمة الحاضر. |